مقدمة المترجمة

كان توماس مور Thomas More (١٤٧٨–١٥٣٥م) هو أول من صاغ كلمة يوتوبيا أو «أوتوبيا» في نطقها اليوناني. وقد اشتقها من الكلمتين اليونانيتين Ou بمعنى «لا» وTopos بمعنى «مكان»، وتعني الكلمة في مجموعها «ليس في مكان»، ولكنه أسقط حرف O وكتب الكلمة باللاتينية لتصبح Utopia، ووضعها عنوانًا لكتاب له هو أشهر يوتوبيا في العصر الحديث.

واستخدم اللفظ منذ ذلك الحين في كل اللغات الأوروبية، وفي ترجمته العربية أيضًا، ليعني نموذجًا لمجتمع خيالي مثالي يتحقق فيه الكمال أو يقترب منه، ويتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية، ولا يوجد مجتمع كهذا في بقعة محددة من بقاع الأرض، بل في أماكن وجزر متخيلة، وفي ذهن الكاتب نفسه وخياله قبل كل شيء. وأصبح للكلمة فيما بعد معانٍ كثيرةٍ غير التي استخدمها مور، فصارت تطلق على كل إصلاح سياسي أو أي تصورات خيالية مستقبلية، أو احتمالات علمية وفنية. ولكن تظل اليوتوبيا تصورًا فلسفيًّا ينشد انسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع مجتمعه. فالفكر اليوتوبي معني في الدرجة الأولى بخلق أفكار وتصورات للانسجام الاجتماعي، وهو يصدر عن الخيال الأدبي أو التصور الفلسفي، ويختلف كل الاختلاف عما يسمى في عصرنا بعلوم المستقبل التي تقوم على التخطيط العلمي والرياضي للمستقبل، على أساس الإمكانات الكامنة في الواقع الراهن.

وقد تنوعت النماذج اليوتوبية، فتم التعبير عنها في أشكال أدبية مختلفة، منها المقالة والقصة والرواية والقصيدة، أو في شكل نظريات سياسية تقدم صورة نظام سياسي نموذجي بمؤسساته المختلفة، مع تصور كامل لكل تنظيمات الحياة (كما عند توماس مور) أو في بعض نظريات فلسفة التاريخ (كما عند كوندورسيه).

ويلعب الخيال الدور الأكبر في كل الأشكال والمشروعات اليوتوبية بدءًا من جمهورية أفلاطون (وهي النموذج الأول لكل اليوتوبيات)، وانتهاء بروايات الخيال العلمي. ولكن الأفكار والخيالات والأحلام اليوتوبية لم تكن غير استجابات مختلفة للمجتمعات التي نشأت فيها، فكانت تعبيرًا عن الرغبة في تغيير الواقع القائم وتجاوزه، والحلم بحياة ومجتمع أفضل وأكثر عدلًا، ولذلك لا يمكن فهم التفكير اليوتوبي قديمه وحديثه حتى نضعه في سياق التطور التاريخي والاجتماعي، لنعرف أنه كان صرخة احتجاج على أوضاع وظروف اجتماعية ظالمة وفاسدة. ولم تجد الغالبية العظمى من المشروعات اليوتوبية طريقها إلى التطبيق، والقليل النادر الذي طُبِّق منها كان مآله الإخفاق. ومع ذلك لم يكفَّ الخيال البشري عن الحلم بواقع إنساني أفضل، ولن يتوقف عنه في يوم من الأيام.

•••

وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن المؤلفة قد ألقت الضوء على جذور التفكير اليوتوبي، وتتبعت رحلته الشاقة والمشوقة بدءًا من أفلاطون إلى العصر الحاضر. ومما يزيد من أهميته أن المؤلفة تناولت بعض اليوتوبيات التي كادت تسقط في أعماق النسيان، كما تعرضت لتلك التي لم يُلتفت إلى أهميتها في عصرها ولا في العصور اللاحقة. وعلى الرغم من ارتباط الكتاب بظروف تأليفه (أي في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، والانتصار على النازية والفاشية، والكشف عن فظائع الشمولية الستالينية) فإنه لا يزال يحتفظ بقيمته وأهميته في الأدبيات اليوتوبية التي توالت بعد ذلك في صور وأشكال لا حصر لها.

