الرجل التمثال!

لم تكُن هذه أول زيارة تقوم بها «ريما» لمتحف الشمع، ولكنها المرة الأولى التي ترى فيها هذا التمثال، كان التمثال ﻟ «رجل أصلع»، كث الشارب، كثيف الحاجبين، ضيِّق العينين، مستطيل الوجه، يرتدي ملابس زرقاء مما يرتديه عمال المصانع.

لفت هذا التمثال نظر «ريما» … فقد كان مُتقَن الصنع، حتى يبدو وكأنه سيقف ويتحدَّث في أية لحظة.

حملقت «ريما» كثيرًا في هذا التمثال، وعندما نظرت إلى عينَي التمثال … خُيِّل لها أنه حوَّل عينَيه عنها، وكأنه يهرب من النظر إليها، ولكن قبل أن تتركها «إلهام» و«خالد» ليتجوَّلا في صالات المتحف المختلفة، طلب منها «خالد» أن تواصل السَّير لترى باقي أجنحة المتحف … ولما حكَتْ له عمَّا رأته قال لها في لهجةٍ جادَّة: «إنه مدير المتحف»، فنظرت إليه مستفسرة، فرأت على وجهه الضحك، فطلبت منه أن يتركها على أن تعود إليه بسرعة، ثم عادت إلى التمثال وكانت المفاجأة أنها لم تجِدْه، فشعرت أن وراءه سرًّا غامضًا، وأصرَّت أن تعرف هذا السِّر ثم عادت مسرعة إلى حيث تركت «خالد» فلم تجده … ولم تجد «إلهام».

انتاب «ريما» شعورٌ بالقلق وأسرعت الخُطى بين صالات المتحف تبحث عنهما … فسمعت صوت «إلهام» من خلفها يُناديها، التفتت «ريما» إليها تسألها عن «خالد».

فقالت «إلهام»: إنه يبحث عنكِ، فهناك رسالة من «أحمد» يطلبنا لاجتماعٍ عاجل.

ظهر «خالد» قائلًا: أين كنتِ يا «ريما»؟

ريما: كنت أبحث عنك يا «خالد» … فالرجل الأصلع … كادت «ريما» أن تُكمل قصة التمثال، ولكن «خالد» لم يُمهلها الوقت، بل اندفع خارجًا من المتحف في اتجاه سيارة الشياطين، و«ريما» و«إلهام» خلفه.

سارت السيارة مُسرعة على طريق كورنيش النيل، في اتجاه المقر السري الصغير المُطِل على هضبة الأهرام، في إحدى الفيلَّات الواقعة على «ترعة المنصورية»، وهو مقرٌّ سِرِّي فرعي جديد اختاره الشياطين للتمويه بالإضافة إلى مقر الدقي.

بمجرَّد أنْ وصلت السيارة إلى ميدان الرماية، حتى بدأ ضوءٌ أحمر يُضيء في تابلوه السيارة، وظهر رقمٌ أزرق في عدَّاد إلكتروني يقل تدريجيًّا بسرعة كبيرة … وهو يدل على المسافة الباقية على المقر، وعندما وصل الرقم في اللوحة إلى ٤٠ مترًا، كان الكمبيوتر في غرفة اجتماعات المقر السري الصغير، يُعلن وصول سيارة الشياطين، وهنا سمع الشياطين في السيارة صوت «أحمد» يقول: حمدًا لله على السلامة، كيف حال الرجل الأصلع يا «ريما»؟

عقدت الدهشة لسان «ريما» … واستغرق «خالد» و«إلهام» في الضحك.

اقتربت السيارة بسرعة كبيرة من باب المقر، وظهرت فيلَّا كلاسيكية تتوسط حديقة واسعة، يحوطها سورٌ عالٍ له باب حديدي كبير، عند اقتراب السيارة منه … انفتح تلقائيًّا، وبمجرد دخول السيارة … أُغلِق مرةً أخرى.

اتجهت السيارة إلى باب مُغلَق في نهاية الحديقة، عندما بلغته انفتح لأعلى … ولم يظهر منه غير ظلام دامس، لم يضئ «خالد» مصابيح السيارة … بل اجتاز الباب … وسار في الظلام على هدى سهم كان يُومض في تابلوه السيارة، بعد عدة ثوان … ظهر عن بُعد ضوءٌ خافت، ثم ما لبث أن غطى الضوءُ سيارة الشياطين تمامًا … فقد وصلوا إلى جراج المقر، ومن الجراج انتقل الشياطين وهم يتحدَّثون إلى صالة الاجتماعات.

