المُطاردة!

شعر الشياطين برجال العصابة يملئون المطعم، فقرروا مغادرته مُسرعِين … ولكن فرادى؛ أي اتخذ كل واحد منهم طريقًا مختلفًا، حتى لا يصطادهم رجال العصابة بسهولة.

لم يكُن يشغل بال «أحمد» في هذه اللحظة، غير الاتصال برقم «صفر»؛ لتعديل ميعاد قدوم الطائرة الهليكوبتر التي طلبها، فنهض … وسار إلى خارج المطعم، وعين مستر «واو» تتابعه، و«عثمان» يراقب تحركات رجال العصابة الموجودين حولهم بحذر.

عندما وصل «أحمد» إلى باب المطعم، لمح أحد رجال العصابة يتحرَّك نحوه … ممسكًا بمسدس يُخفيه في جيبه … تفحَّص «أحمد» المكان حوله، فوجد صندوقًا مكتوبًا عليه كهرباء الباخرة، فجرى إليه وبسرعة البرق امتدَّت يده إلى مقبض داخله … وحركه لأسفل؛ ليسود الظلام سطح الباخرة … ويعلو الهرج بين الزبائن … وتدوِّي طلقات الرصاص؛ لتضيء في الظلام.

احتشد أفراد العصابة على سلم الباخرة، يجرون في اتجاه «أحمد» الذي شعر بهدير خطواتهم في الظلام … فجرى في الاتجاه المضاد؛ ليلمح لَنْشًا يقف في الماء بجوار الباخرة، ودون تردُّد … قفز سور الباخرة فسقط جالسًا القرفصاء داخل اللنش.

أدار الموتور، ثم تحرَّك وسار باللنش بحذر حول الباخرة، فالقوارب تكاد تتلاصق، ولا تعطيه فرصة للتحرك بحرية.

ضغط «أحمد» أزرارًا بساعة يده للاتصال بالشياطين في الباخرة، فسمع أصوات بعض اللنشات تتحرَّك حول العوامة، فعرف أنهم يبحثون عنه، فأوقف موتور اللنش، وبدأ يعبث بمحتوياته إلى أن عثر على بعض الحقائب الرياضية … فتح أكبرها، فوجد به مدفع رشاش كبير، فعرف أن اللنش لرجال العصابة.

وبسرعة بديهته، استخدم يد المدفع كمجدافٍ … وسار باللنش دون صوت وعن بُعد رأى قاربًا مطاطيًّا يقترب منه، وعلى ظهره ثلاثة أشباح لثلاثة رجال مسلحين، فانحرف باللنش … حتى الْتَصق بالباخرة التي ظهر اللنش بجوارها قزمًا صغيرًا، ثم قفز في الماء بعيدًا عن أعين رجال العصابة متعلِّقًا باللنش، ومحتفظًا برأسه خارج الماء … وعيناه تتبعانهم، أنار أحد رجال العصابة كشَّافًا قويًّا … ودار بضوئه … على اتساع الميناء … وعندما اقتربت حلقة الضوء من رأس «أحمد»، غاصَ وهبط بسرعة في الماء، إلا أنه أحدث صوتًا … لفتَ أنظارهم، فأطلقوا النار في اتجاه الصوت.

شعر «أحمد» أنه مُعرَّض للخطر في هذا المكان فدار حول اللنش … عائمًا تحت الماء، بعيدًا عن أعين رجال العصابة، وعندما أصبح تحته، خرج من الماء، قافزًا بخفَّة داخله، إلا أنهم أحسوا بحركته، فوجهوا نيرانهم تجاهه.

أدار «أحمد» اللنش، وكالقذيفة اندفع تجاههم وقد أذهلتهم المفاجأة، ولم يفيقوا إلا على أصوات طلقات المدفع الرشاش، الذي كان يمسكه «أحمد» بيد ويقود اللنش باليد الأخرى.

وعندما مرَّ بجوارهم، وكانوا يستعدون لإطلاق النار، كان هو قد أسقط اثنين منهم صرعى في الماء، وانبطح ثالثهم في قاع القارب هربًا من نيران الرشاش، أوقف «أحمد» موتور اللنش، وقفز منه إلى قارب رجال العصابة … فرأى الرجل ما زال منبطحًا على وجهه فانحنى عليه، وقيَّدَه ثم تركه في قاع القارب، عائدًا إلى اللنش.

