رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري

بسم الله الرحمن الرحيم

استفتاحًا باسمه، واستنجاحًا ببركته، والحمد لله المبتدي بالنعم المنفرد بالقِدَم، الذي جَلَّ عن شبه المخلوفين، وصفات المحدثين، وَلِيُّ الحسنات، المبرَّأُ من السيئات، العادلُ في أفْعَالِهِ، الصَّادِقُ في أقواله، خالقُ الخلقِ ومُبْديه، ومُبقيه ما شاء ومفنيه، وصلواتُه على محمد وأبرار عترته وأهليه صلاة تُرضيه، وتُقَرِّبه وتُدنيه وتزلفه وتحظيه.

كتابي — أَطَالَ الله بَقَاءَ مولاي الشيخ الجليل ومَدَّ مُدَّتَه، وأدام كفايته وسعادته وجعلني فداءه وقَدَّمَني قَبْلَه — على الصحة والحقيقة، وبعد القصد والعقيدة وليس على مجاز اللفظ ومجرى الكتابة، ولا على تنقص وخَلابَةٍ وتحبُّب ومُسَامحة، ولا كما قال بعضهم — وقد عاد صديقًا له: كيف تجدك، جعلني الله فداك، وهو يقصد تحببًا ويُريد تملُّقًا ويظن أنه قد أسْدَى جميلًا يَشْكُرُه صَاحبُه إن نهض واستقلَّ، ويكافئه عليه إن أفاق وأبلَّ عن سَلامَةِ تمامها بحضُورِ حضرته وعافية نظامها بالتشرف بشريف عزته، وميمون نقيبته وطلعته، ويعلم الله الكريم — تقدست أسماؤه — أني لو حننت إليه، أدام الله تأييده حنين الواله إلى بكرها، وذات الفرخ إلى وكرها، أو الحمامة إلى إلفها، أو الغزالة إلى خشفها؛ لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام، والعصور والأعوام، لكنه حنين الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن والسليم إلى السلامة، والغريق إلى النَّجاة، والقلق إلى السُّكون، بل حنين نفسه النفيسة إلى الحمد والمجد؛ فإني رأيتُ نزاعها إليهما نزاع الأسطقسات إلى عناصرها، والأركان إلى جواهرها؛ فإنْ وَهَبَ الله لي مليًّا من العُمر يؤنسني برؤيته، ويُعَلِّقُني بحبل مودته، مرت كساري الليل ألقى عصاه، وأَحْمِدُ مَسْرَاهُ، وقَرَّ عينًا، ونعم بالًا. وكان كمن لم يمسه سوءٌ ولم يتخوفْه عدوٌّ، ولا نهكه رواح ولا غُدُوٌّ، وعسى الله أن يمن بذلك بيومه، أو بثانيه وبه الثقة.

وأنا أسأل الله على التداني والنوى والبعاد إمتاعه بالفضل الذي استعلى على عاتقه وغاربه، واستولى على مشارقه ومَغَاربه، فمن مَرَّ على بحره الهيَّاج، ونظر في لآلئِ بدره الوَهَّاج؛ خليقٌ بأن يكبو قلمُه بأنامله وينبو طبعُه عن رسائله إلا أن يلقي إليه بالمقاليد، أو يستوهبه إقليدًا من الأقاليد، فيكون منسوبًا إليه، ومحسوبًا عليه، ونازلًا في شعبه، وأحد أصحابه وحزبه، وشرارة ناره، وقراضة ديناره، وسمك بحره، وثمد غمره، وهيهات ضاق فِتْرٌ عن مسير.

ليس التَّكَحُّلُ في العينين كالكحل، خلقوا أسخياء لا متساخين وليس السخي مَن يتساخى، لا سيَّمَا وأخلاقُ النَّفْس تلزمها لزوم الألوان للأبدان، لا يقدر الأبيضُ على السواد، ولا الأسودُ على البياض، ولا الشجاعُ على الجبن، ولا الجبانُ على الشجاعة، قال أبو بكر العرزمي:

يَفِرُّ جَبَانُ الْقَوْمِ عن أُمِّ رَأْسِهِ
وَيَحْمِي شُجَاعُ الْقَوْمِ مَنْ لَا يُنَاسِبُهْ
وَيُرْزَقُ مَعْرُوفَ الْجَوَادِ عَدُوُّهُ
وَيُحْرَمُ مَعْرُوفَ الْبَخِيلِ أَقَارِبُهْ
وَمَنْ لَا يَكُفُّ الْجَهْلَ عَمَّنْ يَوَدُّهُ
فَسَوْفَ يَكُفُّ الْجَهْلَ عَمَّنْ يُوَاثِبُهْ

ومن أين للضَّبَابِ صَوْبُ السَّحَابِ، وللغراب هوى العُقَاب؟! وكيف وقد أصبح ذكره في مواسم الذكر آذانًا، وعلى مَعَالِمِ الشكر لسانًا، فمن دافع العيان، وكابر الإنس والجان، واستَبَدَّ بالإفك والبهتان؛ كان كمن صالب بوقاحته الحجر، وحَاسَنَ بقباحته القمر، وهذى وهذر، وتَعَاطَى فعقر. وكان كمحموم بلسم فعفر، ونادى على نفسه بالنقص في البدو والحضر. وكان كما قال من يعنيه، ولا يشك فيه:

كَنَاطِحِ صَخْرَةٍ يَوْمًا لِيَفْلِقَها
فَلَمْ يُضِرْها وَأَوْهَى قَرْنَه الْوَعْلُ

ورُوي أن رسول الله وزاده شرفًا لديه قال: «لعن الله ذا الوجهين، لعن الله ذا اللسانين، لعن الله كل شَقَّار، لعن الله كل قَتَّات.»

وردتُ حلب ظاهرها — حماها الله تعالى وحرسها — بعد أن منيت بِرَبْضِها بالدُّرَخْمِين وَأُمِّ حَبَوْكَرَى والفَتَكْرِين، بل رُميت بآبدة الآباد والداهية النَّاد، فَلَمَّا دَخَلْتُها بعدُ ولم تستقر بي الدار، وقد نَكِرْتُها لفقدان معرفة وجار وأنشدتُها باكيًا:

إِذَا زُرْتَ أَرْضًا بَعْدَ طُولِ اجْتِنَابِها
فَقدتَ حَبِيبًا وَالْبِلَادُ كما هِيَا

كان أبو القطران المرَّارُ بنُ سَعِيدٍ الفقعسي يَهْوَى ابنةَ عَمِّه بنجد، واسمها وحشية فاهتداها رجلٌ شامي إلى بلده، فغمه بُعْدُها وساءه فراقها. فقال من قصيدة:

إِذَا تَرَكَتْ وَحْشِيَّةُ النَّجْدَ لَمْ يَكُنْ
لِعَيْنَيْكَ مِمَّا تَبْكِيَانِ طَبِيبُ
رَأَى نَظْرَةً منها فَلَمْ يَمْلِكِ الْبُكَا
مُعَاوِزَ يَرْبُو تَحْتَهُنَّ كَثِيبُ
وَكانتْ رِيَاحُ الشَّامِ تُكْرَه مَرَّةً
فَقد جَعَلَتْ تِلْكَ الرِّيَاحَ تَطِيبُ

فحصلت من الرَّبَاح على الرياح، كما حصل لأبي القطران من وحشية ثم وثم وثم وثم أجرى ذكره أدام الله تأييده من غير سبب جره، وغير مُقْتَضٍ اقتضاهُ. فقال الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة والعروض من الخليل، فقلت — والمجلس يأزر بلغني أنه — أدام الله تأييده — يصغر كبيره ويتزر صغيره، فيصير تصغيره تكبيرًا وتحقيره تكثيرًا، وهكذا شاهدتُ مَنْ شاهدتُ من العلماء — رحمهم الله أجمعين وجعله وارث أطول أعمارهم وأمدها وأنضرها وأرغدها — وما ثم له حاجة دعت إلى هذا قد تفتح النور، وتوضح النور وأضاء الصبح لذي عينين.

