الشعر والغناء

مجالس الرشيد

على كل حال لم يُخلِّد اسمَ هارون تلك الحروب ولا الانتصارات، وإنما خَلَّدَتْه مجالسُ الأدب والعلم ومجالس الغناء.

نعم، قال أبو تمَّام: «السيف أصدق أنباءً من الكتب».

وقد يكون ذلك كذلك، ولكن لسان الكتب أطول وأدوم، وإنما كان سبب خلوده الأسباب التي ذكرناها من قبل، وهي: أن الرشيد مِنْ حُسْن حَظِّه أنْ جاء والمدنية الإسلامية قد بدأت في النضوج، وتم نضجها فيما بعْدُ في عهد المأمون، فكانت مدنية عظيمة تفوق مدنية الأوربيين في ذلك العهد، فتدفقت الأموال على بغداد، وازدهرت التجارة بطرف الدنيا، والعلوم والفنون بشتى أنواعها مزدهرة، لم يجتمع على أحد غير الرشيد ما اجتمع من أهلها، وبيت المال يتكدس بالمال، والرشيد يغدق بغير حساب، ومجالس الغناء يزينها إبراهيم بن المهدي، وإسحاق النديم، وإبراهيم الموصلي، والنصارى مثل جبريل بن بختيشوع يمهرون في الطب، وينشرون كثيرًا من الفلسفة اليونانية؛ إذ كان الطب أحد فروعها، ويهتم الخلفاء مِنْ عَهْد المنصور بعِلْم الفَلَك؛ لاعتقادهم أن حوادث الدنيا متأثرة بحركات النجوم، ويشتهر في ذلك إمامان عظيمان: ما شاء الله اليهودي، وأحمد بن محمد النهاوندي، والفقه يَعْظُم في ذلك العهد على يد أبي يوسف ومحمد صاحِبَيْ أبي حنيفة … وتُؤَلَّفُ الكتب على هذا المذهب، وتَنْتَشِر في الأمصار، واللغة تُقَيَّدُ في عصره فَيُؤَلِّفُ الخليل بن أحمد البصري المعجم، ويضع أصول اللسان العربي، وأصول تصريف الكلمات، ويتوسع في ذلك بَعدُ الكسائي مؤدب الأمين فالمأمون، وسيبويه النحوي المشهور، ويضع أبو عبيدة مَعْمر بن المثنى كِتابًا في فقه اللغة في المترادفات، وكيفية استعمالها في مواضعها، والحركة بين البدو والحضر حركة قوية شديدة، يأتي البدو إلى الحضر فيأخذ عنهم الحضريون لغتهم وشِعْرهم وأدبهم، ويرققون أشعارهم، ويخرج الحضريون إلى البدو فيأخذون عنهم ذلك.

وارتفعت بلاغة الشِّعر في مثل علي بن الجهم، وأبي نواس، وأبي العتاهية … وحتى النساء كُنَّ يَقُلْنَ الشِّعر كما روينا مِنْ قَبْل عن الفارعة … حتى إذا أنصفنا حكمنا بأن الشعر الحضري الذي رُوي لنا في عهد الرشيد وأمثاله كان أرقى من الشعر الجاهلي، والفرق بينهما كالفرق بين قول امرئ القيس إذ يقول:

تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغبيط بِنَا مَعًا
عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرئ القَيْس فَانْزِلِ

وقول علي بن الجهم:

فَبِتْنَا جميعًا لو تُرَاق زُجَاجَةٌ
مِن الخمر فيما بَيْنَنَا لَمْ تُسَرَّبِ

وكان كثير من الشعراء يلازمون الرشيد؛ كالذي حُكيَ عن أبي العتاهية أنه كان لا يفارقه في سَفَرٍ ولا حَضَرٍ، وكان ينتصح الرشيد بشِعره، ويَبكي من مواعظه كقوله:

كأن كُلَّ نعيم أَنْتَ ذَائِقُه
مِنْ لَذَّة العَيْشِ يَحْكِي لَمْعَةَ الآلِ

ومن الناحية الأخرى كان مثل أبي نواس على عَكْس مذهب أبي العتاهية؛ يتغزل في الذكور والنساء والزهر والخمر، فكان يذكر في شِعره إبليس والخمر، كما يذكر أبو العتاهية في شِعره الجنة والنار؛ كالذي يقوله أبو نواس:

وَلَيلةً طَال سُهادي بها
فجاءني إبليسُ عِنْد الرُّقَادِ

وقوله:

هلْ لك في قَهْوة مُعَتَّقَةٍ
عَتَّقَهَا العَاصِرُ مِنْ عَهْد عَادِ

وقوله:

رَقَّ الزجاج وَرَاقَتِ الخَمْرُ
وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأمْرُ
فكأنما خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ
وكأنما قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ

إلى كثير من أمثال ذلك …

والرشيد يستجيب لِنُصْح ذاك، وتَهَتُّك هذا … ولإمعان الناس في عهد الرشيد في الشراب فلسفوه، وأكثروا القول فيه، حتى لم يَقُل شعراء في لغةٍ ما قالوه في هذا العصر، وتفننوا فيه فأخذوا لونًا من الشراب من الروم، وهو خمر ممزوج بالعسل، ونقلوا اسمه الرومي — وهو الرساطوني — ولم يأتمروا بأمر الإسلام؛ إذ يقول: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

ومن أجل الهروب من هذا الأمر أخذوا يتفننون في الأسئلة؛ ما المراد بالخمر؟ أهو يشمل النبيذ أو لا يشمله؟ وما القدر الذي يَحِلُّ والذي يَحْرُمُ، وما النوع الذي يَحْرُمُ وما النوع الذي يَحِلُّ؟

ويظهر أن الإمام أبا حنيفة كان يتبع عبْد الله بْن مسعود في تحليله لنبيذ التمر، والزبيب، إذا طُبِخ، أو في شرب قَدْر منه لا يُسْكِر، وكذلك نبيذ العسل والتين والبُر.

وأخذ الشعراء يتفكهون في شعرهم بحرمة الخمر كالذي قال:

مَنْ ذا يُحَرِّم ماء الْمُزْنِ خَالَطَهُ
في جَوْف خَابِيَةٍ مَاءُ العناقِيدِ
إني لَأَكْرَهُ تشديد الرواة لَنَا
فيه ويُعْجِبُنِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودِ

وقد اشتهر بينهم أن الفقيه الحجازي يُحَرِّمُ النبيذ، والفقيه العراقي يُحَلِّلُه؛ ولذلك قال شاعرهم:

رَأْيُهُ في السَّمَاعِ رَأْيُ الحِجَازِ
وَهْوَ في الشُّرْبِ رَأْيُ أَهْلِ العِرَاقِ

ويقول آخر:

أَبَاح العراقيُّ النبيذَ وشُرْبَهُ
وَقَال حَرَامانِ المدامةُ والسُّكْرُ
وقال الحِجَازِيُّ الشرابانِ وَاحِدٌ
فَحَلَّ لَنَا مِنْ بَيْنِ قَوْلَيْهِمَا الْخَمْرُ
سآخذ مِنْ قَوْلَيْهِمَا طَرَفَيْهِمَا
وأشْرَبُهَا لَا فَارَقَ الوَازِرَ الوِزْرُ

وطائفة أخرى لا تُحِبُّ أن تَتَحَمَّل أو تَتَمَحَّك؛ فإما أن يتركوها تركًا تامًّا، أو يهجروها هجرًا تامًّا.

قال أبو نواس:

فإن قالوا حَرَامٌ قُلْ حَرَامٌ
فَإِنَّ لَذَاذَة العَيْشِ الحَرَامُ

ويقول:

ألا فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُ
ولا تَسْقِنِي سِرًّا إذا أَمْكَنَ الجَهْرُ

وهكذا أصبح النبيذ والخمر أمرين شائعين بين الناس لا يخلو منهما بَيْت من بيوت العظماء والأغنياء.

وتسربت عوائد الفرس والروم والعرب إلى الناس …

وكان من ذلك كُلِّه أَدَب غزير في الخمر وأوصافها، والندمان وأوصافهم وعيوبهم ومحاسنهم، حتى ملأ الأدب العربي، وحتى إن الصوفية كابن الفارض وغيره قلدوا الماجنين في قولهم في الشراب، وغَزَل المذكر، وغَزَل المؤنث، وإن لم يكُنْ هناك خمر ولا نساء ولا ذَكَر.

إبراهيم الموصلي

وبجانب الشعر الغناء … جاءت طبقة من المغنين أخذت أصول الغناء عن ابن سريج، وابن محرز المَكِّيَّيْنِ، ومالك، ومعبد المَدَنِيَّيْنِ، واشترك النساء في الغناء، وَغَنَّيْنَ الغناء العربيَّ والفارسي، وَوُجدت مدارس للغناء تتناحر وتتسابق، وقد شجع البرامكة الغناء الفارسي، وإلى جانب الغناء الرياضة، وهناك القصص اللطيف الذي يَحْكِي أمور الماضين والحاضرين، ويُسَجِّل أحداثهم، ولم يقِف في التاريخ عند حد الروايات عن الماضين؛ فقد ركبوا البحار، ودوَّنوا الرحلات، وأدخلوا في التاريخ ما شاهدوه وما سمعوه، وكما اشتهرت بغداد أمُّ الحضارة بهذه الأشياء كلها، كانت دمشق ومصر صورة مصغرة.

