فيدون أو خلود الروح

  • أشخاص الحوار: فيدون (وهو راوي الحوار إلى أشكراتس من أهالي فليوس)، سقراط، أبولودورس، سمياس، سيبيس، أقريطون، حارس السجن.
  • مكان الحوار: سجن سقراط.
  • مكان الرواية: مدينة فليوس.
أشكراتس : أي فيدون! هل كنت بنفسك في السجن مع سقراط يوم تجرع السم؟
فيدون : نعم، كنت يا أشكراتس.
أشكراتس : أودُّ لو حدثتني عن موته، ماذا قال في ساعاته الأخيرة؟ لقد أُنبئنا أنه مات باجتراعه السم، ثم لم يعلم أحدٌ مِنَّا فوق ذلك شيئًا؛ فليس ثمة اليوم بين بني فليوس من يذهب إلى أثينا، كما أن أحدًا من الأثينيين لم يجد سبيله إلى فليوس منذ عهدٍ بعيد؛ ولذا لم يأتنا عنه نبأ صريح.
figure
سقراط يحاور تلاميذه.
فيدون : هل أتاك حديث المحاكمة وكيف سارت؟
أشكراتس : نعم، لقد حدَّثنا بعض الناس عن المحاكمة، فلم ندرِ لماذا نُفِّذَ فيه الإعدام بعد الإدانة بزمن طويل، كما رأينا، ولم يُنفَّذ في حينه؛ فما علة ذلك؟
فيدون : علته حادث وقع في اليوم السابق لمحاكمته يا أشكراتس، وهو تكليل مؤخرة السفينة التي يبعثها الأثينيون إلى دلفي.
أشكراتس : وما تلك السفينة؟
فيدون : يرى الأثينيون أنها السفينة التي كان قد أبحر عليها تسيوس Teseus وصحبه الشبان الأربعة عشر إلى أقريطش حيث نجا وإياهم، وكان قد قيل وقتئذٍ إنهم نذروا لأبولو أن لو سَلِموا ليحجُّنَّ إلى دلفي مرة في كل عام، وما تزال تلك العادة متصلة إلى اليوم. فهذه الفترة كلها، التي تنفقها السفينة في رحلتها إلى دلفي ذهابًا وإيابًا، منذ الساعة التي يكلل فيها كاهن أبولو مؤخرة السفينة، فترة حرام، لا يجوز للمدينة خلالها أن تدنس أرضها بقتل أحد من الناس. وكثير ما اعترضت السفينةَ ريحٌ أخرتها؛ فأرجئ الإعدام أيَّامًا طوالًا؛ فهذه السفينة كما سبق لي القول قد كللت في اليوم السابق لمحاكمة سقراط، فدعاه ذلك إلى أن يلبث في السجن ولم يُعدَم إلا بعد الإدانة بزمن طويل.
أشكراتس : كيف كان موته يا فيدون؟ ماذا عُمل وماذا قيل؟ ومن ذا جاوره من أصدقائه؟ أم لم يأذن لهم ذوو السلطان بالحضور فمات وحيدًا؟
فيدون : لا، بل رافقته من أصدقائه طائفة كبيرة.
أشكراتس : إن لم يكن لديك ما يشغلك؛ فأرجو أن تقصَّ عليَّ ما حدث، دقيقًا ما استطعت إلى الدقة سبيلًا.
فيدون : لا شاغل عندي، وسأحاول أن أجيبك إلى ما رجوت؛ فليس كذلك أحب إليَّ من أن أكون دائم الذكر لسقراط، سواء أكنت أنا مُحدِّثًا، أم كنت مستمعًا إلى من يتحدث عنه.
أشكراتس : لن تجد من سامعيك إلا نفوسًا ترغب فيما رغبت فيه، وإني لآمل أن تكون دقيقًا ما وَسِعَتْك الدقة.
فيدون : إني لأذكر ما اعتراني من إحساس عجيب، إذ كنت إلى جانبه، لقد كنت بإزائه غليظ القلب يا أشكراتس؛ لأني لم أكد أصدق أني إنما أشهد صديقًا يلفظ الروح، إن كلماته وقسماته ساعة الموت، كانت من النبل والجَلَد، بحيث بدا في ناظري كأنه رافل في نعيم؛ فأيقنت أنه لا بد أن يكون بارتحاله إلى العالم الآخر مُلبِّيًا لدعوةٍ من ربه، وأنه سيصيب السعادة إذا ما بلغ ذلك العالم، إن كان لأحد أن يعيش ثمةَ سعيدًا. فكان طبيعيًّا، وتلك حاله، ألا تأخذني عليه الرحمة، ولكني مع ذلك لم أجد في الحوار الفلسفي (إذ كانت الفلسفة موضوع حديثنا) ما تعودت أن أجده فيه من متاع. لقد كنت مغتبطًا، ولكني أحسست إلى جانب الغبطة ألمًا، أن علمت أنه لن يلبث طويلًا حتى يموت. لقد ساهمنا جميعًا في هذا المزيج العجيب من المشاعر، فكان يتناوبنا الضحك والبكاء، ولا سيما أبولودورس؛ لأنه سريع التأثر، هل تعرف هذا الضرب من الرجال؟
أشكراتس : نعم.
فيدون : لقد غُلِبَ على أمره وتخاذلت قواه، وأنا أنفسي، بل وكلنا جميعًا، قد بلغ مِنَّا التأثُّر مبلغًا عظيمًا.
أشكراتس : من كان الحضور؟
فيدون : حضر سوى أبولودورس من بني أثينا، كريتوبولس وأبوه أقريطون، وهرموجينس، وأبيجينس، وإيشينس، وأنتستين. كذلك أكتيسبِّس من أهل بيانيا، ومينكسينوس وغيرهم كثيرون. أما أفلاطون، فقد كان مريضًا فيما أظن.
أشكراتس : أكان ثمة أحد من الغرباء؟
فيدون : نعم، كان هناك سمياس الطيبي، وسيبيس، وفيدونديس، وأقليدس، وتربيزون الذين جاءوا من ميغارا.
أشكراتس : وهل كان أرسطبتس وكليومبروتس حاضرَيْن؟
فيدون : لا؛ فقد قيل إنهما كانا في أيجينا.
أشكراتس : ومن غير هؤلاء؟
فيدون : هم فيما أحسب كل الحاضرين على وجه التقريب.
أشكراتس : وأي حديث تناولتم بالحوار؟
فيدون : سأسوق الحديث من أوله، محاولًا أن تكون الرواية شاملة.
لعلك تعلم أنَّا قد كُنَّا من قبلُ نجتمع من الصباح الباكر في المحكمة التي جرت فيها المحاكمة، وهي على مقربة من السجن، فنظل نتجاذب أطراف الحديث حتى تُفتح أبواب السجن (وقد كانوا لا يبادرون بفتحها)، فندخله لننفق معظم النهار مع سقراط، فلما كان الصبح الخير، بكرنا باللقاء عن الموعد المعهود،١ إذ علمنا في الليلة السالفة أن السفينة المقدَّسة قد عادت من دلفي، فتواعدنا على اللقاء في المكان المضروب جد مبكرين؛ فما كدنا نبلغ السجن حتى طلع السجان المسئول عن حراسة السجن، ولم يأذن لنا بالدخول، بل أمرنا أن ننتظر حتى يدعونا؛ «لأن الأحد عشر مع سقراط الآن، يرفعون عنه الأغلال، ويأمرون بأن يكون اليوم قضاؤه المحتوم» كما قال. ولم يلبث أن عاد يجيز لنا الدخول؛ وإذ فعلنا ألفينا سقراط قد خلص لتوه من الأصفاد، وإكزانثيب،٢ التي تعرفها جالسةً إلى جانبه تحمل وليده بين ذراعيها، فلم تكد تبصرنا حتى صاحت قائلةً ما يُنتظَر أن تقوله النساء: «أواه يا سقراط! لتلك آخر مرة يُتاح لك فيها أن تتحدث إلى أصدقائك أو يتحدثون إليك.» فنظر سقراط إلى أقريطون، وقال: «مر أحدًا يا أقريطون أن يذهب بها إلى الدار.» فساقها بعض حاشيته صارخة لادمة، وما كادت تغيب عن النظر حتى انثنى سقراط، وكان جالسًا على سريره، وأخذ يربت على ساقه قائلًا: «ما أعجب هذا الشيء الذي يسمُّونه اللذة، وما أغرب صلته بالألم، الذي قد يُظَنُّ أنه واللذة نقيضان لأنهما لا يجتمعان معًا في إنسان، مع أنه لا بد لمن يلتمس أحدهما أن يحمل معه الآخر. إنهما اثنان، ولكنهما ينبتان معًا من أصل واحد، أو يتفرعان عن أرومة واحدة، ولست أجد سبيلًا إلى الشك في أنه لو رآهما إيسوب Aesop لأنشأ عنهما قصة، يصور فيها الله وهو يحاول أن يوفق بينهما في الخصومة القائمة، فإن لم يوفق شد رأسيهما إلى بعض في وثاق واحد؛٣ وذلك علة أن يجيء الواحد في أعقاب أخيه، كما شاهدت في نفسي؛ إذ أحسست لذة في ساقي جاءت في أثر الألم الذي أحدثه القيد فيها.»٤
وهنا قال سيبيس: كم يسرُّني حقًّا يا سقراط أن تذكر إيسوب؛ فقد ذكَّرَني ذلك بمسألةٍ طرحها بعض الناس واستجابني عنها أفينوس الشاعر أمس الأول، ولا ريب في أنه سيعود ثانيةً إلى السؤال، فحدِّثني بماذا أجيبه، إن كنت تحب أن يظفر بالجواب. إنه أراد أن يعرف لماذا، وأنت رهين السجن، ولم تكتب من قبلُ بيتًا واحدًا من الشعر، تنظم قصص إيسوب وتُنشئ تلك الأنشودة إجلالًا لأبولو.فأجاب أن حَدِّثه يا سيبيس بأني لم أفكر في مُنافَسَتِه ومنافسة أشعاره، وحق ما أقول، لأنني كنت أعلم أن لا قِبَلَ لي بذلك، إنما أردت أن أرى هل أستطيع أن أمحو وهمًا أحسسته عن بعض الرؤى، فلكم أشارت إليَّ هواتف الأحلام في أيام الحياة «بأنني سأنشئ الموسيقى»، وقد كان يطوف بي هذا الحلم في صور متباينة، ولكنه لازم عبارة بعينها ينطق بها أو بما يقرب منها دائمًا: أَنشِئ الموسيقى وتعهدها بالنماء. هكذا كانت تهتف الرؤيا. وقد خُيِّلَ إليَّ منذ ذلك الحين أنها لم تُرِد بذلك إلا أن تحفزني وتبعثني على دراسة الفلسفة التي كانت دومًا قصد الرميِّ من حياتي، والتي هي أسمى جوانب الموسيقى وأرفعها شأنًا، فكما ترى النظارة في حلبة السباق يهيبون بالمتسابق المتحمس أن يجري مع أنه يجري فعلًا، كذلك كانت رؤياي تأمرني أن أؤدي ما كنت بالفعل قائمًا بأدائه، ولكني لم أكن على يقين من هذا، وربما قصدت الرؤيا بالموسيقى معنى الكلمة المعروف، فرأيت أن أكون آمن لو أرضيت هذا الشك وأطعت الرؤيا فيما تأمر به؛ فأنشأت قبل رحيلي قليلًا من الشعر؛ فهذا قضاء الموت يرقبني، وقد أمهلني العيد قليلًا، فكتبت بادئ ذي بدء نشيدًا في تمجيد إله هذا العيد، ثم لما رأيت أن الشاعر الذي يُراد له أن يكون شاعرًا مبدعًا حقًّا، لا ينبغي أن يحشد ألفاظًا وكفى، بل لا بد له أن يُنشئ قصصًا، ولما لم تكن لديَّ قوة الإنشاء، أخذت طائفة من قصص إيسوب ونظمتها شعرًا، فقد كانت مُيَسَّرة سهلة التناول، وإني بها لعليم. أنبئ أفينوس بهذا ولا تجعله يبتئس، وقل له إني أودُّ أن يَتَّبِعني، وألا يتلكأ إن كان رجلًا حكيمًا؛ فأغلب الظن أني مرتحل عنكم اليوم؛ إذ قال الأثينيون أن ليس لي من ذلك بد.قال سمياس: يا له من نبأ يُحمَل لذلك الرجل إني أقرر لكم وقد كنت رفيقًا له ملازمًا، أنه — كما عهدته — لن يأخذ بنصحك إلا مجبرًا.قال سقراط: ولماذا؟ أليس أفينوس فيلسوفًا؟قال سمياس: أحسبه كذلك.إذن فسيكون راغبًا في الموت، شأن كل رجل عنده روح الفلسفة، ولو أنه لن ينتزع روحه بيده، فقد أجمع الرأي على أن ليس ذلك صوابًا.وهنا بَدَّلَ في وضعه؛ فأنزل ساقيه من السرير إلى الأرض، ولبث جالسًا حتى ختم الحوار.تساءل سيبيس: فيمَ قولك إن الإنسان لا ينبغي أن يستل حياته، وأنه يجب على الفيلسوف أن يعدَّ نفسه ليلحق بالموتى؟٥فأجاب سقراط: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس،٦ فهل سمعتماه قطُّ يتحدث عن هذا؟– إني يا سقراط لم أفهم قوله أبدًا.– ليست كلماتي كذلك إلا صدى، ولكني شديد الرغبة في أن أروي ما سمعته؛ فالحق أني ما دُمت مرتحلًا إلى غير هذا المكان فيجب ألا يُشغَلَ الفكرُ ويدور الحديث إلا حول هذا الرحيل الذي أوشك أن أقوم به، وماذا عساي أن أفعل خيرًا من هذا منذ الآن إلى أن تغرب الشمس؟– إذن، فحدِّثني يا سقراط، لماذا استقر الرأي على ألا يكون الانتحار حقًّا مشروعًا؟ لقد سمعت فيلولاوس يقينًا يؤكد ذلك عندما كان يجلس بيننا في طيبة، وثَمَّ أُناس آخرون يقولون مثل هذا القول، ولو أن أحدًا منهم لم يستطع قطُّ أن يُفهمني ما يقول.فأجاب سقراط: ولكنك يجب أن تحاول الفهم ما استطعت، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تفهم فيه، أحسبك تعجب لماذا تشذ هذه الحالة وحدها، ومعظم الشرور قد تجيء بالخير عَرَضًا (لأنه أليس من الجائز أن يكون الموت كذلك أفضل من الحياة في بعض الظروف؟) وإذا كان خيرًا للإنسان أن يموت؛ فما الذي يمنع أن يُقدِّمَ لنفسه الخير بنفسه؟ ألِزامٌ عليه أن ينتظر من غيره يد الإحسان؟فقال سيبس ضاحكًا في لغته الدَّورية القومية: أي وحق جوبتر!فأجاب سقراط: إني أُسَلِّم بأن في هذا تناقضًا ظاهرًا، ولكن مع ذلك قد لا يكون هذا التناقض حقيقيًّا، هناك مذهب جرت به الألسنة في الخفاء بأن الإنسان سجين، وليس له الحق في أن يفتح باب سجنه ليفرَّ هاربًا. إن ذلك إشكال عظيم لست أفهمه فهمًا دقيقًا، ولكني أعتقد مع ذلك أن الآلهة هم أولياؤنا، وأننا مِلكٌ لهم، أفلست ترى ذلك؟قال سيبيس: بلى، إني أوافق على ذلك.– فلو أن ثورًا مثلًا مما تملك أنت أو حمارًا، شاءت له إرادته أن يحيد بنفسه عن الطريق، على حين أنك لم تُشِرْ إليه برغبتك في وجوب حيدته، أفلا تسخط عليه، ثم ألا تعاقبه إن استطعت؟فأجاب سيبيس: يقينًا.– وإذن فقد يكون في القول بأن الإنسان يجب أن ينتظر، وألا يُهلك حياته بنفسه، حتى يقضي الله فيه أمرًا، كما فعل بي الآن، سندٌ من العقل.قال سيبيس: نعم يا سقراط، إن في ذلك ولا ريب سندًا من العقل، ولكن كيف بعد هذا تستطيع أن توائم بين هذه العقيدة الصحيحة في ظاهرها، وهي أن الله مولانا ونحن له عبيد، وبين ما كنا نضيفه إلى الفيلسوف من رغبة في الموت؟ أمَّا أن يرغب من هم أبلغ الناس حكمة في ترك هذا العمل الذي تحكمهم فيه الآلهة وهم خير الحاكمين، فلا يُسلِّم به العقل؛ لأنه يستحيل على صاحب الحكمة أن يظنَّ بنفسه المقدرة، لو أُطلِقَت له حرية العمل، على أن يُعنَى بنفسه أكثر مما تُعنَى به الآلهة، ربما توهم ذلك المأفون، وقد يحتج بأن خيرًا له أن يفرَّ من سيده دون أن يضع في اعتباره بأن واجبه هو أن يثبُت حتى النهاية، لا أن يفر من الخير فرارًا لا حكمةَ فيه. أما الرجل الحكيم فلا إخاله إلا راغبًا في أن يكون أبدًا مع من هو خير منه. انظر يا سقراط، فهذا يناقض ما قد قيل توًّا؛ إذ يترتب على هذا الأساس أن يأسف ذو الحكمة لفراق الحياة، وأن يغتبط له الجهول.فصادفت حماسة سيبيس فيما يظهر غبطة من سقراط؛ فالتفت إلينا وقال: هاكم رجلًا لا يبرح متسائلًا، ولا تكفي لإقناعه الفترة القصيرة، وليست كل حجة ترضيه.فأضاف سمياس: ولكن اعتراضه الآن يبدو لي على شيء من القوة؛ فأي غناء عسى أن يكون في ذي الحكمة الحق، إذا هو ابتغى أن يلوذ بالفرار، وأن يستخفَّ بترك سيده الذي هو أفضل منه؟ ولست إخال سيبيس إلا مُشيرًا إليك؛ فهو يظن أنك لا تتردد في تركنا، بل لا تتردد في ترك الآلهة الذين هم كما اعترفت أولو أمرنا الصالحون.فأجاب سقراط: نعم ذاك قول يستقيم مع العقل، ولكن أهو في ظنك دعوى ينبغي أن أُجيب عنها كما لو كنت أمام القضاء؟قال سمياس: ذلك ما كُنَّا نبتغي.– إذن فلأحاول أن ألقي في نفوسكم أثرًا خيرًا مما تركت حين كنت أدافع عن نفسي أمام القضاة؛ فلست أتردد يا سيبيس وسمياس في الاعتراف بوجوب الأسى من الموت، إذا لم أكن راسخ العقيدة بأني ذاهب إلى طائفة أخرى من الآلهة ذوي الخير والحكمة (وإني لأوقن بهذا يقيني بأي شيء آخر من هذا القبيل) وإلى الراحلين من الرجال (وإن كنت لا أقطع بهذا قطعي بالأولى)، وهم يَفْضُلون هؤلاء الذين أخلِّفُهم ورائي؛ فلست لهذا أبتئس، كما كان يُنتظَر أن أفعل؛ لأني آمل خيرًا، بأن ثمة شيئًا لا يزال مُدَّخَرًا للموت، وهو كما قد قيل منذ القدم أدنى جِدًّا إلى الخير منه إلى الشر.قال سمياس: ولكن هل يريد أن تستصحب آراءك معك يا سقراط فلا تنقلها إلينا! إنَّا قد نرجو أيضًا أن نساهم في ذلك النفع، وأنت إذا وقفت بعد ذلك لإقناعنا، كان ذلك منك ردًّا على ما اتُّهِمْت به.فأجاب سقراط: سأبذل وسعي، ولكن دعوني أستمع أوَّلًا لما يريده أقريطون، إنه كان قد همَّ أن يقول لي شيئًا.فأجاب أقريطون: أردت أن أقول يا سقراط إن الخادم الذي أمر بإعطائك السم قد أنبأني، لأبلغك بأنه يُحسَن بك ألا تكثر الكلام لأنه يزيد من الحرارة، وهذه تؤثر في فعل السم، لقد اضطرَّ أحيانًا أولئك الذين أثاروا نفوسهم أن يجرعوا السم مرتين أو ثلاثًا.قال سقراط: إذن فليؤدِّ واجبه، وليتأهب لإعطاء السم مرتين أو ثلاثًا، إذا لزم الأمر، وحسبنا هذا.فأجاب أقريطون: لقد كدت أوقن بأنك ستقول ذلك، ولكني لم أجد محيصًا عن إرضائه.قال سقراط: لا تأبه له.وها أنا ذا الآن أجيبكم — أنتم يا قضاتي — فأبين لكم أن من عاش فيلسوفًا حقًّا، معه الحجة في أن ينعم بالًا إذا ما اقترب من الموت، وأنه قد يرجو أن يُصيب في العالم الآخر بعد الموت أعظم الخير. سأشرح لكما، أي سيبيس وسمياس، كيف يمكن أن يكون هذا، فيغلب فيما أرى أن يُسيء الناس الظن بطالب الفلسفة الصحيح؛ لأنهم لا يدركون أنه أبدًا دائب السعي وراء الموت والموتى، وإن صحَّ أنه ما برح راغبًا في الموت طوال حياته، ففيمَ الجزع إذا ما تهيأت له غايته التي كان لا يفتأ ساعيًا إليها راغبًا فيها.فضحك سمياس وقال: إني وإن كنت لا أسوق القول متندِّرًا هازلًا، لأقسم بأنه لا يسعني إلا أن أضحك إذا ما فكرت فيما سيقوله هذا العالم اللعين، حين يخبَّر بهذا — سيقولون بأن هذا بالغ الحق — ومَن في دُورنا من أهل، سيؤيدونهم، في قولهم بأن الحياة التي يتمناها الفلاسفة هي لا شيء غير الموت، وإنهم قد تبينوهم فإذا هم حقيقون بالموت الذي يتمنون.– وهم على حق يا سمياس في قولهم هذا، إذا استثنيت منه هذه العبارة: «إنهم تبينوهم»؛ لأنهم لم يتبينوا طبيعة هذا الموت الذي يتمناه الفيلسوف الحق، ولا كيف هو حقيق بالموت أو راغب فيه، فلندعهم وليتحدث بعضها إلى بعض قليلًا: أنحن معتقدون في وجود ما يُسَمَّى بالموت؟فأجاب سمياس: كن من ذلك على يقين.– وهل يكون الموت إلا انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت الروح بذاتها مفصولة عن الجسد، وقام الجسد مفصولًا عن الروح — أليس ذلك هو الموت؟فأجاب: هو كذلك، وليس شيئًا غير هذا.– وما قولك يا صديقي في مسألة أخرى، أحب أن تدليَ إليَّ برأيك فيها، وقد تلقي إجابتك عنها ضوءًا على موضوع بحثنا، هل تُرى جديرًا بالفيلسوف أن يُعنَى بلذائذ الأكل والشرب — إن صح أن تُدعى هذه لذائذ؟فأجاب: سمياس: لا، ولا شك.– وماذا تقول في لذة الحب، أينبغي له أن يُعنَى بها؟– لا ينبغي بحال من الأحوال.وهل يجوز له أن يُطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد، كحيازة اللباس الفاخر والنعال مثلًا، أو غيرهما من زينات البدن، ألا يجدر به بدلًا من أن يُعنَى بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟– يجب أن أقرر بأن الفيلسوف الحق ينبغي أن يزدريها.– ألست ترى أن ينصرف بكليته إلى الروح لا إلى البدن؟ إنه يودُّ أن يتخلص من البدن، وأن يعود إلى الروح ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؟– ذلك حق.– وترى الفلاسفة يلتمسون في مثل هذا الأمر كل سبيل لفصل الروح عن الجسد أكثر مما يفعل سائر الناس جميعًا. – ذلك صحيح.– بينا يعتقد سائر الناس يا سمياس أن الحياة تخلو من لذائذ البدن ولا تأخذ منها بقسط، ليست حقيقة بالبقاء، بل يرون أن إنسانًا لا يفكر في مسرات الجسد، يكاد يكون كالأموات.– ذلك جد صحيح.– وبعد؛ فماذا عسانا أن نقول عن السبل الحقيقية التي تقتضيها المعرفة؟ إن كان ثمة ما تدعو الجسم للمساهمة في تحصيلها؛ فهل يكون عائقًا لها أم مُعينًا عليها؟ أعني هل يأتينا السمع والبصر بحقيقة ما؟ أليس هما دليلين خاطئين كما لا يفتأ ينبئنا الشعراء؟ فإن كانا خاطئين ومُبهَمين فماذا عسى أن يُقال عن سائر الحواس؟ ولا أحسبكم معارضين في أنهما أضبط الحواس.فأجاب سمياس: يقينًا.– وإذن فمتى تدرك الروح الحقيقية؟ — لأنها إن أشركت معها الجسم فيما تحاول أن تبحثه، فهي مخدوعة لا محالة.– نعم، هذا صحيح.– أفلا يجب إذن أن ينكشف لها الوجود بوساطة الفكر، إن كان له أن ينكشف.– نعم.– وأحسن ما يكون الفكر حينما ينحصر في حدود نفسه، حتى لا يشغله شيء من هذه، فلا أصوات ولا مناظر ولا ألم ولا لذة مطلقًا، وذلك إنما يكون عندما يُصبح الفكر أقل اتِّصالًا بالجسد، فلا يصله منه حس ولا شعور، بل ينصرف بتطلعه إلى الكون.