كان باقي الشياطين بالغرفة … تبادلوا التحية … ثم نظر «أحمد» إلى «إلهام» و«خالد» و«ريما»، وقال: عمليةٌ جديدة ولدينا بعض من المعلومات عنها، والباقي سننتظره في اجتماع الليلة مع رقم «صفر».

قالت «إلهام»: هاتِ ما عندك يا «أحمد».

لمس «أحمد» عدة أزرار في لوحة جهاز الكمبيوتر أمامه، وبدأ يقرأ لهم منه:

ذهبت سيدة تُدعى «جميلة» — وهي زوجة لأحد الدارسين للدكتوراه في إحدى جامعات أمريكا — إلى أمن السفارة المصرية، تشكو تعرُّض منزلها للتفتيش أكثر من مرة، فكلما عادت للشقة تجد الأثاث وقد انقلب رأسًا على عقب، أما هذه المرة فقد صحَت من نومها لتجد أن ترتيب أثاث الشقة قد تغيَّر، وعندما أخبرت زوجها بما حدث ظهر عليه القلق الشديد، ولكنه رفض إبلاغ الشرطة.

قال «عثمان»: شيءٌ غريب! إنه أسلوب أجهزة المخابرات، وقد يكون زوجها قد تورط معهم.

قال «أحمد»: لقد كانت هذه هي نفس مخاوف رجال الأمن في السفارة، وقد رأوا لحساسية الموقف أن يتدخل الشياطين — وهم جهازٌ غير رسمي — حتى لا يلفتوا الأنظار، ولخبرتهم في التعامل مع أكبر التشكيلات العصابية.

قالت «ريما»: ينقصنا الكثير من المعلومات لنتحرَّك على ضوئها.

رد «أحمد»: سنحصل على هذه المعلومات عند اجتماعنا مساء اليوم مع رقم «صفر».

قالت «ريما»: كان عندي وقت حتى المساء لحل لغز الرجل الأصلع.

رد «أحمد» باسمًا: حين نُكلَّف بمهمةٍ لا نملك إلا التحرُّك على وجه السرعة، ولا تنسَيْ أنَّ هذه هي أوامر رقم «صفر»، وسنعرف وجه الاستعجال في اجتماعنا معه اليوم.

جلست مجموعةٌ من الشياطين في انتظار رقم «صفر» على سطح الفيلَّا يستمتعون بنسائم المساء، وقد أخذ الظلام يهبط تدريجيًّا فيُحوِّل كلَّ شيء إلى أشباحٍ … وفجأة لفتت أنظارهم سيارة مرسيدس سوداء تتجه إلى باب المقر، وبمجرَّد اقترابها من الباب انفتح تلقائيًّا، عرف الشياطين أنه رقم «صفر»، واستيقظت حواسهم بشدة … فسيعرفون المزيد عن العملية القادمة، غرقت سيارة رقم «صفر» في ظلام حديقة الفيلَّا، وانصرف كلٌّ منهم مُسرعًا إلى غرفته انتظارًا للتعليمات.

دقائق وسمع الشياطين في غرفهم صفيرًا حادًّا متقطِّعًا، فعرفوا أن هناك اجتماعًا عاجلًا في القاعة الكبرى، واتجهوا جميعًا إليها واتخذ كلٌّ منهم مكانه، دقائق وبدأت الضوضاء تخفت.

وعندما أعلن الصمت عن ترقُّبهم، سمعوا صوت أقدام رقم «صفر» تقترب … ثم توقفت ثم سمعوا صوت أوراق … وجاءتهم أخيرًا تحيته بصوتٍ عميق: مساء الخير، أعرف أنكم تسألون عن وجه العجلة في موضوعنا … وسأخبركم: هناك عالِم مصري مُعرَّض للخطف أو القتل، وأسرة مصرية مُعرَّضة للخطر … وعلينا التحرك بسرعة لحمايتهم والوصول بهم إلى أرض الوطن سالمين.