ولم يكتَفِ الأمر بهذا، بل أفسحوا صدورهم اعتزازًا بمدينتهم إلى الوفود تأتيهم من الروم وغير الروم، يُعجبون بما يرون من حضارة لا قِبَلَ لهم بها، ويذهبون إلى بلادهم فيتحدثون بما شاهدوا وما سمعوا، ويقلدون ما يستطيعون تقليده، وقد روى التاريخ كلمات كثيرة عن القساوسة والمستشرقين يحضون قومهم على أن يفعلوا فِعْل المسلمين.

•••

هذه — لا الحروب ولا الانتصارات — هي التي أعلت شأن الرشيد في نظر الشرقيين والغربيين، وخَلَّدَتْ ذِكْره، وأَعْلَت مَقَامَه، وجَعَلَتْه على كُل لسان، فقدْ نُقل إليهم كتاب بطليموس وإقليدس، وعُرِّبت رسائلها، ولم تكُنْ دراساتهم لها نظرية بحتة، بل كانت تطبق عمليًّا: مثل البوصلة البحرية التي مكَّنَتْهم من السير في البحار، والمهارة في التجارة، حتى ساروا إلى سواحل الهند، وجزيرة الملايا، وتوغلوا في بلاد الصين، وصارت البصرة ثغرًا تجاريًّا هامًّا، وكالساعة الدقاقة التي اخترعها العرب، ويصفونها بأنها كانت إذا جاء موعد الساعة دقت، وخرج منها رجال على الخيل بعدد الساعات، فإذا انتهت الدقات دخل الخيالة.

وكان مما خَلَّدَ الرشيدَ مجالسه المتنوعة المتعددة؛ فمجلس غنائه كان عماده إبراهيم الموصلي، ثم مِن بَعْده ابنه إسحاق، وزلزل الدفاف، وبرسوم الزامر، وإبراهيم الموصلي هذا كان زينة مجلس الرشيد، وإطارًا لِشَخصيته كما تُصوِّرُه لنا ألْف ليلة وليلة، وهو فارسي الأصل أبًا وأمًّا، رزقه الله حُسْن الصوت على خَيْر ما يُرْزق المغنين في جميع العصور، ورُزِق إلى حُسْن صوته جَودةُ إنشائه للشِّعر وحُسْن تلحينه.

يُرْوَى عنه أنه أنشأ ولحَّن وغَنَّى قوله:

رُبَّمَا نَبَّهَنِي الْإِخـْ
ـوَانُ والليل بَهِيمُ
حِينَ غَارَتْ وَتَدَلَّتْ
في مَهَاوِيهَا النُّجُومُ
وَنُعَاسُ الليل فِي عَيـْ
ـنَيَّ كَالثَّاوي مُقِيمُ
لِلَّتي تَعْصِرُ لمَّا
أَيْنَعَتْ منها الْكُرُومُ
أَنَا بِالري مُقِيمُ
فِي قُرَى الري أَهِيمُ
ما أُرَاني عَنْ قُرَى الرِّيْ
يِ مَدَى دَهْرِي أَرِيمُ

وكان من أصلٍ فقيرٍ هرب من فارسَ، ونشأ يتسكع في البلاد، وكان في كل بلد طائفة من الشبان الخليعين، لا ميل لهم إلى الجد يقضون حياتهم في شراب ونساء وغناء، وقد شُهِرُوا بالمروءة والنجدة، خصوصًا إذا نزل عليهم ضيف من أمثالهم.

وهؤلاء الطائفة تسمى «الفتيان»، وهي كالتي نسميها اليوم بالبوهيميين، وذلك قبل أن تتطور كلمة «الفتيان» إلى المعنى التركي، فتأخذ شكلًا دينيًّا، وشَكَّل اتحاد عُمَّال معًا، وقبل أن يَتَّخِذَها الصوفية في لغتهم فيطلقونها على جماعة الصوفية المتدينين ذوي المروءة.

واشتهر إبراهيم بينهم بحُسْن الصوت فأُعْجِبوا به، وكان في إحدى مراحله بالموصل فسمي «إبراهيم الموصلي»، ثم ذاع ذكره وحُسْن تلحينه وغنائه، فاستدعاه الخليفة المهدي، ولكن كان به آفة، وهي أنه كان لا يكاد يفيق كزملائه الفتيان، والمهدي لم يكُنْ يشرب، ولا يحب الشاربين، إلا ما كان أجازه لجبريل بن بختيشوع إذ كان لا بد أن يشرب، والمهدي لا يستطيع الاستغناء عنه فأباح له أن يشرب هو، فطلب المهدي من إبراهيم الموصلي ألا يشرب فلم يستطع، ووجدت عقدة في بيت المهدي، وهي أن في البيت ابنين، وهما الهادي والرشيد، ويخاف عليهما الانغماس في الشراب، ويخاف عليهما من مخالطة الموصلي، ويخاف أن يجتمع عليهما حُسْن شِعر الموصلي وحُسْن تلحينه وحُسْن غنائه، مُنْضَمًّا ذلك كله إلى شباب الهادي والرشيد وغناهما وترفهما، فإذا هما سكيران لا يصلحان للخلافة.

