في معرض السيف١

هي المُنى كثغور الغيد تبتسم
إذا تطرِّبها الصمصامة الخَدِم
دع الأمانيَّ أو رُمهنَّ من ظُبةٍ
فإنما هنَّ من غير الظبا حُلم
والمجد لا تَبْنِهِ إلا على أسسٍ
من الحديد وإلا فهو منهدم
لو لم يكْ السيف رَبَّ الملك حارسَه
ما قام يسعى على رأس له القلم
من سلَّه في دُجى الآمال كان له
فجرًا تحُلُّ حُباها دونه الظلم٢
والعلم أضيع من بَذْرٍ بمسبخة
إن لم تُجلِّله من نَوْءِ الظبا ديم٣
إن الحقيقة قالت لي وقد صدقت
لا ينفع العِلم إلا فوقه عَلم
والحق لا يُجتنى إلا بذي شُطب
ماء المنيَّة في غربيْه منسجم٤
إن أسمعَتْ أَلسنُ الأقلام ظالمها
بعضَ الصرير كمن يبكي وينظلم
فللحسام صليل يرتمي شررًا
مفتقًا أذنَ من في أذنِه صمم
هبِ اليراعة رِدء السيف تأزره
فهل على الناس غير السيف محتكم
فالعلم ما قارنته البيض مفخرة
والحق ما وازرَتْه السمرُ محترم
وإنما العيش للأقوى فمن ضعفت
أركانه فهو في الثاوين مخترَم
والعجز كالجهل في الأزمان قاطبة
داءٌ تموت به أو تمسخُ الأممُ
والمجدُ يأثلُ حيث البأس يَدعمه
حتى إذا زال زال المجد والكرم
وإنَّ شأوَ المعالي ليس يُدركه
عزْم تسرَّب في أثنائه السأم

•••

آهًا فآهًا على ما كان من شرف
لليعرُبيِّين قد ألوى به القِدم
أيام كانوا وشملُ المجد مجتمع
والشعب ملتئم والملك منتظم
كانوا أجلَّ الورَى عزًّا ومقدرة
إذا الخطوب بحبل البغي تُحتزَم
وأربَط الناس جأشًا في موافقة
من شدَّة الرعب فيها ترْجف اللمم
قومٌ إذا فاجأتهم غمة بدَروا
وأوفزتهم إلى تكشيفها الهِمم٥
على الحصافة قد ليثت عمائهم
وبالحزامة شُدَّت منهم الحُزُم
قضوا أعاريبَ أقحاحًا وأعقبهم
خلف هم اليوم لا عُرب ولا عجم
جار الزمان عليهم في تقلُّبه
حتى تبدلت الأخلاق والشيم
دب التباغض في أحشائهم مرضًا
به انبرت أعظمٌ منهم وجفَّ دم
فأصبح الذل يمشي بين أظهرهم
مَشْيَ الأمير وهم من حوله خدَم
فأكثر القوم من ذلٍّ ومَسكنة
تُلْفي الذبابَ على آنافهم يَنمُ٦
كم قد نحتُّ لهم في اللوم قافية
من الحفيظة بالتقريع تحتدم
وكم نصحتُ فما أسمعتُ من أحدٍ
حتى لقد جفَّ لي ريق وَكَلَّ فمُ

•••

يا راكبًا مَتن مُنطاد يطيرُ به
كما يطير إذا ما أفزع الرَخم٧
يمرُّ فوق جَناح الريح مخترقًا
عرض الفضاء ويعدو وهو مُعتزم
يعلو إلى حيث يستجلي العيانُ له
ما غمه الأفقُ أو ما وارت الأكم
حتى إذا حط منقضًّا على بلدٍ
ينقض والبلد الأقصى له أمَم
أبلغ بني وطني عني مُغلغلةً
في طيها كلَم في طيها ضرَم
ما بالهم لم يُفيقوا من عمايتهم
وقد تبلَّجَ أصباحُ المنى لهم؟!
إلى متى يخفرون المجدَ ذمته
أليس للمجد في أنسابهم رحم؟!٨
ومن يَعِشْ وهو مضياعٌ لفرصته
ذاق الشقاء وأدمى كفه الندم
وكل من يدَّعي في المجد سابقة
وعاش غير مجيد فهو متهم
١  لما قام الإصلاحيون في بيروت يطالبون الدولة العثمانية بالإصلاح، قال الرصافي هذه القصيدة يؤيدهم بها.
٢  «تحل حباها» بضم الحاء: جمع حبوة، وهي اسم بمعنى الاحتباء، وتطلق على ما يحتبي به الرجل من ثوب أو عمامة، ويقال: «حلَّ فلان حبوته»؛ إذا قام، كما يقال: عقد حبوته؛ إذا قعد، والمراد بكون الظلم في هذا البيت تحل حباها، أنها تزول دون ذلك الفجر.
٣  قوله: «بمسبخة»: صفة لمحذوف؛ أي بأرض مسبخة وهي الأرض التي تحرث ولا ينمو فيها زرع.
٤  «بذي شطب»: صفة لمحذوف؛ أي بسيف ذي شطب، والشطب: جمع شطبة، وهي طريقة السيف في متنه، وقوله: «في غربيه»: أي في حدَّيه.
٥  بدروا: أسرعوا. وأوفزتهم: أعجلتهم.
٦  ونم الذباب ينم: إذا سلح، ومصدره الونيم.
٧  الرخم: طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، والواحدة منه رخمة.
٨  خفر فلانًا: أي نقض عهده وغدر به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