– هذا جد صحيح.– وفي هذا يزدري الفيلسوف البدن، فتفرُّ منه روحه وتودُّ أن تنعزل بنفسها.– هذا صحيح.– حسنًا، ولكن بقي شيء آخر يا سمياس، أثمة عدل مُطلَق أم ليس له وجود؟– لا ريب في أنه موجود.– وجمال مُطلَق وخيرٌ مُطلَق؟– بالطبع.– ولكن هل حدث لك أن رأيت واحدًا منها بعينيك؟– يقينًا لم أره.– ألم تدركها قطُّ بأية حاسة جثمانية أخرى؟ (ولست أتحدث عن هذه وحدها، بل كذلك عن العظمة المطلقة وعن الصحة وعن القوة وعن ذات كل شيء، أي حقيقة طبيعته) ألم يأتِك علمها قطُّ خلال أعضاء الجسد؟ أليس ذلك يريد عقله على أن يتصور ذات الشيء الذي هو بصدد بحثه أضبَط تصوُّر، إنما يسلك بذلك أخصر السبل التي تؤدي إلى معرفة طبائعها الكثيرة.– يقينًا.– أمَّا من يظفر بمعرفتها أسمى ما تكون نقاء؛ فهو ذلك الذي يسعى إليها واحدة واحدة، فيتناولها بالعقل وحده، دون أن يأذن للبصر أو لغيره من الحواس الأخرى بالتطفل أو التدخل في مشاركة العقل وهو منصرف إلى التفكير، بل ينفذ بأشعة العقل ذاتها، بكل صفائها، إلى ضوء ما فيها من حقائق، بعد أن يكون قد تخلص من عينيه وأذنيه، بل ومن كل جسده، الذي لا يرى فيه إلا عنصر تهويش، يعوق الروح عن إدراك المعرفة ما دام مُتَّصِلًا بها — أليس أرجح الظن أن يظفرَ مثل هذا الرجل بمعرفة الوجود، إن كانت معرفته في مقدور البشر على الإطلاق؟فأجاب سمياس: إن في ذلك يا سقراط لحقًّا رائعًا.– أوَليس لزامًا على الفلاسفة الحق إذا هم اعتبروا ذلك كله أن يغوصوا في أفكارهم، فإذا ما التقوا تحدث بعضهم إلى بعض عن تفكيرهم بمثل هذه العبارة، إنَّا قد اهتدينا إلى سبيل من التأمل قمينة أن تنتهي بنا وبالجدل إلى هذه النتيجة، وهي أنه ما دمنا في أجسادنا وما دامت الروح ممتزجة بهذه الكتلة من الشر، فلن تبلغ شهوتنا حد الرضا، وإنها لشهوة الحقيقة؛ ذلك لأن الجسد مصدر لعناء متصل، علته هذه الحاجة إلى الطعام، وهو كذلك عرضة للمرض الذي ينتابنا فيحول بيننا وبين البحث عن الحقيقة، وهو كما يقول الناس، أبدًا لا يدع لنا السبيل إلى تحصيل فكرة واحدة، لما يملؤنا به من صنوف الحب والشهوات والمخاوف والأوهام والأهواء، وكل ضرب من ضروب الجهالة، وإلا فمن أين تأتي الحروب والمعارك والأحزاب إن لم تكن آتية من الجسد وشهوات الجسد؛ فالحروب يثيرها حب المال، والمال إنما يُجمَع من أجل الجسد وخدمته، ومن جراء هذا كله يضيع الوقت الذي كان ينبغي أن يُنفَقَ في الفلسفة، هذا ولو تهيأ للفلسفة الميل والفراغ لنفث الجسد في مجرى التأمل الشغب والاضطراب والخوف ليحول بيننا وبين رؤية الحقيقة. وقد دلت التجارب جميعًا على أنه لو كان لنا أن نظفر عن شيء ما بمعرفة خالصة لوجب أن نتخلص من الجسد، ولزم على الروح أن تشهد بجوهرها جواهر الأشياء جميعًا. ولست أحسبنا إلا ظافرين بما نبتغي، وهو ما نزعم أننا محبوه، وأعني به الحكمة، لا أثناء حياتنا بل بعد الموت كما تبين من الحديث، فإن كانت الروح عاجزة عن تحصيل المعرفة وهي في رفقة الجسد؛ فالنتيجة كما يظهر أحد أمرين: إمَّا أن تكون المعرفة ليست على الإطلاق حقيقة بالتحصيل، وإمَّا أن تحصيلها يكون بعد الموت إن كانت جديرة به، فعندئذٍ — وعندئذٍ فقط — تنعزل الروح في نفسها مستقلة عن الجسد. وأحسب أننا في هذه الحياة الحاضرة نسلك أخصر السبل إلى المعرفة، لو كُنَّا نبذل نحو الجسد أقل ما يمكن بذله من عناية وشغف، فلا نصطبغ بصبغة الجسد، بل نظل أصفياء إلى الساعة التي يشاء فيها الله نفسه أن يحل وثاقنا، فإذا ما تطهرنا من أدران الجسد، وكُنَّا أنقياء، وتجاذبنا مع سائر الأرواح النقية أطراف الحديث، تعرفنا أنفسنا في الأشعة الصافية التي تُضيء في كل مكان، فلا ريب أن ذلك هو ضوء الحقيقة، فلن يُؤْذَنَ لشيء دنس أن يدنو مما هو طاهر، إنه لن يسع محبي الفلسفة الحقيقية يا سمياس إلا أن يفكروا في هذه الألفاظ وأشباهها، وأن يقولها بعض لبعض، أفأنت موافقي على ذلك؟– يقينًا يا سقراط.– ولكن إن صحَّ هذا يا صديقي؛ فما أعظم الأمل إذن في أنني إذا ما بلغت غاية رحلتي، فلن يقلقني هذا الهم الشاغل الذي صادفني وإياكم في حياتنا الأولى، أمَا وقد تحددت ساعة رحيلي، فذلك ما أرحل به من رجاء، ولست في ذلك فريدًا بل هكذا كل رجل يعتقد أن عقله تطهر.فأجاب سمياس: يقينًا.– وماذا يكون التطهير غير انفصال الروح عن الجسد، كما سبق لي القول، واعتياد الروح أن تجمع نفسها وتحصرها في نفسها بعيدًا عن مطارح الجسد جميعًا، وانعزالها في مكانها الخاص، في هذه الحياة كما في الحياة الأخرى، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وفكاكها من أغلال البدن؟فقال: هذا جد صحيح.– وماذا يكون ذلك الذي يُدعَى الموت سوى هذا الانفصال نفسه، وتحلل الروح من الجسد؟فقال: لا شك في ذلك.– والفلاسفة الحق وحدهم دون غيرهم ينشدون خلاص الروح، ويتمنون أن يكون، أليس انفصال الروح وفكاكها من الجسد هو موضوع بحثهم الخاص؟– هذا صحيح.– إنه لتناقض مضحك كما قلت في بادئ الأمر، أن ترى أُناسًا يحاولون بالدراسة أن تكون حياتهم قريبة من حالة الموت ما استطاعوا، فإذا ما أدركهم الموت أشفقوا منه.– يقينًا. – إذن يا سمياس؛ فما دام الفلاسفة الحق لا ينفكون يعدون أنفسهم للموت؛ فالموت عندهم دون الناس جميعًا أهون الخطوب، انظر إلى الأمر على هذا النحو، كم يبلغ منهم التناقض أن يناصبوا الجسد عداوة متصلة، وأن يتمنوا لو خلصت لهم الروح وحدها، فإذا ما أُجيبوا إلى ذلك كان منهم السخط والجزع في مكان اغتباطهم بالرحيل إلى ذلك المكان، حيث يؤملون إذ ما بلغوه أن يظفروا بما قد أحبوا في الحياة (ألا وهي الحكمة)، وأن يتخلصوا في الوقت نفسه من مرافقة عدوهم، وكأين من رجل تمنى أن يذهب إلى العالم الأدنى، آملًا أن يصادف هناك معشوقة دنيوية، أو زوجًا، أو ولدًا، ليتحدث إليهم، أبعد ذلك يشفق من الموت من هو للحكمة محب صحيح، ويعتقد كذلك أن لن تُتاح له بالحق إلا في العالم الأدنى، أليس يُقابل الرحيل بالبِشر؟ إنه يا صديقي لا بد فاعل إن كان فيلسوفًا حقًّا؛ لأنه سيوقن يقينًا ثابتًا أنه لا يستطيع أن يلتمس الحكمة في نقائها إلا هناك فقط، دون أي مكان آخر، وإن صحَّ هذا فأبلغ به من أحمق — كما سبق لي القول — إن كان يفرَق من الموت.فأجاب سمياس: لا ريب في أنه فاعل.– وأنت إذا رأيت رجلًا يجزع من اقتراب الموت، كان جزعه دليلًا قاطعًا على أنه ليس مُحِبًّا للحكمة، ولكنه محب للجسد، وربما كان في الوقت نفسه مُحِبًّا للمال، أو القوة، أو كليهما.فأجاب: هذا جد صحيح.– إن ثمة يا سمياس لفضيلة تُدعى الشجاعة، أليست هذه صفة خاصة بالفلسفة؟– يقينًا.– وكذلك الاعتدال، أليس الهدوء، وضبط النفس، وازدراء العواطف، التي يسميها الدهماء أنفسهم بالاعتدال، صفة مقصورة على أولئك الذين يحتقرون الجسد ويعيشون في الفلسفة؟– ليس في ذلك خلاف.– وأنت إذا نظرت إلى الاعتدال والشجاعة عند سائر الناس، ألفيت بينهما، في حقيقة الأمر، تناقُضًا.– وكيف ذلك يا سقراط؟فقال: إنك عليم بأن الناس بصفة عامة ينظرون إلى الموت شرًّا وبيلًا.فقال: هذا صحيح.– أوَليس البواسل من الرجال يحملون الموت؛ لأنهم يخشون ما هو أعظم من الموت شرًّا؟– هذا صحيح.– إذن فكل الناس ما خلا الفلاسفة شجعان، إلا أنها شجاعة من الخوف والوجل، وإنه لعجيب ولا شك أن يكون الرجل شجاعًا لأنه مذعور جبان!– صحيح جِدًّا.– أوَليس هذا بعينه شأن المعتدلين؟ إنهم معتدلون؛ لأنهم مُفرطون — قد يبدو ذلك متناقضًا، ولكنه مع ذلك هو ما يحدث في هذا الاعتدال الأحمق — فهناك من اللذائذ ما يَحْرصون على تحصيلها ويخشَوْن ضياعها؛ فهم لذلك يتعففون عن نوع من الملذات لأن نوعًا آخر قد استولى عليهم، وإذا عُرِّف التفريط بأنه «الخضوع لسلطان اللذة»، فإنهم لا يقهرون لذة، إلا لأن لذة تقهرهم، وذلك ما أعنيه بقولي إنهم معتدلون؛ لأنهم مفرطون.– يظهر أن ذلك حق.– ومع ذلك فليس من الفضيلة استبدال خوف أو لذة أو ألم بخوف آخر أو لذة أو ألم، وهي متساوية كلها، أكبرها بأصغرها، تساوي النقد بالنقد، أي عزيزي سمياس، أليس في النقد قطعة واحدة صحيحة هي التي ينبغي أن تُستبدَل بالأشياء جميعًا؟ — وتلك هي الحكمة — ولن يُشرى شيء بحق أو يُباع، شجاعةً كان أم عفةً أم عدلًا، إلا إن كان للحكمة ملازمًا، وإلا إن كانت هذه الحكمة له بديلًا، ثم أليست الفضيلة الحق بأسرها رفيقة الحكمة بغض النظر عما قد يكتنفها أو لا يكتنفها من المخاوف واللذائذ أو ما إليهما من الخيرات أو الشرور؟ إلا أن الفضيلة التي يكون قوامها هذه الخيرات التي تأخذ في استبدال بعضها ببعض بعد أن تكون قد انفصلت عن الحكمة، ليست من الفضيلة إلا ظلها، ولا يكون فيها من الحرية أو العافية أو الحقيقة شيء، أمَّا التبادل الحق فيقتضي أن تُمحى هذه الأشياء محوًا، وما طهورها إلا العدل والشجاعة والحكمة نفسها. وإني لأتصور أن أولئك الذين أنشئوا الأسرار، لم يكونوا مُجرد عابثين، بل قصدوا إلى الجد حينما عمدوا إلى شكل فرمزوا به إلى أن من يمضي إلى العالم الأدنى دنسًا جاهلًا سيعيش في حمأة من الوحل، أمَّا ذلك الذي يصل إلى العالم الآخر بعد التعليم والتطهير، فسيُقيم مع الآلهة، وكما يقولون في الأسرار: «كثيرون هم من يحملون عصا السحر، أما العالمون بالسحر، فقليل.»٧ وهم يريدون بهذه العبارة فيما أرى، الفلاسفة الحق، الذين أنْفَقْتُ حياتي كلها أبحث بينهم لعلي أجد مكانًا، ولست أشك في أنني عندما أبلغ العالم الآخر بعد حين قصير، سيأتيني إن شاء الله علم يقين، عما إذا كنت قد التمست في البحث سبيلًا قويمةً أم لا، وإن كنت قد أصبت التوفيق أم لم أُصِبْه. أيْ سمياس وسيبيس، لقد أجبت بهذا على أولئك الذين يؤاخذونني بعدم الحزن أو الجزع لفراقكم وفراق سادتي في هذا العالم؛ فقد أصبت بعدم الخوف لأنني أعتقد أنني سأجد في العالم الأدنى أصدقاء وسادة آخرين، يَعْدِلونكم خيرًا، ولكن الناس جميعًا لا يسيغون هذا، وإنه ليسرني أن تصادف كلماتي عندكم قبولًا أكثر مما صادفتْ عند قضاة الأثينيين.أجاب سيبيس: إني موافقك يا سقراط على معظم ما تقول، ولكن الناس أميل إلى عدم التصديق فيما يتصل بالروح، إنهم يخشون ألا يكون لها مستقرٌّ إذا ما فُصلت عن الجسد، وأنها قد تذوي وتزول في يوم الموت ذاته — فلا تكاد تتحلل من الجسد حتى تنطلق كالدخان أو الهواء، ثم تتلاشى في العدم، فلو قد تستطيع أن تتماسك أجزاؤها، وأن تظل كما هي بعد أن تكون قد خلصت من شرور الجسد، لرجونا يا سقراط، محقين فيما نرجو، أن ما تقوله حق، ولكنَّا بحاجة إلى كثيرٍ من البراهين ووفيرٍ من الحجج لإثبات أنه إذا مات الإنسان فروحه تظل مع ذلك موجودة، وتكون على شيءٍ من قوة الذكاء.فقال سقراط: هذا حق يا سيبيس؛ فهل لي أن أقترح حديثًا قصيرًا عما يُحتمل لهذه الأشياء من وجوه؟قال سيبيس: لست أشك في أني شديد الرغبة في معرفة رأيك عنها.فقال سقراط: لا أحسب أن لأحد ممن سمعني الآن، حتى ولو كان أحد أعدائي القدماء من الشعراء الهازلين، أن يتهمني بالخبط في الحديث عن موضوعات لا شأن لي فيها؛ فأذنوا إن شئتم بأن نمضي في البحث.إن مشكلة أرواح الناس بعد الموت، أهي موجودة في العالم الأدنى أم غير موجودة؟ يمكن مناقشتها على هذا النحو: يؤكد المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه، أنها تذهب من هذا العالم إلى العالم الآخر، ثم تعود إلى هنا حيث تولد من الميت، فإن صح هذا وكان الحي يخرج من الميت، للزم أن تكون أرواحنا في العالم الآخر؛ لأنها إن لم تكن، فكيف يمكن لها أن تولَد ثانيًا؟ إن هذا القول حاسم، ولو كان ثمة شاهد حقيقي أن تُولَد ثانيًا؟ إن هذا القول حاسم، ولو كان ثمة شاهد حقيقي على أن الحي لا يولَد إلا من الميت. أمَّا إذا لم ينهض على هذا دليل، فلا بد من سوق أدلة أخرى.فأجاب سيبيس: هذا جد صحيح.– إذن فدعنا نبحث هذه المسألة، لا بالنسبة إلى الإنسان وحده، بل بالنسبة إلى الحيوان عامة، وإلى النبات، وكل شيء يكون فيه التوالد؛ وبذلك تسهل إقامة الدليل. أليست كل الأشياء التي لها أضداد تتولد من أضدادها؟ أعني الأشياء التي كالخيِّر والشرير، والعادل والجائر. وهناك من الأضداد الأخرى التي تتولد من أضدادها عددٌ ليس إلى حصره من سبيل، وإنما أريد أن أبرهن على أن صحة هذا القول شاملة لما في الكون من أضداد؛ أعني مثلًا أن أي شيء يكبر، لا بد أنه قد كان أصغر قبل أن أصبح أكبر.– صحيح.– وأن أي شيء يصغر، لا بد أنه قد كان يومًا أكبر ثم صار أصغر.– نعم.– وأن الأضعف يتولد من الأقوى والأسرع من الأبطأ؟– جد صحيح.– والأسوأ من الأحسن، والأعدل من الأظلم؟– بالطبع.– وهل هذا صحيح عن الأضداد كلها؟ وهل نحن مقتنعون بأن جميع الأضداد ناشئة من أضداد؟– نعم.– ثم أليس ثمة كذلك في هذا التضاد الشامل بين الأشياء جميعًا، فعلان متوسطان، لا ينفكان يسيران من ضد إلى الضد الآخر جيئةً وذهابًا، فحيث يوجد أكبر وأصغر، يوجد كذلك فعل متوسط بينهما، يعمل للزيادة والنقصان، ويُقال للشيء الذي ينمو إنه يزيد، وللشيء الذي يتناقص إنه يذوي.فقال: نعم.– وهناك غير ذلك عمليات كثيرة أخرى كالتجزئة والتكوين والتبريد والتسخين، التي تتضمن تساويًا بين ما يخرج من شيء وما يُضاف إلى شيء آخر. أليس ذلك صحيحًا بالنسبة إلى الأضداد كلها — حتى ولو لم يعبر عنها باللفظ دائمًا — فهي تتولد الواحد من الآخر، وثمة انتقال، أو فعل، بين بعضها وبعض.فأجاب: هذا جد صحيح.– جميل، أفليس هناك ضد للحياة، كما أن النوم ضد اليقظة؟– فقال: بل هذا حق.– وما هو ذاك؟فأجاب: هو الموت.– فإن كان هذان ضدين؛ فهما متولدان إذن أحدهما من الآخر، وبينهما كذلك فعلان متوسطان؟– بالطبع.فقال سقراط: سأعمد الآن إلى أحد زوجَي الأضداد اللذين ذكرتهما لك فأحلله، وأحلل كذلك فعليه المتوسطين وعليك أن تحلل لي الآخر. فحالة النوم تُضاد حالة اليقظة، ومن النوم تتولد اليقظة، ومن اليقظة يتولد النوم، وعملية التولد هي في إحدى الحالين إدراك النعاس، وهي الاستيقاظ في الأخرى. أفأنت متفق معي على هذا؟– إني جد متفق!إذن فهب أنك أخذت بهذه الطريقة نفسها تحلل لي الحياة، والموت أليس يضاد الحياة؟– بلى.– وهما متولدان أحدهما من الآخر؟– نعم.– ما الذي تولد من الحياة؟– إنه الموت.– وما الذي تولد من الموت؟– لا يسعني أن أقول في الجواب إلا أنها الحياة.– إذن يا سيبس؛ فالحي من الأشياء والأشخاص متولد من الميت؟فأجاب: هذا جلي.– ونتيجة ذلك إذن هي أن أرواحنا كائنةً في العالم الأدنى؟– هذا حق.– وأحد الفعلين أو التولدين ملحوظ بالعين، فلا شك أن عملية الموت ظاهرة؟فقال: لا ريب.– أفلا يجوز أن يستنتج التولد الآخر، على أنه متمم للطبيعة التي لا يُفترَض بأنها تسير على ساق واحدة فحسب؟ فإن كان الأمر كذلك، فلا بد أيضًا أن يُضاف إلى الطبيعة عملية تولد من الموت مقابل عملية التولد من الحياة.فأجاب: يقينًا.– وماذا تكون تلك العملية؟– هي عودة الحياة.– وعودة الحياة، إن صح وجودها، هي ولادة الميت في عالم الأحياء؟– هذا جد صحيح.– إذن فهناك سبيل جديدة تؤدي بنا إلى النتيجة بأن الحي يخرج من الميت كما يخرج الميت من الحي سواء بسواء. فإن صح هذا فلا بد أن تكون أرواح الموتى مستقرة في مكان ما، ستعود منه مرة أخرى، وقد أقمنا على ذلك فيما أظن دليلًا مقنعًا.قال: نعم يا سقراط، فيظهر أن هذا كله يتبع بالضرورة ما سلَّمنا به من قبل.فقال: ولم يكن ذلك الذي سلَّمناه به يا سيبيس معوجًّا، وتستطيع أن تتبين ذلك، فيما أظن على هذا النحو: لو كان التولد يسير في خط مستقيم فقط، فلم تكن في الطبيعة دورة أو تعويض، فلا تبادل بين الأشياء أخذًا وردًّا، لاتخذت الأشياء — كما تعلم — في نهاية الأمر صورة بعينها، ولتحولت إلى حالة بعينها، ولما تولد منها بعد ذلك شيء.فقال: ماذا تعني بهذا؟فأجاب: أعني شيئًا بسيطًا جِدًّا، وسأوضحه بحالة النوم؛ فأنت تعلم أنه لو لم يكن ثمة توازن بين النوم واليقظة لأضحت قصة أنديميون٨ النائم بلا معنى. فقد كان النعاس سيدرك كذلك كل شيء آخر، فلا يعود أنديميون موضعًا لتفكير أحد. أو لو كانت المادة ينتابها تكوين بغير انقسام؛ إذن لعاد هيولَى أنَكسجوراس مرة ثانية. وهذا، أي عزيزي سيبيس، لو كان كل شيء تناولتْه الحياة صائرًا إلى الموت، ثم لا يعود إلى الحياة ثانيًا لانتهى الأمر بكلِّ شيء إلى الموت، فلا يبقى ثمة شيء حي، وإلا فكيف يمكن ذلك أن يكون؟ إذ لو كانت الأحياء صادرة من غير شيء غير الأموات، وكان الأحياء يدركهم الموت، أليس حتمًا أن يبتلع الموت آخر الأمر كل شيء؟فقال سيبيس: ليس عن ذلك منصرف يا سقراط، وإني لأحسب أن ما تقوله أنت حق خالص.فقال: نعم يا سيبيس، إني كذلك أحسبه حقًّا خالصًا، ولسنا بذلك سابحين في خيال فارغ، ولكني ثابت الإيمان بحقيقة العودة إلى الحياة، وبأن الأحياء يخرجون من الموتى، وبأن أرواح الموتى ما برحت من الوجود، وبأن الأرواح الخيِّرة أوفى من الأرواح الشريرة جزاء.فأضاف سيبيس: كذلك لو صحَّ مذهبك العزيز يا سقراط، بأن المعرفة ليست إلا تذكُّرًا، لاقتضى ذلك بالضرورة زمنًا سالفًا تعلِّمنا فيه ما نحن الآن ذاكروه، وقد كان هذا التذكر يستحيل لو لم تكن أرواحنا قبل حلولها في الصورة البشرية، كائنة في مكان ما؛ وإذن فهذه حُجة أخرى تؤيد خلود الروح.فاعترضه سمياس قائلًا: ولكن حدِّثني يا سيبيس، ما البراهين التي تُساق لمذهب التذكر هذا؟ فلست جازم اليقين بأنها الآن تحضرني.قال سيبيس: منها برهان ساطع تقيمه الأسئلة، فإذا أنت ألقيت على شخص سؤالًا بطريقة صحيحة، أجابك من تلقاء نفسه جوابًا صحيحًا. فكيف استطاع أن يفعل ذلك، ما لم تكن لديه من قبلُ معرفة ومنطق مصيب؟ وأكثر ما يكون ذلك وضوحًا حينما يعرض عليه شكل هندسي، أو أي شيء من هذا القبيل.قال سقراط: إن كنت لا تزال شاكًّا يا سمياس ساءلتُك، أفلا يجوز أن توافقني إذا ما نظرتَ إلى الموضوع على نحو آخر؟ أعني إذا كنتَ لا تزال متردِّدًا في التسليم بأن المعرفة عبارة عن تذكُّر؟فقال سمياس: لست شاكًّا، ولكني أردت أن تعاد إلى ذاكرتي نظرية التذكر هذه، ولقد بدأت أذكرها وأقتنع بها مما قاله سيبيس، غير أنني ما زلت أتمنى لو أدليتم بما لديكم فوق ما أعلم.فأجاب: هذا ما سوف أدلي به، ولعلنا إن لم أكن مخطئًا متفقون على أن ما يتذكره الإنسان لا بد أن يكون قد علمه في زمن سالف.– جد صحيح.– فما طبيعة هذا التذكر؟ إنما أريد بهذا السؤال أن أتساءل: ألا يحق لنا القول بأنه إذا لم يقتصر علمُ إنسان على ما قد رآه أو سمعه أو سلك إلى إدراكه أية سبيل أخرى، بل عرف شيئًا آخر معرفة تباين تلك، أفليس هو بذلك إنما يتذكر شيئًا يختلج في عقله؟ ألسنا على ذلك متفقين؟– ماذا تعني؟– أعني ما قد أوضحه بهذا المثال الآتي: ليست معرفتك القيثارة كمعرفتك الإنسان سواء بسواء.– هذا صحيح.– ولكن ما شعور المحبين إذا ما رأوا قيثارةً أو لباسًا أو أي شيء آخر مما كان المحبوب يستخدمه عادة؟ أليسوا من رؤية القيثارة يكوِّنون في عين العقل صورة للفتى صاحب القيثارة؟ وهذا تذكر، وكل من يرى سمياس قد يتذكر بنفس الطريقة سيبيس، وهناك من هذا الضرب أشياء لا يحدها الحصر.فأجاب سمياس: نعم إنها موجودة حقًّا ولا حصر لعددها.فقال: وهذا الشيء وما إليه هو التذكر، وهو في الأعم الأغلب عملية لكشف ما قد طواه النسيان بفعل الزمن والإهمال.فقال: هذا صحيح.– ثم ألا يجوز كذلك أن تتذكر إنسانًا من رؤية قيثارة أو صورة لجواد؟ أو قد تبعثك صورة سمياس على تذكر سيبيس؟– هذا حق.– أو قد تنساق كذلك إلى تذكر سمياس نفسه؟فقال: هذا حق.– وقد يكون التذكر في هذه الحالات جميعًا منبعثًا من أشباه الشيء أو مما يباينه؟– هذا صحيح.– وهناك سؤال لا بد أن ينشأ، حينما يكون التذكر قد انبعث من شبيه الشيء، وهو: هل يكون شبيه الشيء المتذكَّر ناقصًا في أي ناحية من نواحيه أم لا يكون؟٩فقال: هذا جد صحيح.– وهل نتقدم خطوة أخرى، فنؤكد بأن التساوي موجود فعلًا، لا تساوي الخشب بالخشب أو الحجر بالحجر، بل ما هو أسمى من ذلك وأرفع. أنؤكد بأن التساوي موجود في عالم التجريد؟فأجاب سمياس: نعم، أؤكد ذلك وأقسم على صحته بكل ما وسعت الحياة من يقين.– وهل نحن نعلم هذه اللذات المجردة؟فقال: لا شك في ذلك.– ومن أين جاءنا هذا العلم؟ ألم نَرَ متساويات من الأشياء المادية، كقطع الحجر والخشب، فاستنتجنا منها مثالًا لمساواة تخالفها؟١٠ أفأنت موافق على هذا؟ أو فانظر مرة أخرى إلى الموضوع على هذا النحو: أليست قطع الحجر والخشب بعينها تبدو متساوية حينًا متفاوتةً حينًا آخر؟– لا ريب في هذا.– ولكن هل تتفاوت المتساويات الحقيقية أبدًا؟ أم هل يكون مثال التساوي يومًا عدم مساواة؟– لا شك في أن ذلك شيء لم يُعرَف بعد.– إذن فهذه المتساويات (كما يسمُّونها) ليست تطابق مثال التساوي؟– لا بد من القول يا سقراط بأنها تخالفه تمامًا.– ومع ذلك؛ فأنت من هذه المتساويات؛ فقد تصورت مثال التساوي ووصلت إليه، على الرغم من أنها مخالفة لذلك المثال؟فقال: هذا جد صحيح.– وقد يكون مثال التساوي شبيهًا بها. وقد يكون مُباينًا لها؟– نعم.– ولكن هذا لا يُغيِّر في الأمر شيئًا؛ فما دمت قد تصورت شيئًا من رؤية شيء آخر، سواء أكانا شبيهين أم متباينين؛ فقد حدثت بذلك من غير شك عملية تذكر؟– جد صحيح.– ولكن ماذا عساك أن تقول في قطع متساوية من الخشب والحجر، أو في غيرها من المتساويات المادية؟ وأي أثر هي تاركة في نفسك؟ أهي متساويات بكل ما في التساوي المُطلَق من معنى، أم أنها تقع في القياس دونه بشيء يسير؟فقال: نعم، بل دونه بمسافة بعيدة جِدًّا.– ثم ألا يلزم أن نُسلِّم بأنني — أو أي أحد آخر — حين ينظر إلى شيء فيدرك أنه إنما ينشد أن يكون شيئًا آخر، ولكنه مُقصِّر من دونه، عاجز عن بلوغه، فلا بد أن قد كانت لدى من يلاحظ هذا معرفةٌ سابقةٌ بذلك الشيء الذي كان هذا الأخير أحط منه، كما يقول، وإن كانا متشابهين؟– يقينًا.– ثم أليست هذه حالنا في موضوع المتساويات والتساوي المطلق؟– تمامًا.– إذن، فلا ريب في أننا كُنَّا نعرف التساوي المطلق قبل أن نرى المتساويات المادية لأول مرة، وفكَّرنا في أن كل هذه المتساويات الظاهرة، إنما تنشد ذلك المتساوي المطلق، ولكنها تقصر من دونه؟– هذا صحيح.– ونحن نعلم كذلك أن التساوي المطلق لم يُعرَف إلا بواسطة اللمس، أو البصر، أو غيرهما من الحواس التي لا تمكن معرفته بغيرها،١١ وإني لأؤكد هذا عن كل إدراك كلي من هذا القبيل.– نعم يا سقراط؛ فكل واحد من هذه المدركات لا يختلف عن الآخر في شيء مما يدور حوله الحديث.– وإذن فمن الحواس تنبعث المعرفة، بأن كل الأشياء المُحسَّة تنشد مثال التساوي، ولكنها تقصر من دونه؛ أليس ذلك صحيحًا؟– بلى.– إذن فقبل أن بدأنا في النظر، أو السمع، أو الإدراك بأية صورة أخرى لا بد أن قد كانت لدينا معرفة بالتساوي المطلق، وإلا لما استطعنا أن ننسب إليه المتساويات التي نشتقها من الحواس؟ — فهذه كلها تسعى نحو ذلك التساوي المطلق فتقصر من دونه؟– تلك يا سقراط نتيجة مؤكدة للعبارات التي سلف ذكرها.– ثم ألم نأخذ في النظر والسمع واكتساب حواسنا الأخرى بمجرد أن وُلِدنا؟– يقينًا.– إذن فلا بد أنَّا قد حصلنا معرفة المتساوي المثالي في زمن سابق لهذا؟– نعم.– أي قبل أن نولد فيما أظن؟– صحيح.– وإذا كُنَّا قد حصَّلنا هذه المعرفة قبل أن نولد، وكانت لدينا عند الميلاد؛ إذن فقد كُنَّا قبل الميلاد، وفي ساعة الميلاد نفسها نعرف كذلك، فضلًا عن المتساوي، والأكبر والأصغر، سائر المُثُل جميعًا؛ فنحن لا نَقْصُر الحديث على المتساوي المطلق، ولكنه يتناول الجمال، والخير، والعدل، والقداسة، وكل ما نطبعه بطابع الجوهر في مجرى الحوار، حينما نلقى أسئلة ونُجيب عن أسئلة، أفنستطيع أن نؤكد، أننا قد كسبنا معرفة هذه كلها قبل الميلاد؟– هذا صحيح.– ولكن، إذا نحن بعد كسب المعرفة، لم نَنسَ ما كُنَّا قد كسبنا، فلا بد أنَّا قد وُلِدنا ومعنا المعرفة دائمًا، وسنظل أبدًا على علم بها، ما دامت الحياة؛ لأن العلم هو كسب المعرفة وحفظها، لا نسيانها. أليس النسيان يا سمياس هو فقدان المعرفة لا أكثر ولا أقل؟– جد صحيح يا سقراط.– أمَّا إذا افتقدنا عند الميلاد تلك المعرفة التي حصَّلناها قبل أن نولد، ثم كشفنا فيما بعد، بواسطة الحواس، ما قد كُنَّا نعلم من قبل، أفلا يكون ذلك، وهو ما نسمِّيه تعلُّمًا، عملية لكشف معرفتنا، ثم ألا يجوز لنا بحق أن نُسَمِّي هذا تذكُّرًا؟– جد صحيح.لأنه من الواضح، أننا إذ ندرك شيئًا بواسطة البصر، أو السمع، أو أية حاسة أخرى، لا نصادف صعوبة في أن ينشأ لدينا من هذا الشيء تصورٌ لشيء آخر، يشبهه أو يباينه، كُنَّا قد أُنسِيناه، وكان قد ارتبط بذلك الشيء؛ وعلى ذلك، فكما سبق لي القول، يقع أحد الأمرين: إمَّا أن هذه المعرفة كانت لدينا عند الميلاد وظللنا نعلمها طوال الحياة، وإمَّا أن يكون أولئك الذين يُقال عنهم إنهم يحصِّلون العلم، بعد ميلادهم، لا يفعلون أكثر من أن يتذكروا؛ فما العلم إلا تذكر وكفى.– نعم يا سقراط، هذا جد صحيح.– فأي الأمرين تُؤْثِر يا سمياس، أكانت المعرفة لدينا عند الميلاد، أم أنا قد تذكرنا فيما بعدُ الأشياءَ التي كُنَّا نعلمها قبل ميلادنا؟– لا أستطيع الحكم الآن.– مهما يكن؛ فأنت تستطيع أن تحكم فيما إذا كان ينبغي أو لا ينبغي لمن لديه المعرفة أن يكون قادرًا على تعليل معرفته.– لا شك أن ذلك حتمٌ عليه.– ولكن هل تظن أن كل إنسان قادر على تعليل هذه الموضوعات نفسها التي نتحدث عنه الآن؟– ليتهم يستطيعون يا سقراط! ولكم أخشى ألا يكون ثمة من يستطيع في مثل هذه الساعة من الغد١٢ أن يُقدِّم تعليلًا جديرًا بأن يؤخذ عنه.– إذن فليس من رأيك يا سمياس أن كل الناس يعلمون هذه الأشياء؟– يقينًا إنهم لا يعلمون.– إذن فهم آخذون في تذكر ما قد كانوا يعلمونه من قبل؟– يقينًا.– ولكن متى كسبت أرواحنا هذه المعرفة؟ لم يكن ذلك بعد أن وُلِدْنا بَشَرًا؟– لا، ولا ريب.– وإذن فقبل ذلك؟– نعم.– إذن يا سمياس، لا بد أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن تُصوَّر في هيئة البشر،١٣ ولا بد أن قد كان لديها ذكاء لما كانت بغير أبدان؟– حقًّا يا سقراط، ما لم تفرض أن هذه الآراء قد أوتيناها في ساعة الميلاد؛ لأنه لم يبقَ إلا تلك اللحظة وحدها.١٤– نعم يا صديقي، ولكن متى افتقدناها؟ فهي لا تكون لدينا عندما نولد — وقد سلَّمنا بهذا. هل افتقدناها في اللحظة التي فيها أخذناها، أم في وقت آخر غير هذا؟١٥– لا يا سقراط، لقد أدركت أني إنما كنت أنطق هراءً لا أعيه.– إذن، أفلا يجوز لنا يا سمياس أن نقول ما نردده دائمًا، وهو إذا كان ثمة جمال مطلق، وخير مُطلق، وسائر الذوات التي اكتشفنا الآن أنها سبقتنا في الوجود، وكُنَّا نقيس إليها كل أحاسيسنا ونقارنها بها، زاعمين أن قد كان لها وجود سابق، فإن لم يكن، ذهبت كل قوة في قولنا. فليس من سبيل إلى الشك بأنه إذا كان لهذه المُثُل المطلقة وجود قبل أن نولد، فلا بد أن أرواحنا كانت كذلك موجودة قبل ميلادنا، فإن لم تكن المُثُل موجودة لم تكن الأرواح موجودة كذلك.– نعم يا سقراط، إني مقتنع بأن لوجود الروح قبل الميلاد هذه الضرورة نفسها، وأنت إنما تتحدث من الروح عن كنهها؛ فقد انتهى بنا التدليل إلى نتيجة يسرُّني أنها تتفق مع ما أرتئيه. فلست أرى شيئًا يبلغ في بداهته مبلغ قولنا إن الجمال والخير وسائر المُثُل التي كنت تتحدث عنها الآن توًّا، لها وجود غاية في الحق والتجريد، وإني لمقتنع بالدليل.– حسنًا، ولكن هل اقتنع سيبيس اقتناعك هذا؟ لأنني لا بد أن أقنعه كذلك.– قال سمياس: أظن سيبيس مقتنعًا؟ فإني أحسبه قد آمن بوجود الروح قبل الميلاد، على الرغم من أنه أبعد الكائنات عن التصديق. ولكن دليلًا لم يقم بعد على استمرار وجود الروح بعد الموت، بحيث يقنعني أنا، فلا أستطيع أن أتخلص من شعور الدهماء الذي كان يُشير إليه سيبيس — ذلك الشعور بأنه إذا مات الإنسان فقد تتبعثر الروح، وقد يكون ذلك نهايتها، فلو سلَّمنا بأنها قد تتولد وتنشأ في مكان غير هذا، وقد تكون موجودة قبل حلولها في الجسم البشري؛ فماذا يمنع أن تَبلَى وتَفنَى بعد أن حلتْ فيه ثم خرجتْ منه ثانيًا؟ فقال سيبيس: هذا جد صحيح يا سمياس، أمَّا أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن نولد؛ فهو الشطر الأوَّل من الحديث، ويظهر أن قد قام الدليل عليه، وأمَّا أن الروح ستبقى بعد الموت كما كانت قبل الميلاد؛ فهو الشطر الآخر، الذي لا يزال يعوزه الدليل ولا بد له من التأييد.قال سقراط: أي سمياس وسيبيس! لو أنكما أضفتما الدليلين أحدهما إلى الآخر؛ أعني هذا وما سبقه، الذي سلَّمنا فيه بأن كل شيء حي قد وُلِد من الميت، لرأيتما أنَّا قد فرغنا من إقامة هذا الدليل؛ لأنه لو كانت الروح موجودة قبل الميلاد، وأنها إذ تجيء إلى الحياة وإذ تولد، لا تكون ولادتها إلا من الموت أو الاحتضار، أفلا يجب عليها بعد الولادة أن تستمر في وجودها ما دام لا بد لها أن تولَد مرة أخرى؟ لا ريب في أنَّا قد فرغنا من إقامة البرهان الذي ترجوان. ولكني مع ذلك أحسبك أنت وسمياس لا ترغبان في أن تخبُرا هذا الدليل أكثر من ذلك؛ فقد استولى عليكما ما يستولي على الأطفال من فزع، خشية أن يذرو الهواءُ الروحَ حقيقة، ويبعثرها عند فراقها الجسد، وبخاصة إذا كُتب لإنسان أن يموت في جو عاصف، ولم يُقدَّر له الموت حيث السماء ساكنة. فأجاب سيبيس باسمًا: إذن يا سقراط، فواجبك أن تنفض عنَّا خوفنا بالدليل، ومع ذلك فليست هي مخاوفنا، إن توخيت الدقة في القول، ولكن هنالك في طويتنا، طفل ينظر إلى الموت، كأنه ضرب من الغول، فلا بد أن تحمله كذلك على ألا يفزع إذا ما انفرد وإياه في الظلام.قال سقراط: ردِّد في كل يوم صوت الساحر، إلى أن تطرد بالسحر ذلك الغول.– وأين عسانا أن نجد ساحرًا حاذقًا يقينا مخاوفنا بعد ذهابك يا سقراط؟فأجاب: إن هِلَّاس١٦ لمكان فسيح يا سيبيس، وفيه كثير من طيبي الرجال، وهناك غير قليل من القبائل المتبربرة، فابحث عنه في طول البلاد وعرضها، بين هؤلاء جميعًا، ولا تدَّخِر في البحث جهدًا ولا مالًا؛ فليس من سبيل أفضل من استخدامك المال، ولا يفُتك أن تبحث عنه كذلك بين أنفسكم، فوجوده ها هنا أرجح منه في أي مكان آخر.فأجاب سيبيس: لن نتردد في القيام بهذا البحث، ولنعد الآن إذا شئت في الحوار إلى النقطة التي استطردنا منها.فأجاب سقراط: طبعًا، وماذا أريد غير هذا؟فقال: حسنًا جِدًّا.قال سقراط: أفلا ينبغي أن نساءل أنفسنا سؤالًا كهذا: ما هو الشيء الذي تظنه عرضة للبعثرة، ونحن عليه حريصون؟ ثم ما هو الشيء الذي لا نحرص عليه؟ وبعدئذٍ نستطيع أن نمضي في البحث عما إذا كان ذلك الذي تمتد إليه يد البعثرة، من طبيعة الروح أم لا. فعلى ذلك سنقيم ما نكنُّ لأرواحنا من آمال ومخاوف.فقال: هذا صحيح.– فقد نفرض أن الشيء المركَّب، أو الذي يتكون من أجزائه، أنه بطبيعته يمكن أن يتحلل، كما أمكن له أن يتركب، أمَّا ذلك الذي لم يتركب من أجزاء، فيلزم أن يكون وحده غير قابل للتحلل، إذا كان ثمة شيء كهذا.فقال سيبيس: نعم؛ فهذا ما قد أتصوره.– وقد يزعم أحد غير المركب، يظل كما هو، ولا يخضع للتغير، بينما يكون المركب دائم التغير، لا يظل أبدًا كما هو؟فقال: إني أظن ذلك أيضًا.– وإذن فلنعُد الآن إلى حوارنا السابق: هل يتعرض ذلك المثال، أو الجوهر، الذي نُعرِّفه في سياق الكلام، بأنه كنه١٧ الوجود الحقيقي — سواء في ذلك كنه المساواة أو الجمال أو أي شيء آخر — أقول هل تتعرض هذه الجواهر على مر الزمن إلى شيء من التغير؟ أم أن كلًّا منها يبقى هو ما هو دائمًا، له نفس ما له من صور توجد بنفسها، لا تتغير ولا تقبل التحول بتاتًا، كيفما كان، أو في أي وقت كان؟فأجاب سيبيس: إنها لا بد أن تكون دائمًا كما هي يا سقراط، وماذا أنت قائل في تعدد الجميل، سواء أكان أناسًا، أم لباسًا، أم جِيادًا، أم أي شيء آخر يمكن أن يُسَمَّى متساويًا أو جميلًا، أهي كلها لا تخضع للتغير، وتبقى كما هي دائمًا، أم أنها نقيض ذلك تمامًا؟ أليس الأولى أن توصف بأنها متغيرة في الأغلب، وأنها لا تكاد تبقى أبدًا كما هي، سواء مع أنفسها، أو بعضها مع بعض؟فأجاب سيبيس: إنها الأخيرة. إنها دائمًا في حالة من التغير.– وأنت تستطيع أن تلمسها، وأن تراها، وأن تدركها بالحواس. فأمَّا الأشياء الثابتة، فلا يمكنك إدراكها إلا بالعقل. إنها تخفى على الأبصار فلا تُرى.فقال: هذا جد صحيح.فأضاف: حسنًا، لنفرض إذن أن ثمة ضربين من الوجود، وجودًا مرئيًّا ووجودًا خفيًّا.– لنفرضهما.– والمرئي هو المتغير، والخفي هو الثابت.– يمكن فرض ذلك أيضًا.– أليس الجسد، فضلًا عن ذلك، جزءًا مِنَّا، وما يبقى هو الروح؟– ليس في ذلك شك.– ترى إلى أي نوع من هذين يكون الجسد والجلد أشبه؟– ظاهر أنهما أشبه بالمرئي، إن أحدًا لا يشك في ذلك.– وهل الروح مرئية أم خفية؟– لم يرها إنسان يا سقراط.– وهل نقصد «بالمرئي» و«الخفي» ما تراه عين الإنسان وما لا تراه؟– نعم، بالنسبة إلى عين الإنسان.– وماذا تقول عن الروح؟ أهي مرئية أم خفية؟– إنها لا تُرَى.– هي خفية إذن؟– نعم.– وإذن فالروح أشبه بالخفي، والجسد أشبه بالمرئي؟– إن ذلك مؤكد جِدًّا يا سقراط.– ألم نكن نزعم منذ عهد بعيد، أن الروح حين تتخذ من الجسد أداة للإدراك؛ أعني حين تستخدم حاسة الإبصار، وحاسة السمع، أو غيرهما من الحواس (لأن معنى الإدراك خلال الجسد، هو الإدراك بواسطة الحواس)؛ ألم نكن نزعم أن الجسد بذلك يجرُّ الروح أيضًا إلى منطقة المتغير، وأنها تضل وترتبك؟ فإن الدنيا عندئذٍ تضرب حولها نسيجًا، فتكون الروح عند خضوعها لتأثير الحواس كمن أثملته الخمر؟– جد صحيح. – ولكنها إذا ما ثابت إلى نفسها، فإنها تفكر، وبعدئذٍ تدخل عالم النقاء، والأبدية، والخلود، والثبات. فهؤلاء عشيرتها، وهي تعيش معها أبدًا، إذا ما خلت إلى نفسها دون أن يعطلها معطل، أو يحول دونها حائل، وعندئذٍ لا تعود تسلك سبلها الخاطئة. فإنها إذا ما خالطت ما هو ثابت، كانت هي كذلك ثابتة، وتُسَمَّى هذه الحالة التي تكون فيها الروح بالحكمة.أجاب: هذا صحيح، فحقٌّ ما قلت يا سقراط.– وبأي نوع ترى الروح أشد شبهًا وقربى؟ استنتاجًا من هذا التدليل ومن سابقه؟– إني أظن يا سقراط أن كل من يتتبع هذا التدليل، يعتقد أن الروح ستكون الشبه بالثابت قُربًا لا نهاية له؛ ولن ينكر هذا أحد حتى أشد الناس غباءً.– والجسم أقرب شبهًا بالمتغير؟– نعم.– انظر بعد ذلك إلى الأمر مرة أخرى مستضيئًا بهذا: حينما تتحد الروح مع الجسد، تأمر الطبيعة الروحَ أن تحكم وأن تسيطر، والجسدَ أن يطيع وأن يعمل؛ فأي هذين العملين أدنى إلى الإلهي؟ وأيهما أقرب إلى الفاني؟ أليس يبدو لك الإلهي أنه ما يأمر وما يحكم بطبيعته، وأن الفاني هو الخادم الخاضع؟– حقًّا.– وأيهما يشبه الروح؟– إن الروح تشبه الإلهي، أمَّا الجسد فيشبه الفاني. ليس إلى الشك في ذلك سبيل يا سقراط.– إذن فانظر يا سيبيس، أليست هذه هي خلاصة الأمر كله؟ إن الروح على أشد ما يكون الشبه بالإلهي، وبالخالد، وبالمعقول، وبذي الصورة الواحدة، وبغير المتحلل، وبغير المتحول، وإن الجسد على أشد ما يكون الشبه بالإنساني، وبالفاني وبغير المعقول، وبذي الصورة المتعددة، وبالمتحلل، وبالمتحول. هل من سبيل إلى إنكار ذلك، أي عزيزي سيبيس؟– لا، ولا ريب.– ولكن إن صح هذا، أفلا يكون الجسد عرضة للتحلل السريع؟ ألا تكون الروح غير قابلة للتحلل، في أغلب الحالات، بل فيها جميعًا؟– يقينًا.وهل تلاحظ فوق هذا، أن الجسد بعد موت الإنسان لا يتحلل أو يتفكك دفعة واحدة، بل قد يبقى أمدًا طويلًا، إذا كان قوي البنية عند الموت، ووقع الموت في فصل ملائم من فصول السنة، مع أن الجسد هو الجزء المرئي من الإنسان، وله مادة تراها العين، تُسَمَّى جثة، ستنتهي بطبيعتها إلى التحلل، فتتفرق أجزاؤها وتتبدد؛ لأن تقلص الجسد وتحنيطه، كما جرت بذلك العادة في مصر، يعملان في أغلب الأحيان على حفظه أبدًا لا يبيد، وحتى إذا أصابه الفساد، فإن بعض أجزائه تظل باقية، كالعظام وبعض الأعصاب التي تستعصي على التحلل بطبيعتها. هل تُسلِّم بهذا؟– نعم.– وهل يجوز لنا أن نفرض أن الروح الخفية، عند انتقالها إلى عالم الأموات الحقيقي، وهو مثلها في خفائها، ونقائها، ونبلها، وأنها إذ تكون في طريقها إلى الإله الخير الحكيم، الذي توشك روحي أن تنتقل إليه إن شاء الله بعد حين، أقول: هل يصح الفرض أن الروح، إن كانت هذه طبيعتها، وذاك أصلها، تتبدد وتَفنَى عند فراق الجسد، كما تقول جمهرة الناس؟ يستحيل أن يكون ذلك، أي عزيزي سمياس وسيبيس، وأوْلَى أن تكون الحقيقة هي الروح، وهي نقية، لا تجر في ذيلها عند انتقالها أية صبغة جسدية، ما دامت لم تتصل قطُّ بالجسد اختيارًا، بل إنها لتتجنبه دائمًا، وما دامت قد انحصرت في نفسها (فقد كان مثل هذا التجريد موضوع دراستها في الحياة). وماذا يعني هذا إلا أن الروح قد كانت تابعة مخلصة للفلسفة، وأنها قد مرنت على كيفية الموت بغير عناء؟ أفليست الفلسفة مرانًا على الموت؟– يقينًا.