ورُعِب من تلك النتيجة التي تَخَيَّلَها بحقٍّ، فأخذ الأيمان الموثقة على إبراهيم الموصلي ألا يشرب بحضرة الهادي والرشيد، وكيف ينفع التحذير، وكل العوامل ممهدة لهذه النتيجة … جاذبية الموصلي، وقابلية الهادي والرشيد لهذه الجاذبية …

فأتت الجواسيس المهدي يومًا تقول: إنه غَنَّاهُما وَفَتَنَهُمَا فشربا معًا، فجُنَّ جنون المهدي من هذه الفعلة؛ خصوصًا بعد أن استوثق منه، فضربه ضربًا مبرحًا، ثم نهاه، ثم عاد فأقصاه عن القصر، ووضعه في السجن، وأمر بتعذيبه فيه تعذيبًا شديدًا، ولكن كان من حُسْن حظِّه أن مات المهدي، وجاء الهادي الذي حُبس الموصلي من أجله، فاستنجد به فأنجده، ومنحه الهادي مالًا كثيرًا حتى أصبح ثريًّا، واتخذه نديمًا له حتى مات.

مدرسة الموصلي

وبلغ الموصلي ذروته في عهد الرشيد … فقد كان الرشيد أحب للموصلي، وأحب لغنائه فقرَّبَه إليه، وجعله زينة مجلسه، وصار يتكسب من الرشيد، ومن مدرسة أخرى اهتدى إليها، وهو أنه كان يأتي بالفتيات الجميلات فيعلمهن التلحين، ويعلمهن الغناء، وأقبل الناس على تلميذات مدرسته إقبالًا شديدًا؛ إذ كان قد اجتمع لهن جمال الشكل، وجمال التلحين، وجمال الصوت.

وكان الناس قَبْله يُعلِّمون الفتيات غير الجميلات؛ حرصًا على الفتيات الجميلات، وتنحية لهن من هذا المأزق، فجاء الموصلي بحسن ذوقه، فأدرك أن تجارته لن تروج إلا إذا علم الفتيات الجميلات، فدَرَّ ذلك عليه مبلغًا من المال طائلًا، وقد نجحت مدرسته نجاحًا باهرًا … فانتشرت تلميذاته في بيوت الأغنياء من أمراء وتجار، فكُنْتَ إذا مَشَيْتَ في شوارع بغداد أو في شوارع المدن سَمِعْتَ أصواتهن تَتَجَاوَبُ في كُلِّ مكان.

•••

وشيء آخر عظيم الفائدة، كان أيضًا من برنامج مدرسته يُعَلِّمُه في جد واتقان، وهو فن الظرف، وهذا فن واسع ربما يمثله خير تمثيل «كتاب الوشاء»، وإن كان قد ألَّفَهُ بعد ذلك العهد بقليل.

فكان يعلمهن درسًا في ألوان الملابس، ومناسباتها للحفلات، ومناسبة بعضها لبعض، ومناسبتها للنعال.

ودرسًا ثانيًا فيما يصلح أن يُنقش على الخواتيم والفصوص، ودرسًا ثالثًا في التعطر والتطيب، ودرسًا رابعًا في تصفيف الموائد والأطعمة، وكيفية الأكل من وجوب تصغير اللقم والتحرز من الشره، وعدم تلطيخ الأصابع، وعدم تجاوز ما بين أيديهن، وعدم إفساد رائحتهن بأكل الثوم والبصل، ونحو ذلك، وعدم التخلل على المائدة قبل أن تفرغ، ونحو ذلك.

ودرسًا خامسًا في الزهور والورد، وكيف تنظم الطاقات، ثم ينتقل في الدروس الأخيرة من الماديات إلى المعنويات: فكيف يتحدثن فيُحْسِنَّ الحديث، وكيف يجب أن لا يداخلن أحدًا في حديثه، ولا يتطَلِعْنَ إلى مكتوب يقرؤه قارئ، ولا يقْطَعْن على متكلم كلامه، ولا يُحَاوِلْن أن يستَمِعْن إلى أحد يتحدث في سر، ولا يسألن عما وُورِي عنهن علمه، ولا يَتَكَلَّمْنَ فيما حُجِب عنهن فَهْمُه، ولا يتثاءبن في المجلس، ولا يَتَمَطَّيْن، ولا يَمْدُدْن أرجلهن، ولا يَمْسَسْن أنوفهن بأيديهن، ثم يُعَلِّمُهُنَّ أنهن إذا أَهْدَيْن أَهْدَيْن الشيء اللطيف الخفيف، كالتفاحة المنقوشة الواحدة، والأترجة الواحدة، والغصن من الريحان، والطاقة من النرجس، ونحو ذلك، ويُعَلِّمُهُنَّ أيضًا كيف يكتبن الكتب الظريفة لمن يحببن، أو لمن يشكون، ونحو ذلك، وكيف ينقشن على قمصانهن، وأرديتهن، وأكمامهن، وعصائبهن، ومناديلهن، ونعالهن، وما يكتبنه بالحناء على راحتهن وأبدانهن، وما يَنْقُشْنَه على أواني الفضة والذهب والكاسات والأقداح، وعلى آلات الموسيقى من العيدان والطبول والدفوف والنايات.

