مدخل بقلم المؤلفة

إن عصرنا هو عصر التسويات، والحلول الوسطى، والسعي لجعل العالم أقل شرورًا. والحالمون من أصحاب الرؤى أصحاب موضع السخرية أو الاحتقار، و«الناس العمليون» هم الذين يحكمون حياتنا. لم نعد نبحث عن حلول جذرية لشرور المجتمع، بل لإصلاحه، ولم نعد نسعى لإلغاء الحروب، بل لتجنبها فترة تمتد سنوات قليلة، إننا لا نحاول إلغاء الجريمة، وإنما نكتفي بإصلاح القوانين الجنائية، ولا نحاول إلغاء المجاعة، بل نسعى لإنشاء مؤسسات خيرية عالمية على نطاق واسع. وعنما يعيش المرء في عصر ينشغل بكل ما هو عملي قابل للتحقق السريع، فربما يكون من المفيد أن يلجأ إلى الأشخاص الذين حلموا باليوتوبيات، ورفضوا أي شيء لا يتلاءم مع مَثلهم الأعلى من الكمال.

سوف نشعر بالضعة عندما نقرأ عن الدول والمدن المثالية، لأننا سنتحقق من تواضع طموحاتنا، وفقر رؤانا. لقد دافع زينون عن النزعة العالمية، وعرف أفلاطون المساواة بين الرجال والنساء، ورأى توماس مور بوضوح العلاقة التي ينكرها الناس حتى اليوم بين الفقر والجريمة. وتبنى كامبانيلا، في بداية القرن السابع عشر، الدفاع عن نظام العمل اليومي المكون من أربع ساعات، وتحدث الباحث الألماني أندريا عن العمل الجذَّاب، واقترح نظامًا للتعليم ما زال من الممكن أن يعد اليوم نموذجًا يؤخذ به.

سنجد الملكية الخاصة تدان بشدة، والنقود والأجور تعتبر غير أخلاقية وغير عقلانية، والتكافل الإنساني يسلم به بوصفه حقيقة واضحة. وكل هذه الأفكار التي يمكن اعتبارها اليوم أفكارًا جريئة، قد طرحها أصحابها بثقة كبيرة دلَّت على أنها، وإن لم تحظَ بقبول عام في حينها، كان الناس على استعداد لفهمها. ونجد في أواخر القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر أفكارًا أكثر إثارة وجسارة عن الدين والعلاقات الجنسية، وطبيعة الحكومة والقانون. وقد اعتدنا تصور أن الحركات التقدمية تبدأ مع القرن التاسع عشر، بحيث تصيبنا الدهشة عندما نجد أن انحلال التفكير اليوتوبي قد بدأ في ذلك الحين؛ إذ أصبحت اليوتوبيات، كقاعدة عامة، تتسم بالجبن، وأصبحت الملكية الخاصة والتعامل بالنقود في الغالب أمورًا ضرورية. كما أصبح على البشر أن يعتبروا أنفسهم سعداء إذا عملوا ثماني ساعات يوميًّا، وصار من النادر أن يُطرح السؤال عما إذا كان عملهم جذَّابًا. أصبح النساء تحت وصاية الأزواج، والأطفال تحت وصاية الآباء. ولكن قبل أن تصاب اليوتوبيات بعدوى الروح «الواقعية» لعصرنا، كانت قد ازدهرت وتنوعت وازدادت ثراءً بدرجة يمكن أن تثير فينا الشك في شرعية مزاعمنا عن تحقيق قدر معين من التقدم الاجتماعي.

وليس معنى هذا أن كل اليوتوبيات كانت ثورية وتقدمية. لقد كانت الغالبية العظمى منها تجمع بين الصفتين، ولكن القليل منها كان ثوريًّا بشكل كامل. كان الكُتَّاب اليوتوبيون ثوريين عندما دافعوا عن مشاعية السلع في وقت كانت تُعَدُّ فيه الملكية الخاصة مقدسةً، وعن حق كل فرد في الحصول على لقمة العيش في وقت كان يُشنَق فيه الشحاذون، وكانوا ثوريين عندما دافعوا عن المساواة بين الرجل والمرأة في عصور كانت تُعتَبر فيها المرأة أفضل قليلًا من العبيد، وعن كرامة العمل اليدوي الذي كان يُنظَر إليه على أنه عمل مهين أو مخزٍ، وعن حق كل طفل في طفولة سعيدة وتعليم جيد، بعد أن كان ذلك الحق مقصورًا على أبناء النبلاء والأغنياء. كل هذا ساهم في جعل كلمة يوتوبيا مرادفة للسعادة أو مرتبطة بها، وجعلها شكلًا اجتماعيًّا مرغوبًا فيه. وفي هذا المقام تمثل اليوتوبيا حلم الجنس البشري بالسعادة، واشتياقه الخفي للعصر الذهبي، أو لجنَّته المفقودة كما تصور البعض.