– أقول إن تلك الروح في خفائها، تنتقل إلى العالم الخفي، إلى الإلهي والخالد والعاقل. فإذا ما بلغته، رفلت في نعيم، وتخلصت من أوزار الناس وحمقهم، ومن مخاوفهم وعواطفهم الحوشية، ومن النقائص البشرية جميعًا، ورافقت الآلهة إلى الأبد، كما يُروَى عن العالمين بالسر. أليس ذلك صحيحًا يا سيبيس؟فقال سيبيس: نعم، وليس إلى الشك فيه من سبيل.– ولكن الروح التي قد أصابها الدنس، والتي تكون كدرة عند انتقالها، والتي ترافق الجسد دائمًا، وتكون خادمته، والتي تغرم وتهيم بالجسد ورغبات الجسد ولذائذه، حتى ينتهي بها الأمر إلى العقيدة بأن الحقيقة لا تكون إلا في صورة جسدية يمكن الإنسان أن يلمسها وأن يراها وأن يذوقها، وأن يستخدمها لأغراض شهواته. أعني الروح التي اعتادت أن تنفر من المبدأ العقلي، وأن تخافه وتتحاشاه، ذلك المبدأ الذي هو للعين الجسمانية معتم تستحيل رؤيته، والذي لا يُدرَك إلا بالفلسفة وحدها، أفتحسب أن روحًا كهذه سترحل نقية طاهرة؟فأجاب: يستحيل أن يكون هذا.– إنها قد استغرقت في الجسديِّ، وقد أصبح طبيعيًّا بالنسبة لها؛ لاتصالها المستمر بالجسد، وعنايتها الدائمة به.– جد صحيح.– ويحقُّ لنا يا صديقي أن نتصور أن هذه هي تلك المادة الأرضية الثقيلة الكثيفة، التي يدركها البصر، والتي بفعلها تغشى الكآبة مثل هذه الروح، فتنجذب هبوطًا إلى العالم المرئي مرة أخرى؛ لأنها تخاف مما هو خفي، وتخاف من العالم الأدنى؛ فتظل محومة حول المقابر واللحود؛ إذ تُرى بجوارها — كما يحدثوننا — أشباحٌ طيفية لأرواح لم تكن قد رحلت نقية، ولكنها ارتحلت مليئة بالمادة المنظورة فأمكن رؤيتها.١٨– يغلب جِدًّا أن يكون ذلك يا سقراط.– نعم يا سيبيس؛ فأغلب الظن أن يكون ذلك، ولا بد أن تكون هاتيك أرواح الفجار لا أرواح الأبرار، هؤلاء الفجار الذين كُتب عليهم أن يضلُّوا في مثل تلك المواضع جزاءً وفاقًا بما اقترفوا في الحياة من إثم، فلا ينقطع تجوابهم، حتى تشبع الرغبة التي تملؤهم، ثم يُسجَنون في بدن آخر، وقد يُظن أن تلازمهم نفس الطبائع التي كانت لهم في حياتهم الأولى.– أي الطبائع تريد يا سقراط؟– أريد أن أقول إن من اندفعوا وراء الشره والفجور والسكر، ولم تدُر في خلدهم فكرة اجتنابها، سينقلبون حميرًا وما إليها من صنوف الحيوان. فماذا ترى أنت؟– أرى أن ذلك جد محتمل.– وهؤلاء الذين اختاروا جانب الظلم والاستبداد والعنف، سينقلبون ذئابًا أو صقورًا أو حِدَأً، وإلا فإلى أين تحسبهم ذاهبين؟فقال سيبيس: نعم، إن ذلك، ولا ريب، هو مستقر تلك الطبائع التي تشبه طبائعهم.فقال: وليس من العسير أن نُهيئ لهم جميعًا أمكنة تلائم طبائعهم وميولهم المتعددة.فقال: ليس في ذلك عسر.– وحتى بين هؤلاء ترى فريقًا أسعد من فريق؛ فأولئك الذين اصطنعوا الفضائل المدنية والاجتماعية التي تُسَمَّى بالاعتدال والعدل، والتي تحصل بالعادة والانتباه، دون الفلسفة والعقل، أولئك هم أسعد نفسًا ومقامًا. ولمَ كان أولئك هم الأسعد؟لأنه قد يُرجى لهم أن يتحولوا إلى طبيعة اجتماعية رقيقة تشبه طبيعتهم، مثل طبيعة النحل أو النمل، بل قد يعودون مرة ثانية إلى صورة البشر، وقد يخرج منهم أناس ذوو عدل واعتدال.– ليس ذلك مُحالًا.– أمَّا الفيلسوف، أو محب التعلم، الذي يبلغ حد النقاء عند ارتحاله؛ فهو وحده الذي يؤذَن له أن يصل إلى الآلهة، وهذا هو السبب، أي سمياس وسيبيس، في امتِناع رسل الفلسفة الحق عن شهوات الجسد جميعًا؛ فهم يصبرون ويأبون أن يُخضِعوا أنفسهم لها، لا لأنهم يخشون إملاقًا أو يخافون لأسرهم دمارًا كمحبي المال ومحبي الدنيا بصفة عامة، ولا لأنهم يخشون العار والشَّيْن الذين تجلبهما أعمال الشر كمحبي القوة والشرف.قال سيبيس: لا يا سقراط، إن ذلك لا يلائمهم.فأجاب: حقًّا إنه لا يلائمهم؛ وعلى ذلك فأولئك الذين يُعنَوْن بأرواحهم، ولا يقصرون حياتهم على أساليب الجسد، ينبذون كل هذا؛ فهم لن يسلكوا ما يسلك العُمي من سبل، وعندما تعمل الفلسفة على تطهيرهم وفكاكهم من الشر، يشعرون أنه لا ينبغي لهم أن يقاوموا فعلها، بل يميلوا نحوها، ويتبعوها إلى حيث تسوقهم.– ماذا تعني يا سقراط؟قال: سأحدثك. إن محبي المعرفة ليدركون عندما تستقبلهم الفلسفة أن أرواحهم إنما شُدَّت إلى أجسادهم وأُلصقت بها، ولا تستطيع الروح أن ترى الوجود إلا خلال قضبان سجنها، فلا تنظر إليه وهي في طبيعتها الخاصة، إنها تتمرغ في حمأة الجهالة كلها، فإذا ما رأت الفلسفة ما قد ضُرب حول الروح من قيد مخيف، وأن الأسيرة تنساق مدفوعة بالرغبة إلى المساهمة في أسر نفسها؛ لأن محبي المعرفة يعلمون أن هذه كانت الحالة البدائية للروح، وأنها حين كانت في تلك الحال، تسلَّمتها المعرفة ونصحتها في رفق، وأرادت أن تحررها، مُشيرة لها بأن العين مليئة بالخداع، وكذلك الأذن وسائر الحواس، لتحملها على التخلص منها تخلُّصًا تامًّا، إلا حين تدعو الضرورة إلى استخدامها وأن تتجمع وتتفرغ إلى نفسها، وألا تثق إلا بنفسها وما توحي به إلى بصيرتها عن الوجود المطلق، وأن تشك في ما يأتيها عن طريق سواها، ويكون خاضعًا للتغير؛ فالفلسفة تُبيِّن لها أن هذا مرئيٌّ ملموس، أمَّا ذلك الذي تراه بطبيعتها الخاصة فعقليٌّ وخفيٌّ، وروح الفيلسوف الحق تظن أنه لا ينبغي لها أن تقاوم هذا الخلاص؛ ولذا فهي تمتنع عن اللذائذ والرغبات، والآلام والمخاوف، جهد استطاعتها، مرتئيةً أن الإنسان حينما يحوز قدرًا عظيمًا من المسرَّات أو الأحزان أو المخاوف أو الرغبات؛ فهو لا يعاني منها هذا الشر الذي تقدره الظنون — كأن يفقد مثلًا صحته أو متاعه، مضحيًا بها في سبيل شهواته — ولكن يعاني شرًّا أعظم من ذلك، هو أعظم الشرور جميعًا وأسوأها، هو شر لا يدور في خلده أبدًا.قال سيبيس: وما هو ذلك يا سقراط؟– هو هذا، حينما تحس الروح شعورًا شديدَ العنف، بالسرور أو بالألم، ظننا جميعًا بالطبع أن ما يتعلق به هذا الشعور العنيف يكون عندئذٍ أوضح وأصدق ما يكون، ولكن الأمر ليس كذلك.– جد صحيح.وتلك هي الحال التي يكون فيها الجسد أشد ما يكون استعبادًا للروح.– وكيف ذلك؟– لأن كل سرور وكل ألم يكون كالمسمار الذي يُسَمِّر الروح في الجسد، ويربطها به، ويستغرقها، ويحملها على الإيمان بأن ما يؤكد عنه الجسد أنه حق فهو حق، ومن اتفاقها مع الجسد، وسرورها بمسراته ذاتها، تراها مجبرةً على أن تتخذ عادات الجسد وطرائقه نفسها، ولا يُنتظر ألبتَّةَ أن تكون الروح نقية عند رحيلها إلى العالم الأدنى، فهي مشبعة بالجسد في كل آنٍ، حتى إنها سرعانَ ما تنصب في جسد آخر، حيث تنبت وتنمو؛ ولذا فهي لا تساهم بقسط في الإلهي، والنقي، والبسيط.فأجاب سيبيس: ذلك جد صحيح يا سقراط؟– وهذا يا سيبيس هو ما دفع محبي المعرفة الحق أن يكونوا ذوي اعتدال وشجاعة؛ فهم لم يكونوا كذلك؛ لما تقدمه الحياة الدنيا من أسباب.– لا، ولا ريب.– لا، ولا ريب! فليست تفكر روح الفيلسوف على هذا النحو، إنها لن تطلب إلى الفلسفة أن تحررها، لكي تستطيع، إذا ما تحررت، أن تلقي بنفسها مرة أخرى، في معترك اللذائذ والآلام، فتكون بذلك كأنها تعمل ما تعمل، لا لشيء إلا لكي تعود فتنقضه، وكأنها تنسج خيوطه — كما فعلتْ بنلوب١٩ — بدل أن تعمد إلى حلها، ولكنها ستتخذ من نفسها عاطفة راكدة ستتأثر خطوَ العقل، فتلازمه لتشاهد الحقيقي والإلهي (وهو ليس موضوعًا للرأي)؛ ومِنْ ثَمَّ تستمد غذاءها، وهي تحاول بذلك أن تحيا ما دامت في الحياة، وتأمُلُ أن تلتمس ذوي قرباها بعد الموت، وأن تتحرر من النقائص البشرية، فلا تخشيا أي سمياس وسيبيس أن تتبدد روحٌ كان ذلك غذاءها، وكانت تلك آمالها المنشودة، عند انفصالها عن الجسد فتذروها الرياح، وتصبح عدمًا ليس له وجود.وما إن انتهى سقراط من هذا الحديث حتى ساد الصمت فترة طويلة، فبدا هو نفسه، كما بدا معظمنا، كأنما نفكر فيما قيل، إلا أن سيبيس وسمياس تهامسا بكلمات قليلة، فلما لحظ ذلك سقراط، استنبأهما عما ارتأيا فيما أُقيم من دليل، وهل لم يزل يعوزه التدعيم، وقال: إن كثيرًا منه لا يزال عرضة للشك والطعن، إذا ما صحَّت من أحد عزيمته، أن يُقلِّب النظر في جوانب الموضوع كلها. وإن كنتما تتحدثان عن شيء آخر، فخيرٌ ألا أعترضكما. أمَّا إن كنتما لا تزالان تشكان في الدليل، فلا تترددا أن تصرحا بكل ما تريانه، ولنأخذ بما قد تقترحانه، إن كان خيرًا مما قلنا، واسمحا لي أن أعينكما إن كان يُرجى لكما مني نفع.قال سمياس: لا بد أن أعترف يا سقراط بأن الشكوك قد ثارت في عقولنا، وكان كل مِنَّا يحفز الآخر ويدفعه ليلقي السؤال الذي أراد أن يستفسر عنه والذي لم يرد مِنَّا أن يُلقيه؛ خشاة أن يكون إلحاحنا مُضنيًا لك في حالتك الراهنة.فابتسم سقراط وقال: ألا ما أعجب ذلك يا سمياس! أحسبني في أرجح الظن مستطيعًا إقناع سائر الناس بأنني لا أجد رزءًا في موقفي هذا، ما دمت عاجزًا عن إقناعكم أنتم وما دمتم على ظنكم أنني الآن أكثر مشغلة مني في أي وقت آخر. ألا تريان عندي من روح النبوَّة ما عند طيور التِّم؟٢٠ التي إذا أدركت أن الموت آتٍ لا ريب فيه ازدادت تغريدًا عنها في أي وقت آخر، ومع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطًا منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراءً أن طيور التم إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يُقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى، وإن كنت لا أومن أن ذلك يصْدقُ عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عند أبولو، فاستطلعت ما في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق. كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل؛ فأنا أظن أن قد أتاني سيِّدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحًا من التم.٢١ فلا تحفلا بعدُ بهذا، وتكلما فيما تشاءان، وسلا عما تشاءان، في هذه الفترة التي يسمح فيها حكام أثينا الأحد عشر بالكلام.قال سمياس: حسنًا يا سُقراط؛ إذن فسأُفضي إليك بمسألتي وسينبئك سيبيس بمشكلته، فإني لأقول مجترئًا إنك تحس يا سقراط، كما أحس أنا، كم هو عسير أو يكاد يستحيل أن تبلغ في مثل هذه المسائل يقينًا، ما دمت في هذه الحياة الحاضرة، ومع هذا فإني لأتهم بالجبن كل من لا يدلل عليها ما وسعه الدليل، أو كل من خار به قلبه قبل أن يَخبُرها من كل جوانبها.٢٢ فينبغي للمرء أن يثابر حتى ينتهي إلى أحد أمرين، إمَّا أن يستكشف حقيقتها أو يعلمها، فإن استحال ذلك فإني أحب له أن يأخذ بأقوم الآراء البشرية وأبعدها عن التفنيد، وليكن ذلك طَوْفه الذي يسبح به في الحياة. وإني مسلِّم بأنه لن يفعل ذلك دون أن يتعرض للخطر، إذا هو لم يستطع أن يجد من الله كلمةً تسير به على هدًى وطمأنينة.والآن فسأجسر، كما تريدني، على أن أسألك؛ لأني لا أحب أن آخذ على نفسي فيما بعد أنني لم أدْلِ برأيي في حينه الملائم، فإني إذا ما قلبت النظر في الموضوع يا سقراط، سواء أكنت وحدي أم كنت مع سيبيس، بدا لي أن التدليل لم يكن حاسمًا.أجاب سقراط: إنني لأعترف يا صديقي أنك قد تكون مُصيبًا، ولكني أحب أن أعلم في أي ناحية لم يكن التدليل حاسمًا.فأجاب سمياس: في هذه الناحية، ألا يجوز أن يستخدم أحدٌ هذا الدليلَ بذاته في القيثارة والانسجام؟ ألا يحقُّ له القول إن الانسجام شيء خفي، غير جثماني، لطيف إلهي، موجود في القيثارة المنسجمة؟ ولكن القيثارة والأوتار مادة، وهي مادية متآلفة من أجزاء أرضية، وتربطها القربى بالفناء؟٢٣ وأنه إذا تحطمت القيثارة أو تقطعت أوتارها وتمزقت، فإن من يأخذ بهذا الرأي يدلل كما تدلل أنت، وبالتشابه نفسه، على أن الانسجام يبقى حيًّا ولا يفنى؛ لأنك لا تستطيع أن تتصور، كما يجوز القول، أن تبقى القيثارة بغير أوتارها، بل وتبقى الأوتار الممزقة نفسها، على حين أن الانسجام الذي يمتُّ بأسباب القربى إلى الطبيعة السماوية الخالدة يفنى، بل ويفنى قبل الذي هو فانٍ. سنقول إن الانسجام لا شك موجود في مكان ما، وإن الفناء سيُصيب الخشب والأوتار قبل أن يُصيب ذلك الانسجام، وإني لأشك يا سقراط أنك ستأخذ أنت أيضًا في الروح بهذا الرأي الذي نميل جميعًا إلى الأخذ به، وستذهب كذلك إلى أن الجسد إنما أُقيم وارتبطت أجزاؤه بفعل عناصر الحر والبرد والرطوبة والجفاف وما إليها، وأن الروح هي ما بين هاتيك العناصر من انسجام، أو هي مزاجها المتزن المتناسب، فإن صح هذا نتج بداهةً أن أوتار الجسد إذا ارتخت أو أُجهدت بغير مبرر بسبب الفوضى أو أي فساد آخر فنيت لذلك الروح جملة واحدة،٢٤ برغم ما بها من ألوهية غالبة، مثل سائر الانسجامات التي تكون في الموسيقى أو آيات الفن. ولو أن بقايا الجسد المادية ربما لبثت طويلًا حتى يدركها الفناء أو الاحتراق. والآن، إن زعم زاعم بأن الروح تفنى أوَّلًا فيما يُسَمَّى بالموت، باعتبار أنها ما بين عناصر الجسد من انسجام، فبِمَ نُجيبه؟فأجال فينا سقراط النظر، كما هي عادته، وقال باسمًا: إن دليل العقل ناهض في جانب سمياس، وإن في مهاجمته إياي لقوة، فلماذا لا يتصدى منكم لإجابته من هو أقدر مني؟ ولكن قد يحسن بنا قبل أن نجيبه أن نُصغي كذلك لما يريد سيبيس أن يناهض به الدليل، وسيكون لنا من ذلك للروية متسع، فإذا ما فرغ كلاهما من الحديث وبدا قولهما مستقيمًا مع الحقيقة سلَّمنا لهما، وإلا، فلنا أن نؤيد الجانب الآخر، وأن نناقشهما. قال: تفضل إذن فحدِّثني يا سيبيس، أي مشكلة صادفتك فأتعبتك؟قال سيبيس: سأحدثك، إني لأشعر بأن التدليل لم يتزحزح عن موضعه؛ فأنا مستعد أن أسلِّم بأن قد قام الدليل القاطع الوافي جِدًّا، إن جاز لي هذا القول، على وجود الروح قبل حلولها في الصورة الجسدية. ولكني أرى أن بقاء الروح بعد الموت لا يزال يعوزه الدليل، ولست أعترض في ذلك بما اعترض به سمياس؛ لأنني لا أريد أن أنكر أن الروح أقوى من الجسد وأطول بقاءً، فعقيدتي أن الروح تسمو على الجسد في كل هذه النواحي سموًّا بعيدًا. وقد يُخاطبني الدليل فيقول: حسنًا إذن، فلماذا تقيم على ارتيابك؟ إذا رأيت أن الأضعف يظل باقيًا بعد موت الإنسان، أفلا تسلِّم بأنه يتحتم أيضًا أن يبقى ما هو أطول بقاء خلال هذه الفترة نفسها؟ ويجمل بي الآن أن أستخدم المجاز كما فعل سمياس، وسأطلب إليك أن تنظر في استعارتي لترى هل جاءت ملاءمة لموضوعها. أمَّا المثل الذي سأسوقه فهو مثل نساج قديم، يموت فيزعم بعض الناس بعد موته أنه لم يمت وأنه لا بد أن يكون حيًّا، ويستشهد على ذلك بالعِطَاف٢٥ الذي نسجه بنفسه وارتداه، والذي لا يزال جيِّدًا متينًا، ثم يمضي فيسأل المرتاب من القوم: هل الإنسان أطول بقاء أم العِطَاف الذي يُستخدم ويُرتدى؟ فإذا ما أُجيب بأن الإنسان أطول جِدًّا في البقاء، ظنَّ أنه قد أثبت بذلك يقينًا بقاءَ الإنسان الذي هو أطول بقاءً ما دام الأقصر بقاءً لا يزال باقيًا. ولكني أرجو أن تلاحظ يا سمياس أن ليست تلك هي الحقيقة، وليس بخافٍ على الناس أن من يتحدث بهذا إنما ينطق هُراءً، فحقيقة الأمر أن هذا النساج قد ارتدى ونسج كثيرًا من هذا العُطُف، ولئن كان قد أفنى كثيرًا منها وعمَّرَ بعدها، إلا أن آخرها قد ظلَّ بعد فنائه باقيًا، ولكن لا ريب في أن هذا أبعد جدًّا من أن يقوم دليلًا على أن الإنسان أقل من العِطَاف شأنًا وأشد ضعفًا. غير أنك تستطيع أن تعبر عن علاقة الجسد بالروح باستعارة كهذه، فلك أن تقول بحق إن الروح باقية، وإن الجسد بالقياس إليها ضعيف قصير الأجل، فقد يُقال عن كل روح إنها تُبلي أجسادًا كثيرةً وبخاصة إذا امتد بها أجل الحياة؛ لأنه إذا كان الجسد يتحلل ويَفنَى في حياة الإنسان؛ فالروح لا تني تنسج لنفسها لباسًا جديدًا وتُصلح ما قد أصابه البِلَى؛ فطبيعي إذن أن تكون الروح مرتدية آخر أثوابها حينما يدركها الفناء، وذاك الثوب وحده هو الذي سيبقى بعد فنائها. ولكن الجسد بدوره، إذا ماتت الروح سيكشف آخر الأمر عن ضعف طبيعته، فلا يلبث أن يدركه الفناء، ولهذا لن أركن إلى هذا الدليل برهانًا على بقاء الروح بعد الموت؛ لأنه إذا سلَّمنا فرضًا حتى بأبعد مما تؤكد أنت أنه في حدود الممكن، فارتضينا — فضلًا على اعترافنا بوجود الروح قبل الميلاد — أن أرواح طائفة من الناس لا تزال موجودة بعد الموت، وأنها ستظل موجودة، وأنها ستولد وتموت كرة بعد أخرى، وأن في الروح قوة طبيعية ستُقاوم بها حتى تولد مرات عدة؛ فقد نميل مع هذا كله إلى الظن بأنها ستُعاني من آلام الولادات المتعاقبة رهقًا قد ينتهي بها آخر الأمر السقوط في إحدى مرات موتها، فتفنى فناءً تامًّا، وربما خفيت عَنَّا جميعًا هذه المرة التي يموت فيها الجسد ويتحلل، والتي قد تؤدي بالروح إلى الفناء، ولا يمكن أن تتوفر لأي واحد مِنَّا خبرة عن ذلك،٢٦ فإن صحَّ هذا، زعمتُ أن من يثق في الموت فإنما يثق وثوقًا غاشمًا، ما لم يكن قادرًا على التدليل بأن الروح لا تخضع للموت أو الفناء إطلاقًا. أمَّا إن كان عاجزًا عن إثبات ذلك، فمعقول ممن يقترب من الموت أن يخشى فناء الروح فناءً تامًّا عند انحلال الجسد.فلما سمعنا منهم هذا القول، أحسسنا جميعًا بالكآبة، كما لاحظ بعضنا إلى بعض فيما بعد. وأحسب أنه قد داخلنا الاضطراب والشك، لا فيما سلف من دليل فحسب، بل في كل ما قد يجيء به الدهر من دليل؛ لأننا — وقد كُنَّا من قبل نؤمن إيمانًا راسخًا — قد رأينا ذاك الإيمان تتزعزع دعائمه. فإما أننا لم نكن قضاة صالحين، وإمَّا أن العقيدة لم تقم على أساس صحيح.
أشكراتس : إني لأشاطرك إحساسك هذا، حقًّا إني لأشاطرك إياه يا فيدون، وقد هممتُ وأنت تتحدث أن أُلقي نفس السؤال. أي دليل يمكن أن أومِن به بعد اليوم؛ فماذا عسى أن يكون أقوى في الإقناع من تدليل سقراط، وها هو ذا قد هبط إلى الجحود؟ فيا طالما فتنني فتنة عجيبة هذا المذهب القائل بأن الروح هي الانسجام، ولم يكد يرد ذكره حتى عاودني بغتة؛ لأنه عقيدتي الأولى. وجديرٌ بي الآن أن أعود فألتمس دليلًا آخر، يؤكد لي بأن الروح لا تموت مع الإنسان عند موته. فأرجو أن تنبئني كيف مضى سقراط في الحديث؟ هل بدا كأنما يشاطركم إحساسكم الكئيب الذي ذكرت؟ أم أنه استقبل الاعتراض هادئًا؛ فأجاب عنه جوابًا وافيًا؟ أنبئنا بما وقع دقيقًا ما استطعت.
فيدون : أي أشكراتس، إني ما فتئت معجبًا بسقراط، ولكني لم أعجب به قطُّ أكثر مما فعلتَ وقتئذٍ. أمَّا إنه استطاع الجواب فيسير، ولكن ما أدهشني أوَّلًا هو ما تناول به كلمات الشُّبَّان من وداعة وغبطة واستحسان، ثم سرعة إحساسه بما أحدثه الحوار من جرح وما واتته به لباقته من فنون العلاج. مثله في ذلك مثل القائد الذي يستجمع جيشه وقد انهزم واندحر، ويحفز جنده أن يتابعوه فيعودوا إلى ميدان الحوار.
