موعظة شهر الورود

دنا المساء فهزَّني طربُ الربيع ورغبتُ في الخروج والتجوال لأشارك الطبيعة في أفراحها. كأني حسبتُ جدران البيت تقطع الصلة بيني وبينها، وتشعرني بأني محرومة من مشاركة الموجودات الهاتفات بأريج أيَّار بين الغصون وبزينة الأرض العروس.

خرجتُ وليس لي وجهة معينة أطلبُ بداهةً أحياء قلما اخترَقْتُها، فسرتُ في شارع قصير على مقربة من شارعنا كأن نفسي المتيقظة لبَّت داعي الأخضرين المحيطين بهاتيك المنازل: أخضر يبسط على أرض الحديقة طنفسة مخملية، وأخضر يتعالى ظليلًا فيعكس طيف أفنانهِ على وجه الجدران الشاهقات.

سرتُ متمهلةً أنتقل من رصيف إلى رصيف، والشمس آخذة في التحدُّر وقد انكسرت حدَّتها ولطف نورها، حتى بدت الأشعةُ حزينة بما مازجها من معاني الفراق. وما كان أندر المركبات والسيارات في ذلك المنعرج، والمارون يتبادلون نظرة كأنهم لقلتهم يقولون «أرأيت؟ لا أحد إلَّا أنا!»

أتيت على آخر الشارع فنفذتُ إلى شارع رحبٍ طويل هو شارع ماريت باشا المؤدي إلى دار الآثار المصرية، فخطوتُ متردِّدة بين العودة من حيث أتيتُ ومتابعة المسير إلى الأمام. وإذا بناقوس يدقُّ على مقربة مني ولرنينه إزاء الغروب دويٌّ متوسل حنَّان، فالتفتُّ إلى جهته فوجدتني أمام كنيسة صغيرة رأيتها مرارًا ولم أدخلها مرة.

وقفت أتأمل واجهة الكنيسة وأدير النظر في الحديقة التي تتقدَّمها وكانت تجتازها بعض السيدات، فلما توارين وراء باب الكنيسة تبادر إليَّ أنه يحتفل بصلاة الشهر المريمي في هذه الساعة من كل يوم على طول الشهر؛ لأن أيَّار (مايو) مكرَّس للعذراء، ولم يعد ينقصني إلَّا أن أرى فتاة تسير بخطوات عصفور في ثوب أزرق كزرقة الأحلام، وتتوارى هي أيضًا وراء باب الكنيسة، لأجد مني شوقًا إلى مشهد الهياكل وتوقًا إلى رائحة البخور. اضحكوا ما شئتم، أنتم الزاعمون أن الثوب المليح دعاني، وأن زيه البسيط وتخريمه الدقيق كان له مع المرأة مني أحاديث.

أما الكنيسة فكانت مملوءة بالمصلين ولم يخلُ في مقاعدها إلَّا مكان واحد جثوتُ عندهُ قرب الكاهن الراكع أمام المذبح يتلو المسبحة باللاتينية فيردُّ عليهِ الجمهور بلهجة الخاشع المتهيَّب.

لا أعرف شيئًا أجمل وأسمى من الصلاة في أي دين من الأديان؛ لأنها ترفع النفس إلى أعلى درجات الارتقاء ومحاولة الدنو من روح الحياة الكبرى. هي مناجاة العابد للمعبود، هي شكر المخلوق للخالق واستعطافه لاستنزال عطاياه. وما أعذب هذا الاعتقاد أن في السماء، هناك وراءَ جمع القوى والعجائب الكونية، إلهًا قديرًا لا يُقضى دونه أمر، لديه النعم يفيضها على الحاجة البشرية، وعزة يتلاشى حيالها ضعف الإنسان، وجودٌ يعمُّ البرايا فتموج وتتنوع وتنبض بالحياة والقول والتحوُّل.