كان أبو الفَرَج الزهرجي كاتب حضرة نصر الدولة — أدام الله حِرَاستَه — كَتَبَ رسالة إليَّ أعطانيها ورسَالةً إليه — أدام الله تأييده — استودعنيها وسألني إيصالَها إلى جليل حضرته، وأكون نافثها لا باعثها ومُعَجِّلها لا مُؤَجِّلَها، فسَرَق عديلي رَحْلًا لي الرِّسالة فيه، فكتبتُ هذه الرسالة أشكو أموري وأبث شُقُوري وأطلعه طلع عُجَري وبجري، وما لقيت في سفري من أقوام يدعون العلم والأدب، والأدب أدب النَّفس لا أدب الدرس، وهم أصفارٌ منهما جميعًا، ولهم تصحيفاتٌ كنت إذا رددتها عليهم نسبوا التصحيف إليَّ، وصاروا إلبًا عليَّ، لقيتُ أبَا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه فعرضها علي، فقلت: كُتُبُك هذه يهوديةٌ قد برئتْ من الشريعة الحنيفية، فأظهر من ذلك إعظامًا وإنكارًا، فقلت له: أنت على المجرب ومثلي لا يهرف بما لا يعرف، وأبلغ تَيَقُّنٍ فَقَرَأ هو وولدُهُ. وقال: صَغَّرَ الخَبَرُ الخبر وكتب إليَّ رسالة يُقَرِّظُني فيها بطبع له كريم وخلق غير ذميم، قال المتنبي:

أَذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهَيْلَهُ

صَغَّرَهم تصغيرَ تحقيرٍ غير تكبير، وتقليل غير تكثير، فنفث مصدورًا وأظهر ضمير مستورًا وهو سائغٌ في مجال الشعر، وقائلُه غير ممنوعٌ من النظم والنثر، ولكنه وضعه غير موضعه وخاطب به غير مستحقه وما يستحق زمانٌ ساعده بلقاء سيف الدولة أن يُطلق على أهله الذم، وكيف وهو القائل يخاطبه:

أَسِيرُ إلى إِقْطَاعِهِ فِي ثِيَابِهِ
عَلَى طَرْفِهِ من دَارِهِ بِجُسَامِهِ

وقد كان من حقه أنْ يجعلهم في خِفَارَتِهِ؛ إذ كانوا منسوبين إليه ومحسوبين عليه، ولا يجب أن يشكو عاقلًا ناطقًا إلى غير عاقلٍ ولا ناطق؛ إذ الزمان حركاتُ الفلك إلا أن يكون ممن يعتقد أن الأفلاك تعقل وتعلم وتفهم وتدري بمواقع أفعالها بقصودٍ وإرادات، ويَحملُهُ هذا الاعتقادُ على أن يُقَرِّب لها القرابين ويُدَخِّنَ الدُّخْنَ فيكون مناقضًا لقوله:

فَتَبًّا لِدِينِ عَبيدِ النُّجُوم
وَمَنْ يَدَّعِي أنها تعقلُ

أو يكون كما قال تعالى في كتابه الكريم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ (النساء: ١٤٣) ويوشك أن تكون هذه صفته.

حكى القُطْرُبُّلِيُّ وابنُ أبي الأزهر في تأريخ اجتمعا على تصنيفه، وأهل بغداد وأهل مصر يزعمون أنه لم يصنَّفْ في معناه مثله، لصِغَرِ حجمه وكبر علمه يحكيان فيه أن المتنبي أخرج ببغداد من الحبس إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيس الوزير — رحمه الله — فقال له: أنت أحمد المتنبي. فقال: أنا أحمد النبي وكشف عن بطنه فأراه سلعة فيه. وقال: هذا طابعُ نُبُوَّتي وعلامةُ رسالتي، فأمر بقلع جُمْشُكه وصفعه به خمسين، وأعاده إلى محبسه، ويقول لسيف الدولة:

وَتَغْضَبُونَ عَلَى مَنْ نَالَ رِفْدَكُمُ
حَتَّى يُعَاقِبَه التَّنْغِيصُ وَالْمننُ

كذب والله؛ لقد كان يتحرش بالمكارم ويتحكَّك بها، ويحسد عليها أن تكون إلا منه وبه، وهذا غيرُ قادح في طلاوة شعره ورونق ديباجته، ولكني أغتاظ على الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين، ويستعذبون القدح في نبوة النبيين — صلوات الله عليهم أجمعين — ويَتَطَرَّفُون ويبتذئون إعجابًا بذلك المذهب:

تِيه مُغَنٍّ وَظُرْفُ زِنْدِيقٍ

وقتل المهدي بشارًا على الزندقة ولما شُهِرَ بها وخاف دافع عن نفسه بقوله:

يَا ابْنَ نهيَا رَأْسِي عَلَيَّ ثَقِيلٌ
وَاحْتِمَالُ الرَّأْسَيْنِ عِبْءٌ ثَقِيلُ
فَادْعُ غَيْرِي إِلَى عِبَادَةِ رَبَّيـْ
ـنِ فَإِنِّي بِوَاحِدٍ مَشْغُولُ

وأحضر صالحَ بنَ عبد القدوس وأحضر النِّطْع والسياف. فقال: علام تقتلني؟ قال: على قولك:

رُبَّ سِرٍّ كَتَمْتُه فَكَأَنِّي
أَخْرَسُ أَوْ ثَنَى لِسَانِيَ عَقْلُ
وَلَوَ انِّي أَظْهَرْتُ لِلنَّاسِ دِينِي
لَمْ يَكُنْ لِي فِي غَيْرِ حَبْسِي أَكْلُ

يا عدو الله وعدو نفسه:

السِّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَلَا
يَلْقَاكَ دُونَ الْخَيْرِ من سِتْرٍ

فقال: قد كنتُ زنديقًا، وقد تبت عن الزندقة، قال: كيف وأنت القائل:

وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ عَادَاتِهِ
حَتَّى يُوَارَى فِي ثَرَى رَمْسِهِ
إِذَا ارْعَوَى عَادَ إِلَى غَيِّهِ
كَذِي الضَّنَى عَادَ إِلَى نَكْسِهِ

وأخذ غفلتَه السياف، فإذا رأسه يتدهدأ على النِّطع، وظهر في أيامه في بلد خلف بخارى وراء النهر رجلٌ قصارٌ أعورُ، عمل له وجهًا من ذهب، وخوطب برب العزة وعمل لهم قمرًا فوق جبل ارتفاعه فراسخ فأنفذ المهدي إليه، فأُحيط به وبقلعته فحرق كُلَّ شيء فيها وجَمَعَ كل من في البلد وسقاهم شرابًا مسمومًا، فماتوا بأجمعهم، وشرب فلحق بهم وعجل الله بروحه إلى النار.

والصناديقي في اليمن فكانت جيوشُه بالمديخرة وسفهنه، وخُوطب بالربوبية وكُوتب بها، فكانت له دار إفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلًا، قال من يوثق بخبره دخلت إليها لأنظر، فسمعت امرأة تقول: يا بني. فقال: يا أمه نريد أن نمضي أمر ولي الله فينا. وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مالٌ من مال، ولا ولدٌ من ولد، فتكونون كنفس واحدة! فغزاه الحسني من صنعاء فهزمه وتحصن منه في حصن هناك، فأنفذ إليه الحسني طبيبًا بمبضع مسموم ففصده به فقتله، والوليد بن يزيد أقام في الملك سنةً وشهرين وأيامًا، وهو القائل:

إِذَا مِتُّ يَا أُمَّ الْحُنَيْكِلِ فَانْكِحِي
وَلَا تَأْمَلِي بَعْدَ الْفِرَاقِ تَلَاقِيَا
فَإِنَّ الَّذِي حَدَّثْتُه من لِقَائِنَا
أَحَادِيثُ طَسْمٍ تَتْرُكُ الْعَقْلَ وَاهِيَا

ورمى المصحف بالنشاب وخرقه. وقال:

إِذَا مَا جِئْتَ رَبَّكَ يَوْمَ حَشْرٍ
فَقُلْ يَا رَبِّ خَرَّقَنِي الْوَلِيدُ

وأنفذ إلى مكة بناءً مجوسيًّا ليبني له على الكعبة مشربة، فمات قبل تمام ذلك، فكان الحُجاج يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك يا قاتل الوليد بن يزيد لبيك. وأحضر بنابجة من ذهب، وفيها جوهرة جليلةُ القدر، صورة رجل، فسجد له وقَبَّلَه. وقال: اسجد يا علج: قلت: ومن هذا؟ قال: هذا ماني شأنه كان عظيمًا اضمحل أمره لِطُولِ المدة، فقلت: لا يجوز السجود إلا لله. فقال: قم عنا وكان يشرب على سطح وبين يديه باطية كبيرة بلور وفيها أقداح. فقال لندمائه: أين القمر الليلة؟ فقال بعضهم: في الباطية. فقال: صدقت أتيت على ما في نفسي، واللهِ لَأَشْرَبَنَّ الهفتجة يعني: شُرْبَ سبعةِ أسابيعَ متتابعة. وكان بموضع حول دمشق، يقال له البحرا: فقال:

تَلَعَّبَ بِالنُّبُوَّةِ هاشِمِيٌّ
بِلَا وَحْيٍ أَتَاه وَلَا كِتَابٍ

فقُتل بها، ورأيتُ رأسه في الباطية التي أراد أن يُهَفْتِجَ بها.

وأبو عيسى بن الرشيد القائل:

دَهانِي شَهْرُ الصَّوْمِ لَا كان من شَهْرٍ
وَلَا صُمْتُ شَهْرًا بَعْدَه آخِرَ الدَّهْرِ
وَلَوْ كان يُعْدِينِي الْإِمَامُ بِقدرِهِ
عَلَى الشَّهْرِ لَاسْتَعْدَيْتُ دَهْرِي عَلَى الشَّهْرِ

عَرَضَ له في وقته صَرَعٌ فمات، ولم يدرك شهرًا غيره — والحمد لله.