أشكراتس : وكيف كان ذلك؟
فيدون : ستعلم مني؛ فقد كنت قريبًا منه، جالسًا إلى يمينه على مقعد وطيء، أمَّا هو فقد استوى على سرير يرتفع كثيرًا عن مقعدي، وقد أخذ يُداعب شعري، ثم مسح رأسي بيديه، وصفف شعري على عنقي وقال: أي فيدون! غدًا ستُجَذُّ هذه الجدائل الجميلة فيما أظن.أجبت: نعم يا سقراط، إني أظن ذلك.– إنها لن تُجذَّ لو أخذت بنصحي.قلت: وماذا عساي أن أفعل بها؟أجاب: إني وإياك سنقطع اليوم جدائل شعرنا، فلا نرجئها إلى غد، لو كان هذا الحوار ليموت، واستحال علينا أن نردَّه إلى الحياة مرة أخرى. وإني لو كنتك، ولم أستطع أن أثبُت ضد سمياس وسيبيس، ولأقسمت ألا أرسل شعري قط، كما يفعل الأرجيفيون، حتى أثير المعركة من جديد وأدحرهما.قلت: نعم، ولكن لم يُرْوَ عن هرقليس نفسه أنه نازل اثنين.فقال: ادعُني إذن، وسأكون لك أيولاوس حتى تغرب الشمس.قلت: سأدعوك، لا كما يدعو هرقليس أيولاوس، ولكن كما كان يدعو أيولاوس هرقليس.قال: لا فرق بين هذا وذاك، ولكن لنأخذ الحذر أوَّلًا لكي نتقي خطرًا.قلت: وما ذاك؟أجاب: خطرُ أن تتمكن مِنَّا كراهةُ المنطق، فذلك من أسوأ ما قد يُصيبنا من أحداث، فكما أن ثمة أعداء للإنسانية وهم من يمقتون البشر، كذلك هناك من يكرهون المنطق وهم من يمقتون المُثُل، وكلاهما ناشئ عن سبب بعينه، هو الجهل بالعالم، فتجيء كراهة البشر من الغلو في الركون إلى عدم الخبرة؛ فأنت تثق برجل، وتظنه مُخلِصًا تمام الإخلاص، وخيِّرًا وأمينًا، ثم لا يلبث أن يتكشف لك زائفًا خبيثًا، وهكذا غيره وغيره. فإذا وقع ذلك لإنسان مرات عدة، وبخاصة من جماعة أصدقائه الذين يظنهم أشد الناس إخلاصًا له، وكثر النزاع بينه وبينهم، فإنه ينتهي آخر الأمر إلى كراهة الناس جميعًا، ويعتقد أن ليس بين الناس على الإطلاق صاحب خير. أحسبك بغير شك قد لاحظت هذا.قلت: نعم.– أليس ذلك مدعاة للخزي؟ وسببه أن الإنسان في اضطراره إلى معاملة سائر الناس، لا يكون لديه بهم علم؛ لأنه لو عرفهم لعرف الأمر على حقيقته، وذلك أن ذوي الخير قليلون وأن ذوي الشر قليلون، وأن الكثرة الغالبة هي فيما يقع بين هذين.قلت: ماذا تعني؟أجاب: أعني أنه كما قد نقول عن بالغ الكبر وبالغ الصغر بأنه ليس أندر من رجل بالغ الكبر، أو رجل بالغ الصغر؛ فهذا ينطبق بصفة عامة على النهايات، سواء أكان ذلك عن الكبير والصغير، أم السريع والبطيء، أم الكدر والصافي، أم الأسود والأبيض. وسواء ضربت أمثلة ناسًا أو كلابًا أو أي شيء آخر، فقليلون هم النهايات، أمَّا الكثرة فتتوسط بين النهايات. أوَلم تلاحظ هذا قط؟قلت: نعم لاحظته.قال: ثم ألستَ ترى أنه لو كان بين الشرور تنافس، لوجد أن قليلًا جِدًّا منها هو أسبقها في الشر؟قلت: نعم، فذاك أرجح الظن.أجاب: نعم ذاك أرجح الظن، ولستُ أعني أن مَثَلَ الأحاديث في مثل هذا مثلُ الناس. وأراك ها هنا قد حملتني أن أقول أكثر مما اعتزمتُ أن أقول، ولكن وجه المقارنة هو أنه إذا ما آمن رجل ساذج، لا يحذق علوم الكلام بصحة دليل، وخُيِّلَ إليه فيما بعد أنه باطل، سواء أكان باطلًا حقًّا أم لم يكن، ثم تكرر هذا في غيره وغيره، فلا تبقى للرجل عقيدة واحدة، وينتهي الأمر كما تعلم بكبار المجادلين إلى الظن بأنهم قد باتوا أحكم بني الإنسان؛ لأنهم هم وحدهم الذين أدركوا ما في التدليلات كلها من تزعزع وضعف شامل، لا بل أدركوا ذلك في الأشياء جميعًا، وهي تظل صاعدةً هابطةً في مَدٍّ وجزرٍ لا ينقطعان، كما هي الحال في تيار يور بيوس.قلت: هذا جد صحيح. أجاب: نعم يا فيدون، ولشد ما يبعث على الأسى أيضًا أن يصادف إنسان تدليلًا هنا أو هناك، فيبدو له أول الأمر أنه حق، ثم يتكشف له عن باطل، فبدلًا من أن ينحو باللائمة على نفسه وعلى ما يعوزه من ذكاء، تراه لحنقه آخر الأمر يغتبط شديد الغبطة في إزاحة اللوم عن عاتقه ليلقيه على التدليل بصفة عامة، ويظل بعد ذلك إلى الأبد كارهًا لاعنًا لكل تدليل، فتفلت منه حقيقة الوجود وعرفانه، لو كان ثمة ما تَسَمَّى بالحقيقة أو اليقين أو القدرة على المعرفة إطلاقًا.قلت: نعم، إن ذلك ليبعث على الحزن الشديد.قال: فلنحاول إذن بادئ ذي بدء، أن نسلِّم في نفوسنا بالفكرة القائلة إنه لا حقيقة ولا عافية ولا قوة في أي تدليل على الإطلاق، ولنعلن قبل ذلك أن ليس فينا نحن الآن عافية وأنه يجب أن نطلق فينا العنصر الإنساني، ونسعى جهدنا في اكتساب العافية، فتكسبها أنت وسائر الناس جميعًا من أجل حياتكم المقبلة كلها، وأمَّا أنا فمن أجل الموت؛ فلست أحسُّ الساعة أني متخلِّق بخُلُق الفيلسوف، وما أنا في الرأي إلا مشايع كأفراد السوقة، وليس يعبأ المتشيع حينما يلج في المخاصمة بأوجه الصواب من الموضوع، بل يحرص على إقناع سامعيه بأقواله وكفى، وليس بينه وبيني في اللحظة الراهنة من فرق إلا هذا، بينا هو يحاول إقناع سامعيه بصحة ما يزعم، تراني أحاول إقناع نفسي قبل كل شيء، فإقناع سامعيَّ أمر ثانوي بالنسبة إليَّ. ولتنظرن كم عسى أن أفيد بهذا، فلو كان ما أقوله صحيحًا فما أجمل أن أكون مقتنعًا بالحقيقة، وأمَّا إن كان لا شيء بعد الموت، فسأوفر على أصدقائي هذا العويل فيما بقي من حياتي من أجل قصير. هذا وسترتفع عني جهالتي؛ ولهذا فلن يقع مني ضرر. أي سمياس وسيبيس، تلك هي الحالة العقلية التي أتناول بها الحوار. وإني أطلب إليكما أن تفكرا في الحقيقة لا في سقراط، فإن رأيتما أني أتكلم حقًّا فوافقاني، وإلا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعًا كما أخدع نفسي، وحتى لا أكون لكما كالنحلة؛ فأدع فيكما حُمَتي قبل موتي.قال: والآن دعنا نمضي، ولأتأكد منك قبل كل شيء أن ما في ذهني يطابق ما كنت تقوله. فإن كنتُ مصيبًا فيما أتذكر؛ فقد كان لدى سمياس مخاوف وشكوك أن تكون الروح أسبق إلى الفناء، ما دامت عبارة عن انسجام، على الرغم من أنها أشد من الجسد ألوهية وصفاء. وقد بدا سيبيس من جهة أخرى أنه يسلِّم بأن الروح أطول من الجسد بقاءً، ولكنه قال: إن أحدًا لا يستطيع أن يعلم إن كان يمكن للروح بعد أن تكون قد أبلت أجسادًا عدة، أن تفنى هي نفسها، مخلِّفة وراءها آخر أجسادها، وأن هذا هو الموت الذي يجلب الدمار للروح لا للجسد؛ لأن فعل التخريب لا يفتأ عاملًا في الجسد أبدًا. أليست هذه يا سمياس وسيبيس هي النقط التي تستوجب منَّا النظر؟فوافق كلاهما على أن ذلك تقرير لرأييهما.فمضى سقراط: وهل تنكران ما في الحوار السابق كله من قوة، أم تنكران ما في بعضه فقط؟فأجابا: بل ما في بعضه فقط.قال: وماذا ارتأيتما في ذلك الجزء من الحوار الذي ذكرنا فيه أن المعرفة عبارة عن تذكر فحسب، واستنتجنا منه أن الروح لا شك كانت موجودة فيما سبق، في مكان آخر، قبل أن تنحصر في الجسد؟فقال سيبيس إنه قد تأثر بذلك الجزء من الحوار تأثُّرًا عجيبًا، وأنه لبث فيه راسخ اليقين. ووافقه سمياس، وأضاف أنه عن نفسه لم يَكَد خياله يجيز أن يجيء يوم يرى فيه حول ذلك رأيًا مخالفًا لهذا.فاستأنف سقراط: ولكن يجدر بك، أي صديقي الطيبي، أن ترى رأيًا مُخالفًا؛ لأنك إن أصررت على أن الانسجام مركَّبٌ وعلى أن الروح انسجام، نشأ من أوتار رُكبت في إطار الجسد، فلا ريب أنك لن تجيز لنفسك القول بأن الانسجام سابق للعناصر التي يتألف منها الانسجام.٢٧– كلا يا سقراط، فذلك مستحيل.– ولكن ألست ترى أنك إنما تقرر هذا فعلًا حينما تقول إن الروح كانت موجودة قبل أن تأخذ صورة الإنسان وجسده، وأنها تألفت من عناصر لم يكن لها وجود بعد؟ فليس الانسجام شيئًا يُشبه الروح كما تظن، وإنما القيثارة والأوتار والأصوات توجد أوَّلًا في حالة من التنافر، فيجيء الانسجام بعد هذه جميعًا، ثم هو يسبقها جميعًا في الفناء. فكيف يمكن أن نلائم بين هذا الرأي في الروح وبين الرأي الآخر؟٢٨أجاب سمياس: لا يمكن قطعًا.قال: ومع ذلك فينبغي بلا ريب أن يكون ثم انسجام، ما دام الانسجام هو موضوع الحديث.أجاب سمياس: ينبغي أن يكون.قال: ولكن ليس ثم انسجام بين هاتين القضيتين. إن المعرفة عبارة عن تذكر، وإن الروح انسجام؛ فأيهما إذن تستبقي لنفسك؟أجاب: إني لأحسبني يا سقراط أشد يقينًا بأولاهما التي أُقيم لي عليها الدليل الوافي، مني بالثانية التي لم ينهض عليها دليل قط؛ فليست ترتكز إلا على أسس من الظن والاستحسان، وأنا عليم علم اليقين أن هذه الأدلة التي تعتمد على الظنون مضللة، وهي خدَّاعة ما لم يؤخذ عند استخدامها حذر شديد. هي خداعة في علم الهندسة وفي سائر الأشياء أيضًا. أمَّا نظرية المعرفة والتذكر؛ فقد أُقيم برهانها على أسس من اليقين، والبرهان هو أن الروح لا بد كانت موجودة قبل أن تحل في الجسد؛ لأن الجوهر٢٩ متعلق بها، ومجرد اسم الجوهر يقتضي الوجود، وما دمت قد ارتضيت هذه النتيجة بحق وعلى أسس وافية، كما أعتقد، فينبغي فيما أظن ألا أستطرد في الجدل، وألا أسمح لسواي أن يزعم بأن الروح هي عبارة عن انسجام.قال: دعني يا سمياس أبسط الموضوع من وجهة نظر أخرى: هل يمكن فيما تتصور أن يكون الانسجام أو أي مُركَّب آخر في حالة تختلف عن حالة العناصر التي تألف منها؟– لا، ولا ريب.– أم هل هو يفعل أو يعاني شيئًا غير الذي تفعله هي أو تعانيه؟فوافق سمياس.– إذن فليس يسوق الانسجام الأجزاء أو العناصر التي يتكون منها هو، ولكنه يتبعها فقط. فوافق سمياس.– لأنه يستحيل على انسجام أن يكون على شيء من الحركة أو الصوت أو أية صفة أخرى تكون مضادة للأجزاء.فأجاب: يستحيل أن يكون كذلك.– أوَليس كل انسجام يتوقف على الحالة التي تنسجم فيها العناصر؟قال: لست أفهم ما تقول.– أريد أن أقول إن الانسجام يقبل التدرج؛ فهو أكثر انسجامًا، وهو أقرب إلى الانسجام التام، حينما تدنو الأجزاء في تناسقها إلى التمام، إن أمكن لها ذلك. وهو أقل انسجامًا، وأبعد عن الانسجام التام، حينما تكون الأجزاء أقل تناسُقًا.– حقًّا.ولكن هل تقبل الروح التفاوت؟ أعني هل تكون روح ولو إلى أقل حد ممكن، أكثر أو أقل روحانية من غيرها، أو أبعد عن تمام الروحانية، أو أدنى إليه من روح أخرى؟– لا يكون ذلك قطعًا.– ومع ذلك فقد يُقال بحق إن روحًا تتصف بالذكاء والفضيلة وإنها خيِّرة، وإن روحًا أخرى تتصف بالغباوة والرذيلة وإنها شريرة، وحق هذا الذي يُقال؟– نعم هو حق.– ولكن ماذا يقول أولئك الذين يصرُّون على أن الروح انسجام، فيما رأيت من وجود الفضيلة والرذيلة في الروح؟ — أيقولون إن ثم انسجامًا آخر وتنافرًا آخر، وإن الروح الفاضلة تكون منسجمةً، وما دامت هي نفسها انسجامًا، ففي باطنها انسجام آخر، وإن الروح الرَّذِلة ليست منسجمة ولا يكون في باطنها انسجام؟– أجاب سمياس: إني لا أُحِير جوابًا، ولكني أحسب أن سيزعم أولئك الذين يأخذون بهذا الرأي شيئًا كهذا.– ونحن قد اتفقنا فيما سبق أن ليست روح أكثر روحانية من غيرها، وهذا الاتفاق يساوي الموافقة على أن الانسجام لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص، أي لا يكون أكمل ولا أنقص انسجامًا.– جد صحيح.– وما لا يزيد في انسجامه ولا ينقص لا يكون أكثر ولا أقل تناسقًا!– صحيح. – وما لا يكون أكثر ولا أقل تناسقًا لا يكون فيه من الانسجام أكثر ولا أقل، ولكنه دائمًا مقدار متساوٍ من الانسجام؟– نعم الانسجام متساوٍ.– فإذا لم تَزِد روح ولم تنقص في روحانيتها المجردة عن غيرها، فهي ليست أكثر ولا أقل انسجامًا منها؟– تمامًا.– وعلى ذلك فليس فيها من الانسجام أو التنافر مقدار أكثر أو أقل؟– ليس فيها ذلك.– ولما كان ما فيها من الانسجام أو التنافر ليس أقل ولا أكثر فلا يكون لروح من الرذيلة أو الفضيلة أكثر مما يكون لغيرها، على فرض أن الرذيلة تنافرٌ، وأن الفضيلة انسجام؟– إنه لا تكون أكثر من غيرها أبدًا.– وإن توخينا يا سمياس في حديثنا دقة أكثر، فلن يكون لروح أية رذيلة، إن كانت الروح انسجامًا؛ لأنه ما دام الانسجام مطلقًا فهو لا يساهم في غير المنسجم؟– لا.– وعلى ذلك فلا تقع رذيلة من روح هي روح مطلقة؟– كيف يمكن، وفاقًا لما سبق من حديث، أن تقع منها الرذيلة.– وبناءً على هذا إذن تكون أرواح الحيوانات جميعًا سواء في الخير، ما دامت كلها متساوية ومطلقة في روحانيتها؟فقال: إني موافقك يا سقراط.فقال: وهل يمكن في ظنك أن يَصْدُقَ كل هذا؟ أنسلِّم بهذه النتائج كلها، وهي مع ذلك ناتجة فيما يظهر من الزعم بأن الروح انسجام؟فقال: كلا ولا ريب.فقال: وأيضًا، أي عنصر بين الأشياء البشرية تراه مسيطرًا، سوى الروح، والروح الحكيمة بنوع خاص؟ أترى بينها مثل ذلك العنصر؟– حقًّا إني لا أرى.– وهل الروح على اتفاق مع رغبات الجسد، أم هي وإياها في خلاف؟ فمثلًا عندما يكون الجسد ظمآن ساخنًا، أفلا تصدف الروح بنا عن الشراب؟ وعندما يحس الجسد جوعًا، أفلا تصدفنا عن الأكل! وذلك واحد فقط من عشرة آلاف من أمثلة التضاد بين الروح وبين أشياء الجسد.– جد صحيح.– ولكن سبق مِنَّا اعتراف بأن الروح ما دامت انسجامًا، فلا يمكنها أن تنطق بإثارة لا تتفق مع الأوتار التي تألفت هي منها، من حيث حالات التوتر والاسترخاء والتموج وسائر المؤثرات، إنها تتبعها فقط، ولا تستطيع أن تقودها؟فقال: نعم، إنَّا اعترفنا بذلك يقينًا.– ومع ذلك فلسنا نرى الآن الروح تفعل الضد تمامًا، فهي تقود العناصر التي يُظَن أنها تتألف منها، وهي في معظم الأحوال تعارضها وتقهرها طيلة الحياة بكل ما أمكنها من سبل.وقد تكون معها أحيانًا أشد عنفًا بأن ترغمها على آلام الأدوية والألعاب، ثم قد تعود فتكون وإياها أرق وداعة، وهي في ذلك تتهدد بل وتزجر الشهوات والعواطف والمخاوف. كأنما هي بذلك تتحدث إلى شيء غير نفسها، كما يصور لنا هوميروس أوذيسيوس في الأوذيسة بهذه الكلمات:

لقد ضرب على صدره لكي يؤنب قلبه: «يا قلبُ صبرًا، فيا طالما احتملتَ أسوأ من ذلك شرًّا».