وعلى الجملة فكان يُعَلِّمُهُنَّ قوانين الظُّرْف بجانب قوانين الغناء، وَيُعَلِّمُهُنَّ ما نسميه اليوم ﺑ «الإتيكيت».

ويُؤَلِّف فيه المسلمون قَبْلَ ما يُؤَلِّف فيه الغربيون اليوم بعد أكثر من ألف سنة، وكان له في ذلك فضلان: فَضْل نشر الغناء في العالم الإسلامي، ونشر طرق الإتيكيت، وكانت هذه الأشياء كلها تغلي ثمن الجارية أضعاف ما كانت، وبفضل هذه المدرسة فاقت العراقُ الشامَ والحجازَ، فقد كان الشام مركز اللهو والظرف في عهد الأمويين.

أما في العهد العباسي ففاقته العراق، والسبب في ذلك أمران: الأمر الأول أن العراق كان مصب أموال الدولة فكل قُطرٍ يبعث للخليفة ما تَبَقَّى من الصرف عليه، والمال هو عصب الحياة يتبعه اللهو حيث كان؛ فالغناء والشراب إنما يكونان حيث يكون الترف، والترف يكون حيث يكون المال، والعراق أكثر البلدان وأعزها جاهًا، وكل نابغ في فن — ومنه الأدب — إنما تُنْفَق سُوقُه في العراق، ومَنْ نَبَغَ في غيره، ولم يذهب إليه خمد ذكره وضاع فنه؛ فأي مُغَنٍّ مشهور لم يكُنْ في العراق، وأي نابغة في الشعر لم يكُنْ في العراق، وأي لؤلؤة كبيرة، أو ياقوتة عظيمة، أو عقد مرصع بديع لم يرسل إلى الخليفة في بغداد.

والأمر الثاني أن العراق كان أكثر بلاد الله خليطًا؛ فقديمًا تعاقبت عليها الأمم والمدنيات، وفي العصر العباسي كان حاضرة الخلافة ومقصد الناس، وكان مسكن العنصر الأرستقراطي من الفرس، وعلى مقربة من بغداد إيوان كسرى، وبغداد محط الراحلين من الهنود والعرب والروم وغيرهم، وكل جنس من هذه الأجناس يعرض خير ما عنده، وإن أَدْرَكَتْ سائر الأقطار طَرَفًا من زينةٍ ولهوٍ وغِناءٍ وشِعرٍ، فَمِنْ بغداد تَقْتَبِسُ.

وكان من حسنات إبراهيم الموصلي زرياب المغني؛ فقد كان تلميذًا لإسحاق، وكان يحضر معه مجلس الرشيد، ثم اختلف معه ففر إلى الأندلس، وكانت سبقته شهرته إليها، فاستُقْبِل فيها استقبالًا حسنًا، ولم يكُنْ زرياب مغنيًا فقط، بل كان عالمًا أديبًا أيضًا، فنشر في بلاد الأندلس موسيقاه التي تلقاها عن إبراهيم الموصلي وعلمه فنه؛ فكان أيضًا من حسنات الرشيد بالوساطة.

وزان زريابُ مجالسَ عبد الرحمن الداخل، كما زان أستاذُه الموصلي مجالسَ الرشيد، واجتهد زرياب أن يَجْعَلَ من قرطبة ما رآه في بلاط الرشيد في بغداد من فخفخة وعظمة، وأن يَحْمِل عبد الرحمن على البذخ والترف كما كان الرشيد، وينقل حضارة بغداد إلى قرطبة، فنجح في ذلك إلى حد كبير؛ لأنه كان عظيم الشخصية، وقد أجرى عليه عبد الرحمن الداخل ثلاثة آلاف دينار في السَّنة، وأعطاه عقارًا بقرطبة قيمته أربعون ألف دينار، وقربه إليه وجعل مرتبته مرتبةً عظيمةً.