طال السير ﺑ «أحمد» في خليج الصيادين فلم يجِد الباخرة! لقد تحركت بزبائن المطعم! ﺑ «عثمان» و«إلهام» … و«واو» … فأين ذهبت؟ ومَن في قبضة مَن؟ أهي العصابة في قبضة الشياطين؟ أم الشياطين في قبضتهم؟

لمحَ «أحمد» لَنْشًا يسير بسرعةٍ حتى لا يكاد يلمس سطح الماء … به رجل بَدين مُسلَّح، يتجه إلى عُمق مياه الخليج، فانتظر حتى ابتعد عنه بمسافةٍ كافية حتى لا يراه، ثم أدارَ محرِّك اللنش، وسار في أثره، إلى أن ابتعد عن الميناء … واختفت مطاعم البرجولات، وقوارب اليانك، ليحل محله ظلام حالِك، ويسود هدوء شديد، لا يقطعه إلا صوت محركات اللنش، وضوء كشَّاف ضعيف في مقدمة اللنش … ساعد «أحمد» على تتبعه بسهولة.

ولكن فجأة … انطفأ نور اللنش، وسكت محركه … ليسود ظلامٌ مريب، أوقف «أحمد» محرك لنشه، وشهر سلاحه وفتح عينَيه وأذنيه عن آخرهما، وتيقظت حواسه؛ ليصبح كالفهد المتربِّص بصيدٍ لا يراه، وعن بُعدٍ سمع صوت رجل يغنِّي بالصينية، انتبه له، ثم سمع صوت حركة آتية من اللنش الآخر، وبدأ صوت الغناء يقترب، ويقترب معه ضوءٌ خافت، وفجأة … دوَّت طلقة في اتجاه هذا الضوء فانطفأ، وابتعد الصوت منزعجًا.

طال وقوف «أحمد» وانتظاره، فقرَّر البدء بالهجوم، فنزل إلى الماء … وأخذ يسبح في اتجاه اللنش، دون أن يصدر صوتًا أو يُحدِث جلَبة.

وعندما اقترب منه … وأصبح تحته، أمسك خشبةً عائمة على الماء، وقذفها على سطحه.

فدوت رصاصةٌ في اتجاه الصوت، في نفس الوقت كان «أحمد» يقفز من الاتجاه الآخَر على سطح اللنش، خلف كابينة القيادة، إلا أن الرجل البَدين أصابه الذعر، فجرى إلى كابينة القيادة، وأدار محرك اللنش وانطلق بأقصى سرعة، شعر «أحمد» وهو نائمٌ خلف الكابينة، أنه يطير في الهواء، وبعد مسافةٍ من السير رأى عن بُعدٍ ضوء كشَّاف قوي، يمسح الماء في دائرة واسعة، فظن أنه فنار.

فهذه المنطقة مزدحمة بالجزر، توقَّفَ محرِّك اللنش، ورأى «أحمد» من مخبئه ماسورة مدفع رشاش تُصوَّب ناحية الكشاف، ومع دوي الرصاصات علا صوت تحطُّم زجاج الكشاف، وساد الظلام والهدوء مرةً أخرى لدقائق، ثم قطع الصمت دوي رصاصات كثيرة متتابعة في اتجاهاتٍ متفرِّقة حول اللنش.

اندهش «أحمد» فهذه الرصاصات كانت من مصدرٍ عال، كمكان وجود الكشاف المتحطم، وبعد دقائقَ وبعد أن اعتادت عيناه الظلام، استطاع أن يحدِّد مصدر الرصاصات … إنه جسم كبير وسط الماء، إنه المطعم العائم، كان دهشة كبيرة، فالسفينة غارقةٌ في الظلام تمامًا؛ أي إنها مختطفة ولكن مَن الذي خطفها؟

فالمعركة قائمة بين الشياطين ورجال العصابة، ولكن لماذا حطَّم الرجل البَدين الكشاف؟ إذَن مختطفو السفينة هم «عثمان» و«إلهام» و«واو».

وتساءل «أحمد»: لماذا يختطفون السفينة؟ إلا إذا كان هناك خطرٌ عليهم، فقرَّر أن يراسل الشياطين بطريقتهم، وفي ظلام الليل … ومن فوق سطح الماء علا صوت نفير اللنش بأنغامٍ متنوعة، فأسكته دوي رصاصة طائشة … أتت من مصدرٍ قريب منه، وبعد دقائقَ ردَّ عليه نفير الباخرة بأنغامٍ يفهمها الشياطين، فأسكته دويُّ رصاصة أخرى طائشة، أصاب الذعر رجال العصابة … فقد عرفوا أنها إشارات بين رجالٍ مُدرَّبين، في الوقت الذي شعر فيه الشياطين بغبطة، فقد اطمأنوا على بعضهم البعض.