أفتظن هوميروس، قد تأثر حين سطر هذا، بالفكرة القائلة إن الروح انسجام، وإن رغبات الجسد قمينة أن تسوقها، وإنه لم يكن يرى أنها هي التي بطبيعتها تسيطر على تلك الرغبات وتقودها، وإنها أمعن في الألوهية من أي انسجام؟– نعم يا سقراط، إني موافق جِدًّا على ذلك.– إذن فلن نصيب يا صاح في قولنا إن الروح انسجام؛ لأن في ذلك تناقضًا ظاهرًا مع هوميروس الإلهي كما أنه متناقض وإيانا.فقال: حقًّا.قال سقراط: كفى يا سيبيس حديثًا عن هارمونيا،٣٠ إلهتكم الطيبية؛ فما أحسبها قد أغلظت معنا الصنيع، ولكن ماذا أقول لكادموس الطيبي، وكيف أسترضيه؟قال سيبيس: أظنك واجدًا سبيلًا إلى استرضائه؛ فلست أرتاب في أنك رددت حديث الانسجام بطريقة لم أكن أتوقعها قط. فقد أيقنت حينما تقدم سمياس باعتراضه أن ليس إلى إجابته من سبيل، فأدهشني لذلك أن أرى قوله يخور فلا يثبُت أمام هجمتك الأولى، وليس بعيدًا أن يُلاقي الآخر، الذي تدعوه كادموس، مصيرًا كهذا المصير.فقال سقراط: لا يا صديقي العزيز؛ فما ينبغي أن نُزْهَى خشاة أن تنطلق من عين خبيثة هذه الكلمة التي أوشك أن أنطق بها، فلنا أن ندع الأمر بين أيدي من هم في عِلِّيِّين، حتى أدْنوَ، على طريقة هومر، فاختبر ما يتوقد في عبارتك من حماسة، وخلاصة اعتراضك باختصار هي ما يأتي: إنك تريد أن يُقام لك الدليل على أن الروح باقية خالدة، وتظن أن الفيلسوف الذي يطمئن إلى الموت إنما يركن إلى طمأنينة فارغة حمقاء، إذا هو ظن أنه سيكون في العالم الأدنى أوفر جزاء ممن سلك في حياته سبيلًا أخرى، ما لم يستطع أن يدلل على ذلك، وأنت تزعم أن إثبات ما للروح من قوة وألوهية، وإثبات وجودها السابق لوجودنا في هيئة البشر، لا يقتضي بالضرورة خلودها. فإذا سلَّمنا بأن الروح قد عمرت طويلًا، وأنها في حالتها الأولى علمت وعملت شيئًا كثيرًا؛ فليس هذا الاعتبار دليلًا على خلودها، وقد يكون حلولها في الصورة البشرية ضربًا من الموت الذي هو ابتداء الانحلال، وقد تنتهي آخر الأمر إلى ما يُسَمَّى بالموت، بعد أن تفرغ من عناء الحياة. وسواء كانت الروح تحل في الجسد مرة واحدة فقط أم مرات عدة، فذلك كما قد تقول لا يخفف من مخاوف الأفراد شيئًا؛ فليس يخلو إنسان من الشعور الطبيعي، فإن لم يكن لديه عن خلود الروح علم وبرهان حق له أن يخاف. ذلك ما أحسبك قائله يا سيبيس، وهو ما أعيده عامدًا، حتى لا يفلت مِنَّا شيء منه، ولكي تستطيع إن شئت أن تُضيف إليه أو تحذف منه شيئًا.فقال سيبيس: ولكني، فيما أرى الآن، لا أجد ما أضيفه أو ما أحذفه. إنك عبرت عما أريد.فسكت سقراط هنيهة، وبدا عليه كأنما غاص في تأمله، وأخيرًا قال: إن هذا المبحث الذي أثرته يا سيبيس لذو خطر عظيم؛ فهو يتضمن موضوع الكون والفساد برمته، وذلك ما أود إن شئتم أن أقدم لكم فيه خبرتي. فخذوها إن رأيتم فيما أقول شيئًا يعين على حل إشكالكم.فقال سيبيس: لشد ما أرغب في أن أنصت لما تقول.قال سقراط: إذن فهناك حديثي يا سيبيس. لقد كنت في صباي شديد الرغبة في معرفة ما يُسَمَّى بالعلم الطبيعي من أبواب الفلسفة؛ فقد ظننت أن له أغراضًا سامية؛ إذ هو العلم الذي يبحث عن علل الأشياء فينبئنا لماذا وجد الشيء، وفيمَ خلقه وفناؤه، وكنت لا أَنِي أُقلق نفسي بالنظر في مسائل كهذه: هل يرجع نمو الحيوان إلى فساد يجيء به عاملا الحر والبرد كما يقول بعض الناس؟٣١ أيكون العنصر الذي نفكر به هو الدم أم الهواء أم النار؟ أم قد لا يكون شيئًا من هذا القبيل؟ — فربما كان المخ هو القوة التي تبتدع أحاسيس السمع والبصر والشم، وقد تنشأ عن هذه الأحاسيس الذاكرة والرأي، وعلى الذاكرة والرأي قد يُبنى العلم، ولكن إذا وقفت فيهما الحركة وأدركهما السكون. وبعدئذٍ مضيت أختبر فساد الأحاسيس، وأتناول بالبحث أشياء الأرض والسماء، واستخلصتُ أخيرًا أنني عاجز كل العجز عن هذه المباحث؛ وعلى ذلك سأقيم لك الدليل قاطعًا فقد فُتنتُ بها إلى درجة عَمِيَتْ معها عيناي أن ترى الأشياء التي كنت أحسبني، ويحسبني الناس عالمًا بها علم اليقين. قد أُنسيت ما كنت ظننته من قبل بديهيًّا لا يحتاج إلى دليل، وهو أن نموَّ الإنسان نتيجةُ الأكل والشرب؛ لأنه بهضم الطعام يجتمع لحم إلى لحم وعظم إلى عظم، وحيثما تجمعت عناصر متجانسة كبُر الجرم الضئيل، وعظُم الإنسان الصغير. ألم يكن ذلك رأيًا معقولًا؟قال سيبيس: نعم أظن ذلك.– حسنًا، دعني أُنبئك شيئًا آخر؛ فقد مر بي زمن كنت فيه أحسب أني أفهم معنى الأكبر والأصغر فهمًا جَيِّدًا، فإذا أبصرت رجلًا ضخمًا واقفًا إلى جانب رجل ضئيل، توهمت أن أحدهما أطول من الآخر قيد رأس، أو أن حصانًا كان يلوح لي أنه أكبر من حصان آخر، بل أوضح من ذلك أنني كنت فيما يظهر أحسب العشرة تزيد على الثمانية باثنين، وأن ذراعين أكبر من ذراع واحدة، لأن الاثنين ضعف الواحد.قال سيبيس: وماذا أنت اليوم قائل في مثل هذه الأمور؟فأجاب: كان ينبغي أن أنأى بنفسي بعيدًا من توهم أنني أعلم لأيها سببًا. حقًّا كان ذلك ينبغي؛ فلست أستطيع أن أقنع نفسي بأننا لو أضفنا واحدًا إلى واحد صار الواحد الذي جاءته الإضافة اثنين، أو أن الواحدتين مضافتين معًا تساويان بسبب الإضافة اثنين؛ فلست بمسيغ كيف أنه إذا انفصلت إحداهما عن الأخرى كانت واحدًا لا اثنين، ثم إذا تلاقيا؛ فقد يكون مجرد التقارب بينهما سببًا في أن تصبحا اثنتين. هذا ولست أفهم كيف تكون قسمة الواحد سبيلًا للحصول على اثنين؛ لأنه عندئذٍ تكون النتيجة الواحدة ناتجة من سببين متباينين. ففي المثال الأوَّل نشأ اثنان من جمع واحد إلى واحد وتقاربهما، وفي الثاني كان السبب هو انفصال واحد عن واحد وطرحه منه.٣٢ ولست مقتنعًا بعد ذلك بأنني أفهم لماذا يتولد الواحد أو أي شيء آخر، ولماذا يزول، بل ولماذا يكون إطلاقًا؟ إنني لن أسلِّم بهذا قط، وإني لأتمثل في ذهني فكرة مهوشة عن طريقة أخرى.ثم استمعت إلى رجل كان عنده كتاب أناكسجوراس، كما قال، وطالع فيه أن العقل هو المصرِّف والعلة لكل شيء، ولشد ما اغتبطت لذكر هذا الذي كان باعثًا على الإعجاب. وقلت لنفسي: إذا كان العقل هو المسيِّر فإنه سيسير بكل شيء إلى الصورة المثلى، ويضع كل شيء أحسن موضع. وزعمتُ أن من يرغب من الناس في استكشاف علة تولد أي شيء أو زواله أو وجوده، فعليه أن يرى كيف تكون الصورة المثلى لذلك الشيء من حيث وجوده وسعيه وعمله، لذلك كان لزامًا على المرء ألا يضع نصب عينيه إلا الحالة المثلى بالنسبة إلى نفسه وإلى الناس، ثم عليه بعد ذلك أن يعلم الأسوأ أيضًا؛ فالأمثل والأسوأ يحويهما علم واحد. وسرني ما ظننت أني واجد في أناكسجوراس من يعلمني ما وددت أن أعلم من أسباب الوجود، وخُيِّل إليَّ أنه منبئي أول الأمر عن الأرض أمسطحة هي أم كُرِّيَّة، وأنه باسط لي بعد ذلك علة هذا وضرورته، وأنه مُعلِّمي طبيعة الأمثل، ومُظهر لي أن الأمثل إنما هو هذا،٣٣ فإن زعم أن الأرض قائمة في المركز شرح كيف أن هذا هو الوضع الأمثل، وكنت سأقتنع به لو بيَّنَ لي كذلك، وما كنت لأقتضيه غير ذلك سببًا. وحسبت أنني قد ألتمسه بعد ذلك فأسائله عن الشمس والقمر والنجوم، فيشرح لي سرعتها المقارنة، ونكوسها ومختلف حالاتها، وكيف أنها تتجه بميولها المتعددة، القابلة منها والفاعلة نحو الأمثل دائمًا، وما كنت أتصور أنه إذا ما تحدث عن العقل باعتباره مصرفًا لها، يعلل وجودها على هيئتها الراهنة بغير علة أن هذه هي الصورة المثلى، وظننت أنه بعد أن يفرغ من الشرح المفصل لعلة كل منها وعلتها جميعًا، سيمضي يبين لي الحالة المثلى لكل منها ولها جميعًا. لقد تناولت الكتب متلهفًا لأعلم أمر الأمثل والأسوأ، فتلوتها مسرعًا ما استطعت إلى السرعة سبيلًا، وقد رجوت آمالًا لم أكن لأبيعها بكثير.ما أبعد ما رجوت من أمل، وما أسوأ ما عُدت به من فشل! فما مضيت حتى ألفيت فيلسوفي قد نبذ العقل نبذًا كما نبذ كل ما سواه من أسس الاتساق، وانتكس إلى الهواء والأثير والماء وما إليها من شوارد الآراء، فكان عندي أشبه برجل أصرَّ بادئ ذي بدء أن العقل هو علة أفعال سقراط بصفة عامة، فلما أراد أن يُبيِّن بالتفصيل أسباب أفعالي العديدة، أخذ يبرهن أنني أجلس ها هنا لأن جسمي مصنوع من عظام وعضلات، وأن العظام كما كان ينتظر أن يقول: صلبة تفصل بينها أربطة، وأن العضلات مرنة وهي تغطي العظام التي يحتويها كذلك غشاء أو محيط من اللحم والجلد. ولما كانت العظام مشدودة إلى مفاصلها لقبض العضلات وبسطها، كان في استطاعتي أن أثني أطراف بدني، وهذا علة جلوسي ها هنا في وضع منحنٍ. إنه كان سيزعم هذا، وكان سيشرح بمثل هذا كلامي إليكم، فقد كان سيعزوه إلى الصوت والهواء والسمع، وكان سيذكر من هذا النوع من الأسباب عشرة آلاف سوى ما ذُكر، ناسيًا أن يُشير إلى السبب الحقيقي وهو أن الأثينيين قد رأوا في إدانتي صوابًا، فرأيت أنا بناءً على ذلك أن الأفضل والأصوب هو مقامي ها هنا محتملًا ما حُكم عليَّ به؛ فأرجح الظن عندي أن عظامي وعضلاتي هذه كانت تودُّ لو فرت إلى ميغارا أو بوتيا Beotia، وإني لأقسم بالكلب أنها تود ذلك، إذا لم يكن يسيِّرها إلا فكرتها هي عن الأحسن، وإذا لم أكن قد آثرت أن أحتمل كل عقوبة تقضي بها الدولة، على اعتبار أن ذلك أفضل وأشرف مسلكًا، بدل أن أمثل دور الآبق فألوذ بالفرار. لا شك أن في هذا كله خلطًا عجيبًا بين الأسباب والحالات. وقد يمكن القول حقًّا إنني لا أستطيع تحقيق غاياتي بغير العظام والعضلات وسائر أجزاء الجسد، أمَّا القول بأنني أفعل ما أفعل من أجلها، وأن فعل العقل إنما يكون على هذا النحو ولا يكون باختيار الأحسن، فذلك ضربٌ من القول العابث العقيم؛ وإني لأستغرب ألا يستطيع الناس أن يفرقوا بين السبب والحالة، وهو ما يخطئ الدهماء فيه وفي تسميته دائمًا؛ لأنهم يتخبطون في الظلام. وهكذا ترى واحدًا من الناس يفترض دوامةً من الماء تحيط بالأرض التي ترتكز في موضعها بفعل السماء، وترى آخر يذهب إلى أن الهواء عماد الأرض، وأن الأرض في شكل الحوض الفسيح،٣٤ ولا تسيغ عقولهم قط وجود أية قوة تسير بهم إذ تصرفهم نحو الأحسن، وهم لا يتخيلون أن في ذلك قوة فوق القوة البشرية، إنما هم يتوقعون أن يجدوا للعالم عمادًا آخر أقوى من الخير وأكثر منه دوامًا وشمولًا، وهم بغير شك يرون أن قوة الخير القسرية الشاملة هي كل شيء، ولكني مع ذلك أتمنى أن يكون هذا هو المبدأ الذي أتعلمه إن وجد من يعلمنيه، ولما كنت قد فشلت أن أستكشف بنفسي أو بإرشاد غيري من الناس طبيعة الأمثل، فسأعرض عليكم إذا شئتم طريقة البحث في العلة التي وجدتها تتلو الأمثل في المثالية.٣٥أجاب: لشد ما أحب أن أُصغي إلى ذلك.فمضى سقراط: ظننت أني ما دُمت قد فشلت في تأمل الوجود الحقيقي فينبغي أن أحرص على عين روحي فلا أفقدها كما يؤذي الناسُ عيونهم الجثمانية بشهود الشمس والنظر إليها أثناء الكسوف، ما لم يتحوطوا فلا ينظرون إلا إلى الصورة المنعكسة على الماء أو ما يشبه الماء من وسيط. حدث لي ذلك فخفت أن تُصاب روحي بالعمى الشامل إذا أنا نظرت إلى الأشياء بعينيَّ أو حاولت أن أتفهمها بوساطة الحواس، وفكرت أنه يَحسُن بي أن أعود إلى المُثُل فأبحث فيها عن حقيقة الوجود، وإني لأعترف بنقص هذا التشبيه؛٣٦ لأنني بعيد جِدًّا عن التسليم بأن من يتأمل صور الوجود بوساطة المثل يراها «معتمة خلال منظار» دون من ينظر إليها وهي في نشاطها وبين نتائجها، ومهما يكن من أمر فهذه سبيلي التي سلكتها، فرضت بادئ الأمر مبدأ زعمت أنه أمتن المبادئ، ثم أخذت أثبت صحة كل شيء يبدو متفقًا مع ذلك المبدأ، سواء أكان ينتمي إلى السبب أو إلى أي شيء آخر، واعتبرت كل ما يتنافر وإياه غير صحيح، ولكني أحب أن أوضح بالشرح ما أعني؛ فما أحسبكم تفهمون ما أريد.فأجاب سيبيس: كلا، حقًّا إنَّا لم نفهم جيدًا.قال: ليس فيما أوشك أن أنبئكم به من جديد؛ فهو ما ظللت أكرره أينما حللت، فيما سبق من نقاش، وفي ظروف غيره سلفت، فثمة علة قد ملكت عليَّ خواطري، أريد أن أبسط لكم طبيعتها، ولا مندوحةَ لي عن العودة إلى تلك الألفاظ المألوفة التي يلوكها كل إنسان؛ فأزعم قبل كل شيء أن ثمَّ جمالًا مطلقًا وخيرًا مطلقًا وكبرًا مطلقًا وما إلى ذلك. سلِّم معي بهذا ولعلي أستطيع أن أدلك على طبيعة العلة، وأن أُقيم لك الدليل على خلود الروح.فقال سيبيس: تستطيع أن تمضي من فورك في برهانك؛ فلست أتردد في أن أسلِّم لك بهذا.فقال: حسنًا، إذن فأحب أن أعلم هل تتفق معي في الخطوة التالية، وتلك أنه لو كان هنالك شيء جميل غير الجمال المطلق لما شككت في استحالة أن يكون ذلك الشيء جميلًا إلا بمقدار مساهمته في الجمال المطلق، وإني أقرر هذا عن كل شيء. أأنت موافقي على هذا الرأي في العلة؟فقال: نعم أوافقك.فمضى قائلًا: لست أعلم شيئًا ولا أستطيع أن أفهم شيئًا عن أي سبب آخر من تلك الأسباب الحكيمة التي يزعمونها. فإن قال لي أحد إن جمالًا ينبعث عن ازدهار اللون أو الشكل أو ما شئت من شيءٍ من هذا القبيل، لطرحت قوله جملة؛ فليس لي منه إلا ربكتي، ولتشبثت بفكرة واحدة دون غيرها تشبُّثًا قد يكون على شيء من الحمق، ولكني من صوابها على يقين، وهي أنه لا يجعل الشيء جميلًا إلا وجود الجمال والمساهمة فيه، مهما تكن سبيل الوصول إلى ذلك، وكيفية الحصول عليه، فلست أقطع برأي في الكيفية، ولكني أقرر بقوة أن الأشياء الجميلة كلها إنما تكون جميلة بالجمال، وعندي أن ذلك وحده هو الجواب المعصوم الذي أستطيع أن أدلي به لنفسي أو لأي أحد آخر، وإني لأتشبث به، ويقيني أن لن تُصيبني الهزيمة قط، وأنه في مكنتي أن أُجيب، في عصمة من الزلل، على نفسي أو على أي أحد من الناس، بأن الأشياء الجميلة لا تكون جميلة إلا بالجمال. ألست توافق على ذلك؟– نعم أوافق.– وبالكبر وحده تصير الأشياء الكبيرة كبيرة فأكبر وأكبر، وبالصغر يصير الصغير صغيرًا؟– حقًّا.فلو لاحظ شخص أن «أ» أطول من «ب» بمقدار رأس، وأن «ب» أصغر من «أ» بمقدار رأس، فسترفض أن تسلِّم له بهذا، وستزعم بقوة أنك لا تعني إلا أن الأكبر أكبر بالكبر، وبسببه، وأن الأصغر ليس أصغر إلا بالصغر، وبسببه، وهكذا تجنب نفسك خطر القول بأن الأكبر أكبر، وأن الأصغر أصغر، بمقياس الرأس، الذي هو هو في كلتا الحالين، وستجنب نفسك كذلك ما في افتراض أن الرجل الأكبر أكبر بسبب الرأس الذي هو صغير، من سخف فظيع. ألم تكن لتخشى ذلك؟فقال سيبيس ضاحكًا: كنت لأخشاه حقًّا.وكنت تخشى بنفس الطريقة أن تقول إن عشرة تزيد على ثمانية باثنين، وبسببها، ولكنك كنت تقول إنها تزيد عليها بالعدد، وبسببه، أو أن ذراعين يزيدان على ذراع واحد بنصف بل هما يزيدان عليه بالكبر، ذلك ما كنت تقوله لأن الخطر بذاته موجود في كلتا الحالين.قال: جد صحيح.– ثم ألم تكن لتحذر من التأكيد بأن إضافة واحد إلى واحد، أو قسمة واحد، هي سبب اثنين، وكنتَ لتقسم أمام الملأ بأنك لا تدري طريقة يجيء بها أي شيء إلى الوجود، إلا مشاطرته لجوهره الأصلي، فينتج أن سبب الاثنين الأوحد هو — في حدود ما تعلمه أنت — مشاطرة الاثنينية؛ فهذه المشاطرة هي طريقة عمل اثنين كما أن مشاطرة الواحد هي طريقة عمل الواحد، وكنت ستقول إني مُطَّرح ألغاز القسمة والإضافة جانبًا — فقد تجيب عنها رءوس أبلغ من رأسي حكمة، وما دمت كما أنا عديم الخبرة، أفزع من ظلي كما يذهب المثل؛ فلستُ أقوى على أن أتناول بالهدم مبدأ ذا أساس مكين. فإن هاجمك في ذلك مهاجم، لم تحفل به، أو أجبته حتى ترى إن كانت النتائج الناجمة متفقًا بعضها مع بعض أو لا، فإن طلب إليك بعد ذلك أن تتناول هذا المبدأ بالشرح، مضيت تزعم مبدأ أسمى؛ فأسمى المبادئ السامية، حتى تجد لنفسك مكمنًا، ولكنك لم تكن لتخلط في تدليلك بين المبدأ والنتائج، كما فعل الأرستيون The Eristics على الأقل إذا أردت أن تستكشف الوجود الحقيقي. لا لأن هذا الخلط كان سيتبين لهؤلاء الذين لا يعنيهم الأمر إطلاقًا ولا يفكرون فيه، فلديهم من الذكاء ما يكفي أن يجعلهم يغتبطون بأنفسهم غبطة عظيمة، مهما يكن ما تحويه أفكارهم من عناء كبير، ولكني أعتقد أنك فاعل كما أقول إن كنت فيلسوفًا.قال سمياس وسيبيس في صوت واحد: إن ما تقوله لحق بالغ.
أشكراتس : نعم يا فيدون، وليس يدهشني منهما هذا التسليم؛ فكل إنسان له من الفكر أدنى حدوده ليقر بما في تدليل سقراط من وضوح عجيب.
فيدون : يقينًا يا أشكراتس، وقد كان ذلك عندئذٍ إحساس الرفاق جميعًا.
أشكراتس : نعم، وهو إحساسنا أيضًا، نحن الذين نُصغي الآن لروايتك ولم نكن من الرفاق، ولكن ما الذي تلا هذا؟
فيدون : بعد أن سلَّموا بهذا كله، ووافقوا على وجود المثل، وعلى مشاركة سائر الأشياء فيها، تلك الأشياء التي اشتُقَّتْ أسماؤها من تلك المثل. قال سقراط ما يأتي، إن كنت مصيبًا فيما أتذكر: تلك هي طريقتك في الحديث، ومع ذلك فحين تقول إن سمياس أكبر من سقراط وأصغر من فيدون، ألست بذلك تصف سمياس بالكبر والصغر معًا؟– نعم، إني أفعل ذلك.– ولكنك على رغم هذا تسلِّم بأن سمياس لا يزيد في الحقيقة عن سقراط بسبب أنه سمياس، كما قد يدل عليه ظاهر العبارة، ولكنه يزيد عليه بسبب ما له من حجم؛ فليس يزيد سمياس على سقراط لأنه سمياس أكثر مما يزيد عليه لأن سقراط هو سقراط؛ إنما سبب الزيادة أن فيه صغرًا حينما يقرن إلى كبر سمياس؟– حقًّا.– وإذا كان فيدون يربي عليه حجمًا؛ فليس ذلك لأن فيدون هو فيدون، بل سببه أن في فيدون كبرًا بالنسبة إلى سمياس الذي هو أصغر بالمقارنة؟– هذا حق.– وإذن فسمياس يُقال عنه إنه كبير كما يُقال عنه إنه صغير لأنه في موقف وسط بينهما؛ فهو يزيد بكبره على صغر أحدهما، كما أن كبر الآخر يزيد على صغره. ثم أضاف ضاحكًا: ما أشبهني فيما أقول بكتاب، ولكني أعتقد أن ما أقوله حق.فوافق سمياس على هذا.– والسبب في هذا القول مني هو رغبتي في أن تروا معي أنه ليس الكبر المطلق وحده هو الذي يستحيل عليه أن يكون كبيرًا وصغيرًا في آنٍ معًا، بل إن ما فينا من الكبر، وكذلك ما في المحسات، لن يقبل كذلك الصغير بتاتًا، ولن يرضى أن يُربى عليه، وسيحدث بدلًا من هذا أحد شيئين: إما أن الأكبر سيزول أو يتراجع أمام ضده، وهو الأصغر، أو أنه سيتلاشى بازدياد الأصغر، ولكنه لو قبل أو سلَّم بالصغر فلن يغير ذلك منه، كما أني لا أزال كما كنت تمامًا الشخص الصغير بذاته مع كوني قد تلقيت الصغير وقبلته حينما قُرنت إلى سمياس. فكما أنه يستحيل قطعًا على مثال الكبير أن يتنازل ليكون أو ليصير صغيرًا، كما يستحيل على أي ضد آخر ظل كما هو، أن يكون أو يصير ضد نفسه أبدًا، فهو إما أن يزول أو يُمحى أثناء التغير.أجاب سيبيس: هذا عين ما أرتئيه.فلما أن سمع ذلك أحد الرفاق، ولست أذكر على التحقيق من هو، قال: بحق السماء، أليس هذا هو النقيض تمامًا لما سبق التسليم به؛ ذلك أن من الأكبر جاء الأصغر، ومن الأصغر جاء الأكبر، وأن الأضداد إنما تولدت من أضداد؛ فأحسبكم الآن منكرين هذا إنكارًا قاطعًا.فمال سقراط نحو المتكلم برأسه مُنصِتًا، ثم قال: تُعجبني جرأتك في تذكيرنا بهذا، ولكنك لم تلاحظ أن هنالك اختلافًا بين الحالتين؛ فقد كُنَّا نتحدث فيما سلف عن الأشياء المتضادة، أمَّا الآن فحديثنا عن الضد في ذاته الذي يستحيل عليه — كما هو مقطوع به — أن يتحول إلى ضد نفسه سواء كان موجودًا فينا أم في الطبيعة. إذن فقد كُنَّا يا صديقي نتحدث عن الأشياء التي تُنسب إليها الأضداد، والتي سُمِّيَت تبعًا لها، أمَّا الآن فنحن إنما نتكلم عن الأضداد نفسها الموجودة في الأشياء والتي تخلع أسماءها عليها، فلن تقبل قطُّ هذه الأضداد الذاتية فيما نعتقد، الكون أو صدور بعضها من بعض. وهنا التفت إلى سيبيس وقال: هل أدخل اعتراض صاحبنا شيئًا من الحيرة في نفسك يا سيبيس؟فأجاب سيبيس: لم أشعر بذلك، ولكني لا أنكر أني أوشك أن أحسَّ الارتباك.