إلى حضرة ب. ر.

١٩١٥

أشكر لحضرة معترض جريدة «الأخبار» اهتمامه بما نقلتُ عن الكاتب الأمريكي. وما كنت لأزعجه بجوابي هذا لولا أني شعرت في رده بشيء من سوء التفاهم بيننا؛ فإما أن تكون «الأخبار» نسيت سهوًا نقل الجملة كما هي فأستأذنها بالإشارة إلى ذلك. وإما أن أكون أسأت التعريب — وهذا هو الأصح — فوجب عليَّ الإصلاح قدر المستطاع.

لست بمناقشة؛ لأني يوم عرَّبتُ رسالة الكاتب الأجنبي لم أكن ناشرة إلا رأيه دون رأيي، ولا أنا بمعترضة على قول حضرة ب. ر أن الكاتب أخطأ إذ خاض في الموضوع «بكلام خيالي شعري»؛ أولًا: لأن الرجل ليس شاعرًا. ثانيًا: لأني أضطر آنئذٍ أن أذكِّر حضرة ب. ر أن التوراة والإنجيل الشريفين مكتوبان بأسلوب شعري خيالي، ففي التوراة يفيض الشعر فيضانًا جميلًا من مزامير داود إلى نشيد سليمان، إلى سِفر أيوب، إلى نُواح أرميا. وأما الإنجيل فمملوء بالرموز والإشارات، كما أنه مملوء بالتعاليم العالية المؤدية إلى الكمال الأسمى. والسيد المسيح نفسه قال إنه يتكلم بالرموز ويضرب الأمثال.

على أني أستأذن حضرته بإلفاته إلى قول الكاتب الأجنبي أن «أمثاله (الدكتور شميل) يهدمون ما في الأديان والجمعيات من الغلو والإفراط.» هذا صريح لا يحتمل تدليلًا، فهل «الغلو والإفراط» يعنيان الإيمان بإلهٍ أزليٍّ سرمدي؟ كلا، إن هذه الفكرة العظيمة أُمُّ العقائد الدينية وغير الدينية جميعًا. إنها ملازمة لفكرة الخليقة ملازمة لا تقبل انفصالًا. وسواء دعيت تلك العناية المثلى «هو وهي» كما يدعوها الإسرائيليون القدماء، أم الله، أم الطبيعة، فهي هي، وما كان البشر إلا معددين لها الأسماء والألقاب. «وأصدقاء» الكاتب الأجنبي يؤكدون لحضرة ب. ر أن الرجل مؤمن بالله، فلماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء امرأة ضاع منها منديلها مثلًا، إلى القديس أنطونيوس تستحلفه بأمه وأبيه أن ينزع منديلها من أيدي الشياطين ويضعه في جيبها مباشرة، وذلك بمقابل بخور بكذا قروش تهديه إليه في الغد؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء السيدات المسلمات إلى «الزار» والمشعوذين؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في حرق المرأة الحية قرب زوجها الميت عند الهنود؟

أظن أن مثل هذه الاعتقادات الصبيانية والعادات الفظيعة تستحق نعت «الغلو والإفراط».

بعد خطة الدفاع يتخذ حضرة ب. ر خطة الهجوم، فينتقل دفعة واحدة من الدين إلى الحرب. وأعترف بأن هذا الهجوم الفجائي يدهشني بعض الدهشة، وهو يعلم ألَّا دخل للدين في حروبنا اليوم. نعم إنهم يفتتحون الحرب باسم الله، وينادونه إلى الأخذ بيدهم، ويملقونه — وهو الرفيع عن كل تملُّق — قائلين: أنت إلهنا وأنت معنا. حتى إذا ما أفنوا حياة سُمِح بأن تكون، وهدموا ديارًا سُمح بأن تُشاد، ومزقوا أجسادًا وسحقوا قلوبًا عادوا إلى كنائسهم ومعابدهم، وجثوا أمام الإله العظيم إله الرحمة والحب والإشفاق، وأنشدوا: «إياك اللهم نعظم»! إن الأديان لتبرأ من فظائع الحروب ولا تجوِّز إلا الدفاع عن الوطن إذا هاجمه الأعداء. ولكن جميع النفوس لا تفهم الأديان كما هي، بل كل منا يفهم دينه حسب درجة عقله وميول قلبه. ولا يقتصر البشر على الإيمان بالعقائد الدينية الأساسية، بل يتعصبون لاعتقادات أخرى إضافية لم تكن إلا اختراع التعصب والجهل. وكثيرًا ما يستفيد رؤساء الشعب والحكومات من هذا التعصب فيشهرون الحروب، ويقودون الشعب المسكين إلى حيث لا أثر للدين، ولا منفعة لغير السياسة.

فإن استعمل الألمان وسواهم العلم وبذلوا كل ما لديهم من معرفة وحيلة في سبيل قهر أعدائهم، فهل هذا يعيب العلم؟ الطب عائد بالخير على الإنسانية، فهل إذا دس طبيب لعليله السم لغرض من الأغراض فسدت منفعة الطب ووجب علينا أن نحسبه من حيث طبيعته شرًّا؟ هذا العلم الذي هو آلة شر وفناء في يد ألمانيا وغيرها الآن كان وما زال آلة خير وحياة في يد ألوف من الأفراد وعشرات من الشعوب؛ لذلك لا يتحتم أن يكون المؤمن جاهلًا، فالدين شيء والعلم شيء آخر. الدين مهذب شخصيتنا المعنوية والعلم ضرورة من ضروريات حياتنا. هذا للزمان وذاك للأبدية، وليس لأحدهما أن يلاشي الآخر.

يختم حضرة ب. ر مقاله كمن يتساءَل ألا يخجل الكاتب لأنه لا يعتقد اعتقاد إميل أماجات؟ لست أدري، يا سيدي؛ لأني لم أسأله بعد، ولكني أعتقد أن الدين علاقة سرية بين الخالق والمخلوق، أعتقد أن كل امرئ يلاقي نتيجة أفعاله ولا يتحملها عنه أحد، أعتقد أن الله منح البشر حريتهم — اسمح لي أن أذكر الحرية بلهجة غير لاهوتية — فعلى كلٍّ أن يرى وجهة الخير أمامه، ويعبد ربه ويخدمه كيفما شاءَ، ما دام الله سامحًا بذلك، لماذا لا يسمح به الناس؟

أما الدكتور شميل الذي تفضلت وهنأته «بهذه الحظوة»، فلست أعرف كيف تقبلها، وإذا كان إعجاب رجل أجنبي أو شرقي يهمه كثيرًا. ولكني أعرف أن اسمه من الأسماء التي سيفتخر بها الشرقيون دوامًا، سواء أكانوا مؤمنين أو ملحدين. لم يكتب ضد الدين أحدٌ أكثر من فولتير، ورغم ذلك فمقامه الأدبي محفوظ حتى لدى المتدينين، ويفاخر أبناء فرنسا بأن ينعتوا لغتهم باسمه فيقولون عنها «لغة فولتير».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