والجَنَابي قَتل بمكة ألوفًا وأخذ ستة وعشرين ألف حمل خفًّا، وضرب آلاتِهم وأثقالَهم بالنار، واستملك من النساء والغلمان والصبيان مَنْ ضاق بهم الفضاءُ كثرة ووفورًا، وأخذ حجر الملتزم وظن أنها مغناطيس القلوب، وأخذ الميزاب قال: وسمعت قائلًا يقول لغلام دُحْسُمَانٍ طوال يَرْفُلُ في برديه وهو فوق الكعبة: يا رخمة اقلعه وأسرع، يعني ميزاب الكعبة فعلمت أن أصحاب الحديث صَحَّفُوهُ. فقالوا: يقلعه غلام اسمه رحمة، كما صحفوا علَى علِي — رضي الله عنه — قوله: «تهلك البصرة بالريح.» فهلكت بالزنج؛ لأنه قتل علوي البصرة في موضع بها يقال له: العقيق أربعة وعشرين ألفًا عَدُّوهم بالقصب وحرق جامعها، وقال في خطبته يخاطب الزنج: إنكم قد أعنتم بقبح منظر، فاشفعوه بقبح مخبرًا، اجعلوا كل عامر قفرًا وكل بيت قبرًا.

قال لي بدمشق أبو الحسين اليَزِيديُّ الوزير بن علي نَسَبُ جَدِّي دَخَلَ وإياه أَدَّعِي، قال أبو عبد الله محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي: كنت بمكة وسيف الجنابي قد أخذ الحاج، ورأيت رجلًا منهم قد قتل جماعة، وهو يقول: يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي، ومن دخله كان آمنًا، أيُّ أمن هنا؟ فقلت له: يا فتى العرب تؤمنني سيفك أفسر لك هذا؟ قال: نعم، قلت: فيها خمسة أجوبة: الأول: ومن دخله كان آمنًا من عذاب يوم القيامة، والثاني: من الفرض الذي فرضت عليه، والثالث: خرج مخرج الخبر وهو يريد الأمر كقوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ (البقرة: ٢٢٨)، والرابع: لا يُقام عليه الحدُّ فيه إذا جنى في الحل، والخامس من الله عليهم بقوله: أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ من حَوْلِهِمْ (العنكبوت: ٦٧). فقال: صَدَقَتْ هذه اللحية، أَلِيَ توبةٌ؟ فقلت: نعم، فخلاني وذهب.

والحسين بن منصور الحلاج من نيسابور، وقيل: من مَرْو، يدعي كل علم وكان متهورًا جسورًا يروم إقلاب الدول، ويدعي فيه أصحابُه الإلهية، ويقول بالحلول ويُظهر مذاهبَ الشيعة للملوك ومذاهبَ الصوفيةِ للعامة، وفي تضاعيفِ ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه، وناظرَه عليُّ بن عيسى الوزير فوجده صفرًا من العلوم. وقال: تَعَلُّمُك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائلَ أنت لا تدري ما تقول فيها، كم تكتب إلى الناس تَبَارَكَ ذو النور الشعشعاني الذي يلمع بعد شعشعته، ما أحوجك إلى أدب. حدثني أبو علي الفارسي، قال: «رأيت الحلاج واقفًا على حلقة أبي بكر الشبلي … أنت بالله ستفسد خشبة، فنفص كمه في وجهه وأنشد:

يَا سِرَّ سِرٍّ يَدِقُّ حَتَّى
يَجِلُّ عن وَصْفِ كُلِّ حَيٍّ
وَظَاهِرًا بَاطِنًا تَبَدَّى
من كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ شَيٍّ
يَا جُمْلَةَ الْكُلِّ لَسْتَ غَيْرِي
فَمَا اعْتِذَارِي إِذن إِلَيَّ

وهو يعتقد أن العارف من الله بمنزلة شعاع الشمس منها بدأ وإليها يعود، ومنها يستمد ضوءه أنشدني الظاهر لنفسه:

أَرَى جِيلَ التَّصَوُّفِ شَرَّ جِيلٍ
فَقُلْ لَهمُ وَأهْوِنْ بِالْحُلُولِ
أَقَالَ اللهُ حِينَ عَشِقْتُمُوهُ
كُلُوا أَكْلَ الْبَهائِمِ وَارْقُصُوا لِي

وحرك يومًا يده فانتثر على قولٍ مسكٌ وحرك مرة أخرى فانتثر دراهم. فقال له بعضُ مَنْ حضر ممن يفهم: أرني دراهم معروفة، أؤمن بك وخلقٌ معي؛ إن أعطيتني درهمًا عليه اسمك واسم أبيك. فقال: وكيف هذا وهذا لا يصنع؟ قال: من أحضر ما ليس بحاضر صنع ما ليس بمصنوع. وكان في كتبه: إني مغرق قوم نوحٍ ومهلكُ عادٍ وثمودَ، فَلَمَّا شاع أمرُه وعرف السلطان خبره على صحة وَقَّعَ بضربه ألفَ سَوْطٍ وقطع يديه، ثم أحرقه بالنار في آخر سنة تسع وثلاثمائة. وقال لحامد بن العباس: أنا أهلكك. فقال حامد: الآن صح أنك تدعي ما قُرِفْتَ به.»

وابنُ أبي العُذَافر أبو جعفرٍ محمدُ بن علي الشلمغاني أهله من قرية من قرى واسط تُعرف بشَلْمَغَان، وصورته صورة الحلاج، ويدعي عنه قوم: أنه إله، وأن الله حل في آدم، ثم في شيث، ثم في واحد واحد من الأنبياء والأوصياء والأئمة، حتى حل في الحسن بن علي العسكري، وأنه حل فيه وكان قد استغوى جماعة منهم ابن أبي عون صاحب كتاب التشبيه ومعه ضُربت عنقه. وكانوا يبيحونه حرمهم وأولادهم يتحكم فيهم. وكان يتعاطى الكيمياء وله كُتُبٌ معروفةٌ.

وكان أحمدُ بنُ يحيى الراوندي من أهل مرو الروذ حسن الستر جميل المذهب، ثم انسلخ من ذلك كله بأسباب عرضت له، ولأن علمه كان أكثر من عقله وكان مثله، كما قال الشاعر:

وَمَنْ يُطِيقُ مَرَدًّا عِنْدَ صَبْوَتِهِ
وَمَنْ يَقُومُ لِمَسْتُورٍ إِذَا خَلَعَا

صَنَّفَ كتاب «التاج» يحتجُّ فيه لقِدَم العالم، فنقضه أبو الحسن الخياط.

  • الزمرد: يحتج فيه لإبطال الرسالة، نقضه الخياط.
  • نعت الحكمة: سَفَّه الله تعالى في تكليف خلقه أمره، نقضه الخياط.
  • الدامغ: يطعن فيه على نظم القرآن.
  • القضيب: يثبت أن عِلْمَ الله محدَث، وأنه كان غير عالم حتى خلق لنفسه علمًا، نقضه الخياط.
  • الفريد: في الطعن على النبي — عليه الصلاة والسلام.
  • المرجان: في اختلاف أهل الإسلام.

علي بن العباس بن جريج الرومي، قال أبو عثمان الناجم: دخلت عليه في علته التي مات فيها، وعند رأْسِهِ جَامٌ فيه ماءٌ مثلوجٌ وخنجرٌ مجرد، لو ضرب به صدر خرج من ظهر فقلت: ما هذا؟ قال: الماءُ أبل به حلقي، فقلما يموت إنسان إلا وهو عطشان، والخنجر إن زاد علي الألم نحرت نفسي، ثم قال: أقُصُّ عليكَ قصتي تستدل بها على حقيقة تَلَفي، أردْتُ الانتقال من الكرخ إلى باب البصرة، فشاورت صديقنا أبا الفضل، وهو مُشْتَقٌّ من الإفضال، فقالَ: إذا جئتَ القنطرة فخذ على يمينك وهو مشتق من اليُمن واذهب إلى سِكَّةِ النَّعيمة، وهو مشتق من النعيم فاسكنْ دار ابن المعافى، وهو مشتق من العافية فخالفته لتعسي ونحسي، فشاورت صديقنا جعفرًا، وهو مشتق من الجوع والفرار. فقال: إذا جئت القنطرة فخذ على شمالك، وهو مشتق من الشؤم، واسكن دار ابن قلابة وهي هذه، لا جرم قد انقلبت بي الدنيا، وأضَرَّ ما علي العصافير في هَذِهِ السِّدْرة تصيحُ سِيقْ سِيقْ، فها أنا في السياق، ثم أنشدني:

أَبَا عُثْمَانَ أَنْتَ قَرِيعُ قَوْمِكْ
وَجُودُكَ لِلْعَشِيرَةِ دُونَ لَوْمِكْ
تَمَتَّعْ من أَخِيكَ فَمَا أَرَاهُ
يَرَاكَ وَلَا تَرَاه بَعْدَ يَوْمِكْ

وألح به البول، فقلت له: البول مُلِحٌّ بك. فقال:

غَدًا يَنْقَطِعُ الْبَوْلُ
وَيَأْتِي الْوَيْلُ وَالْعَوْلُ
أَلَا إِنَّ لِقَاءَ اللهِ
هَوْلٌ دُونَه الْهَوْلُ

ومات من الغد، فأرجو أن يكون هذا القولُ توبةً له، مما كان اعتقده من ذبحه نفسه، والرسول — عليه الصلاة والسلام — يقول: «من وجأ نفسه بحديدة حُشِرَ يوم القيامة وحديدتُه بيده يجأ بها نفسه خالدًا مُخَلَّدًا في النار، مَنْ تَرَدَّى من شَاهِقٍ حُشِرَ يوم القيامة يتردى على منخَرَيه في النَّار خالدًا مخلدًا، من تَحَسَّى سُمًّا حُشِرَ يوم القيامة، وسمه بيده يَتَحَسَّاه خالدًا مخلدًا في النار.»