فقال سقراط: إذن فنحن بعد هذا كله متفقون على أن الضد لن يكون مضادًّا لنفسه بأية حال؟فأجاب: إننا في هذا على اتفاق تام.– ولكن اسمح لي أن أطلب إليك مرة ثانية أن تنظر إلى المسألة من وجهة أخرى، لترى إن كنت متفقًا معي: أهنالك شيء تسميه بالحرارة وشيء آخر تطلق عليه اسم البرودة؟– يقينًا.– ولكن أهما النار والثلج ذاتهما؟– كلا، بغير شك.– ليست الحرارة هي النار، ولا البرودة هي الثلج؟– لا.– ولكنك لن تتردد في التسليم بأنه إذ يكون الثلج تحت تأثير الحرارة، كما سبق القول، فلن يلبثا ثلجا وحرارة، بل كلما ازدادت الحرارة، تراجع الثلج أو أدركه الفناء.– أجاب: جد صحيح.– كذلك كلما ازدادت البرودة على النار، فإما أن تتراجع أو تَفنَى؛ وإذ تكون النار تحت تأثير البرودة، فلن يلبثا نارًا وبرودة، كما كانت الحال من قبل.قال: هذا حق.– وفي بعض الحالات لا يكون اسم المثال idea مقصورًا على المثال، بل إن لكل شيء آخر حق المشاركة في الاسم، ما دام موجودًا في صورة المثال، من غير أن يكون هو المثال، وسأسوق إليك مثلًا لعلِّي أوضح هذا القول: أليس يُطلَق دائمًا اسم الفردي على العدد الفردي؟– جد صحيح.– ولكن هل هذا وحده هو الشيء الذي يُسَمَّى بالفردي؟ أليس ثمة أشياء أخرى لها أسماؤها الخاصة بها، ويُطلَق عليها رغم ذلك اسم الفردي؛ لأنها وإن كانت ليست هي الفردية ذاتها، غير أنها لا تخلو من الفردية قطعًا؟ — هذا ما أريد أن أستجيب عنه — أليست الأعداد كرقم ثلاثة مثلًا من نوع الفردي؟ وهناك غير هذا كثير من الأمثلة، ألست تقول مثلًا إنه يجوز أن يُدعى رقم الثلاثة باسمه الأصلي، ثم يُطلَق عليه كذلك اسم الفردي، وليس الفردي هو الثلاثة ذاتها؟ وليس يُقال هذا عن العدد ثلاثة فقط، بل إنه جائز أيضًا على خمسة، وعلى كل الأعداد الفردية الأخرى، كل منها فردي دون أن يكون هو الفردية. وهكذا قل في اثنين وأربعة وسائر سلسلة الأعداد المتعاقبة، كل عدد زوجي دون أن يكون هو الزوجية. هل تسلِّم بهذا؟قال: نعم، وهل إلى إنكاره من سبيل؟– ألقِ بالك إذن إلى الغاية التي أنشدها؛ ليست الأضداد المعنوية وحدها هي التي يطرد بعضها بعضًا، بل كذلك الأشياء المجسدة التي وإن لم تكن متضادة في ذاتها إلا أنها تحتوي أضدادًا. وأنا أزعم أن هذه الأشياء أيضًا ترفض المثال idea الذي يكون مُضادًّا لما تحتويه في داخلها، وهي إذا ما تقدم ذلك فإما أن تنسحب أو تفنى. خذ عدد ثلاثة مثلًا، أليس يصبر على التلاشي أو أي شيء آخر، أهون عليه من أن يتحول إلى عدد زوجي مع بقائه ثلاثة؟فقال سيبيس: جد صحيح.قال: ومع ذلك فلا ريب في أن العدد اثنين ليس مُضادًّا للعدد ثلاثة؟– إنه لا يضاده.– إذن فليست المُثُل المتضادة وحدها هي التي يقاوم بعضها تقدم بعض، ولكن ثمة أشياء أخرى تقاوم كذلك اقتراب الأضداد؟– فقال: هذا جد صحيح.قال: هبنا نحاول تحديد ماهية هذه «الأشياء» إن أمكن ذلك.– لا ريب في هذا.– أليست هذه يا سيبيس تُرغم الأشياء التي في حوزتها على أن تتخذ شكل بعض الأضداد فضلًا عن شكلها هي؟– ماذا تعني؟– أعني، كما كنت أقول الآن توًّا، وما ليس بي حاجة لإعادته إليك، إن الأشياء التي يملكها العدد ثلاثة، لا يلزم فقط أن تكون ثلاثة في عددها، بل ينبغي كذلك أن تكون فردية.– جد صحيح.– ويستحيل على المثال المضاد أن يعتدي على هذه الفردية التي انطبع العدد ثلاثة بطابعها؟– كلا.– وهو إنما استمد هذا الطابع من عنصر الفردي؟– نعم.– والزوجي والفردي ضدان؟– حقًّا.– إذن فمثال العدد الزوجي لن يلحق بثلاثة أبدًا؟– كلا.– وإذن فليس لثلاثة في الزوجي من نصيب؟– كلا.– إذن فالثلاثي أو العدد ثلاثة غير زوجي؟– جد صحيح.لأعُدْ إذن إلى ما زعمتُه من تمييز بين الطبائع التي ليست أضدادًا وهي مع ذلك لا تقبل أضدادًا، فكما في هذا المثال على الرغم من أن ثلاثة ليست مضادة للزوجي إلا أنها لا تقبل شيئًا من الزوجي أبدًا، ولكنها دائمًا تعرض الضد في الجانب الآخر أو كما أن اثنين لا تتقبل الفردي، أو النارُ البرودة. ومن هذه الأمثلة (ومنها كثير غير هذا) ربما استطعت أن تصل إلى نتيجة عامة أنه ليست فقط الأضداد هي التي لا تتقبل أضدادًا، بل كذلك لا شيء مما يسوق الضد يقبل ضد ما يسوقه فيما سيق إليه. واسمح لي هنا أن ألخص ما سبق من قول — فليس في التكرار من ضرر، لن يقبل العدد خمسة طبيعة الزوجي، أكثر مما تقبل عشرة، وهي ضعف الخمسة، طبيعة الفردي — فللضعف ضد آخر وليس مُضادًّا للفردي تضادًّا دقيقًا، غير أنه يرفض الفردي إجمالًا، ولن تقبل كذلك أجزاءُ النسبة ٣ : ٢ فكرة الكل، وكذلك أي كسر يكون فيه نصف، لا بل والذي يكون فيه ثلث، ولو أنها ليست مضادة للكل، هل تسلِّم بذلك؟فقال: نعم إني متفق تمامًا، وذاهب معك إلى ذلك.قال: أظنني الآن أستطيع أن أبدأ ثانيًا، وإني لأرجوكم أن تُدْلوا إليَّ عن هذا السؤال الذي أوشك أن ألقيه، بجواب غير الجواب القديم المأمون، وسأقدم لكم لما أريد مثالًا، وعسى أن تجدوا أساسًا آخر فيما قيل الساعة توًّا يكون مأمونًا كذلك؛ أعني أنه لو ساءلكم أحد: «ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حارًّا بحلوله فيه؟» فستجيبون أنه ليس الحرارة (وهذا ما أدعوه بالجواب المأمون)، ولكنه النار، وهو جواب يفضل ذلك كثيرًا، ونحن الآن مهيئون للإدلاء به. أو لو ساءلكم أحد: «لماذا يعتل الجسد؟» فلن تقولوا من المرض بل من الحمى، وفي مكان القول بأن الفردية هي سبب الأعداد الفردية ستقولون إن الجوهر الفرد هو سببها. وهكذا في الأشياء بصفة عامة، أحسب أنك ستفهم ذلك فهمًا جَيِّدًا بغير أن أسوق إليك أمثلة أخرى؟فقال: نعم، إني أفهم ما تقول فهمًا جَيِّدًا.– حدِّثني إذن ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حيًّا بحلوله فيه؟فأجاب: هو الروح.– أهذه هي الحال دائمًا؟فقال: نعم، بالطبع.– إذن فمهما يكن ما تملكه الروح؛ فإنها إذ تأتيه تحمل إليه الحياة؟– نعم، يقينًا.– وهل ثمة ضد للحياة؟فقال: نعم هناك.– وما هو ذاك؟– الموت.– إذن فلن تقبل الروح أبدًا، كما اعترفنا، ضد ذلك الذي تسوقه. ثم قال: والآن، بماذا سمينا ذلك المبدأ الذي يقاوم الزوجي؟– الفردي.– والمبدأ الذي يقاوم الموسيقيَّ أو العادل؟فقال: غير الموسيقيِّ وغير العادل.– وبماذا نُسَمِّي ذلك المبدأ الذي لا يقبل الموت؟فقال: الخالد.– وهل تقبل الروح الموت؟– كلا.– إذن فالروح خالدة؟فقال: نعم.– أيحق لنا القول بأن ذلك قد ثبت بالدليل؟فأجاب: نعم يا سقراط، لقد ثبت بأدلة كثيرة.– وإذا فرضنا أن الفرديَّ لا يخضع للفناء، أليس يلزم أن ثلاثة غير قابلة للفناء؟– طبعًا.– وإذا كان الشيء البارد غير قابل للفناء، ثم جاء العنصر الدافئ يهاجم الثلج، أفلا ينبغي للثلج أن يتراجع متماسكًا متجمدًا لأنه عندئذٍ يستحيل عليه أن يفنى كما كان يستحيل عليه أن يبقى مع قبوله للحرارة؟فقال: حقًّا.– وكذلك لو كان العنصر الذي لا يبعث البرودة، أي الدافئ، مستعصيًا على الفناء، لما فنيت النار وما انطفأت حين تُغِير عليها البرودة، ولكنها تنأى بغير أن تتأثر؟فقال: يقينًا.– ويمكن أن يُقال هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصيًّا كذلك على الفناء، لاستحال فناء الروح حين يهاجمها الموت؛ إذ يدل البرهان السابق على أن الروح لن تكون قطُّ ميتة، فلن تقبل الموت أكثر مما تقبل ثلاثة أو العدد الفردي، الزوجي، أو النار أو الحرارة التي في النار، البرودة. ومع ذلك فرُب أحد يقول: «ولكن على الرغم من أن الفردي لن يصير زوجيًّا حتى يقترب الزوجي منه، فلماذا لا يجوز أن يفنى الفردي وأن يحل مكانه الزوجي؟» ونحن لا نستطيع أن نجيب من يتقدم بهذا الاعتراض بأن العنصر الفردي مستعصٍ على الفناء لأن ذلك لم يعترف به بعد، فلو قد اعترف بهذا لما أشكل علينا الزعم بأن العنصر الفردي والعدد ثلاثة يهمان بالرحيل حين يقترب الزوجي، وهذا البرهان بعينه كان يصح عن النار وعن الحرارة وعن أي شيء آخر.– جد صحيح.– ويجوز هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصيًا كذلك على الفناء؛ إذن لكانت الروح مستعصية على الفناء كالخالد سواء بسواء، فإن لم يكن، وجب أن يُقام برهان آخر على استحالة فنائها.فقال: ليس بنا من حاجة إلى برهان آخر؛ إذ لو كان الخالد — وهو سرمدي — عرضة للفناء، للزم ألا يستحيل الفناء على شيء.فأجاب سقراط: نعم؛ فكل الناس مسلِّمون بأن الفناء مستحيل على الله وعلى صورة الحياة الروحية وعلى الخالد بصفة عامة.قال: نعم، كل الناس بذلك مسلِّمون — هذا صحيح، وأكثر من هذا؛ فهم مجمعون — إن لم أكن مخطئًا، على أن الآلهة كالناس في ذلك.– وإذن فما دمنا قد رأينا أن الخالد لا يناله التخريب، أفلا يلزم أن تكون الروح مستعصية على الفناء كذلك، ما دامت خالدة؟– بكل تأكيد.– إذن فحين يهاجم الموت إنسانًا؛ فقد يتعرض الجزء الفاني منه للموت، أمَّا الخالد فينأى عن طريق الموت حيث يُحفظ مصونًا سليمًا؟– حقًّا.– إذن يا سيبيس فالروح خالدة بغير شك، هي مستعصية على الفناء، وستحيا أرواحنا حقًّا في عالم آخر!فقال سيبيس: إني مقتنع يا سقراط، وليس لديَّ بعد ذلك ما أعترض عليه، فإن كان عند صديقي سمياس، أو عند أحد سواه اعتراض آخر، فيجمل به ألا يلتزمَ الصمت وأن يعلنَه، اللهم إن كان لديه شيء يريد أن يُدليَ به، أو كان يودُّ لو أدلى به؛ فلست أرى أن سيجود عليه الدهر بأنسب من هذه اللحظة حتى يجوز له أن يُرجئ إليه الحديث.فأجاب سمياس: ولكن ليس عندي ما أقوله بعد ذلك، بل لست أرى مجالًا للشك، إلا ما ينشأ حتمًا عن ضخامة الموضوع وضعف الإنسان، فذلك ما لم يسعني إلا أن أشعر به.فأجاب سقراط: نعم يا سمياس فقد أحسنت قولًا، أضف إلا ذلك أن المبادئ الأولى يجب أن تبسط للبحث الدقيق حتى وإن كانت تبدو يقينًا، فإذا ما استوثقنا منها وثوقًا مُرضيًا، استطعنا بعدئذٍ، فيما أظن، في شيء من الإيمان المزعزع بالعقل البشري، أن نتتبع مجرى البرهان، فإن ألفيناه واضحًا لم يكن بنا بعد ذلك حاجة لسؤال.فقال: ذلك صحيح.قال: أمَّا إن كانت الروح يا أصدقائي خالدة حقًّا؛ فما أوجب العناية بها، ليس في حدود هذه الفترة من الزمن التي تُسَمَّى بالحياة وكفى، بل في حدود الأبدية! وما أهول الخطر الذي ينجم عن إهمالها بناءً على هذه الوجهة من النظر. لو كان الموت خاتمة كل شيء، لكانت صفقة الأشياء في الموت راجحة؛ لأنهم سيغتبطون بخلاصهم، لا من أجسادهم فحسب، بل من شرهم ومن أرواحهم معًا. أمَا وقد اتضح في جلاء أن الروح خالدة؛ فليس من الشر نجاة أو خلاص إلا بالحصول على الفضيلة السامية والحكمة العليا؛ لأن الروح لا تستصحب معها شيئًا في ارتقائها إلى العالم الأدنى، اللهم إلا التهذيب والتثقيف، اللذين يُقال عنهما بحق إنهما ينفعان الراحل أكبر النفع أو يؤذيانه أكبر الأذى، إذا ما بدأ حجَّته إلى العالم الآخر.فبعد الموت، كما يقولون، يقود كل امرئ شيطانه٣٧ الذي كان تابعًا له في الحياة، إلى مكان معين يتلاقى فيه الموتى جميعًا للحساب؛ ومِنْ ثَمَّ يأخذون سمتهم نحو العالم الأدنى، يقودهم دليل نيطت به قيادتهم من هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا ما لقوا هناك جزاءهم ولبثوا أجلهم، رجع بهم ثانية بعد كر الدهور المتعاقبة دليل آخر، وليست هذه الرحلة للعالم الآخر، كما يقول أسكيلوس Aschylus في «التلفوس» Telephus، طريقًا واحدةً مستقيمةً، وإلا لما احتاج الأمر إلى دليل، فلم يكن أحد ليضل في طريق واحدة، ولكن الطريق كثيرة الشعب والحنايا. وإني لأستنتج ذلك مما يُقَدَّم إلى آلهة العالم الأدنى من الشعائر والقرابين، في أمكنة من الأرض تتلاقى عندها سبل ثلاث؛ فالروح الحكيمة المنظمة تكون عالمة بموقفها وتسير في سبيلها على هدى، أمَّا الروح الراغبة في الجسد، والتي لبثت أمدًا طويلًا — كما سبق لي القول — ترفرف حول الهيكل الذي لا حياة فيه، وحول عالم الرؤية، فيحملها شيطانها الملازم لها في عنف وعُسر، وبعد عراك متصل وعناء كثير، حتى تبلغ ذلك المكان الذي تجتمع فيه سائر الأرواح. فإن كانت روحًا دَنِسة خبيثة الصنيع، بأن انغمست في الفتك المنكر وفي أخوات الفتك من الجرائم الأخرى، وتلوثت بهذه السلسلة من الآثام، فإن كل إنسانٌ يفرُّ من تلك الروح وينصرف عنها، فلن يكون أحد لها رفيقًا أو دليلًا، بل تظل تخبط وحدها في أرذل الشر، حتى ينقضي أجل معلوم، فإذا ما انقضى ذاك الأجل حُمِلت خانعة إلى مستقرها الملائم. كذلك لكل روح طاهرة مسكينة، مضت في حياتها مرافقة للآلهة مترسِّمة خطوهم، مُقامها الخاص.هذا وإن في الأرض لربوعًا مختلفةً عجيبةً، تختلف في حقيقة أمرها — كما أعتقد معتمدًا على رأي ثقةٍ لن أذكر اسمه — تمام الاختلاف عن آراء الجغرافيين من حيث طبيعتها ومداها.فقال سمياس: ماذا تعني يا سقراط؟ لقد سمعت للأرض أوصافًا كثيرةً، ولست أدري مع أيها تذهب، وأحب أن أعلم ذلك.فأجاب سقراط: حسنًا يا سمياس، لا أظن أن حكاية تُروى تستلزم لروايتها فن جلوكس Glaucus، ولست أدري أن فن جلوكس مستطيعٌ أن يقيم الدليل على صدق حكايتي، التي أنا عاجز تمام العجز عن إثباتها بالدليل، وحتى لو استقطعت ذلك، لخشيت يا سمياس أن أختم حياتي قبل أن يكمل الدليل، ومع ذلك فقد أستطيع أن أصف لك صورة الأرض وربوعها كما أتصورها!قال سمياس: حسبي منك ذلك.قال: حسنًا، إذن فيقيني أن الأرض جسم مستدير، هو من السماوات في مركزها؛ لهذا لم يكن بها حاجة إلى الهواء أو ما إلى الهواء من قوة أخرى، ليكون لها عمادًا، بل هي قائمة هنالك، تحول موازنة السماء المحيطة بها، وتوازنها هي نفسها، بينها وبين السقوط أو الانحراف في أية ناحية؛ ذلك لأن الشيء الذي يكون في مركز شيء آخر منتشر انتشارًا متوازنًا، ويكون هو نفسه متزنًا، لن ينحرف بأية درجة في أي اتجاه، بل سيظل ملازمًا لحالة بعينها دون أن يحيد. ذلك هو أول رأي لي.فقال سمياس: وهو بغير شك رأي صحيح.– كذلك أعتقد أن الأرض فسيحة جِدًّا، وأننا نحن الذين نقيم في المنطقة التي تمتد من نهر فاسيس Phasis إلى أعمدة هرقليس Pillars of Heracles بمحاذاة البحر، إنما نشبه النمل أو الضفادع احتشدت حول مستنقع، فلسنا نأهل إلا جزءًا ضئيلًا، وأعتقد أن كثيرًا من الناس يقيمون في أمكنة كثيرة كهذه، فلا بد من القول بأن هنالك فجوات في أنحاء الأرض جميعًا، مختلفًا أشكالها وحجومها، يتجمع فيها الماء والضباب والهواء، وأن الأرض الحقيقية أرض نقية تقيم في السماء النقية حيث سائر النجوم، تلك هي السماء التي يجري عنها الحديث عادةً بأنها أثير، وليس الأثير منها إلا إرسابًا يتجمع في فجواتها وأمَّا نحن الذي نقيم في هذه الفجوات، فنظن مخدوعين بأننا إنما نُقيم على سطح الأرض، كما يُخيَّل للكائن الذي في قاع البحر بأنه على سطح الماء، وبأن البحر هو السماء التي يرى خلالها الشمس وسائر النجوم؛ فهو لم يَطْفُ على سطح الماء قطُّ لوهنه وفتوره، ولم يرفع رأسه ليرى، ولا سمع دهره ممن شهد تلك المنطقة الثانية، وهي أشد نقاءً وجمالًا من منطقتنا. والآن، فتلك حالنا تمامًا؛ فنحن مقيمون من الأرض في فجوة، ونُخيِّل لأنفسنا أننا على السطح، ونطلق على الهواء اسم السماء ثم نتوهم أن النجوم سابحة في تلك السماء. ولكن ذلك أيضًا يرجع لما بنا من ضعف وفتور؛ فهما اللذين يحولان بيننا وبين الصعود إلى سطح الهواء، فلو استطاع إنسان أن يبلغ الحد الخارجي، أو أن يستعير جناحي طائر ليطير بهما صعدًا، فيكون كالسمكة التي تطل برأسها لتشهد هذا العال؛ إذن لرأى عالمًا قاصيًا، ولاعترف الإنسان إذا ما شحذت طبيعته من بصره بأن ذلك هو مكان السماء الحق والضوء الحق والنجوم الحق؛ لأن هذه التربة وهذه الصخور بل وكل هذه المنطقة التي تحيط بنا قد فسدت وتآكلت كما يتآكل ما في البحر من أشياء بفعل الماء الأُجَاج، فيندر في البحر أن ينمو شيء نموًّا رفيعًا كاملًا؛ فكل ما فيه شقوق ورمال وحمأة لا نهاية لها من الطين، لا بل يجوز أن نقرن البر بما في ذلك العالم من مناظر هي أروع في جمالها؛ فالعالم الآخر أسمى بدرجة عظيمة جِدًّا. والآن أستطيع أن أقصَّ عليك يا سمياس حكاية رائعة عن تلك الأرض العليا التي تحت السماء، وهي جد جديرة بالإنصات.فأجاب سمياس: ونحن يا سقراط يسرنا أن نُصغي.قال: الحكاية يا صديقي هي كما يأتي: فأوَّلًا إذا نظرت إلى الأرض من أعلى رأيتها تشبه إحدى هذه الكور التي تكسوها أغشية من الجلد في اثنتي عشرة قطعة، وهي مختلفة الألوان؛ فليس ما يستخدمه المصورون في هذه الدنيا من الألوان إلا مثال منها أمَّا هنالك فالأرض كلها مصبوغة بها، وهي أشد لمعانًا ونصاعةً من ألواننا، فثَمَّ أرجواني عجيب الرونق، وثَمَّ ذهب يتألق، والأبيض في أرضها أنصع من كل ثلج أو طباشير. تلك الأرض مصبوغة بهذه الألوان وغيرها، وهي أكثر عددًا وأروع جمالًا مما وقعت عليه عين الإنسان، والفجوات نفسها (التي كنت أتحدث عنها) يغمرها الهواء والماء، فتراها كالضوء الوامض بين سائر الألوان، وبها لون خاص بها يخلع على تباين ما في الأرض نوعًا من التلف، وكل شيء مما ينمو في هذه المنطقة الجميلة — أشجارًا وأزهارًا وفاكهةً — أجمل، بنفس الدرجة، من أضرابه هنا. وثَمَّ تلال، صخورها أشد صقلًا، وأكثر شفافية، وأجمل لونًا، بنفس الدرجة، مما نغلو بقدره عندنا من زمرد وعقيق ويصب وسائر الجواهر التي إن هي إلا نثرات منها ضئيلة؛ فالأحجار كلها هنالك كأحجارنا الكريمة، بل أروع منها جمالًا؛ وعلة ذلك أنها نقية، وأنها لم تفسدها ولم تَبْرِها العناصر الملحة الفاسدة، كما فعلت بأحجارنا الكريمة، تلك العناصر التي خثرت عندنا فتولد منها الدنس والمرض في التراب وفي الصخور على السواء، كما تولدا في الحيوان والنبات، تلك هي جواهر الأرض العليا، وفيها كذلك يسطع الذهب والفضة وما إليهما، وليست تلك الجواهر بخافية عن العين، وهي كبيرة وكثيرة، وتوجد في مناطق الأرض جميعًا، فطوبى لمن يراها، ويعيش فوق الأرض ناس وحيوان، منهم من يستوطن إقليمًا داخليًّا، ومنهم من يسكن حول الهواء، كما نسكن نحن حول البحر، ومنهم من يعيش في بلدة يتاخم القارة، ويهب حوله الهواء. وجملة القول إنهم يستخدمون الهواء كما نستخدم نحن الماء والبحر، وللأثير عندهم ما للهواء عندنا، هذا وحرارة فصولهم هي بحيث لا يعرفون معها مرضًا فيُعَمِّرون أطول بكثير مما نُعمِّر نحن، ولهم بصر وسمع وشم، وسائر الحواس كلها، وهي أعظم كمالًا من حواسنا بنفس الدرجة التي بها الهواء أنقى من الماء، أو الأثير أصفى من الهواء. كذلك لهم معابد وأماكن مقدَّسة فيها يقيم الآلهة حقًّا؛ فهم يسمعون أصواتهم ويتلقون إجاباتهم، وهم يشعرون بهم ويديرون بينهم وبين أنفسهم أطراف الحديث، وهم يرون الشمس والقمر والنجوم كما هي في حقيقة أمرها، وعلى هذا النحو كل ما هم فيه من أسباب النعيم.تلك هي طبيعة الأرض كلها، وما حول الأرض من أشياء، وفي الفجوات التي على ظهر الأرض أصقاع متباينة، بعضها أعمق وأوسع من فجوتنا التي نقيم فيها، وأخرى أعمق وأضيق فوهة منها، وبعضها أوسع وأقلُّ عمقًا، وتربطها جميعًا بعضها ببعض ثقوب عدة وممرات عريضة وضيقة في باطن الأرض. وهنالك يتدفق فيها ومنها — كما يتدفق في الأحواض — تيار عظيم من الماء، وثَمَّ مجارٍ ضخمة لأنهار تحت الأرض لا ينقطع جريانها، وينابيع حارة وباردة، ونار عظيمة، وأنهار كبيرة من النار، ومجارٍ من طين سائل، منها الرفيع والسميك (كأنهار الطين في صقلية وما يتبعها من مجاري الحمم)، فتغمر المناطق التي تتدفق حولها. وهنالك في باطن الأرض نوع من الذبذبة يحرك هذا كله إلى أعلى وإلى أسفل. والحركة الآن في هذا الاتجاه، وبين الفجوات هوةٌ هي أوسعها جميعًا، تنفذ خلال الأرض كلها، وهي التي وصفها هوميروس بهذه الكلمات:

إن أغور عمق تحت الأرض جد سحيق.