بيد أن هذا الحلم كانت له جوانبه المظلمة. فقد كان هناك عبيد في جمهورية أفلاطون، وفي يوتوبيا مور. وكانت هناك جرائم قتل جماعية للعبيد في أسبرطة ليكورجوس، وحروب، وإجراءات ونظم صارمة، وتعصب ديني، جنبًا إلى جنب مع المؤسسات التنويرية إلى حد كبير. هذه الجوانب التي لم يلتفت إليها في الغالب المدافعون عن اليوتوبيات التي كانت تهدف إلى تحقيق الحرية الكاملة.

وهناك اتجاهان رئيسيان يتكشَّفان في الفكر اليوتوبي عبر العصور: اتجاه يبحث عن سعادة الجنس البشري من خلال الرفاهية المادية، وإذابة فردية الإنسان في المجموع وفي مجد الدولة. واتجاه آخر يتطلب درجة معينة من المادية، لكنه يعتبر أن السعادة هي نتيجة التعبير الحر عن شخصية الإنسان، ويجب ألا يضحي بها لأجل قانون أخلاقي استبدادي أو لمصالح الدولة. وتتطابق هاتان النزعتان مع التصورات المختلفة للتقدم، لأن اليوتوبيات المضادة للنزعة التسلطية تقيس التقدم، كما يرى هربرت ريد: «عن طريق درجة التمايز داخل المجتمع. فإذا كان الفرد وحدة في كتلة المجموع، فإن حياته لا تكون فظة وقصيرة فحسب، بل تكون كذلك حياة متبلدة وآلية. وإذا كان وحدة في ذاته، أي لديه المجال والإمكانية للعمل المستقل، فربما يكون أكثر خضوعًا للمصادفة والحظ، ولكنه سيستطيع على الأقل أن ينمو ويعبر عن نفسه. وسوف يمكنه أن يتطور — بالمعنى الحقيقي الوحيد لكلمة التطور — في الوعي بالقوة والحيوية والبهجة.»

ولكن هذا، كما يؤكد أيضًا هربرت ريد، ليس تعريفًا للتقدم: «فهناك العديد من البشر الذي يجدون الأمان وسط الأعداد الكبيرة، ويجدون السعادة في أن يبقوا مجهولين، والكرامة في العمل الروتيني. إنهم لا يسعون إلى شيءٍ أفضل من أن يكونوا رأسًا في قطيع يسوقه راعٍ، أو جنودًا تحت إمرة قائد، أو عبيدًا تحت سطوة طاغية. والقليلون منهم فقط هم الذين يتطورون بحيث يصبحون الرعاة والرؤساء والقادة لأولئك الذين اختاروا بإرادتهم أن يكونوا تابعين.»

لقد كان هدف اليوتوبيات التسلطية تسليم الشعوب لرعاة أغنام وقادة وطغاة، سواء تحت اسم الحرَّاس (الفيلاركس) أو الساموراي.

وكانت تلك اليوتوبيات تقدمية، بقدر ما أرادت إلغاء عدم المساواة الاقتصادية، لكنها استبدلت بنظام العبودية الاقتصادية القديم نظامًا آخر جديدًا، فلم يعد الناس عبيدًا لأسيادهم أو لأصحاب العمل، بل أصبحوا عبيدًا للأمة أو الدولة. وقامت قوة الدولة على السلطة الأخلاقية والعسكرية، كما في جمهورية أفلاطون، أو على الدين كما في مدينة المسيحيين لأندريا، أو على ملكية وسائل الإنتاج والتوزيع كما في معظم يوتيوبيات القرن التاسع عشر. بيد أن النتيجة بقيت دائمًا واحدة، وهي اضطرار الفرد لاتباع مجموعة من القوانين أو قواعد السلوك الأخلاقي المحدود بشكل مصطنع.

