خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مبدع الأرواح وخالق الجسد، وفاتح الأغلاق والعُقَد، ومانح الأعلاق١ والعُدَد، ومن أنفَسها الهدى والرَّشد، حمدًا بعدد ما يتكرر من لحظات العيون ويتعدد، ويتجدد من أنفاس الصدور ويتردد.

والصلاة والسلام على أكرم والد وولد، محمد وآله صلاةً تبقى وتتأبد.

أعلم أن الله تعالى فتح بصائر أوليائه بالحِكم والعِبر، واستخلص هممهم لمشاهدة عجائب صنعه في البَدو والحضر، فكلَّما لاحظوا شيئًا لاحظوا فيه عبرة؛ لأن جميع الموجودات مرآة للوجود الحق المحضر، فالظاهر بذاته هو الله سبحانه، وما سواه فآيات ظهوره ودلائل نوره.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، فكلما سنح لهم شيء في مسارح النظر ومجاري الفكر عاجوا منه٢ إلى جناب القدس، حتى يتصلوا بمن هو شديد القوى ذو مرَّةٍ فاستوى، لم تغيره الأحوال، بل علومه وكمالاته حاصلة بالفعل وهو بالأفق الأعلى، وإذا سنح لهم هذا العروج فلا يزالون في دنوٍّ وقربٍ حتى يبلغوا الغاية القصوى، فيفيض عليهم حقائق العلوم، وأسرار المعارف وغرائب الآيات في ملكوت الأرض والسماوات، وإذا بلغوا هذا المنتهى فهو السدرة المنتهى، فلا يلتفون إلى شيء من عالم الزور.
وعبَّر التنزيل عن هذه الحالة بقوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى٣ إلى قوله: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى،٤ فينبغي لكل عاقل أن يكون الله سبحانه وتعالى أول كل فكر له وآخره، وباطن كل اعتبار وظاهره، فتكون عين نفسه مكحولة بالنظر إليه، وقدمه موقوفة على المثول بين يديه. مسافرًا بعقله في الملكوت الأعلى وما فيها من آيات ربه الكبرى، فإذا انحط في قراره فليره في آثاره، فإنه باطن ظاهر تجلَّى لكل شيء بكل شيء، وأظهر الآثار التي يرى فيها جلال ذات الحق وكمال صفاته، إنما هو معرفة النفس كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ،٥  وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.٦ وقال عليه السلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربه.» وقال عليه السلام: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.»

ونحن نعرج في هذا الكتاب من مدارج معرفة النفس إلى معرفة الحق جلَّ جلاله، ونذكر مخ ما تؤدي إليه البراهين من حال النفس الإنسانية، ولباب ما وقف عليه البحث الشافي من أمرها وكونها منزهة عن صفات الأجسام، ومعرفة قواها وجنودها، ومعرفة حدوثها وبقائها وسعادتها وشقاوتها، بعد المفارقة على وجه يكشف الغطاء ويرفع الحجاب، ويدل على الأسرار المخزونة والعلوم المكنونة، المضنون بها على غير أهلها.

ثم إذا ختمنا فصول معرفة النفس فحينئذ ننعطف على معرفة الحق جل جلاله؛ إذ جميع العلوم مقدمات ووسائل لمعرفة الأول الحق جل جلاله، وكل ما يراه لشيء فدون حصول مقصوده يكون ضائعًا، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه وعرف صفاته وأفعاله، وعرف مراتب العالم مبدعاته ومكوناته، وعرف الملائكة ومراتبهم، وعرف لمة الملك ولمة الشيطان والتوفيق والخذلان، وعرف الرسالة والنبوة وكيفية الوحي، وكيفية المعجزات والأخبار عن المغيبات، وعرف الدار الآخرة وسعادتها وشقاوتها وأقسامها ولذة البهجة فيها، وعرف غاية السعادة التي هي لقاء الله تعالى، فمن يُسِّر له هذا السفر لم يزل في سيره متنزهًا في جنة عرضها السماوات والأرض، وهو ساكن بالبدن مستقر في الوطن، وهو السفر الذي يسفر فيه عن وجه المعرفة، وتنحل أزرار الأنوار في هذه الأسفار، وهو السفر الذي لا تضيق فيه المناهل والموارد، ولا يضر فيه التزاحم والتوارد، بل تزيد بكثرة المسافرين غنائمه، وتتضاعف ثمراته وفوائده. فغنائمه دائمة غير ممنوعة، وثمراته متزايدة غير مقطوعة، ومن لم يؤهل للجولان في هذا الميدان، والتطواف في منتزهات هذا البستان، فليس بيده إلَّا القشر يأكل كما تأكل الأغنام، ويرتع كما ترتع البهائم.

وشرح هذا السفر وبيان هذا العلم العظيم القدر، لا يمكن في أوراق وأطباق، ويقصر عن شرح عجائبه العبارات والأقلام، ونحن — بعون الله تعالى وتوفيقه — نشير إلى كل واحدة من هذه الجمل على وجه يستقل به المتفطن، وأما الجامد البليد الذي يأخذ العلم بالتقليد، فهو عن معرفة مثل هذه العلوم بعيد؛ إذ كلٌّ مُيَسر لما خُلق له، فمن رشح للسعادة وشارف نيل الإرادة أُعطي أولًا كمال الدرك، من وفور العقل وصفاء الذهن، وصحة الغريزة، واتقاد القريحة وحدة الخاطر، وجودة الذكاء والفطنة، وجزالة الرأي وحسن الفهم، وهذه تحفة من الله وهدية لا تنال بيد الاكتساب، وتنبتر دونها وسائل الأسباب، ومن وُهبت له هذه الفطنة فحينئذ عليه استكداد الفهم والاقتراح على القريحة، واستعمال الفكر، واستثمار العقل بتحديق بصيرته إلى صوب الغوامض، وحل المشكلات بطول التأمل، وإمعان النظر والاستعانة بالخلوة، وفراغ البال والاعتزال عن مزدحم الأشغال، والقيام بوظائف العبادات حتى يصل إلى كمال العلوم.

وسمينا الكتاب «معارج القدس في مدارج معرفة النفس»، وفقنا الله لإتمامه.

١  العلق بالكسر: النفيس من كل شيء، والجمع أعلاق.
٢  عطفوا عنان الطلب.
٣  سورة النجم ٥٣: ٥–١١.
٤  سورة النجم ٥٣: ١٨.
٥  سورة فصلت ٤١: ٥٣.
٦  سورة الذاريات ٥١: ٢٠-٢١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