وقد قالوا عنه: إنه كان يعرف عشرة آلاف لحن بأشعارها ونغماتها، ولم يقتصر على الغناء والشعر، بل كان يعلم الفلك والجغرافيا، وكان قد أخذ عن أستاذه الموصلي فنَّ الظرف واللباقة الذي كان يعلمه الموصلي في بغداد للجواري الحسان، ونشر أيضًا الذوق في قرطبة، وغيَّر مِن زِيِّ الرجال؛ فقد كان الرجال يُرْسِلُون شُعُورهم طويلةً، ويَفْرِقُونها في مُقَدَّم الرأس، فابتدع لهم طريقةً جديدة، فأصبح الزي الرائج بعده أن يحسر الرجل شعره بعد أن يقصره، وكان الأندلسيون يشربون الماء بآنية معدنية، فَعَلَّمَهُمْ أن يَشْربوه بأقداح مِنْ زجاج، ونشر في الأندلس نوعًا من الطعام كان محببًا إليه هو الهليون، وابتدع أيضًا أنواعًا من الأطعمة اللطيفة تنسب إليه؛ منها النوع المعروف بالزريابية … فلعله هو الذي حرفه العوام فيما بعد إلى زلابيا.

•••

وعلى الجملة، فقد كان من حسنات الرشيد — وإن لم يعلم — نَقْل حضارته ومجالسه وتَرَفه إلى الأندلس بوساطة زرياب.

وكان الموصلي — كما قلت — بلدي البرامكة يغنيهم كما يغني الرشيد، ويضع الأصوات في مدحهم مثل قوله:

ويَفْرَحُ بالمولود مِنْ آلِ بَرْمَكٍ
بُغَاةُ النَّدى والسَّيْفُ والرُّمْحُ والنَّصْلُ
وتَنْبَسِطُ الآمال فيهِ لِفَضْلِهِ
ولا سِيَّمَا إنْ كان مِنْ وَلَدِ الفضلِ

ولا يبعد أن يكون أبو إسحق الموصلي بحكم بلديته للبرامكة، كان ينقل إليهم ما كان يدور في مجلس الرشيد مما يتصل بهم من قريب أو بعيد، ولكن الرشيد أبقى على رأسه لما طاح برؤوسهم؛ لأنه لم يكُنْ يتدخل في سلطة الرشيد، ولا سلطة البرامكة، ولأن الرشيد كان في حاجة إليه؛ إذ كان لا يستغني عن صوت جميل، ولحن جميل، وليس للموصلي في ذلك نظير.

وعلى الجملة كان للرشيد ذوق مرهف في سمع الغناء ونقله، حتى لَيَحْكون أنه سمع الموصلي مرةً فقال له: إنك أخطأت في لحنك مرتين … فَعَجِبَ الموصلي من ذلك، وخرج يتحدث به، وكان مما عُرف عنه أنه أَمَرَ بأن يُخْتَار له مائة صوت «لحن» أو«دور»، وهي التي بنى عليها أبو الفرج الأصفهاني كتابه الأغاني، ثم أَمَرَهُمْ أن يختاروا منها عشرة، ثم أمرهم أن يختاروا من العشرة ثلاثة، فكانت هذه الثلاثة لحنًا لمعبد، ولحنًا لابن سريج، ولحنًا لابن محرز.

الأصمعي وأبو عبيدة

ومجلس آخر هو مجلس جد ولغة وشعر، يكون عماده الأصمعي وأبا عبيده والكسائي؛ فأما الأصمعي فكان رجلًا عربي الأصل محتفظًا بعربيته في ملبسه ونبرات صوته، وقد رحل إلى البادية وسَمِعَ من أهلها لغةً وأدبًا، وعلى الأخص «مُلَحًا» ونوادر، فكان يتخير منها ما يناسب مجلس الرشيد، ويتحدث إليه، ويسأله الرشيد عما يجهله، ويسمع منه مُلَحَهُ ونوادره، ويتفقده الرشيد حين يغيب عنه.

وأما أبو عبيدة فيهودي الأصل، ليس له خفة روح الأصمعي ولا مُلَحُهُ ولا نوادره، وإنما كان له مهارةٌ في ناحية أخرى يمتاز بها، وهي معرفته بأخبار الأمم من عرب وغيرهم، وكان يُسَرُّ الرشيد بذكره مثالب بني أمية، هذا إلى عِلْمٍ باللغة واسعٍ، وإن لم يَبْلُغْ مَبْلَغَ الأصمعي؛ سأله الفضل بن الربيع يومًا: «كيف يُعَبِّر الله سبحانه عن شيء لم تَعْرفه العرب ولم تَرَهُ؛ إذ قال: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ؟» فقال: إن العرب إذا عرفت شيئًا ولو لم تَرَهُ ذَكَرَتْهُ في كلامها؛ كالشاعر الذي يقول: «ومسنونة زُرْقٌ كأنياب أغوالِ.»

والغولُ شيء لم تَرَهُ العرب، ثم وَضَعَ كتابًا في مجاز القرآن.

وأما الكسائي فقد تعوده الرشيد من صغره؛ إذ كان هو مربيه، وكان فارسيَّ الأصل عربيَّ الولاء، ويمتاز عن الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكان النحو في أيامهم واسعَ المدلول؛ فهو يشمل الصرف والمعاني والبيان والبديع، ونحو ذلك، ويظهر أنه كان جادًّا كل الجد ليس كالأصمعي مرحًا كل المرح، ولم يكُنْ له عِلم بالشِّعر كالذي للأصمعي، فكان الأصمعي يغلبه في الشعر، والكسائي يغلبه في النحو.