إن التناقضات الكامنة في معظم اليوتوبيات ترجع لهذا الأسلوب التسلطي. فقد زعم مؤسسو اليوتوبيات أنهم منحوا الحرية للشعب، ولكن الحرية التي منحوها توقفت عن أن تكون حرية. وكان «ديدرو» هو أحد كُتَّاب اليوتوبيا القلائل الذي أنكر على نفسه حتى الحق في أن يعلن أن لكل فرد أن يفعل ما يريده، غير أن أغلبية مؤسسي اليوتوبيات تشبثوا بأن يبقوا أسيادًا في دولهم المتخيلة. فبينما يزعمون أنهم يمنحون الحرية لشعوبهم، تجدهم في نفس الوقت يصدرون مجموعة من القوانين التي يتعين اتباعها بصرامة. فهناك المشرِّعون للقوانين، والملوك، والقضاة، والكهنة، ورؤساء الجمعيات الوطنية في يوتوبياتهم، ومع ذلك فبعد أن أعلنوا أنهم قد سنُّوا القوانين، ونظموا شئون الزواج وأمور السجن وإجراءات الإعدام، ظلوا على ادعائهم بأن الشعب حر يفعل ما يريد. ومن الواضح كل الوضوح أن توماسو كامبانيلا تخيل نفسه «الميتافيزيقي الكبير» في مدينة الشمس، وأن بيكون جعل من نفسه الأب الراعي ﻟ «بيت سليمان»، وكابيه نصب نفسه المشرِّع في جزيرته إيكاريا، وعندما كان لديهم ذكاء توماس مور، كانوا يعبِّرون عن أشواقهم الخفية بتهكم شديد: «لا يمكنك أن تتخيل كم أنا مبتهج.» هكذا كتب توماس مور لصديقه إرازموس، «ولا كيف تعاظمت ورفعت رأسي عاليًا، ودائمًا ما كنت أتصور نفسي في دور الحاكم الأعلى ليوتوبيا، بل إنني تخيلت نفسي أختال في مشيتي وفوق رأسي تاج من سيقان الذرة، لابسًا عباءة راهب فرنسسكاني، وحاملًا في يدي سنبلة من الشعير أشبه بصولجان، ومحفوفًا بحشد كبير من أبناء شعب أموروت.» وأحيانًا يضطر أناس آخرون إلى إبراز تهافت أحلامهم، كما نجد جونزالز Gonzales في مسرحية «العاصفة» لشكسبير عندما يقول لرفاقه في دولته المثالية التي أراد تأسيسها على جزيرته:
جونزالز :
أنا الدولة، وسوف أنجز كل شيء عن طريق الأضداد.
لن أسمح بأي نوع من أنواع التجارة،
ولا باستخدام قاضٍ،
والأدب لن يُسمح بالاطلاع عليه،
ولن يكون ثمة غنًى ولا فقر ولا خدمات،
لا عقود، ولا توريث، ولا حدود للأراضي،
لا حرث، ولا كرم، ولا شيء من هذا،
لن يصرح باستخدام المعادن، ولا الذرة، ولا النبيذ ولا الزيت،
لا وظائف، فالناس جميعهم كسالى متعطلون،
والنساء أيضًا، وإن كن بريئات ونقيات.
لا سيادة ولا تسلُّط.
سبستيان : ومع ذلك يتمنى أن يكون ملكًا عليها.
أنطونيو : إن النهاية الأخيرة لدولته تُنسي البداية.
وتقع اليوتوبيات التسلطية في تناقض آخر يكمن في التأكيد على أن قوانينها تتبع نظام الطبيعة، على حين أنها في واقع الأمر قد سُنَّت بشكل تعسفي. فبدلًا من أن يحاول كُتَّاب اليوتوبيا اكتشاف قوانين الطبيعة، فضلوا أن يخترعوها أو يعثروا عليها في «سجلات الحكمة القديمة». ذلك أن بعضهم، مثل مابلي Mably أو مورللي Morelly، كان من رأيه أن قوانين الطبيعة هي قوانين أسبرطة، وبدلًا من أن يقيموا يوتوبياتهم على تجمعات حية وبشر مثل أولئك الذين يعرفونهم، أقاموها على تصورات مجردة. إن هذا على وجه التحديد هو المسئول عن الجو المفتعل السائد في معظم اليوتوبيات: فالبشر اليوتوبيون مخلوقات من نمط واحد، ولهم رغبات متماثلة وردود أفعال متشابهة، وهم مجردون من العواطف والانفعالات، لأن هذه الأخيرة ستكون تعبيرًا عن الفردية وقد انعكس هذا التوحيد في كل جوانب الحياة اليوتوبية، من الملبس إلى جدول المواعيد، ومن السلوك الأخلاقي إلى الاهتمامات العقلية. ويؤكد ﻫ. ج. ويلز أن «كل اليوتوبيات على وجه التقريب — ربما باستثناء أنباء من لا مكان لوليم موريس — يرى فيها المرء أبنية صحيحة ولكن بلا شخصية، ومنشآت متجانسة وكاملة، وحشودًا من الناس الذين يتمتعون بالصحة والسعادة ويرتدون الملابس الجميلة، ولكنهم يفتقرون إلى أي تفرُّد شخصي من أي نوع. وكثيرًا ما يشبه هذا المنظر إحدى اللوحات الكبيرة لحفلات الزواج الملكي والبرلمانات والمؤتمرات والتجمعات التي كانت تتم في العصر الفيكتوري، ففي هذه اللوحات لا نرى وجهًا بشريًّا، وإنما نرى بدلًا من ذلك أن كل شكل منها يحمل ملامح بيضاوية مدونًا عليها رقمه في الدليل الرسمي.»