قال الحسن بنُ رجاء الكاتب: جاءني أبو تمام إلى خراسان، فبلغني أنه لا يصلي، فوكلت به مَن لازمه أيامه، فلم يره صلى يومًا واحدًا فعاتبته. فقال: يا مولاي قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبُعْدَ الشقة ولم أره يثقل علي، فلو كنت أعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضرني ما تركتها، فأردت قتله فخشيت أن يحمل على غير هذا.

وفي تآريخ كثيرة أنه أحضر المازَيَارَ إلى المعتصم، وقبل قدومه بيوم سخط على الأفشين؛ لأن القاضي ابن أبي دَاوُدَ قال للمُعْتَصِمِ: أغْرَلُ وَيَطَأُ امرأةً عربية، وهو كاتِبُ المازَيَار وزَيَّنَ له العصيان، فأحضر كاتبه وتَهَدَّدَه المعتصم، فأقَرَّ أنه كتب إلى المازَيَار لم يكن في الأرض، ولا في العصر بليةٌ إلا أنا وأنت وبابك، وقد كُنتُ حريصًا على حَقْنِ دمه، حتى كان من أمره ما كان ولم يبق غيري وغيرك، وقد تَوَجَّهَ إليك عسكرٌ من عساكر القوم؛ فإن هزمته وَثَبْتُ أنا بملكهم في قرار داره، فظهر الدين الأبيض فأجابه المازيار بجوابٍ هو عنده سَفَطٌ أحمرُ، فجَمَعَ بين الأفشين والمازيار، فاعترف المازيارُ بما حَكَى عنه، وقيل للمُعتصم: إنَّ وراء المازيار مالًا جليلًا، فأنشد:

إِنَّ الْأُسُودَ أُسُودَ الْغَابِ هِمَّتُها
يَوْمَ الْكَرِيهَةِ فِي الْمَسْلُوبِ لَا السَّلَبِ

ذكروا أن اثنين قَتَلُوا ثلاثة آلاف ألف وخمسمائة ذبحًا بالثياب الحمر، والخناجر الطوال وأنهم وجدوا أسماءهم في وقعة وقعة وفي بلد بلد. وكانوا يأخذون من كل واحد علامة خاتمه، أو ثوبه أو منديله أو تكته أتى الوادي فَطَمَّ على القرى.

قد لقيتُ من يجادلني أن عليًّا — رضي الله عنه — وكذلك الحاكم، وقد ظهر بالبصرة من يدعي أنه جعفر بن محمد — عليهما السلام — وأنه متصل به، وروحه فيه ومتصلة به. ولو استقصيت القول في هذا الفن لطال جدًّا، ولكن:

لَا بُدَّ لِلْمَصْدُورِ أَنْ يُنْفَثَا
وَلِلَّذِي فِي الصَّدْرِ أَنْ يُبْعَثَا

بل لو قلت كل ما أعلمه أكلت زادي في محبسي، بل كنت أُنْشِدُ:

أَحْمِلُ رَأْسًا قد مُلِكَ حَمْلُهُ
أَلَا فَتًى يَحْمِلُ عَنِّي ثُقْلَه وَأَسْتَرِيحُ

إلى أن أنشد:

لَيْسَ يَشْفِي كُلُومَ غَيْرِي كُلُومِي
مَا بِهِ مَا بِهِ وَمَا بِي مَا بِي

إنْ شَكَوتُ العَصْرَ وأحْكَامَهُ، وذَمَمْتُ صُرُوفَه وأيَّامُه شكوتُ مَنْ لا يشكى أبدًا، وذممت من لا يرضي أحدًا، شيمته اصطفاء اللئام، والتحامل على الكرام، وهمته رفع الخامل الوضيع، ووضع الفاضل الرفيع، إذا سمح بالحياء، فأبْشِرْ بِوَشْكِ الاقتضاء، وإذا أعار، فأحْسَبُه قد أَغَارَ، فَمَا بَيْنَ أن يُقْبِلَ عليك مُستبشرًا، ويُوَلِّي عنك مُتَجَهِّمًا مستشرًا إلا كلمح البصر واستطارة الشرر، لم يخترق ذكر الوفاء مسامعه، ولم يمسس ماءُ الحياءِ مَدَامِعَهُ، ظاهرُه يَسُرُّ ويُؤْنِس، وباطنُهُ يسوء ويُؤْيِس، يخيب ظن راجيه، ويكذب أمل عافيه، لا يسمع الشَّكْوَى، ويُشْمِتُ بالبلوى، قد ذممت سيئًا، ووقعتُ فيه أنا كالغريق يطلب مُعَلِّقًا، والأسيرِ يَنْدُبُ مُطْلَقًا، واستحسن قول علي بن العباس بن جُريج الرومي:

أَلَا لَيْسَ شَيْبُكَ بِالْمُنْتَزَعْ
فَهَلْ أَنْتَ عن غَيِّهِ مُرْتَدَعْ؟
وَهَلْ أَنْتَ تَارِكُ شَكْوَى الزَّمَا
نِ إِذَا شِئْتَ تَشْكُو إِلَى مُسْتَمِعْ؟
فَشَيْبُ أَخِي الشَّيْبِ أُمْنِيَّةٌ
إِذَا مَا تَنَاهَرْ إِلَيْها هَلَعْ

كنتَ في حال الحدَاثَةِ أقرَبَ الناس إليَّ وأَعَزَّهم عَلَيَّ، وأقرَبَهم عندي وأَجَلَّهم في نفسي مرتبة، من قال لي نَسَأ الله في أجلك، جَعَلَ الله لك أمَدَّ الأعمار وأطولها، فلمَّا بلغت عشر الثمانين جاء الجزع والهلع، فمم أرتاع وألتاع وأخلد إلى الأطماع؛ وهو الذي كُنتُ أتمنى، ويتمنى لي أهلي؟ أَمن صدوف الغواني عني، فأنا — واللهِ — عنهُنَّ أَصْدَفُ وبهنَّ وأدوائهن أعْرَفُ؛ إذ لست ممن ينشد تحسرًا عليهن:

لِلسُّودِ فِي السُّودِ آثَارٌ تَرَكْنَ بِها
لَمْعًا من الْبِيضِ تُثْنِي أَعْيُنَ الْبِيضِ

وقول الآخر:

وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَايَةٍ
وَعَشَّشَ فِي وَكْرَيْهِ جَاشَتْ لَه نَفْسِي

ولا أنْشِدُ لأبي عبادة البحتري:

أَنَّ أَيَّامَه من الْبِيضِ بِيضٌ
مَا رَأَيْنَ الْمَفَارِقَ السُّودَ سُودَا
وَإِذَا الْمَحلُّ ثَارَ ثَارُوا غُيُوثًا
وَإِذَا النَّقْعُ ثَارَ ثَارُوا أُسُودَا
يَحْسُنُ الذِّكْرُ عنهمْ وَالْأَحَادِيـ
ـثُ إِذَا حَدَّثَ الْحَدِيدُ الْحَدِيدَا
بَلْدَةٌ تُنْبِتُ الْمَعَالِي فَمَا يَثَّـ
ـغِرُ الطِّفْلُ فِيهِمْ أَوْ يَسُودَا

وهذه صفة مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ — به أدَامَ الله تأييدَه — لا خَلَتْ منه، ومن النِّعْمَة عليه وعنده، فقد وجدت أهْلَها مُعْتَرفين بعوارفه، خلا أبي العباس أحمد بن خَلَف الممتع أدام الله عزه؛ فإني وجدتُ آثار تفضله عليه ظاهرة، ولسانَه رطبًا بشكره وذكره، وقد ملأ السماء دعاء والأرض ثناء.

قالت قريشٌ للنبي — عليه الصلاة والسلام: أتباعك من؟! هؤلاء الموالي: كبلال، وعمار، وصهيب، خيرٌ من قصي بن كلاب، وعبد مناف، وهاشم، وعبد شمس؟! فقال: نعم والله لئن كانوا قليلًا ليكْثُرُنَّ، ولئن كانوا وضعاء ليَشْرُفُنَّ حتى يصيروا نجومًا يُهْتَدى بهم ويُقْتَدى، فيقال: هذا قول فلان، وذكر فلان، فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية، فَلَمَا يُدَهْدِه الجعل بمنخره خيرٌ من آبائكم الذين ماتوا فيها فاتبعوني أجعلكم أنسابًا، والذي نفسي بيده لتقتسمن كنوز كسرى وقيصر. فقال له عَمُّه أبو طالب: أبْق عَلَيَّ وعلى نفسك، فظنَّ — عليه الصلاة والسلام — أنه خاذله ومسلمه. فقال: يا عَمِّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يُظْهِرَه الله أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر باكيًا، ثم قَامَ فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ: أقبل يا بن أخي فأقبل. فقال: اذهب وقل ما شئت فوالله لا أسلمتك لسوء أبدًا، فكان — عليه الصلاة والسلام — يذكُرُ يومًا ما لقي من قومه من الجهد والشدة، قال: لقد مكثت أيامًا وصاحبي هذا — يُشير إلى أبي بكر — بضع عشرة ليلة ما لنا طعامٌ إلا البرير في شعب الجبال.