إلا أني لا أستحسن الصلاة الآلية المستطردة على وتيرة واحدة دون أن يشترك فيها العقل والقلب؛ الصلاة المتعاقبة ألفاظها بين الشفاه والأصابع تعدُّ منها أرقامًا معينة؛ لأنها أبعث إلى التنويم المغناطيسي منها إلى الإيقاظ الروحي. قد يكون هذا التأثير من تفنن الشيطان في التجربة والخداع — قاتلهُ الله — لقد وسوس في صدري حتى شتَّت أفكاري وحملني على إحصاء الحاضرين. وكانت النتيجة أنى جزمت بأن النساء أسبق إلى دخول السماء نسبة إلى عددهن في الكنيسة؛ إذ لم يكن بين مائتي امرأة إلا رجلان وخمسة أرباع. أما الرجلان فرجلان، وأما الخمسة الأرباع فصِبْيان صغار خمسة جاءوا مع أمهاتهم. وكم كنت ظالمة في الإحصاء والحكم! ذلك أني عند الخروج وجدت جمهور الرجال في مدخل الكنيسة، يقفون هناك مراعاة للسيدات وتكرُّمًا لهنَّ بالمقاعد.

وظلَّ الخنَّاس الوسواس يجرِّبني فحسن لي تفحص المعبد فتفحصت جدرانه وما قام عليها من صور وتماثيل، وهندستهُ وما ميزها من نقوش ورموز، وهياكلهُ وما تناسق عليها من صلبان وطاقات أزهار، تلك الأزهار ذات الانحناء السري، تتخللها شموع كأن لهيبها تذكارات لاذعة في شفق الغيبوبة والنسيان.

لكلِّ شيءٍ في العالم نهاية. صمتت الأصوات فمشى الكاهن إلى الدرابزين أمام المذبح الكبير وبدأ موعظته الإيطالية. وكان يقول أشياء عادية بصوت المثبت، وإشارته مرتبكة كإشارات التلاميذ في حفلة توزيع الجوائز، ولكن لم يلبث أن ارتفع صوتهُ وركزت هيئتهُ، واتسعت إشارته، ولمعت عيناهُ وهو يقول:

إلى مريم ربة هذا الشهر الجميل يجب أن تلتجئ النساء جميعًا؛ فالأمهات يتعلمن منها التجمل بالصفات التي أحاطت بها ابنها يسوع: وهي الحنان والحصافة والمحبة الصادقة التي لا زهو فيها ولا تهوُّر. لقد كانت، وما زالت، وستبقى أبدًا أسمى مثال للأمومة القدسية، تسير الأمهات وراءها مستوحيات أساليب التربية والتهذيب.

إليها يلتجئ اليتامى الذين لا أم لهم فيجدون في حضنها الراحة والعطف والمساعدة. إليها تلتجئ العذارى؛ لأنها أبهى مظهر للطهر والحشمة والوداعة.

اسمعن يا أخواتي يا نساء القاهرة! إليكن أوجه هذه الكلمات فاقبلنها؛ لأنها خلاصة اعتقادي. تعلَّمن الحشمة من مريم، أنتنَّ بنات اليوم الناسيات. ما وقار المرأة واحترام الناس لها إلا نتيجة حشمتها وعفتها. قد تكنَّ عفيفات طاهرات في قلوبكنَّ، ولكن كيف يصدقكنَّ الرائي ويحسن الظن بكنَّ وأنتنَّ تسرن في الشوارع بهذه الأزياء الحديثة التي تعرِّي منكنَّ العنق والنحر والذراعين، هذه الأزياء الشريرة بأقمشتها الشفافة، الشريرة بقصرها وضيقها، التي تعدم لابستها كل هيبة وجلال؟

ألِلْحُبِّ تتزينَّ؟ أللحبِّ تتهن في هذا التهتك؟ ألا فاعلمن إذن أن حب الرجل لا يُكتسب بالتهتك بل بالتكتم. الرجل محارب من طبعهِ يهوى الفتوحات ويستميت في الإخضاع، بينما هو يعرض عن كل ما لا يكلفهُ ألمًا وكدًّا.