وينطبق الشيء نفسه على التنظيم المصطنع لليوتوبيا؛ فالأمة الموحدة لا بد أن يناظرها بلد موحد أو مدينة موحدة. والعشق التسلطي للتجانس يجعل اليوتوبيين يطمسون الجبال أو الأنهار، بل يجعلهم يتخيلون جزرًا كاملة الاستدارة، وكذلك أنهارًا كاملة الاستقامة.

«في يوتوبيا الدولة القومية (كما يقول لويس ممفورد) لا توجد مناطق طبيعية، والتجمع الطبيعي للبشر في البلدان والقرى والمدن، وهو الذي أكد أرسطو أنه الفارق الأساسي بين الإنسان وبقية الحيوانات، هذا التجمع الطبيعي، لا يُسمَح به إلا على أساس الخرافة التي تقول إن الدولة هي التي تمنح هذه التجمعات قدرًا من سلطتها الشمولية أو — كما يقول — من سيادتها، ومِن ثَم تسمح لهم بممارسة الحياة المشتركة. ومن سوء حظ هذه الخرافة الجميلة، التي بذلت أجيال من المحامين ورجال الدولة جهودًا كبيرة في صنعها، أن المدن قد سبقت الدول في الوجود بوقت طويل — فقد قامت روما على نهر التيبر قبل قيام الإمبراطورية الرومانية بوقت طويل — وهذا التسامح الكريم من قِبَل الدولة ليس في الواقع إلا منزلة الختم المطبوع على حقيقة منجزة بالفعل (…).

وبدلًا من التعرف على المناطق الطبيعية والتجمعات الطبيعية للبشر، أقامت اليوتوبيات ذات النزعة القومية، بواسطة خطوط المساحين، مملكة معينة أطلقت عليها اسم الإقليم القومي، وجعلت كل سكان هذا الإقليم أعضاءً في دولة واحدة، أو مجموعة واحدة غير منقسمة تسمى أمة، ويفترض أن لها الأسبقية، ولها السلطة الأعلى من كل المجموعات الأخرى. ذلك هو التشكيل الاجتماعي الوحيد المتعارف عليه رسميًّا في اليوتوبيا القومية. والشيء المشترك بين كل سكان هذا الإقليم هو الذي يُعتقَد أنه هو الأكثر أهمية من جميع الأمور الأخرى التي تربط بين البشر في مجموعات مدنية أو صناعية.»

حافظت الدولة القومية القوية على هذه الوحدة، فأُلغيت الملكية الخاصة، لا لتحقيق المساواة بين المواطنين فقط أو بسبب تأثيرها الفاسد، بل لأنها (أي الملكية الخاصة) تمثل خطرًا على وحدة الدولة. وتحدد الموقف من الأسرة أيضًا بالرغبة في المحافظة على وحدة الدولة. وبقيت يوتوبيات كثيرة ضمن التراث الأفلاطوني، فألغت الأسرة والزواج المعقود بين زوج وزوجة، بينما تبعت يوتوبيات أخرى توماس مور، ودافعت عن خصوصية الأسرة والزواج وتربية الأطفال وتعليمهم داخل نطاق الأسرة. وأخذ مجموعة ثالثة بحل وسط، وذلك بالإبقاء على المؤسسات الأسرية، وإن عهدت للدولة بمهمة تعليم الأطفال.