وكان عتبة بن غزوان يقول: إذا ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة: لقد مكثنا زمانًا ما لنا طعام إلا ورقُ البَشَامِ أكلْنَاهُ، حَتَّى تَقَرَّحت أشدَاقُنَا، ولقد وجدتُ يومًا تمرةً فجَعَلْتُها بيني وبين سعد وما منا اليوم أحدٌ إِلَّا وهو أميرٌ على كُورة. وكانوا يقولون فيمن وَجَدَ تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: إنَّ أسعد الرجلين من حصلت النَّوَاةُ في قسمه يلوكها يومه وليلته من عدم القوت، وكذا قال رسول الله : «لقد رعيت غُنيمات أهل مكة لهم بالقراريط.»

وابتَدَأ أمْرَه أنه وَقَفَ على الصَّفَا ونَادَى: يا صَبَاحَاهُ، فجاءوا يُهْرَعُون. فقالوا: ما دَهَمَك ما طَرَقَك؟ قال: بم تعرفونني؟ قالوا: محمدٌ الأمين، قال: أرأيتم إن قلت لكم: إن خيلًا قد طَرَقَتْكم في الوادي، وإنَّ عسكرًا قد غشيكم من الفج أكنتم تصدقونني؟ قالوا: اللَّهمَّ نَعَمْ؛ ما جرَّبنا عليك كذبًا قط، قال: فإن الذي أنتم عليه ليس لله ولا من الله ولا يَرْضَاه الله قولوا لا إله إلا الله، واشْهَدُوا أني رسوله، واتبعوني تُطِعْكُم العربُ وتملكوا العجمَ، وإنَّ الله قال لي استخرجهم كما استخرجوك وابعث جيشًا أبعث خمسة أمثاله، وضمن لي أنه ينصرني بقومٍ منكم، وقال لي: قاتلْ بمن أطاعك من عصاك، وضمن لي أنه يَغْلِبُ سُلْطَاني سلطانَ كسرى وقيصر.

ثم إنه — عليه الصلاة والسلام — غزا تَبُوكَ في ثلاثين ألفًا، وهذا من قِبَل الله الذي يجعل من لا شيء كُلَّ شيء، ويجعل كل شيء لا شيء يُجمِّد المائعات، ويُمِيعُ الجامدات؛ يجمد البحر، ثم يُفَجِّر الصخر وما مثله في ذلك إلا كمثل من قال: هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة أحك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المنيفة فترضها وتفضها، وهذه النملة الضعيفة اللطيفة تهزم العساكر الكثيرة المعدة، وكذا حقيقة أمره — عليه الصلاة والسلام — حتى لقد قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش. وكان رسولهم إليه بالحديبية: لقد وردت على النجاشي وكسرى وقيصر ورأيت جندهم وأتباعهم، فما رأيت أَطْوَعَ ولا أَوْقَرَ ولا أَهْيَبَ من أصحاب محمدٍ لمحمد هم حوله، وكأن الطير على رءوسهم؛ فإنْ أشار بأمرٍ بادروا إليه، وإن توضأ اقتسموا وضوءه، وإن تنخَّم دَلكوا بالنخامة وجوههم ولحاهم وجلودهم. وكانُوا له بعد موته أَطْوَعَ منهم في حياته، حتى لقد قال لبعض أصحابه: لا تسبوا أصحاب محمد؛ فإنهم أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف أسيافهم.

فتأمَّل كيفَ استفتح دعوتَه وهو ضعيف وحْدَه بأن هذا سيكونُ، فرآه العدو والولي وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال هذه الهباءة تعظم وتصير جبلًا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس بها في حال ضعفها، وجاء يومًا ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة العبدري. فقال: لا تفعل يا عثمان فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت. فقال: لقد ذلَّتْ يومئذ قريشٌ وقَلَّتْ. قال: بل كَثُرَتْ وعَزَّتْ.

وأنا أستعين بعصمة الله وتوفيقه، وأجعلهما معينتي على دفع شهواتي، وأشكو إليه عكوفي على الأماني، وأسأله فهمًا لمواعظ عبر الدنيا، فقد عميت عن كلوم غيرها، بما جشم على خواطري من الشعف، ولَسْتُ أجد مني منصفًا لي منها، ولا حاجز لرغبتي فيها عنها، وأين ودائعُ العقول وخزائنُ الأفهام يا أُولِي الأبصار؟ صفحنا عن مساوي الدنيا إغماضًا لعاجل مُوَفَّق التنغيص، وترمي إليه يدُ الزوال وتكمنُ له الآفاتُ، قال كثير:

كَأَنِّي أُنَادِي صَخْرَةً حِينَ أَعْرَضَتْ
من الصَّمِّ لَوْ تَمْشِي بِها الْعُصَمُ زَلَّتِ

وأقول على مَذْهَبِ كُثَيِّرٍ: يا دُنْيَا في كُلِّ لحظةٍ لِطَرْفي منك عبرةٌ، وفي كل فكرة لي منك حسرة، يا مُرنقة الصفا ويا ناقصة عهد الوفا، ما وفق لحظة من عرج نحوك، ولا سَعِدَ من آثر المقام على حسن الظن بك، هيهات يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغنى وفي الباطن أهل التقلُّل، لهم نفس هذا المعنى، كم من يوم لي أغر كثيرًا لأهله! قد أصَحَّت سماؤه، وامتد على ظله تمدني ساعاته بالمنى، ويضحك لي بها عن كل ما أهوى، حتى إذا اتصل بكل أسبابي وامتزج سرورُه بفرحي وروحي وأترابي، نَفِسَتْ عليَّ به الدُّنيا، فسَعَتْ بالتشتيت إلى ألفته والنقص إلى مدته، فكسفت بهجته كسوفًا وأرهقت نضرته وحشة الفراق، وقطعتنا فرقًا في الآفاق، بعد أن كنا كالأعضاء المؤتلفة، والأغصان اللدنة المتعطفة، وَاحَسْرَتَى في يوم يجمع شِرَتِي كفنٌ ولحد!

ضَيَّعْتُ مَا لَا بُدَّ منهْ
بِالَّذِي لِي منه بُدُّ

وأنشد قول ابن الرومي:

أَلَا لَيْسَ شَيْبُكَ بِالْمُنْتَزَعْ
فَهَلْ أَنْتَ عن غَيِّهِ مُرْتَدَعْ

فَأَقْلَقُ وأبكى بكاءً غير نافع ولا ناجِعٍ، ويجِبُ أن أبكي على بكائي، وأنشد:

لِسَانِي يَقُولُ وَلَا أَفْعَلُ
وَقَلْبِي يُرِيدُ وَلَا أَعْمَلُ
وَأَعْرِفُ رُشْدِي وَلَا أَهْتَدِي
وَأَعْلَمُ لَكِنَّنِي أَجْهَلُ

عرض عليَّ بعضُ الناس كأس خمر، فامتنعت منها وقلت خلوني، والمطبوخ على مذهب الشيخ الأوزاعي، وقُلتُ لهم: عَرَض إبراهيم بن المهدي على محمد بن خازم الخمرة، فامتنع وأنشد:

أَبَعْدَ شَيْبِيَ أَصْبُو
وَالشَّيْبُ لِلْجَهْلِ حَرْبُ
سِنٌّ وَشَيْبٌ وَجَهْلٌ
أَمْرٌ لَعَمْرُكَ صَعْبُ
يَا ابْنَ إِمَامٍ فَألَّا
أَيَامَ عَوْدِيَ رَطْبُ
وَإِذَا مَشِيبي قَلِيلٌ
وَمَنْهَلُ الْحُبِّ عَذْبُ
وَإِذْ شِفَاءُ الْغَوَانِي
منِّي حَدِيثٌ وَقُرْبُ
فَالْآنَ لَمَّا رَأَى بِي الْـ
ـعذَّالُ مَا قد أَحَبُّوا
وَآنَسَ الرُّشْدَ منِّي
قَوْمٌ أُعَابُ وَأَصْبُو
آلَيْتُ أَشْرَبُ خَمْرًا
مَا حَجَّ للهِ رَكْبُ