أم أنتنَّ تتزيَّنَّ للجمال؟ ولكن هل الجمال في الزينة والأناقة وملاحة الوجه وتناسب الأعضاء؟ كلَّا! كم من امرأة تُحْسَبُ آيةَ تَناسُبٍ وملاحة، وهي مع ذلك غير جميلة، إذا سُرَّ امرؤٌ بمشاهدتها مرةً أو مرَّاتٍ فهو لا يتمنى مجالستها ويملُّ كلامها وسخافتها بعد أن يعرفها قليلًا؛ إذ يرى أن أحسن ما فيها هو هذا الشيء الخارجي الذي لا يكفي لامتلاك القلوب واكتساب الأرواح.

ألا فاعلمن أن النساء اللاتي كن ذوات أثر في أعاظم الرجال وذوات سلطة وشوكةٍ حُزْنَ جمالًا أعظم من هذا الجمال الخسيس وأبقى. لقد كان لهنَّ جمال النفس الذي تزيدهُ الأيام رونقًا، بينما هي تحك القشرة هنا وهناك وتوسعها كل ساعة ذبولًا وإتلافًا. كان لهنَّ جمال العقل وجمال القلب، وجمال حسن التصرف، وجمال اللطف الصحيح، وجمال المحبة الطاهرة العميقة المستخفة بالمظاهر التي لا يغرها جمال الشباب وجمال الأناقة وجمال الأزياء.

أتعلمن ما هو الشباب والجمال؟ هما حديقة تملؤها الأزهار النضرة والعطور المنعشة، أمامها يقف المارُّون معجبين. وما هو إلا يوم وليلة فتمر العاصفة صارعة أشجارها، مبدَّدةً أزهارها، مبيدةً عطورها، وتغادرها خالية إلا من أكوام التراب والأغصان المكسرة، هذا ما تسمونه جمال الشباب؛ أي جمال القشور. أما الجمال الآخر فهو جمال الجوهر، الآلام تطهرهُ والمصائب تجلوهُ، والعواطف تفعمهُ قوةً ونبلًا. هو الجمال الذي يبقى ناميًا مدى الحياة. هو مسعد العائلة، وهو مساعد الزوج، هو مهذب الأطفال، هو السلام والخير والبركة. ولتحفظه المرأة … اسمعن أيتها السيدات … لتحفظ المرأة ذلك الجمال. عليها أن تكون وردة تحيط بها الأشواك …

انتهت الوعظة، فعزف الأرغن الشجيُّ وابتدأ الزياح فاشترك الجميع في الترتيل وتصاعدت الشعائر نحو الله ملحنة أنغامًا ومحترقة أمام هيكله بخورًا.

وعند خروجي من الكنيسة كان الظلام يغمر المدينة ومضيئو المصابيح يجرون في الشارع حاملين المشاعل، فوقف أحدهم يتفرج على السيدات وهو يفتر عن أسنانهِ البيضاء، ويثني على كل مارَّة الثناء المعتاد قائلًا بلهجتهِ المصرية النغشة: «إنتَ يا واد يا حلو! إنت ياللي زي الباشا! إنت يا واد يا حلاوة!»

هذه هي موعظة شهر الورود: على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك. وما «أشواك» الوردة النسائية غير التكتم والحشمة والطهارة كما قال ذلك القس، فإن عجبتم اليوم لهذا الكمِّ الطويل الذي يتعثر قلمي بأذياله فاعلموا أن سببه موعظة شهر الورود. وإن أعرضتُ عن ذلك الثوب الشفاف الساحر واستبدلته بهذا الشبيه بثوب أبينا الواعظ لكثافته فما سببهُ إلا موعظة شهر الورود. وإن غادرتكم الآن فما ذلك إلا لأني أريد أسمع موعظة شهر الورود مرة أخرى: على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