لقد انطلقت اليوتوبيات التي أرادت إلغاء الأسرة من نفس الأسباب التي جعلتها تلغي الملكية. واعتبرت الأسرة عاملًا مشجعًا على تنمية الغرائز الأنانية، ومِن ثَم على تفكيك وحدة الجماعة. وفي الجانب الآخر يرى المدافعون عن الأسرة أنها هي عمادة الدولة المستقرة، بل والخلية الأساسية فيها، والحقل الذي يتم فيه التدريب على فضائل الطاعة والولاء للدولة. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بحق أن الأسرة التسلطية التي هي بعيدة كل البعد عن خطر غرس الاتجاهات الفردية في نفوس الأطفال، تعوِّدهم، على العكس من ذلك، على احترام سلطة الأب، وبالتالي سوف يطيعون في النهاية أوامر الدولة بغير اعتراض.

إن الدولة القومية تتطلب بالضرورة طبقة حاكمة، أو فئة تمسك بزمام السلطة المتحكمة في بقية الشعب. وبينما اهتم مؤسسو الدول المثالية اهتمامًا كبيرًا بعدم السماح للملكية أن تفسد الطبقة الحاكمة أو توقع الشقاق بين أعضائها، فإنهم على العموم لم يدركوا أن خطر حب السلطة يُفسد الحكام ويفرق بينهم ويُوقع الظلم على الشعوب. وكان أفلاطون هو المذنب الرئيسي في هذا الصدد. فقد عهد إلى حُرَّاسه بكل السلطة في المدينة، بينما كان بلوتارك على وعي بالمفاسد التي يمكن أن يرتكبها الأسبرطيون، وإن لم يقدم علاجًا شافيًا منها. وقدَّم توماس مور تصورًا جديدًا، وهو تصور الدولة التي تمثل جميع المواطنين، باستثناء قلة من العبيد. لقد كان نظامه من النوع الذي ندعوه بالنظام الديمقراطي، إذ يمكن القول إن ممثلي الشعب هم الذين يمارسون السلطة. ولكن هؤلاء الممثلين يملكون تنفيذ القوانين، أكثر من سلطة وضعها أو صياغتها؛ لأن جميع القوانين الأساسية قد تم وضعها من قِبَل المشرِّع. وهكذا شرَّعت الدولة مجموعة من القوانين التي لم تشارك الجماعة في صنعها. والأكثر من هذا، أن الطبيعة المركزية لتلك الدولة جعلت هذه القوانين ذاتها تسري على كل المواطنين، وعلى كل قسم من أقسام الجماعة دون أن يأخذ المشرعون في اعتبارهم العوامل الشخصية المتنوعة. ولهذا السبب، عارض بعض كُتَّاب اليوتوبيات، مثل جيرارد ونستنلي، الجماعة التي تفوض سلطتها لهيئة مركزية، لأنهم خشوا أن تفقد الجماعة حريتها، وأرادوا أن تبقي الجماعة على استقلال حكومتها. بل إن كلًّا من جبرييل دي فواني وديدرو قد ذهب إلى أبعد من ذلك بإلغاء الحكومات إلغاءً تامًّا.

إن وجود الدولة يتطلب مجموعتين من قواعد السلوك الأخلاقي؛ لأنها لا تقسم الشعب إلى طبقات فحسب، وإنما تقسم البشرية إلى أمم. فغالبًا ما يتطلب الولاء للدولة إنكار مشاعر التكافل والتعاون المتبادل الذي يوجد بشكل طبيعي بين الناس، وتفرض الدولة أنواعًا معينة من قواعد السلوك التي تحدد العلاقة بين المواطنين والعبيد أو «البرابرة»، فكل ما هو محرم في العلاقات القائمة بين المواطنين المتساوين، مسموح به تجاه أولئك الذين يعدُّون كائنات أدنى منزلة. وبينما يتحلى المواطن اليوتوبي بالرقة ودماثة الخلق في تعامله مع مَن هم في نفس منزلته، فإنه يتسم بالفظاظة في تعامله مع عبيده، إنه يحب السلام في وطنه، ولكنه يشن أبشع الحروب خارج الحدود. وقد سمحت جميع اليوتوبيات، التي حذت حذو أفلاطون، بهذه الثنائية في الإنسان. ووجود هذه الثنائية في المجتمع، كما نعرفه، حقيقة معروفة بصورة كافية، ولكن عدم التخلص منها في «مجتمع كامل» هو الذي يبدو أمرًا غريبًا. إن النموذج العالمي في جمهورية زينون الذي أعلن أخوة البشر من الأمم كافة، هو نموذج ندر من تبناه من كُتَّاب اليوتوبيا. وتوافق معظم اليوتوبيات على الحرب بوصفها جزءًا حتميًّا من نظامها، والواقع أن الأمر لا بد أن يكون كذلك، لأن وجود الدولة القومية هو الذي يولِّد الحروب على الدوام.