وأقبلتُ عَلَى نَفْسِي مُخاطبًا ولها مُعاتبًا، والخطاب لغيرها والمعنى لها: لقد أمهلكُم حَتَّى كأنه أهملكم، أما تستحيون من طول ما لا تستحيون؟ فكن كالوليد تقلبه يد اللطف به على فراش العطف، عليه تُصْرَف إليه المنافع بغير طلب منه لصغره، وتُصرف عنه المضارُّ بغير حذر منه لعجزه، أما سمعت الرسول — عليه الصلاة والسلام — إذ يقول في دُعائِهِ: «اللهم اكلأْني كلأةَ الوليد الذي لا يدري ما يُرَاد به، ولا ما يُرِيد» ألا متعلق، والإذلالُ ذَيَّالٌ دَلِيلُهُ، ألا مُعِدٌّ مَطِيَّةً ورَحْلًا ليوم رحيله؟! يا هَلَاه الدُّلجة الدلجة، إنه مَن لم يسبق إلى الماء يظمأ، إنما منعتك ما تشتهي ضنًّا بك وغيرة عليك، قال الرسول — عليه الصلاة والسلام: «إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا.» وأنت تشكوني إذا حميتك وتكره صيانتي إذا صنتك، ألا لائذٌ بفنائنا ليَعِزَّ؟ ألا فارٌّ إلينا لا فار مَنَّا؟ يا من له بُدٌّ من كل شيء ارحمْ مَنْ لا بد له منك على كل حال، الله يغني بشيء عن شيء. وليس يغني عنه بشيء؛ فلهذا قال جبريل للخليل: ألك حاجة؟ قال: «أَمَّا إليك فلا.» الله يَستحقُّ أن يُسأل وإنْ أَغْنَى؛ لأنه لا يُغْنَى بشيء عنه أَطِعْه لتُطيعه ولا تُطِعْه ليطيعَك فتفِرَّ وتَمَلَّ، من تَرَكَ تدبيرَه لتدبيرنا أرحناه، جَلَّ مَنْ لَوالِبُ القلوب والهِمَمُ بيده وعزائمُ الأحكام والأقسامِ عنده:

أَنَسِيتَ ذِكْرَ أَحِبَّةٍ
يَنْسَوْنَ ذَنْبَكَ عِنْدَ ذِكْرِكْ
وَجَفَوْتَهمْ وَلَطَالَمَا
كَانُوا خِلَافَكَ طَوْعَ أَمْرِكْ
وَصَبَرْتَ عِنْدَ فِرَاقِهِمْ
مَا كان عُذْرُكَ عِنْدَ صَبْرِكْ

عشقت فأصبحت في العاشقين أَشْهَرَ من فَرَسٍ أَبْلَقَ، تترك مَنْ إذا جفوته ونسيت ذكره وتعديت حَدَّهُ، وتركت نهيه وضيعت أمره، وتُبت إليه وعولت في تفضله عليك عليه، وقلت يا رب؛ قال لك لبيك: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (البقرة: ١٨٦)، إن كان الذباب بوجهك فأتهمك، وإن قطَعْتُ أنَا أَعْضَاءَك، لا تتهمْني أنت الذي إذا أعطيتُكَ ما أمَّلت تركتَني وانصرفت: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ (الإسراء: ٨٢، وفصلت: ٥١)، يا واقفًا بالتهم كَمْ كَمْ، أليس يقول لك ما غَرَّكَ بي؟ تقول: حلمك، وإلا لو أرسلت على بقة لَجَمَعَتْنِي عليك، إذا أرادت أن تجمعني:

أَمن بَعْدِ شُرْبِكَ كَأْسَ النُّهَى
وَشَمِّكَ رَيْحَانَ أَهْلِ التُّقَى
عَشِقْتَ فَأَصْبَحْتَ فِي الْعَاشِقِيـ
ـنَ أَشْهَرَ من فَرَسٍ أَبْلَقَا
أَدُنْيَايَ من غَمْرِ بَحْرِ الْهَوَى
خُذِي بِيَدِي قَبْلَ أَنْ أَغْرَقَا
أَنَا لَكِ عَبْدٌ فَكُونِي كَمَنْ
إِذَا سَرَّه عَبْدُه أَعْتَقَا

كان ببغدادَ رجُلٌ كبيرُ الرَّأس، فِيلِيُّ الأذُنين، اسمُه «فاذُوهْ»، رأسُه في الأزمنة الأربعة مكشوفٌ، لا يتورع عن ركوب مُخْزِيَةٍ، يقال له يا فاذُوه، ويلك تب إلى الله، فيقول: يا قوم لم تدخلون بيني وبين مولاي، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فكان في بعض الشوارع يومًا ذاهبًا، والشارعُ قد اتسع أسفلُه وضاق أعلاه والتقتْ جناحان فيه، فناولتْ جارةٌ جارتَها مِهْرَاسًا انسلَّ من يدها على رأس «فاذوه»، فهرس رأسه وخُلِطَ كخلط الهريسة، وأعجله عن التوبة. وكان لنا واعظٌ صالحٌ يقول لنا: احذروا ميتة «فاذوه».

قال جبريلُ في حديثه: خشيتُ أن يُتِمَّ فرعَونُ الشهادة والتوبة، فأخذت قطعة من حال البحر فضربتُ بها وَجْهَه، يعني: طينة، والحالُ ينقسم ثمانية أقسام منها الطين، فكيف يصنع مَنْ عنده أن التوبة لا تَصِحُّ من ذنب، مع الإقامة على آخر؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.

بلغني عن مَولايَ الشَّيخ — أدام الله تأييده — أنه قَالَ: وقد ذَكَرْتُ له أُعَرِّفُه خبرًا هو الذي هجا أبا القاسم علي بن الحسين المغربي، فذَلِكَ منه — أدام الله عِزَّه — رائع لي، خوفًا أن يستَشِر طَبعي، وأن يتصورني بصورة من يَضَعُ الكفر موضع الشكر، وهو بتعريف التنكير أنفعُ لي عنده لجلالة قدره ودينه ونُسُكه، وأنا أطلعه طلعة ليعرف خفضه ورفعه وفراداه وجمعه.

كنتُ أدرس على أبي عبد الله بن خالويه — رحمه الله — وأختلف إلى دار أبي الحسين المغربي، ولما مات ابن خالويه سافرتُ إلى بغداد، ونزلتُ على أبي علي الفارسي، وكنتُ أختلفُ إلى عُلَمَاء بغداد إلى: أبي سعيدِ السِّيرافي، وعليِّ بن عيسى الرُّماني، وأبي عبيد الله المرزباني، وأبي حفص الكتاني صاحب أبي بكر بن مجاهد وكَتَبْتُ حَدِيثَ رسُولِ الله ، وبَلَّغت نفسي أغراضها جهدي والجهد عاذر، ثم سافرت منها إلى مصر ولقيت أبا الحسن المغربي، فألزمني إن لزمته لزوم الظل، وكنت منه مكان المثل في كَثْرَة الإنْصَاف والحنُوِّ والتَّجَافي، فقال لي سرًّا: «أنَا أخافُ هِمَّةَ أبي القَاسم أن تَنْزُوَ بِهِ إلى أن يُوردَنَا وردًا إلا صَدَرَ عنه، وإنْ كانتِ الأنْفَاسُ مما تَحْفَظُ وتَكْتُبُ فاكتُبْها واحفظها وطالعني بها.» فقال لي يومًا: ما نَرْضَى بالخمول الذي نحن فيه، قلتُ: وأيُّ خمول هُنَا تَأخُذُون من مولانا — خَلَّدَ الله ملكه؟ في كُلِّ سَنَة ستَّة آلاف دينار، وأبُوكَ من شُيُوخ الدَّوْلَةِ وهُوَ مُعَظَّمٌ مُكَرَّمٌ. فقال: أرِيدُ أنْ تُصَارَ إلى أبْوابِنَا الكَتَائِبُ والمواكِبُ والمقَانِبُ، ولا أرْضَى بأنْ يجريَ عَلَيْنا، كالولدَان والنِّسْوَان فأعدتُ ذلك على أبيه فقال: ما أخوفني أن يُخضِّبَ أبُو القَاسِمِ هَذِهِ من هذه، وقبض على لحيته وهامته، وعلم أبو القاسم بذلك، فَصَارَتْ بيني وبينه وقْفَةٌ.