إلا أن «الرجل» البَدين أخذ يُطلق رصاصاتٍ في اتجاهاتٍ مختلفة، في الوقت الذي كان فيه «أحمد» يزحف على بطنه … فوق سطح اللنش، حتى أمسك فجأة بساق الرجل … وسحبها للخلف بقوة، ليسقط في مياه الخليج، مُحدِثًا جلَبة، فانهالت الرصاصات تطوق اللنش، احتمى «أحمد» بغرفة القيادة … وأدار محرك اللنش ثم انطلق بسرعةٍ جنونية، يحوم حول السفينة، مبتعدًا عن مرمى نيرانهم، وقد حدَّد أماكن وجودهم من صوت الرصاصات، فعرف أنهم يسيطرون على المدخل الرئيسي والفرعي بالدور الأول للباخرة، والشياطين يسيطرون على الدور العلوي وغرفة القيادة.

ولكنه تساءل لماذا أطفئوا أنوارها؟! هل مولد التيار أصيب؟! أم أطفأها الشياطين حتى لا تطاردهم لَنْشات رجال العصابة؟!

راسل «أحمد» الشياطين … بصفير اللنش مرة أخرى، بعدها سمع جلَبةً في الماء … ثم سمع صوت رصاصات … أعقبه رجلهم يقول: أنا «تونج»، ومع ذلك لم ينقطع إطلاق النار …

فعرف «أحمد» أنهم يتصرَّفون بعصبية، ومرَّة أخرى … أمسك الرشاش بيد، وعجلة قيادة اللنش بالأخرى … وبأقصى سرعة كان اللنش يسير بجوار الباخرة … وطلقات المدفع في يد «أحمد» تحطم زجاج نوافذها، ثم استدار عائدًا بنفس الطريقة، ولكن في يده بدلًا من المدفع … قنبلة مسيلة للدموع، صغيرة الحجم، ولكن شديدة التأثير.

كانت رصاصات رجال العصابة تنطلق في هيستريا … لتطير مع سرعة اللنش … وعندما حانت الفرصة، ألقى «أحمد» بالقنبلة داخل السفينة، في الوقت الذي أغلق فيه «عثمان» الباب بين الطابقَين.

فانبعث الدخان من القنبلة … وعلا صوت سعال رجال العصابة … وزاد بينهم الفزع والذعر، وكان «أحمد» سعيدًا عندما رآهم يلقون بأنفسهم في الماء الواحد تلو الآخر، وفي وسط الهدوء علا صفير اللنش … ولم تمُرَّ دقائق … حتى كانت مصابيح السفينة تُضاء مرَّة أخرى، ورأى «عثمان» يطلُّ عليه من شرفة الطابق العلوي، ثم نزل مسرعًا وفي يده حبل طويل، اقترب «أحمد» باللنش من الباخرة، حتى استطاع «عثمان» أن ينتقل إليه، ثم أمسك بكلتا يدَيه المدفع الرشاش … ووقف متحفِّزًا يقول لرجال العصابة السابحين في الماء: أرجو لمَن لا يريد البقاء في الماء حتى الصباح أن يعلو إلى سطح اللنش … ولكن بنظام وهدوء … ثم سمع صوت جلَبةٍ في الماء، وبدأ «عثمان» يُقيِّدهم الواحد تلو الآخَر.

وبعد أن انتهى من قيدهم قال ﻟ «أحمد»: لقد اتصلت بشرطة الميناء عن طريق لاسلكي السفينة، وهم في الطريق إلينا الآن.

قال «أحمد»: ولكن مهمتنا هنا سرية.

«عثمان»: سنرحل قبل أن يصلوا.

«أحمد»: وميعاد رقم «صفر»؟

«عثمان»: لقد أكدته … فلدينا وقت نصل فيه إلى جزيرة «كولون».

أطلق «عثمان» صفيرًا مُتقطِّعًا … فردَّت عليه «إلهام»، نظر «أحمد» إليه وهو يقول مبتسمًا: هذا هو صوت العصفور حقًّا.

نقل «عثمان» أفراد العصابة إلى الباخرة مُقيَّدين، ثم عاد إلى اللنش ليجد «إلهام» ومستر «واو» مع «أحمد».

علَتْ جلَبة محرِّكات الباخرة … وبدأت السير في اتجاه العودة إلى ميناء «إيبردين»، وركَّابها يطلُّون من شرفات سطحها ويحيُّون الشياطين. ومع نسائم فجر يوم جديد، كان لنش الشياطين يسير في اتجاه جزيرة «كولون» … ويرون عن بُعدٍ لنشات حرس الميناء تحيط بالباخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