إن الدولة اليوتوبية التسلطية لا تسمح بوجود أي شخصية تكون من القوة والاستقلال، بحيث تتصور إمكان التغيير أو التمرد. وما دامت المؤسسات اليوتوبية تعتبر كاملة، فمن البديهي أنها لن تكون قابلة للإصلاح. إن الدولة اليوتوبية في جوهرها دولة سكونية، ولا تسمح لمواطنيها بأن يناضلوا أو حتى أن يحلموا بيوتوبيا أفضل.

هذا السحق لشخصية الإنسان يتخذ في الغالب سمة شمولية. فالمشرِّع أو الحكومة هما اللذان يخططان المدن والمنازل؛ وقد أُعدت هذه الخطط وفق أكثر المبادئ عقلانية وأفضل معرفة بالتقنية، ولكنها (أي الخطط) ليست هي التعبير العضوي عن الجماعة. إن المنزل، مثله مثل المدينة، قد يصنع من مواد غير حية، ولكن ينبغي أن يجسد روح أولئك الذين بنوه. وبنفس الطريقة ربما تكون الأزياء اليوتوبية أكثر راحة وأكثر جاذبية من الملابس المعتادة، ولكنها لا تسمح للفرد بالتعبير عن فرديته.

والدولة اليوتوبية أشد شراسة في قمعها لحرية الفنان. فالشاعر والرسَّام والنحَّات يفترض فيهم أن يكونوا في خدمة الدولة، وأن يتحولوا إلى عملاء الدعاية لها. إن التعبير الفردي محظور عليهم سواء لأسباب جمالية أو أخلاقية، ولكن الهدف الحقيقي هو سحق أي مظهر من مظاهر الحرية. ولا مراء في أن معظم اليوتوبيات ستفشل فشلًا ذريعًا في «اختبار الفن» الذي اقترحه هربرت ريد: «لقد طرد أفلاطون، كما يعرف الجميع، الشعراء من جمهوريته. ولكن هذه الجمهورية كانت نموذجًا مضللًا للكمال. ربما استطاع بعض المستبدين أن يحققوها في الواقع، غير أنها لن تؤدي وظيفتها إلا كالآلة، أي بشكل آلي. فالآلات تعمل بشكل آلي لمجرد أنها مصنوعة من مواد ميتة وغير عضوية. ولو أردت أن تعبر عن الفرق بين مجتمع تقدمي وعضوي وحكومة شمولية سكونية، فيمكنك أن تعبر عن هذا بكلمة واحدة: هذه الكلمة هي الفن. ولا يستطيع المجتمع أن يجسد مُثُل الحرية والتطور العقلي، وهي التي تجعل الحياة في نظر الغالبية منا جديرة بأن نحياها، إلا بشرط السماح للفنان بأن يمارس عمله بحرية.»

إن اليوتوبيات التي تنجح في هذا الاختبار هي تلك التي تعارض مفهوم الدولة المركزية باتحاد فيدرالي للجماعات الحرة، حيث يستطيع الفرد أن يعبر عن شخصيته دون أن يخضع لرقابة قانون مصطنع، وحيث لا تكون الحرية كلمة مجردة، بل تتجلى بشكل عيني في العمل، سواء أكان عمل الرسام أم البَنَّاء. هذه اليوتوبيات لا تتعلق بالبناء الميت للتنظيم الاجتماعي، وإنما تتعلق بالمُثُل التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع الأفضل. أما عن اليوتوبيات المضادة للتسلطية، فهي أقل عددًا، وقد مارست نفوذًا أقل من اليوتوبيات الأخرى، لأنها لم تقدم خطة جاهزة، بل طرحت أفكارًا جريئة غير متزمتة، ولأنها تتطلب من كل منا أن يكون «متفرِّدًا»، وليس رأسًا في القطيع.

وحين تشير اليوتوبيات إلى الحياة المثالية دون أن تتحول إلى خطة، أي بغير أن تتحول إلى آلة مجردة من الحياة تطبق على مادة حية، عندئذٍ تستطيع بجدارة أن تصبح هي التحقق الواقعي للتقدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