وأَنْفَذَ إليَّ القائِدُ أبو عبد الله الحسَينُ بن جَوْهَر، فشرَّفني بشَريفِ خِدْمَتِهِ، فرأيتُ الحاكم كُلَّمَا قتل رئيسًا أنفذ رأسَه إليه، وقَالَ: هذا عَدُوِّي وعدُوُّك يا حُسَينُ، فقلت: من ير يومًا يُرَ بِه، والدَّهرُ لا يُغْترُّ به، وعَلِمْتُ أنه كذا يفعل به، فاستأذنْتُه في الحج فأذن، فخَرَجْتُ في سَنَةِ سَبْعٍ وتِسْعِينَ، وحَجَجْتُ خمسة أعْوَامٍ وعُدْتُ إلى مصر وقد قَتَلَه، فجَاءني أولادُه سرًّا يَرُومُونَ الرُّجوع إليهم، فقُلْتُ لهم: خير ما لي ولكُمُ الهرَبُ، ولأبيكم ببغداد ودَائِعُ خَمْسُمائة ألف دينار، فاهربوا وأهرب فَفَعلوا وفَعَلْتُ، وبلغني قتلهم بدِمَشْقَ وأنا بطَرَابُلسَ فدَخَلْتُ إلى أنْطَاكِيَّة وخَرَجْتُ منها إلى مَلْطِيَّةَ، وبها المايسطريةُ خَوْلَةُ بنتُ سَعْدِ الدَّوْلَة فأقمتُ عِنْدَها إلى أنْ وَرَدَ عَلَيَّ كِتَابُ أبي القَسْمِ، فسرتُ إلى مَيَّافَارقِينَ فَكان يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء قال لي يومًا من الأيام: ما رأيتك، قُلتُ: أعَرضَتْ حَاجَةٌ؟ قالَ: لا أرَدتُ أنْ ألعَنَك، قُلتُ: فالعَني غائبًا، قال: لا في وَجْهِكَ أشْفَى، قُلْتُ: ولم؟ قالَ: لمخَالفَتِك إياي فيما تَعْلم، وقُلتُ له ونحنُ على أنس بيني وبينَه لي حُرُمَات ثَلاثٌ: البلدية، وتَرْبيةُ أبيه لي، وتربيتي لإخوته، قال: هذه حُرَمٌ مُهْتِكةٌ البلديَّةُ نسبٌ بين الجدران، وتربية أبي لَكَ منةٌ لنا عَلَيْك، وتربيتُك لإخوتي بالخلع، والدنانير أردت أن أقول له: استرحت من حيثُ تَعِبَ الكِرَامُ، فخشيتُ جُنُونَ جُنُونِهِ؛ لأنه كان جُنُونُه مجنونًا وأصحُّ منه مجنون وأَجَنُّ منه، لا يكون. وقد أنشد:

جُنُونُكَ مَجْنُونٌ وَلَسْتُ بِوَاجِدٍ
إِذَنْ طَبِيبًا يُدَاوِي من جُنُونِ جُنُونٍ

بل جن جنانه، ورقص شيطانه.

بِهِ جِنَّةٌ مَجْنُونَةٌ غَيْرَ أَنَّها
إِذَا حَصَلَتْ منه أَلَبُّ وَأَعْقَلُ

وقال لي ليلةً: أُرِيدُ أنْ أجْمَعَ أوصافَ الشمعة السبعة في بيتٍ واحدٍ. وليس يسنحُ لي ما أرضاه، فقُلْتُ: أنا أفْعَلُ من هذه الساعة، قال: أنت جُذَيْلُها الْمُحَكَّكُ وعُذَيْقُها الْمُرَجَّبُ، فأخذت القلم من دواته وكتبت بحضرته:

لَقد أَشْبَهَتْنِي شَمْعَةٌ فِي صَبَابَتِي
وَفِي هَوْلِ مَا أَلْقَى وَمَا أَتَوَقَّعُ
نُحُولٌ وَحَرْقٌ فِي فَنَاءٍ وَوَحْدَةٍ
وَتَسْهِيدُ عَيْنٍ وَاصْفِرَارٌ وَأَدْمُعُ

فقال: كُنتُ عَمِلتُ هذا قبلَ هَذا الوَقْتِ، فقلتُ: تمنعني سُرْعَةُ الخاطِرِ وتُعْطيني عِلْمَ الغَيْبِ، وقلتُ: أنت ذَاكِرٌ قولَ أبيكَ لي ولك، وللبَتِّيِّ الشَّاعِرِ، ولمحسن الدمشقي، ونحنُ في الطَّارمة: اعملوا قطعة قطعة، فمن جَوَّدَ جعلت جائزته كتبها فيها، فقلت:

بَلَغَ السَّمَاءَ سُمُوُّ بَيـْ
ـتٍ شِيدَ فِي أَعْلَى مَكَانِ
بَيْتٌ عَلَا حَتَّى تَوَا
رَى فِي ذُرَاه الْفَرْقَدَانِ
فَانْعِمْ بِهِ لَا زِلْتُ من
رَيْبِ الْحَوَادِثِ فِي أَمَانِ

فاستجاد سُرعتها وكَتَبَها في الطَّارِمَة وخَلَعَ عَلَيَّ. وكان أبو القَسْمِ ملولًا، والملول ربما مَلَّ الملال. وكان لا يَمَلُّ أن يمل ويحقد حقد مَنْ لا تلين كبده، ولا تنحل عقده. وقال لي بعض الرؤساء مُعَاتِبًا: أنت حَقُودٌ ولم يكن حقودًا، فقُلْتُ له: أنت لا تعرفه، والله ما كان يحنى عُودُه ولا يُرْجَى عَوْدُهُ، وله رأي يزين له العقوق، ويمقت إليه رعاية الحقوق، بعيدٌ من الطَّبْعِ الذي هُو للصَّدِّ صَدُودٌ، وللتآلُف أَلُوفٌ وَدُود، كأنه من كِبْرِهِ قد رَكِبَ الفَلك واستوى على ذات الحبك، ولستُ ممن يرغب في راغب عن وصلته، أو ينزع إلى نازع عن خَلَّتِهِ، فلما رأيته سادرًا جاريًا في قلة إنصافي على غلوائه، محوتُ ذكره عن صفحة فؤادي، واعتددت وُدَّهُ فيما سال به الوادي.

فَفِي النَّاسِ إِنْ رَثَّتْ حِبَالُكَ وَاصِلٌ
وَفِي الْأَرْضِ عن دَارِ الْقِلَى مُتَحَوَّلُ

وأنشدتُ الرَّجُلَ أبياتًا، أعتذر بها في قطعي له:

فَلَوْ كان منه الْخَيْرُ إِذْ كان شَرُّهُ
عَتِيدًا لَقُلْنَا إِنَّ خَيْرًا مَعَ الشَّرِّ
وَلَوْ كان إِذْ لَا خَيْرَ لَا شَرَّ عِنْدَهُ
صَبَرْنَا وَقُلْنَا لَا يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
وَلَكِنَّه شَرٌّ وَلَا خَيْرَ عِنْدَهُ
وَلَيْسَ عَلَى شَرٍّ إِذَا دَامَ من صَبْرِ

وبغضي له — شَهِدَ الله — حيًّا وميتًا، أوجَبَه أخْذُه مَحَارِيبَ الكَعْبَة الذَّهَبَ والفضة، وضربها دنانير ودراهم، وسماها الكَعْبِيَّة وأنهب العرب الرملة، وخرب بغداد وكم دَمٍ سفك وحريم انتهك، وحُرة أَرْمَلَ وصبي أَيْتَمَ، وأنا معتذرٌ إلى الشيخ الجليل من تقريظه مع تقريظي فيه؛ لأنه قد شاع فضله في جميع البشر، وصار غُرَّةً على جبهة الشمس والقمر، خُلِّدَ ذلكَ في بَدَائع الأخبار، وكتب بسواد الليل على بياض النهار، وأنا في مكاتبة حضرته بمنظُومٍ ومَنثُور، كَمَن أمَدَّ النَّار بالشَّرَرِ، وأهدى الضَّوء إلى القمر، وصب في البحر جرعة، وأعارَ سَيْرَ الفُلْكِ سُرْعَةً، إذ كان لا يحل النقص بواديه، ولا يطور السهو بناديه.

ولقد سمعتُ من رَسَائله عَقَائلَ لَفْظ إنْ نَعَتُّها فقد عبتها، وإن وصَفْتُها فما أنصفتها، وأطربتْني — يَشْهَدُ الله — إطرابَ السماع، وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكُتُبُه حوله يُقَلِّبُ طرفه في هذا ويرجع إلى هذا؛ فإن القلم لسان اليد، وهو أحد البلاغتين؛ لكان ذلك عجيبًا صعبًا شديدًا، ووالله لقد رأيت علماء منهم ابن خالويه، إذا قرئت عليهم الكُتُب، ولا سِيَّمَا الكبار رَجَعُوا إلى أُصُولهم، كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغَلَطٍ، والعَجَبُ العجيب والنادر الغريب حفظُه — أدام الله تأييده — لأسماء الرِّجال والمنثور، كحفْظ غيرِهِ من الأذكياء المبرزين المنظوم، وهذا سهلٌ بالقول صعب بالفعلِ، مَنْ سَمِعَه طمع فيه، ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه.

حدثني أبو علي الصَّقَلِّيُّ بِدِمَشْق قَالَ: كُنتُ في مجلس ابن خَالَويْهِ، إذْ ورَدَتْ عَلَيْه من سيف الدولة مسائلُ تتعلق باللغة؛ فاضطرب لها ودخل خزانته وأخرج كُتُب اللغة وفَرَّقَها على أصحابه يُفَتِّشُونها ليجيب عنها وتركتُهُ، وذهبت إلى أبي الطيب اللغوي وهو جالسٌ، وقد وَرَدَتْ عليه تلك المسائل بعينها وبيده قلمُ الحمرة، فأجاب به ولم يغيره قدرة على الجواب.