أظلمت القاعة وأُضيئَت شاشة كبيرة، ظهَر عليها صورة رجل شرقي الملامح أسمر، قال رقم «صفر»: هذا هو العالِم، ويُدعى «هاني قنديل»، وقد جاءنا من عميلنا في الولايات المتحدة أن «هاني قنديل» في بداية دراسته للدكتوراه في إحدى الجامعات الأمريكية تعرَّف على زميل دراسة يُدعى «توماس دين» وزوجته «ليليان» التي تدرس الدكتوراه أيضًا ولكن في علم الاجتماع، وقد أصبح «توماس» وثيق الصِّلة بالعالِم المصري الشاب، صمت رقم «صفر» … وتلاحقت الصور على الشاشة ﻟ «توماس» ثم «ليليان».

علَّق رقم «صفر» قائلًا: يمكنكم الحصول على صور لهذه الشخصيات من كمبيوتر المقر.

صمت رقم «صفر» بُرهةً … وتنفَّس بعمق … ثم عاد ليقول: إن «هاني قنديل» بدأ أولى خطواته في الدكتوراه بحماسٍ شديد، ثم ما لبث أن فتَر حماسُه، وبدأ ينكبُّ على القراءة في المكتبات العلمية، ويتعامل مع مراكز بيع مستلزمات المعامل وقِطع الغيار الإلكترونية بكثرة، ويُخشى أن يكون قد وقع تحت تأثير إحدى عصابات المافيا الجديدة، والتي تطلق على نفسها اسم «سوبتك».

وعليكم مراجعة تقرير المقر عن هذه العصابة، والحصول على صورٍ ﻟ «هاني قنديل» وأسرته و«توماس دين» … و«ليليان».

والمطلوب منكم أولًا: معرفة مدى تورُّط «هاني» مع عصابات المافيا.

ثانيًا: تأمين سلامته وسلامة أسرته وإعادته إلى الوطن، وإنْ كان واقعًا تحت تأثير خدعة فسيكون من الأجدى اختطافه. هل من أسئلة؟

قالت «إلهام»: نعم، ما الذي دفع عصابة «سوبتك» إلى تهديد أمن دكتور «هاني» الآن بالذات؟

رد رقم «صفر»: لقد أجرى «هاني قنديل» مؤخرًا اتصالًا بإحدى المؤسسات التكنولوجية العربية، وطبعًا هذا ضد رغبتهم … فهدفهم الرئيسي هو الاستئثار بقدرات ومواهب العلماء لاستثمارها لصالحهم.

ثم أضاف: ادرسوا الموضوع جيدًا وبسرعة … أرقام «١، ٢، ٣، ٩، ١٠» … يستعدون للسفر إلى «أمريكا» … الباقون ينتظرون الأوامر … سيصلكم ملف العملية، انتهى.

ساد الصمت، وسمع الشياطين خطوات رقم «صفر» الواثقة البطيئة تبتعد دقائق … وهدر محرِّك سيارته … ثم ابتعد تدريجيًّا، ولم يبقَ إلا خليطٌ من صفير صراصير الحدائق، ونقيق ضفادع ضخمة يأتي من ترعة المنصورية.

انتقل الشياطين إلى غرفة المعلومات، وجلس كلٌّ منهم أمام شاشة من شاشات الكمبيوتر المركزي، وحدَّدوا البرنامج، وبدءوا يتلقون منه معلومات عن عصابة اﻟ «سوبتك».

قال «أحمد»: من الواضح أن هذه العصابة هي التطور الطبيعي لنشاط عصابات عملاقة كعصابات «المافيا».

رد «خالد»: نعم، فالمخدرات وغيرها من النشاطات غير المشروعة، أصبحت تُحارب بشدة في كل أنحاء العالم، لقد أصبحت الجريمة العلمية هي السائدة، وقد اتجهت العصابات إلى سرقة الأسرار العلمية والاقتصادية وبيعها.

فجأة اختفت المعلومات من على شاشة الكمبيوتر، وظهر بدلًا منها علامات شفرية، سجل «أحمد» هذه العلامات على مفاتيح ساعته، وضغط زرًّا تحت الشاشة وبدأ يقرأ منها والجميع يسمعون، إنها رسالةٌ من رقم «صفر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