•••

ولدت مؤلفة الكتاب ماريا لويزا برنيري بالقرب من فلورنسا بإيطاليا عام ١٩١٨م. وبعد مولدها بثماني سنوات فرت مع عائلتها إلى فرنسا، هربًا من اضطهاد الفاشية الإيطالية. وهناك قضت أحد عشر عامًا، درست خلالها علم نفس الطفل بجامعة السوربون، وظهرت اهتماماتها بالقضايا السياسية والاجتماعية، ثم انتقلت إلى لندن التي عاشت فيها ومارست العمل الصحفي والإذاعي والسياسي، حتى وفاتها المفاجئة عام ١٩٤٩م. وقد انصب اهتمامها بشكل خاص على مظاهر الثورة الاجتماعية والحركات الفوضوية، ونشرت كتابها عن «العمل في روسيا الستالينية» عام ١٩٤٤م، كما كتبت أيضًا عن الثورة الإسبانية، وإن لم يسعفها الأجل لاستخلاص النتائج التي تمخض عنها الصراع الطويل مع دكتاتورية فرانكو الفاشية، ثم عكفت على إنجاز هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ولكن لم يمهلها القدر لتراه في طبعته الأولى، التي كتب تصديرها أستاذ الفلسفة السياسية والاجتماعية جورج وودكوك. وما زال الكتاب يعاد طبعه حتى الآن، نظرًا لأهمية موضوعه ودقة تناوله لأبرز اليوتوبيات، والطبعة التي اعتمدت عليها في هذه الترجمة هي طبعة سنة ١٩٨٦م.

وقد كان المشروع الأصلي للكتاب هو تقديم أهم النصوص اليوتوبية التي تعد علامات أساسية على طريق الفكر اليوتوبي، غير أن المؤلفة آثرت الجمع بين أكبر قدر ممكن من النصوص وبين التحليل والتفسير والنقد، وهو الشيء الذي لم تُوفق فيه دائمًا، إذ أسرفت في كثير من الأحيان في اقتباس النصوص غير المعروفة وغير المتاحة، على حساب التحليل والنقد والتقييم. ويقدم الكتاب نماذج من مجتمعات يوتوبية متنوعة، ربما يتشابه بعضها في جوانب عديدة مع البعض الآخر، وربما تختلف الظروف والرؤى اليوتوبية فيها اختلافًا بيِّنًا، وتتنوع اجتهادات أصحابها في تقديم الحلول لمشاكل مجتمعاتهم. ولكن العامل المشترك الذي يجمع معظم هذه اليوتوبيات هو طابع الشمولية وإلغاء الفردية وقهر الحرية في مجتمعات يفترض أنها مثالية، في حين أن حرية التفكير والتعبير واحترام الفرد هما أساس المجتمع الأفضل وغاية الإنسان في كل زمان ومكان.

وربما يخرج القارئ في نهاية الكتاب بانطباع يائس عن اليوتوبيا وتحولاتها ومصيرها، غير أن هذا يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن الكتابات اليوتوبية تقع في خطأ فادح عندما تتوهم أنها تقدم لنا تصورات نهائية عن مجتمعات كاملة ومنظمة بشكل آلي، لأنها ستكون بالتأكيد مجتمعات مغلقة وخانقة وخالية من نسمات الحرية. وربما يكون من أهم الدروس المستفادة من هذه الرحلة في أرجاء المجتمعات اليوتوبية أنه ليس هناك مجتمع أو تصور يوتوبي كامل أو تام من كل ناحية، بحيث يمكن تطبيقه على كل المجتمعات وفي كل مكان أو زمان. فلكل عصر متطلباته، ولكل مجتمع احتياجاته المتجددة باستمرار، مما يحتم على الكُتَّاب اليوتوبيين أن يقدموا رؤًى وتصورات لمجتمع قابل للتجدد.

وأخيرًا لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر إلى أستاذي الدكتور عبد الغفار مكاوي على الجهد الذي بذله في المراجعة الدقيقة، ومساعدته في توضيح ما غمض عليَّ من نصوص، كما أتوجه بالامتنان والتقدير إلى أسرة «عالم المعرفة» ومستشارها الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، على إتاحة الفرصة لخروج هذا العمل إلى النور.

عطيات أبو السعود
القاهرة
مايو ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