وقال أبو الطيب: قرأتُ على أبي عُمر الفصيح إصلاح المنطق حفظًا. وقال لي أبو عمر: كُنتُ أعْلَقُ اللغة عن ثعلب على خَزَفٍ، وأجْلِسُ عَلَى دِجْلَة أحفظها وأرمي بها وأنا تعبتُ، وحفظتُ نصف عمري ونسيتُ نصفَهُ؛ وذاك أني درست ببغداد وخرجت عنها، وأنا طريُّ الحِفظِ ومَضَيتُ إلى مصر، فَأَمْرَجْتُ نفسي في الأغراض البهيمية والأعراض الْمُؤَثِّمِيَّةِ، وأردت — بزعمي وخديعة الطَّبع المليم — أنْ أُذِيقَها حلاوة العيش، كما صبرتُ في طَلَبِ العِلْم والأدب، ونسيتُ أن العلم غذاءُ النفس الشريفة وصيقل الأفهام اللطيفة، وكنت أكتبُ خمسين ورقة في اليوم وأدرس مائتين، فصِرْتُ الآن أكتُبُ ورَقَةً واحدَةً، وتحكني عيناي حَكًّا مُؤْلِمًا، وأدرُسُ خمس أوراق وتَكِلُّ، ثم دُفِعْتُ إلى أوقاتٍ ليس فيها مَنْ يرغب في علم ولا أدب، بل في فضة وذهب، فلو كنتُ إياسًا صِرْتُ باقلًا وأضَعُ كتابًا عن يميني وأطلُبُه عن شمالي، وأريدُ — مع ضعفي — أرتاد لنفسي مَعَاشًا بظَهْر غير ظهير بل كسير عقير، وصلب غير صليب إن جلست، فهو كالدمل، وإن مشيت فجملتي دماميل، ومعي بقية نزرةٌ يَسِيرَةٌ من جُملَةٍ كثيرة، لو وجدتُ ثقة أعطيتُه إياها ليعُودَ عليَّ بما أُرَفِّه به جسمي من الحركة، وقلبي من الشُّغل وأنا أجد مَنْ أدفعها إليه، وبقي أنْ يردها إليَّ.

دَفَعَ رَجُلٌ إلى صَديق له جَاريةً أوْدَعَها عنده، وذهب في سفره. فقال — بعد أيام — لِمَنْ يأنس به وتَسْكُنُ نفسُه إليه: يا أخي ذهبتْ أماناتُ النَّاسِ، أودعني صديقٌ لي جارية، في حسابه أنها بكْرٌ جربتُها فإذا هي ثيبٌ.

من ظريف الأخبار أن بنتَ أختي سرقت لي ثلاثة وثمانين دينارًا، فلمَّا هددها السلطان — أطال الله بقاءه ومَدَّ مُدَّته، وأدام سُمُوَّه ورِفْعته — وأخرجت إليه بعضها، قالت: والله لو علمتُ أن الأمر يجري كذا كنت قتلته، فأعجبُوا من هريستي وزَبُوني، واللهِ لَولا ضَعْفِي وعَجْزِي عن السَّفَرِ لخرجتُ إليه متشرفًا بمجالسته ومحاضرته، فأمَّا مُذَاكرتُه فقد يئستُ منها؛ لِمَا قد استولى علي النسيان واحتوى علي قلبي من الهموم والأحزان، وإلى الله الشكوى لا منه. وليس يَحْسُنُ أن أشكو مَنْ يرحمني إلى مَنْ لا يرحمني. وليس بحكيمٍ مَنْ شكا رحيمًا إلى غيرِ رحيمٍ. وكان أبو بكر الشبلي يقولُ: ليسَ غيرَ الله غيرٌ، ولا عند غيرِ الله خيرٌ. وقالَ يومًا: يا جوادُ ثم أمسك مفكرًا ورفع رأْسَه، ثُمَّ قالَ: ما أوقَحَنِي، أقُولُ لك: يا جواد، وقد قيل في بعض عبيدك:

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ نَفْسِهِ
لَجَادَ بِها فَلْيَتَّقِ اللهَ سَائِلُهْ

وقد قيل في آخر:

تَرَاه إِذَا جِئْتَه مُتَهَلِّلًا
كَأَنَّكَ مُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ

ثم قال: بلى، أقول: يا جوادُ فاق كلَّ جَوَادٍ، وبجودِهِ جَادَ مَن جَادَ.

ودخل ابنُ السَّمَّاك على الرَّشيد. فقال له: عِظْنِي وفي يَدِ الرَّشيد كُوزُ مَاءٍ، فقال: مَهْلًا يا أميرَ المؤمنين، أرأيتَ إن أقدر الله عليك مُقَدَّرًا؟ فقال: لن أُمكنك من شربه إلا بِنِصْفِ مُلْكِك، أكنتَ فاعلًا ذلك؟ قال: نعم، قال: اشرب — هنأك الله. فلما شرب قال: أرأيتَ يا أمير المؤمنين، أن لو أسِفْتَ نفس هذا المقدر عليك، فقال: لن أمكنَّك من إخراج هذا الكُوز، إلا بأن أستبدَّ بملكك دونك أكنتَ فاعلًا ذلك؟ قال: نعم. قال: فاتق الله في مُلكٍ لا يُسَاوي إلا بَوْلةً. وكيف أشكو ما قاتني وعالني نيفًا وسبعين سنة، كان قميصي ذراعين فوكل بي والدين حَدِبَيْنِ مشفقين يتناهيان في دقته ورقته وطيبه، فلما صار اثني عشر ذراعًا تولاه هو وطعامي، فما أجاعني قَطُّ ولا أَعْرَانِي وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (الشعراء: ٧٩)، خاطَبَ ربه بالأدب. فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (الشعراء: ٨٠)، نَسَبَ المرَضَ إلى نَفْسِهِ؛ لأنها تَنْفِرُ من الأعراض والأمراض، وكُلُّ شَيءٍ يَطْرَأُ على الإنسان لا يقدرُ على دفعه، مثل النوم واليقظة والضحك والبُكاء، والغَمِّ والسرور والخصب والجدب والغنى والفقر؛ فهو منه — تَقَدَّسَت أسماؤه — ألا تَرَى أنه لا يَتَوَعَّدَ على فِعْلِهِ، ولا يُعَاقِبُ عليه وما يقدر على دفعه، فهو منه مثلُ أن يُريد الكتَابَةَ، فلا يقعُ منه البناء، ويُريد البناء فلا تقع منه الكتابة، ومن به الرَّعشةُ لا يقدر على إمساك يدٍ، ومن ليست به يقدر على إمساكها.

كنت بِتِنِّيسَ وبين يَدَيَّ إنسانٌ يقرأُ ويحزَنُ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ (الإنسان: ٧)، ويبكي فخطر لي خاطرٌ، فقلتُ: أنا بضِدِّ هؤلاء القومِ — صلوات الله عليهم — أنا لا أَنْذِرُ ولا أَفِي ولا أخافُ شَقَاءً ولا عناء. ولو كُنْتُ أخاف ما أصبحت … محمومًا وكنته.

وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ به ولا أتَّهِمُه عن أبيه وكان زاهدًا قال: كنتُ مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطَّاق، فرأينا شاويًا قد أخْرَجَ حَمَلًا من التَّنُّور، كأنه بُسْرَةٌ نَضِجًا، وإلى جانبه قد عمل حلاوى فالوذجًا، فوقف ينظر إليهما وهو سَاهٍ مُفَكِّرٌ، فقلتُ يا مَوْلَاي: دَعْنِي آخُذُ من هَذَا وهَذَا، ورقاقًا وخبزًا ومنزلي قريبٌ تُشرفني بأن نَجْعَل رَاحَتَك اليَوْمَ عنْدي. فقال: يا هذا، أظَنَنْتَ أني قد اشتهيتُهمَا، وإنما فكري في أن الحيوانَ كُلَّه لا يدخل النَّار، إلا بَعْدَ الموت ونحن ندخلها أحياء.

يَا رَبِّ عَفْوَكَ عن ذِي شَيْبَةٍ وَجِلٍ
كَأَنَّه من حَذَارِ النَّارِ مَجْنُونُ
قد كان ذَمَّمَ أَفْعَالًا مُذَمَّمَةً
أَيَّامَ لَيْسَ لَه عَقْلٌ وَلَا دِينُ

تمت الرسالة، والحمد لله ذي الأفضال، وصلواته على محمد وخيرة الآل، ما فرغت من هذه السوداء، حتى ثارت بي السودَاءُ وأنا أعتَذِرُ من خَطَلٍ فيها أو زلل؛ فإن الخطأ مع الاعتذار والاجتهاد والتحري موضوعٌ عن المخطئ، ومن ذا الذي يؤتَى الكمال فيكمل.

قال عُمَرُ بن الخطاب: رَحِمَ الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي، وأسأله — أدام الله عزه — تشريفي بالجواب عنها؛ فإنَّ هذه الرسالة على ما بها قد استُحسنت، وكُتبت عني وسُمعت مني وشرفتُها باسمه وطرزتُها بذكره.

والرسالة التي كتبها الزَّهرجيُّ إليَّ كانت أكبر الأسباب في دخولي إلى حلب، وإذا جاء جواب هذه سَيَّرْتُها بحلب وغيرها — إن شاء الله — وبه الثقة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