وقد أطلق عليها في مواضع أخرى اسم جَهنم، وكذلك فعل كثير غيره من الشعراء. وسبب الذبذبة هو تلك الأنهر التي تتدفق في هذه الهوة ومنها، ولكل منها طبيعة التربة التي تجري فيها، وإنما كانت تلك الأنهار دائمة التدفق دخولًا في الهوة وخروجًا منها؛ لأن عنصر الماء ليس له قاع ولا مستقر، وهو يعج ويهتز صعودًا وهبوطًا، وهكذا تفعل الريح والهواء المحيطان به؛ إذ هما يتبعان الماء في صعوده وهبوطه وفي اندفاعه فوق الأرض هنا وهناك، مثل ذلك مثل الشهيق والزفير لا ينقطعان حين نتنفس الهواء، وباهتزاز الريح تبعًا للماء دخولًا وخروجًا نشأت عنها العواصف المروعة القاصفة، فإذا ما تراجعت المياه مندفعةً إلى الأجزاء السفلى من الأرض — كما تُسَمَّى — انسكبت في تلك المناطق خلال الأرض وغمرتها، كما يحدث إذا تحركت مضخة الماء الحركة الثانية، فإذا ما خلفت تلك المناطق وراءها وكرت إلى هنا مدفعة، فإنها تملأ ما هنا من فجوات مرة أخرى، حتى إذا امتلأت هذه، فاضت تحت الأرض في قنوات لتلتمس سبيلها إلى أمكنتها العديدة، فتكوِّن بذلك البحار والبحيرات والأنهار والينابيع؛ ومِنْ ثَمَّ تفور في الأرض ثانية، فيدور بعضها دورة طويلة في أراض فسيحة، ويذهب بعضها إلى أمكنة قليلة وإلى المواضع القريبة، ثم تهبط مرة أخرى إلى جهنم، فيبلغ بعضها حَدًّا دون ما كان ارتفع إليه بمقدار كبير، ولا يهبط بعضها الآخر دون ذلك الحد هبوطًا كثيرًا، لكنها جميعًا تكون أوطأ من نقطة الانبثاق إلى حد ما، ثم ينهمر بعضها ثانيًا في الجانب المقابل، وينهمر بعضها الآخر في الجانب نفسه، ويدور بعضه حول الأرض في ثنية واحدة أو في عدة ثنايا تشبه حنايا الثعبان، وتنزل ما استطاعت النزول، ولكنها دائمًا تعود فتصب في البحيرة، أمَّا الأنهار التي على كلا الجانبين فلا تستطيع النزول إلى أبعد من المركز؛ لأن في الجانب المقابل لهذه الأنهار هاوية.فهذه الأنهار عديدة وقوية ومنوعة، منها أربعة رئيسية أعظمها وأقصاها نحو الخارج هو ذلك المُسَمَّى بالأقيانوس Oceanus الذي يجري في دائرة حول الأرض، ويسير في الاتجاه المضاد له نهر أشيرون Acheron الذي يجري تحت الأرض في ربوع جدباء حتى يصب في بحيرة أشيروزيا Acherusian Lake: هذه هي البحيرة التي تذهب إلى شواطئها أرواح الدهماء حين يدركهم الموت، حيث يلبثون أجلًا مضروبًا، يكون طويلًا لبعضها قصيرًا لبعضها الآخر، ثم تعود ثانية لتحل في جسوم الحيوان، وينبع النهر الثالث فيما بين ذينك النهرين، وهو يصب على مقربة من منبعه في منطقة شاسعة من النار، حيث يكوِّن بحيرة أوسع من البحر الأبيض المتوسط، يغلي فيها الماء والطين، ثم يخرج منها عكرًا مليئًا بالوحل، فيدور حول الأرض حتى يبلغ فيما يبلغ من مواضع أطراف بحيرة أشيروزيا، ولكنه لا يختلط بمائها، وبعد أن يتحوى في عدة ثنايا حول الأرض، يغوص إلى جهنم أدنى مما كان مستوى. هذا هو نهر فيرفيلجثون Pyriphlegethon — كما يُسَمَّى — الذي يقذف في كل مكان بفوارات من النار. ويخرج النهر الرابع في الجهة المقابلة، ويسقط أول ما يسقط في منطقة همجية متوحشة، تصطبغ كلها باللون الأزرق القاتم الذي يشبه حجر اللازورد، وهذا النهر هو ما يُسَمَّى نهر ستيجيا Stygian River وهو يصب في بحيرة ستكس Styx التي يكوِّنها، وبعد أن يصب في البحيرة ويستمد لمائه قوى عجيبة، يجري تحت الأرض، دائرًا حولها في اتجاه يُضاد نهر بيرفليجثون، ويلتقي به في بحيرة أشيروزيا من الجهة المقابلة، ولا يختلط ماء هذا النهر أيضًا بغيره، بل يجري في دائرة ويتدفق في جهنم، مقابلًا لنهر بيرفليجثون، ويُسَمَّى هذا النهر كوكيتوس Cocytus كما يقول الشاعر.تلك هي طبيعة العالم الآخر، فلا يكاد الموتى يصلون إلى حيث تحملهم شياطينهم وحدانًا حتى يُقضى في أمرهم بادئ ذي بدء إن كانوا أنفقوا الحياة في الخير والتقوى أم لا، فمن ظهر منهم أن حياتهم لم تكن لا إلى الخير ولا إلى الشر، فإنهم يذهبون إلى نهر أشيرون، ويركبون ما يصادفونه من وسائل النقل، فيُحملون فيها إلى البحيرة حيث يقيمون ويطهرون من أوزارهم، ويعانون جزاء ما أساءوا به للناس من أخطاء، ثم يُغتفَر لهم وينالون جزاءً وفاقًا بما قدمت أيديهم من خير، أمَّا أولئك الذين لا يُرجى لهم إصلاح، فيما يظهر، لفداحة ما أجرموا، أولئك الذين أتوا من الآثام المنكرة شيئًا كثيرًا، كتدنيس المعابد، وإزهاق الأنفس إزهاقًا خبيثًا عنيفًا أو ما أشبه ذلك، أولئك يُلقى بهم في جهنم لا يخرجون منها أبدًا، فهي لهم أنسب مصير. أمَّا هؤلاء الذين أجرموا إجرامًا لا يجل عن العفو على هوله، أولئك الذين قسوا على والد أو والدة مثلًا وهم في ثورة من الغضب ثم أخذهم الندم مدى ما بقي من حياتهم، أو الذين قتلوا نفسًا مدفوعين بظروف تخفف من جرمهم، هؤلاء يُلقَوْن في جَهنم ولزام عليهم أن يَصْلَوْا عذابَها حَوْلًا، وفي نهايته تقذف بهم الموجة: أمَّا قاتل النفس فتقذف به إلى مجرى نهر كوكيتس، وأمَّا قتلة الآباء والأمهات فإلى نهر بيرفيلجيثون، فيُحملون إلى بحيرة أشيروزيا حيث يرفعون عقائرهم صائحين بضحاياهم القتلى، أو بمن نالتهم منهم إساءة، عسى أن تأخذهم بهم رحمة فيتقبلوهم ويسمحوا لهم بالخروج من النهر إلى البحيرة، فإن نالتهم الرحمة من أولئك، خرجوا ونجوا من عذابهم، وإن لم يرحموهم حُملوا إلى جَهنم مرة أخرى، ومنها إلى الأنهار. وهكذا دَوَالَيْك حتى يظفروا ممن أساءوا إليهم بالرأفة، فهكذا قضى عليهم قضاتهم. أمَّا من امتازت حياتهم بالتقوى؛ فأولئك يُطلَق سراحهم من هذا السجن الأرضي، فينطلقون إلى عِلِّيين حيث يقيمون في مُقامهم الطاهر ويعيشون على تلك الأرض وهي أنقى، وأمَّا أولئك الذين طهروا أنفسهم حقًّا بالفلسفة، فهم يعيشون منذ الآن متحللين من أجسادهم في منازل أجمل من تلك، يعجِز عنها الوصف ويضيق الوقت أن أحدثكم عنها.إذن يا سمياس، وقد رأيت هذه الأشياء كلها؛ فماذا ينبغي لنا ألا نفعله لكي نظفر بالفضيلة والحكمة في هذه الحياة؟ ألا إن الجزاء لجميل، والأمل لعظيم.لست أريد أن أقطع بصدق الوصف الذي قدمته عن الروح ومنازلها؛ فما ينبغي لرجل ذي فطنة أن يقطع بهذا، ولكنه في رأيي حقيق وقد اتضح خلود الروح أن يجازف بالظن، لا خاطئًا فيه ولا عابثًا، أن يكون الصواب شيئًا كهذا، وإنه منه لظنٌّ عظيم، ولا بد له أن يسري عن نفسه بمثل هذه الكلمات، فمن أجلها أطلت حكايتي، ولهذا أوصيكم ألا يأخذ أحد على روحه الأسى، ما دام قد طرح زينة الجسد ولذائذه، واعتبرها غريبة عنه، بل هي أدنى إلى إيذائه بما تجر وراءها من أثر، وما دام في هذه الحياة قد تعقب لذة المعرفة، إلا أن أولئك الذين يزينون أرواحهم بلآلئها الصحيحة، وهي: الاعتدال والعدل والشجاعة والنبل والحق، أولئك تكون أرواحهم، إذا ما زينت بتلك اللآلئ، مهيأة للرحيل إلى العالم الأدنى حيث يدركها الموت. فأنتم، أيْ سمياس وسيبيس ويا سائر الرجال، سترحلون في وقت قريب أو بعيد، أمَّا أنا، فها هو ذا يناديني صوت القدر على حد قول شاعر المأساة، ولا بد أن أجرع السم عما قريب، ويجمل بي فيما أظن أن أذهب أوَّلًا إلى الختام حتى لا يشق على الناس غسلُ جسماني بعد موتي.فلما أن فرغ من الحديث قال أقريطون: أعندك ما تشير علينا به يا سقراط؟ ألديك ما تقوله عن أطفالك، أو عن أي شيء آخر نستطيع أن نعينك في أمره؟فقال: ليس عندي شيء بعينه، غير أني أحب لكم، كما كنت أحدثكم دائمًا، أن تُعنَوْا بأنفسكم، فذلك فضل تستطيعون أن تواصلوا أداءه لي، ولذويَّ ولنا جميعًا. ولا ينبغي لكم أن تكونوا أدعياء فيما تقولون؛ لأنكم لو جهلتم أنفسكم وصدَفتم عما أوصيتكم به، وليست هذه أول مرة أوصيكم فيها، فلن تُجدي عليكم حماسة الادِّعاء شيئًا.قال أقريطون: سنبذل جهدنا، ولكن كيف تريدنا أن نواريك الثرى؟على أي وجه تشاءون، غير أنه لا بد لكم أن تمسكوا بي، وأن تحذروا فلا ألوذ منكم بالفرار. ثم التفت إلينا وأضاف باسمًا: لا أستطيع أن أقنع أقريطون أنني سقراط ذاته الذي كان يتحدث ويوجه الحوار، يحسبني سقراط الآخر الذي سيشهده بعد حين جثة هامدة، وهو يسائل ماذا عسى دفني أن يكون؟ مع أني قد أفضت في الحديث محاولًا إقامة الدليل على أني مُخلِّفكم حين أجرع السم، حيث أتوجه إلى لذائذ أصحاب النعيم. ويظهر أنه لم يكن لحديثي هذا الذي سرَّيت به عن أنفسكم وعن نفسي، أثر في أقريطون؛ لذلك أريدكم أن تكونوا لي الآن عنده كفلاء، كما كان هو كفيلي عند المحاكمة، على أن يختلف وعدكم عما وعد؛ فقد كان كفل للقضاة أني سأبقى، ولكن عليكم أن تكفلوا له أني غير باقٍ، بل إني ظاعن راحل، فتقل بهذا لوعته عند موتي، ولا يُحزِنه أن يرى جثماني يحترق أو يُهال عليه التراب. إني لا أحب له أن يتحسر على جدي العاثر، بأن يرتاع لدفني؛ فتأخذه الحيرة: على هذا النحو نكفن سقراط، أو هكذا نشيعه إلى القبر أو نواريه التراب. إن الأقوال الباطلة ليست شرًّا في ذاتها فحسب؟ بل إنها لتصيب الروح بشرِّها. لا تحزن إذن، أي عزيزي أقريطون، وقل إنك لا تقبر مني إلا الجثمان؛ فاقبره على النحو الذي جرى به العرف، وكما تفضِّلَ أن يكون.ولما فرغ من هذه العبارة، نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه أقريطون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر؛ فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب. لقد كُنَّا كمن ثُكِل في أبيه، وأوشكنا أن نقضي ما بقي من أيامنا كالأيتام. فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه (وكانوا طفلين صغيرين ويافعًا) كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن ببعض نصحه، على مسمع من أقريطون، ثم صرفهن وعاد إلينا.ها قد دنت ساعة الغروب؛ فقد قضى داخل الحمام وقتًا طويلًا، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنَّا لم نُفِضْ في الحديث. وما هي إلا أن جاء السجان، وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس، من ثورة الغضب؛ فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم باجتراع السم، ولم أكن إلا صادعًا بأمر أولي الأمر، أمَّا أنت؛ فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان؛ فليس يخامرني شك أنك لن تنقم عليَّ؛ فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما هي جريرة سواي. وبعدُ فوداعًا، حاوِلْ أن تحتمل راضيًا ما ليس من وقوعه بُد، وإنك لعليم فيمَ قدومي إليك؟ ثم استدار؛ فخرج منفجرًا بالبكاء.فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل بجميل، فسأصدع بما أمرتني به. ثم التفت إلينا وقال: يا له من فاتن! إنه ما انفك يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وَسِعَتْه، انظروا إليه الآن كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلي، فلزامٌ علينا يا أقريطون أن نفعل ما يريد، مُر أحدًا أن يجيء بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئًا منه.فقال أقريطون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التِّلاع، وكثيرٌ ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد إنذارهم، إنهم كانوا يأكلون ويشربون وينغمسون في لذائذ الحس، فلا تتعجل إذن؛ إذ لا يزال في الوقت متسع.فقال سقراط: نعم يا أقريطون، لقد أصاب من حدَّثتني عنهم فيما فعلوا؛ لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعًا يجنونه، وإني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا؛ لأنني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة؛ إنني بذلك إنما أحتفظ وأُبقي على حياة انقضى أجلها فعلًا، إني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي، أرجو إذن أن تفعل بما أشرت به، ولا تعصِ أمري.
figure
موت سقراط.
فلما سمع أقريطون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث قليلًا أن عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم، فقال سقراط: أيْ صديقي العزيز، إنك قد مرنت على هذا الأمر، فأرشدني كيف أبدأ. فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك ثم ترقد، فيسري السم. وهنا ناول سقراطَ القدح، فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئًا وديعًا لم يُرَع ولم يُمتقَع لون وجهه. وهكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة، أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: إننا لا نعد يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافيًا. فقال: إني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب عليَّ أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر، فلعل الآلهة تهبني هذا؛ فهو صلاتي لها. ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطًا. وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يَعُد في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدرارًا على الرغم مني، فسترت وجهي وأخذت أندب نفسي، حقًّا إني لم أكن أبكيه، بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق. ولم أكن أول من فعل هذا، بل إن أقريطون وقد ألفى نفسه عاجزًا عن حبس عبراته، نهض وابتعد، فتبعته. وهنا انفجر أبو لودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت بصيحة عالية وضعتنا جميعًا موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه مِنَّا إلا سقراط، فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟ لقد صرفتُ النسوة خاصة حتى لا يُسِئن صنيعًا على هذا النحو؛ فقد خُبِّرت أنه ينبغي للإنسان أن يُسلِم الروح في هدوء؛ فسكونًا وصبرًا.فلما سمعنا ذلك، اعترانا الخجل وكفكفنا دموعنا. وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تخوران — كما قال — ثم استلقى على ظهره، كما أُشير له أن يفعل. وكان الرجل الذي ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حينًا بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدمه بقوة وسأله هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه، وهكذا صعد ثم صعد، مُشيرًا لنا كيف أنه برد وتصلب. ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال: ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب. فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه؛ إذ كان قد دثر نفسه بغطاء، وقال (وكانت هذه آخر كلماته): إنني يا أقريطون مدين بدَيْنك لأسكلبيوس Asclepius فهل أنت ذاكر أن تردَّ هذا الدَّيْن؟ فأجاب أقريطون أنه سيوفي الدَّيْن، ثم سأله إن كان لديه رغبة أخرى، ولم يكن لهذا السؤال من جواب. وما هي إلا دقيقة أو دقيقتان حتى سُمِعت حركة، فكشف عنه الخادم، وكانت عيناه مفتوحتين؛ فأقفل أقريطون فمه وعينه.هكذا يا أشكراتس قضى صديقُنا، الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلًا وأكثرهم فضلًا.
١  اضطُرَّ الأثينيون إلى تأجيل تنفيذ الإعدام حتى تعود السفينة المقدَّسة من دلفي، وقد استغرقت تلك السفينة في رحلتها ثلاثين يومًا قضاها سقراط في محاورة صفوة تلاميذه. ويُشير هنا فيدون إلى أن هؤلاء التلاميذ قد قصدوا إلى سقراط في سجنه مبكرين في آخر يوم من أيامه، أي حينما علموا أن السفينة باتت على مقربة من أثينا لتطول مدة الحوار الأخير.
٢  إكزانثيب هي زوج سقراط.
٣  أي خلقهما في حيوان واحد ذي رأسين، إشارةً إلى شدة الاتصال بينهما.
٤  تعمد أفلاطون أن يسوق على لسان سقراط هذه الملاحظة؛ أي إن اللذة تعقب الألم؛ تمهيدًا لنظريته في التبادل بين الأضداد، التي سيجيء ذكرها بعد هذا الحوار.
٥  يُلاحظ سيبيس تناقضًا بين تحريم الانتحار واعتبار الموت خيرًا، ولكن سقراط أجابه بأن الإنسان: (١) سجين ولا يجوز له أن يفتح باب سجنه ويَفِرَّ هاربًا؛ (٢) لأن الإنسان ليس ملك نفسه ولكنه ملك للآلهة؛ فليس له الحق في أن يتصرف فيما ليس له عليك سلطان المالك.
٦  فيلسوف كان مقيمًا في مدينة طيبة، وكان سمياس وسيبيس هذان تلميذيه.
٧  يريد سقراط بهذا القول كله أن الفيلسوف يفهم الخير والشر خلافًا لما يفهمه منهما سائر الناس، فعامة الناس لا يقفون مواقف الشجاعة إلا حينما يتهددهم خطر أعظم مما هم فيه، فإن أقدموا مثلًا على الموت فلأنهم يخشَوْن العار أو الهزيمة أو ما إليهما مما يُعتبَر شَرًّا من الموت، كذلك من يزعمون في أنفسهم العفة، لا يمتنعون عن لذة إلا لأنهم يطمعون في أكبر منها. أمَّا الفيلسوف الحق فيحتقر هذه الموازنة بين اللذة والألم، ولا يعترف بفضيلة إلا إن كانت ملازمة للحكمة، وكل الفضائل بما فيها الحكمة نفسها إن هي في نظر الفيلسوف إلا طهور للنفس من أدرانها، وذلك ما عناه مؤلفو الأسرار حينما قالوا: كثيرون هم من يحملون عصا السحر، ولكن العالمين بالسحر قليل.
٨  أنديميون شاب جميل، أغرقه القمر في نُعاس دائم، لكي يستطيع أن يقبله على غرة منه.
٩  يعني لو رأيت مثلًا صورة رجل، فذكرتك بالرجل نفسه؛ فهل تكون هذه الصورة، وهي شبيهة الأصل، منطبقة تمامًا على أصلها؟
١٠  معنى ذلك أن الإنسان قد شاهد في الحياة أشياء متساوية، فعرف منها أن هناك تساويًا مجرَّدًا، مع أن ذلك التساوي المجرد لا يشبه هذه المتساويات التي شاهدها تمام الشبه؛ لأن هذه كثيرًا ما تتفاوت. أمَّا ذلك — إن وُجِد — فلا يجوز عليه التفاوت مُطلَقًا.
١١  لأننا أدركنا بالحواس أشياء متساوية؛ فاستنتجنا وجود التساوي المطلق، فكأننا أدركنا هذا الأخير عن طريق الحواس، مع أنه عقلي محض. وقل مثل ذلك في سائر المدركات الكلية، كالجمال والخير وما إليهما؛ فقد جاءتنا عن طريق الحواس أشياء جميلة: وردة، وامرأة، وشروق، وهكذا، فعرفنا عن طريقها فكرة الجمال المطلق.
١٢  يقصد أن سقراط في مثل هذه الساعة من الغد سيكون قد وافته منيته، وليس سوى سقراط من يستطيع أن يعلل المعرفة.
١٣  ما دُمنا قد كسبنا المعرفة قبل الميلاد، فلا بد أن أرواحنا كانت موجودة قبل اتصالها بأجسادنا، وكان لديها من قوة الذكاء ما تستطيع به تحصيل هذه المعرفة.
١٤  إمَّا أن نكون قد حصلنا المعرفة قبل الميلاد، أو في ساعة الميلاد نفسها، أو بعد الميلاد. وقد أُقيم فيما سبق الدليل على بطلان الفرض الثالث، فلم يبق إلا افتراض أحد الوجهين الأولين.
١٥  يفند سقراط الفرض بأننا قد نكون أوتينا المعرفة عند ساعة الميلاد نفسها؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فمتى افتقدناها؟ لقد سلَّمنا فيما سبق أن حواسنا تأخذ منذ ساعة الميلاد في تذكر ما قد نَسِيَتْه؛ فهل افتقدت الروح المعرفة في نفس اللحظة التي أوتيتها فيها؟ فهذا قول لا يستقيم مع العقل؛ ولذا لم يبق إلا فرض واحد، هو أن الروح قد كسبت المعرفة قبل الميلاد، وهو ما أراد أن يدلل عليه سقراط.
١٦  هِلَّاس هي بلاد اليونان.
١٧  Essence.
١٨  يُقصَد بذلك أن الأشباح التي يراها الناس عند المقابر، إن هي إلا أرواح من ذلك الضرب الذي انغمس أثناء الحياة في المادة انغماسًا، ففارقت الأجساد دنسة ملوثة بالمادة. فشق عليها أن تعيش في ذلك العالم الطاهر النقي؛ عالم الأرواح الخفية؛ فهبطت إلى الأرض مرة أخرى؟ وأمكن للعين رؤيتها.
١٩  بنلوب هي زوجة أوليس، التي كانت تنقض في الليل ما قد نسجته في النهار؛ لتكسب وقتًا من خطابها.
٢٠  ما يُسَمَّى عادةً بالأوز العراقي Swans.
٢١  هذه الطيور تزداد تغريدًا إذا ما اقتربتْ من الموت، فيزعم سقراط أنها تفعل ذلك ابتهاجًا بالموت، لما قد وهبها الله من مقدرة النظر إلى ما وراء الحجب واستطلاع النعيم الذي ستظفر به في الحياة الأخرى، ثم يزعم أنه أوتي ما أوتيته هذه الطيور من موهبة؛ فهو لذلك لا يبتئس للموت.
٢٢  يعني سمياس أنه ولو أن البحث في مصير الروح بعد الموت أمر لا يمكن الوصول فيه إلى نتيجة حاسمة ما دمنا في هذه الحياة، إلا أن من الضعف والخور ترك الموضوع بغير محاولة التدليل والتعليل، فينبغي للإنسان أن يبذل في ذلك وسعه ولو لم ينتهِ إلى رأي قاطع.
٢٣  من الأدلة التي أقامها سقراط على خلود الروح أنه تشتبه في صفاتها العنصر الإلهي، أمَّا الجسد فمادة أرضية؛ وإذن فلا عجب أن ينتهي أمره إلى الفناء. فيعترض سمياس بقوله لو صح هذا الدليل لكان الانسجام الموجود بين أجزاء القيثارة خالدًا أيضًا؛ لأنه في صفاته كذلك يشبه الإلهي، وأمَّا جسم القيثارة فمثله مثل الجسد الإنساني، مركب من مادة أرضية؛ ولذا فهو سائر إلى الفناء. فإن كان من المشاهد أن مادة القيثارة تبقى أمدًا طويلًا حتى بعد تحطيم أجزائها؛ فليس من المعقول — بناءً على دليل سقراط — أن يكون قد فني الانسجام الذي كان بين تلك الأجزاء عندما كانت متصلة في القيثارة.
٢٤  يقول إن الشبه تام بين الإنسان والقيثارة، فجسده يشبه مادتها الخشبية، وروحه تماثل الانسجام الذي بين أجزائها. فإن كان الأمر كذلك جرى على الإنسان ما يجري على القيثارة. فالقيثارة إذا فسدت أوتارها مثلًا تلاشى انسجامها وزال، كذلك الإنسان — على هذا الأساس — إن فسد جسده بالمرض أو الإعياء، أو أي شيء آخر، فنيت الروح مع بقاء الجسد، على الرغم من ألوهيتها وأرضيته، وهو هنا يستوضح سقراط رأيه في هذا الإشكال.
٢٥  Coat.
٢٦  يقول إننا حتى لو سلَّمنا بما يزعمه سقراط من أن الروح تظل باقية بعد انفصالها عن الجسد، ثم تعود إلى الحياة مرة ثانية وثالثة ورابعة، فلا يبعد أن تَهِن وتضعف من هذه الولادات المتكررة، فيُصيبها الموت الأبدي في مرة من مرات انفصالها عن الجسد، دون أن نعلم نحن عن موعد هذا الموت الأبدي؛ لأننا لا نعلم هل هذه الروح المعينة في هذا الجسد المعين قد بلغ منها الإعياء مبلغًا سيؤدي بها إلى الفناء التام عند فناء جسدها الذي تحل فيه أم أنها لا تزال بها بقية من قوة تستطيع أن تعيش بها حتى تعود إلى الحياة في جسد آخر. ونحن لا نعلم ذلك لأنه لم تسبق لنا تجرِبة نتعلم منها هذا الأمر. وبناءً على ذلك لا يستطيع سقراط مثلًا أن يجزم بأن روحه باقية بعد موته، لأنها قد تكون في هذا الدور الأخير وهو لا يعلم.
٢٧  قال سمياس لسقراط: إنه مقتنع بمذهب التذكر الذي يضمن وجود الروح قبل حلولها في الجسد، فيجيبه سقراط: إن هذا المذهب لا يتفق مع عقيدته بأن الروح عبارة عن انسجام بين أعضاء الجسد؛ لأنه يستحيل أن يوجد انسجام الأعضاء قبل وجود الأعضاء نفسها؛ وبالتالي يستحيل وجود الروح قبل وجود الجسد.
٢٨  يقول سقراط لسمياس: إن الأشياء التي يكون بينها انسجام توجد أوَّلًا في حالة تنافر ثم يجيئها الانسجام فينسقها؛ يعني أن المادة تأتي أوَّلًا والانسجام ثانيًا، فإن كانت الروح انسجامًا لا أكثر كما زعم من قبل تحتم أن يكون الجسد قد وجدت أجزاؤه قبل وجود الروح. وهذا القول يتنافى مع ما يسلِّم به سمياس نفسه الآن من أن الروح كانت موجودة قبل الجسد بدليل تذكر الإنسان أشياء لم تصادفه في تجارب حياته.
٢٩  Essence.
٣٠  Harmonis إلهة في طيبة، ويظهر أن لفظة harmony الإفرنجية، ومعناها الانسجام قد اشتُقَّتْ منها.
٣١  هذا رأي قديم يعلل الحياة في الكائنات الحية بتأثير الحرارة والبرودة في معادن خاصة.
٣٢  يعني أننا يمكن أن نقسم الواحد نصفين، فيكون لنا بذلك اثنان. كذلك يمكن أن نضم واحدًا إلى واحد فيكون لنا بذلك اثنان أيضًا. فكأن الاثنين تنتج عن علتين مختلفتين.
٣٣  أي إنه اعتقد أنه سيجد في نظرية أناكسجوراس البراهين الكافية على أن الكون في صورة مثلى، فسقراط لا يطلب تعليلًا لظواهر الكون إن هو اعتقد بحقٍّ أنها في أوضاع مثالية، فتلك عنده غاية تكفي وحدها أن تكون هدفًا أقصى.
٣٤  يتهكم سقراط بهذا القول على أصحاب المذاهب الفلسفية الأولى الذين كانوا يعللون الكون بالماء تارةً وبالهواء طورًا، دون أن ينفذوا بعقولهم إلى ما وراء المادة من قوة مدبرة.
٣٥  أصدق تعليل للكون عند سقراط هو معرفة الشكل المثالي أو الكمال الذي تنشده ظواهر الكون؛ فبه نستطيع أن نعلل كل شيء، وكان يتمنى أن يجد بين الناس من يعلمه طبيعة ذلك الكمال، ولكنه لم يوفق؛ لذلك يريد أن يعرض على سامعيه علة تجيء في المرتبة بعد الكمال مباشرةً.
٣٦  يقول إنه إذا أراد أن يبحث في علة الكون فلن يتوجه بفكره وحواسه نحو جواهر الكون نفسها، خشاة أن يبهره وهجها فتُصاب العين المبصرة من نفسه بالعمى، كما يحدث للعين الجثمانية فيمن ينظر إلى الشمس نفسها دون أن يلتمس صورتها على صفحة الماء، ولكنه سيبحث في عالم المثل بفكره، والمثل في الواقع صورة من الكون، أو الكون صورة منها على الأصح.
٣٧  في الأصل Genius ومعناها روح طيبة أو خبيثة تسيطر على الإنسان وتملي عليه كل أعماله منذ ولادته حتى يأتيَه الأجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