•••

ولقد كانت مجالسهم مجالس جد من لغة ونحو وأخبار، وما إلى ذلك، وقد استفاد الرشيد كثيرًا من عِلْمِهم ونحوهم.

ومجلس آخر كان عِمَاده الشِّعر يجلس فيه أبو العتاهية وأبو نواس ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأمثالهم، فيُنْشِدُون له الشِّعر أحيانًا في مديحه ومدْح آبائه إلى نحو ذلك.

وهو يتخذهم دعابة له، ومظهر ترف وأبهة، ويجزل لهم العطاء بقدر ما يجزلون له من الثناء.

وأحيانًا يكون المجلس مجلسَ فِقْه ومحاولة لخروج من مأزق من مآزق القصر، حوْل جارية أو حوْل مشادة بينه وبين زبيدة … وعماد ذلك أبو يوسف القاضي، كالذي رُوي أن أميرًا من أمراء البيت العباسي اشترى جارية جميلة، فطلبها منه الرشيد، فحلف بالأيمان المغلظة أن لا يبيعها، وحلف الرشيد أيضًا الأيمان المغلظة أن يشتريها، وتحرج الأمر بينهما.

فاستدعى أبا يوسف، فحل الإشكال؛ بأن يهب الأمير نصفها للرشيد، ويشتري الرشيد نصفها الآخر، فكان ذلك، وكان واسع العلم متفنن الحيلة لبقًا، مما جعل الرشيد يُعَيِّنُه قاضيَ بغداد، وهذا يجعله قاضي القضاة فينتشر بذلك مذهب أبي حنيفة شيخ أبي يوسف.

تنظيم الضرائب

وكان إلى جانب ذلك يَهديه إلى نظم الضرائب، وهو الذي وضع له كتاب الخراج، فنَظَّم له فيه الضرائب، وكيف يجبيها، وذكر الرشيدَ في أول كتابه هذا، وقدمه له مع نصائح حكيمة وَقُورَة مثل ما يخاطبه به فيقول: «لا تؤخر عمل اليوم إلى غد … فإنك إن فعلت ذلك أضعت»، و«إن الأجل دون الأمل … فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل»، «إن الرعاة مُؤَدُّون إلى ربهم ما يُؤَدِّي الراعي إلى رعيته، فأقم الحقَّ فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راعٍ سَعِدَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ»، و«لا تَزِغْ فتزيغ رَعِيَّتُكَ»، و«إياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب»، و«إذا نظرت إلى أمرين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، فاختر أَمْر الآخرة على أمر الدنيا؛ فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى»، و«كن من خشية الله على حَذَر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم، واحذر فإن الحذر بالقلب وليس باللسان.»

•••

ويذكر أبو يوسف أن رجلًا نصرانيًّا كان يأتي الحسن البصري، ويغشى مجالسه؛ فمات، فسار الحسن إلى أخيه ليعزيه فقال له: «أثابك الله على مصيبتك ثواب من أصيب بمثلها من أهل دينك، وبارك لنا في الموت، وجعله خير غائب ننتظره … عليك بالصبر فيما نزل بك من مصائب»، وهكذا نرى في ثنايا الكتاب دررًا غاليةً، ونصائح عاليةً.

ومثل: «يا أمير المؤمنين! إن الله — وله الحمد — قد قلدك أمرًا عظيمًا ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب؛ قلدك أمر هذه الأمة، فأصبحت وأمسيت، وأنت بُغية لخلقٍ كثير قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان إذا أُسِّسَ على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه وأعان عليه، فلا تضيعَنَّ ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة في العمل بإذن الله.»

والكتاب ليس مقصورًا على الضرائب … ففيه — مثلًا — نصائح متعددة غالية؛ كحسن معاملة الأسارى، وإنه إذا أَمِنَ المُحَارَبُ لم يُؤْخَذ منه شيء، وكالأمر بحسن معاملة اليهود والنصارى، وإنَّ أبا يوسف سأل أبا حنيفة عن اليهودي أو النصراني يموت له ولد … فهل يُعزَّى؟ وبم يُعزَّى؟ فقال: «نعَم يُعَزَّى، ويقال له: إن الله كتب الموت على خلقه، نسأل الله أن يجعله خير غائب منتظر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، عليك بالصبر فيما نزل بك، لا أنقص الله لك عددًا.»

وكان على باب قصر الخلد حجرة واسعة يجلس فيها الشعراء والمغنون والفقهاء، تدور بينهم الأحاديث المختلفة في الموضوعات المختلفة، وجميعهم ينتظر دعوة الحاجب لطائفة منهم حسب مزاج الرشيد في وقته، وحسب ما يعرض له من أحداث، وأحيانًا لا يجد الحاجب من يطلبه في هذه الحجرة فيذهب إليه في بيته.

وإذ كان الرشيد حاكمًا بأمره فهو أحيانًا يرضى لا إلى حد، وأحيانًا يغضب لا إلى حد؛ فكان من دُعِيَ يغتسل ويتكفن قبْل ذهابه إليه، مما يعطينا صورةً سيئةً للحكام في هذا العهد.

مجلس العظة والاعتبار

ومجلس آخر يرجع فيه الرشيد إلى نفسه، ويدعو مَن يَعِظُهُ، أو يذهب إليه إذا كان الواعظ لا يغشى مجالس الأمراء؛ كالذي رُوي أنه استدعى ابن السماك الواعظ المشهور فلما دخل عليه قال له: «عظني!»

فقال: «يا أمير المؤمنين … اتق الله، واحذره، لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما: جنة أو نار.»

فبكى هارون حتى اخضلت لحيته … فأقبل الفضل بن الربيع على ابن السماك، وقال: «سبحان الله! هل يخالجك شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله لقيامه بحق الله وعدله في عباده؟»

فقال: «يا أمير المؤمنين: إن هذا — يعني الفضل بن الربيع — ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله، وانظر لنفسك»، فبكى هارون حتى أشفق الموجودون عليه.

وأُفْحِم الفضل بن الربيع، ولم يَنْطِق بحرف حتى خرج مَن بحضرته، ويأتي الرشيدُ الفضيلَ بن عياض فيفتح له الباب هو والفضل بن الربيع، ثم يصعد الفضيل إلى أعلى الغرفة مسرعًا، ويطفئ السراج، ويتجه إلى زاوية من زوايا الغرفة، فيبحث عنه الرشيد حتى يجده، فيقول الفضيل، وقد جس يده: «ما ألينها من يد إن نجت غدًا من عذاب الله»، ثم يسأله: «لم جئت؟ … لقد حملت على نفسك، وجميعُ من معك حملوا عليك، ولو سألتهم عند انكشاف الرقاب عنك وعنهم أن يحملوا عنك نقصًا من ذنب ما فعلوا، ولكن أشدهم حبًّا لك أشدهم هربًا منك.»

ثم قال: «إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، وقال لهم: «إني قد ابْتُلِيتُ بهذا البلاء فأشيروا علَيَّ» — فَعَدَّ الخلافة بلاء وعددْتَها أنت وأصحابك نعمة — فقال له سالم: «إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فصُمْ عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها على الموت»، وقال له محمد بن مطعم: «إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فليكن كبير المسلمين لك أبًا، وأوسطهم لك أخًا، وأصغرهم لك ولدًا؛ فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك».»

وقال له رجاء: «إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأَحِبَّ للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك»، فبكى هارون الرشيد بكاءً شديدًا حتى غشي عليه … فقال الفضل بن الربيع: «ارفق بأمير المؤمنين»، فقال الفضيل: «يا ابن الربيع قتلْتَهُ أنت وأصحابك وأرفق أنا به؟!» فلما أفاق قال: «زدني» …

فقال: «يا أمير المؤمنين! … بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه السرف فكتب إليه عمر يقول: «يا أخي اذكر سهر أهل النار، وخلود عباد الله فيها» فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدِمَ عليه، فقال له عمر: «ما أَقْدَمَكَ؟» قال: «خَلَعْتَ قلبي بكتابك، لا وَلِيتُ لك ولاية أبدًا حتى ألقى الله».»

وعاد الرشيد أيضًا فبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: «زدني»، فقال: «يا أمير المؤمنين! إن جدَّك العباس عم النبي جاء فقال: «يا رسول الله! أمِّرْني على إمارة»، فقال له النبي : «يا عم! نفسٌ تُحييها خير من إمارة لا تحصيها … إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل».»

فبكى الرشيد، ثم قال: «زدني»، فقال: «يا حَسَن الوجه، إنِ استَطَعْتَ أن تَقِي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تُصْبح أو تمسي وفي قلبك غِشٌّ لرَعِيَّتك.»

فبكى الرشيد أيضًا، ثم قال للفضيل: «أعليك دَيْنٌ؟» قال: «دَيْن لربي يحاسبني عليه»، فقال هارون: «إنما أعني دَيْن العباد» فقال: «إن ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أَصْدُقَ وعْده وأُطِيعَ أمْرَه» فقال له الرشيد: «هذه ألف دينار خُذْها لعيالك، وَتَقَوَّ بها على عبادة ربك.»

فقال الفضيل: «سبحان الله! أنا أدلك على النجاة، وتكافئني بمثل هذا؟! سَلَّمك الله»، ثُمَّ صَمَت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