الفصل العاشر

اضطراب في المحكمة

خرافات عن علم النفس والقانون

(١) الخرافة رقم ٤٣: معظم المرضى العقليين يتسمون بالعنف

لنبدأ الحديث بأحجية سريعة لمحبي الأفلام: ما الشيء المشترك في أفلام هوليوود الآتية: «سايكو» و«هالوين» و«الجمعة ١٣» و«التعاسة» و«صيف سام» و«كابوس في شارع إيلم» و«الخوف البدائي» و«كيب فير» و«فارس الظلام»؟ إذا كان تخمينك أنها جميعًا تشترك في تصويرها لشخصية مريض نفسي يتسم بالعنف، فأنت محق في ذلك.

تمثل هذه الأفلام القاعدة لا الاستثناء، فما يقرب من ٧٥٪ من الأفلام التي تدور عن شخصية تعاني مرضًا نفسيًّا خطيرًا تصور هذه الشخصية على أنها تتسم بالعدوانية الجسدية، بل والميل إلى ارتكاب جرائم قتل (ليفين، ٢٠٠١؛ سيجنوريلي، ١٩٨٩؛ وال، ١٩٩٧). أما الأفلام والبرامج التليفزيونية التي تصور «القتلة السيكوباتيين» و«المجانين الميالين للقتل» فقد باتت شديدة الشيوع في هوليوود. ولعل البرامج التليفزيونية التي تحظى بأكبر نسبة مشاهدة تصور الشخصيات التي تعاني أمراضًا نفسية على أنها تمارس أنشطة عنيفة بقدر يزيد عن الشخصيات الأخرى عشر مرات ويزيد عن الشخص العادي من عشر إلى عشرين مرة (ديفينباخ، ١٩٩٧؛ ستاوت، وفيليجاز، وجينينجز، ٢٠٠٤؛ الشكل ١٠-١).

نادرًا ما تختلف طريقة تغطية المرض النفسي في الأخبار. ففي إحدى الدراسات اهتمت ٨٥٪ من التقارير الإخبارية التي تناولت المرضى النفسيين السابقين بالجرائم العنيفة لهؤلاء المرضى (شين، وفيليبس، ١٩٩١). وهذه النتائج بلا شك لن تمثل مفاجأة للأفراد الذين يعرفون الشعارات غير المعلنة للمؤسسات الإخبارية: «الأخبار الدامية في الصدارة؛ الأخبار المثيرة تحقق المكاسب.» إن وقود وسائل الإعلام الإخبارية هو الإثارة، لذلك فقصص المرضى النفسيين أصحاب السجلات التي تعج بأحداث عنيفة يضمن لها جذب الانتباه بشدة.

fig4
شكل ١٠-١: تغذي أفلام عديدة سوء الفهم العام للمرضى النفسيين وتصورهم على أنهم كثيرًا أو عادة يتسمون بالعنف. والعجيب حقًّا أن معظم المرضى النفسيين لا يتسمون بالعنف (انظر قسم «خرافات أخرى تستحق الدراسة»). (المصدر: فوتوفيست.)

بسبب ظاهرة «توافر وسيلة الاسترشاد» (انظر الخرافة رقم ١٦)، وهي ميلنا إلى الحكم على معدل وقوع الأحداث عن طريق مقدار السهولة التي نتذكر بها تلك الأحداث، فإن هذه التغطية الإعلامية تضمن فعليًّا أن يفكر العديد من الأفراد في «العنف» كلما سمعوا عبارة «المرض النفسي» (روشيو، ٢٠٠٠). يمكن أن يؤدي هذا المنطق الاستدلالي إلى إيجاد علاقات وهمية (راجع المقدمة) بين ظاهرتين، هما في هذه الحالة العنف والمرض النفسي. فلا شك أن التغطية الإعلامية الواسعة لحادثة إغراق آندريا ييتس أطفالها الخمسة المأساوية عام ٢٠٠١، وكذلك فاجعة إطلاق سونج-هيو تشو الرصاص على ٣٢ طالبًا وعضوًا من هيئة تدريس في «معهد فيرجينيا للتكنولوجيا» عام ٢٠٠٧ قد زاد على نحو شبه مؤكد من قوة ذلك الارتباط في أذهان الأفراد. فكل من ييتس وتشو عانى اضطرابات نفسية خطيرة (فقد كانت ييتس مصابةً بالاكتئاب الذهاني، وظهرت على تشو أعراض فصام واضحة). وفي حقيقة الأمر، جاء في إحدى الدراسات أن قراءة قصة في صحيفة عن حادثة قتل طفل ذي تسعة أعوام بواسطة مريض نفسي أحدث زيادة ملحوظة في الفكرة القائلة بخطورة المرضى النفسيين مقارنة بالإنسان العادي (ثورنتون، ووال، ١٩٩٦).

ولا عجب أن الدراسات أوضحت أن الارتباط الوثيق بين المرض النفسي والعنف في وسائل الإعلام الشعبية يتشابه في أذهان جموع الأفراد. فقد بينت إحدى الدراسات أن ما يقرب من ٨٠٪ من الأمريكيين يعتقدون أن الأفراد المصابين بمرض نفسي يميلون إلى العنف (جانجولي، ٢٠٠٠). وتنطبق الخطورة الكبيرة على قطاع عريض من الاضطرابات، بما في ذلك إدمان الكحوليات والكوكايين والفصام وحتى الاكتئاب (آنجرماير، وديتريش، ٢٠٠٦؛ لينك، فيلان، بريسنهان، ستوف، وبسكوسوليدو، ١٩٩٩). بالإضافة إلى ذلك، في الفترة بين ١٩٥٠ و١٩٩٦، زادت نسبة الأمريكيين البالغين الذين يعتقدون في عنف المرضى النفسيين زيادة ملحوظة (فيلان، لينك، ستوف، وبسكوسوليدو، ٢٠٠٠)، وهذه زيادة عجيبة، لأن الأبحاث تشير إلى أن النسبة المئوية لحالات القتل المرتكبة بواسطة المرضى النفسيين قد انخفضت على مدار الأربعة عقود الماضية (كاتكليف، وهانيجان، ٢٠٠١). ومهما كانت جذور ذلك الاعتقاد فإنه ينشأ في فترة مبكرة في الحياة، ذلك أن الدراسات توضح أن أطفالًا عديدين في سن ١١ و١٣ عامًا يعتقدون في خطورة الغالبية العظمى من المرضى النفسيين (واتسون وآخرون، ٢٠٠٤).

مع ذلك، لا تتفق اعتقادات عامة الأفراد حول ارتباط المرض النفسي بالعنف مع الأدلة البحثية الكثيرة (أبلبوم، ٢٠٠٤؛ تيبلين، ١٩٨٥)، فأغلب الدراسات تقر بوجود زيادة طفيفة في احتمال اللجوء للعنف بين الأفراد المصابين بأمراض نفسية شديدة، مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب، الذي كان يطلق عليه فيما مضى «الاكتئاب الهوسي» (موناهان، ١٩٩٢).

مع ذلك، يبدو أنه حتى هذه الخطورة الزائدة تقتصر على مجموعة فرعية صغيرة نسبيًّا من الأفراد المصابين بهذه الأمراض. وعلى سبيل المثال: توضح أغلب الدراسات أن الأفراد المصابين بالأوهام البارانويدية (مثل اعتقاد المريض الزائف بأن وكالة المخابرات المركزية تتعقبه) واضطرابات إدمان المواد المخدرة (هاريس، ولوريجوي، ٢٠٠٧؛ ستيدمان وآخرون، ١٩٩٨؛ سوانسون وآخرون، ١٩٩٦)، وليس غير هؤلاء من المرضى النفسيين، معرضون لزيادة احتمال الميل للعنف. وفي حقيقة الأمر، في بعض الدراسات الحديثة لم تظهر على المرضى النفسيين من أصحاب الحالات شديدة الخطورة ممن لا يعانون اضطرابات إدمان المواد المخدرة أي احتمال ميل إلى العنف بدرجة أكبر من غيرهم من الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، ليس هناك احتمال متزايد أن يميل المرضى النفسيون الذين يتناولون أدويتهم على نحو منتظم إلى العنف عند مقارنتهم بغيرهم من الناس (ستيدمان وآخرون، ١٩٩٨). مع ذلك فهناك بعض الأدلة على أن المرضى الذين يعانون «هلاوس سمعية آمرة» — أي أصوات تأمر الشخص بارتكاب فعل ما كالقتل — تزيد احتمالات ميلهم للعنف (جانجنجر، وماكجواير، ٢٠٠١؛ ماكنيل، آيسنر، وبيندر، ٢٠٠٠).

مع ذلك، تشير أفضل التقديرات إلى أن ٩٠٪ أو يزيد من الأفراد المصابين بأمراض نفسية خطيرة، بما في ذلك الفصام، لا يُقْبِلون مطلقًا على ارتكاب أفعال عنيفة (هودجينز وآخرون، ١٩٩٦). وبالإضافة إلى ذلك، يحتمل أن يكون المرض النفسي الحاد سببًا فيما يقرب من ٣ إلى ٥٪ من جرائم العنف جميعها (موناهان، ١٩٩٦؛ والش، بوتشانن، وفاهي، ٢٠٠١)، وفي حقيقة الأمر، الأفراد المصابون بالفصام وغيره من الاضطرابات النفسية الحادة هم ضحايا أكثر من كونهم مرتكبي أحداث عنيفة (تيبلين، وماكليلاند، وآبرام، وواينر، ٢٠٠٥)، وربما يرجع ذلك إلى أن قدرتهم العقلية الضعيفة تجعلهم عرضة لهجمات الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، ليس هناك ارتباط بين أغلب الاضطرابات النفسية الرئيسية — التي تشمل الاكتئاب الشديد واضطرابات القلق (مثل حالات الرهاب واضطراب الوسواس القهري) — والاحتمال المتزايد للعنف البدني.

لكن على الرغم من ذلك كله، ثمة شعاع ضوء يطل من وسط سحابة سوء الفهم العام الرمادية الهائلة. يتبين ذلك من إشارة الأبحاث إلى أن تصوير المرض النفسي في وسائل الإعلام التي تقدم الأخبار والمتعة ربما يشهد تغيُّرًا تدريجيًّا؛ فمنذ عام ١٩٨٩ إلى عام ١٩٩٩ انخفضت نسبة أخبار المرضى النفسيين التي تحتوي على وصف لأحداث عنيفة (وال، وود، وريتشاردز، ٢٠٠٢). بالإضافة إلى ذلك، ربما تساعد الأفلام الحديثة مثل «عقل جميل» (٢٠٠١) على مقاومة اعتقاد عامة الناس الخاطئ في وجود ارتباط قوي بين المرض النفسي والعنف، ذلك أن فيلم «عقل جميل» يصور الأفراد المصابين بأمراض نفسية كالفصام على أنهم مسالمون ويمكنهم التعامل بنجاح مع أعراض المرض النفسي الذي يعانونه. ومن المثير أن أبحاث التعددية الثقافية تشير إلى أن فكرة الاحتمال المتزايد للعنف بين الأفراد المصابين بالفصام قد لا تكون موجودة في بعض المناطق، ومنها «سيبريا» و«منغوليا» (آنجرماير، بايانتاجز، وكينزاين، ٢٠٠٤)، وربما يرجع السبب في ذلك إلى وصولهم المحدود للتغطية الإعلامية. ولعل هذه النتائج تعطينا مزيدًا من أسباب التشبث بالأمل في ألا تكون فكرة الاحتمال المتزايد للعنف بين المرضى النفسيين فكرة حتمية.

(٢) الخرافة رقم ٤٤: يساعد التحليل النفسي الجنائي في حل القضايا

خلال الجزء الأكبر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠٠٢، احتُجز مواطنو فيرجينيا وماريلاند وواشنطن العاصمة رهائن داخل منازلهم. فعلى مدار ٢٣ يومًا مروعة بدا أنها بلا نهاية، قتل ١٠ أشخاص أبرياء وجرح ٤ آخرون في سلسلة مخيفة من حوادث إطلاق الرصاص. قتل أحد الأشخاص أثناء تشذيب الحشائش، وقتل آخر أثناء قراءته أحد الكتب وهو جالس على أحد المقاعد الموجودة في الشارع، وآخر عقب مغادرته أحد المتاجر، وآخر أثناء وقوفه في باحة وقوف السيارات الخاصة بأحد المطاعم، وقتل عدة أشخاص آخرين أثناء سيرهم في الشارع أو أثناء تزويد سياراتهم بالوقود. بدت عمليات إطلاق النار عشوائية تمامًا، فقد كان الضحايا من البيض والأمريكيين من أصول أفريقية والأطفال واليافعين من الرجال والنساء. وقد تجنب قاطنو حي «واشنطن بلتواي»، بعد أن أصابهم الهلع والذعر، الخروج من منازلهم إلا إذا دعت الضرورة القصوى لذلك، وأمرت عشرات المدارس طلابها بملازمة الفصول لدواعٍ أمنية، وألغت جميع الأنشطة الخارجية وأنشطة صالات الجمنازيوم.

وفي الوقت الذي استمر فيه مسلسل إطلاق الرصاص دون أن تلوح له نهاية واضحة، أدمنت مجموعات كبيرة من خبراء التحليل النفسي الجنائي الظهور على قنوات التليفزيون لعرض تحليلاتهم لهوية القناص. وخبراء التحليل النفسي الجنائي هم خبراء مدربون يدعون القدرة على استنتاج شخصية المجرم وصفاته السلوكية والبدنية على أساس تفاصيل معينة عن جريمة أو أكثر من الجرائم (ديفيز، وفوليت، ٢٠٠٢؛ هيكس، وسيلز، ٢٠٠٦). بهذه الطريقة، يفترض أن يستطيع هؤلاء الخبراء مساعدة المحققين في تحديد هوية الشخص المسئول عن الجريمة أو الجرائم محل البحث (دوجلاس، رسلر، دورجيس، وهارتمان، ١٩٨٦). والجدير بالإشارة أن «مكتب التحقيقات الفيدرالي» يستعين وحده فيما يقرب من ١٠٠٠ قضية كل عام بخبراء التحليل النفسي الجنائي (سنوك، جندرو، بينل، وتايلور، ٢٠٠٨).

وفي قضية قناص بلتواي اتفق معظم خبراء التحليل النفسي الجنائي الذين التقت بهم وسائل الإعلام على شيء واحد هو أن القاتل ربما كان ذكرًا أبيض البشرة (ديفيز، وموريل، ٢٠٠٢؛ كلينفيلد، وجود، ٢٠٠٢)، لكنَّ هاتين الصفتين تتطابقان في وصف معظم السفاحين. من ناحية أخرى، ذهب خبراء تحليل نفسي جنائي آخرون إلى أن القاتل لم ينجب أطفالًا، وقال آخرون إنه لم يكن جنديًّا، فمن المفترض أن يستخدم رصاصات شديدة الدقة بدلًا من الرصاصات البدائية نسبيًّا التي وجدت في الحالات التي تعرضت لإطلاق الرصاص. مع ذلك، تكهن خبراء آخرون أن القاتل يرجح أن يكون في منتصف العشرينات من العمر، حيث إن متوسط أعمار السفاحين القناصة ٢٦ عامًا (جيتلمان، ٢٠٠٢؛ وكلينفيلد، وجود، ٢٠٠٢).

ولكن عند القبض على «القناص» في ٢٤ أكتوبر (تشرين الأول) ذهلت الغالبية العظمى من خبراء التحليل النفسي الجنائي؛ فمن ناحية، لم يكن «القناص» شخصًا واحدًا، بل ارتكب جرائم القتل فريق مكون من رجلين هما: جون آلان محمد ولي بويد مالفو. وزاد على ذلك أن الرجلين كانا أمريكيين من أصول أفريقية، وليسا من البيض. وعلى عكس ما تنبأ به العديد من خبراء التحليل النفسي الجنائي، كان جون جنديًّا سابقًا ولديه أربعة أطفال. ولم يكن أي من القاتلين في منتصف العشرينات؛ فقد كان جون يبلغ ٤١ عامًا، فيما كان مالفو يبلغ ١٧ عامًا.

تلقي قضية «قناص بلتواي» الضوء على نقطتين مهمتين؛ أولًا: أن التحليل النفسي الجنائي قد بات جزءًا متأصلًا من بنية الثقافة الشعبية. فقد أثار فيلم «صمت الحملان»، الحائز على جائزة الأوسكار، إعجاب الأمريكيين بالتحليل النفسي الجنائي، وجسدت دور البطولة فيه جودي فوستر؛ إذ قدمت دور متدربة على التحليل النفسي الجنائي لدي مكتب التحقيقات الفيدرالي. وتصور تسعة أفلام أخرى على الأقل، بما في ذلك فيلم «المُقلد» (١٩٩٥) وفيلم «جوثيكا» (٢٠٠٣)، خبراء التحليل النفسي الجنائي في أدوار غاية في الأهمية. بالإضافة إلى ذلك، تخلع عديد من المسلسلات التليفزيونية المشهورة ثوب النجومية على خبراء التحليل النفسي الجنائي، وعلى رأس تلك المسلسلات: «خبير التحليل النفسي الجنائي» و«الألفية» و«عقول إجرامية» و«سي إس آي: تحقيق مسرح الجريمة». وفي الوقت الحالي جرت العادة على تكثيف الضوء على خبراء التحليل النفسي الجنائي، مثل بات براون وكلنت فان زانت، في البرامج التليفزيونية التي تتناول على نحو مكثف تحقيقات الجرائم كبرنامج «أون ذا ريكورد» (الذي تقدمه جريتا فان سوستيرن على شاشة فوكس نيوز)، وبرنامج «نانسي جريس» الذي يُعرض على قناة سي إن إن. ونادرًا ما تبدي هذه الأفلام أو البرامج أي قدر ولو طفيف من الشك في القدرات التنبئية لخبراء التحليل النفسي الجنائي (مولر، ٢٠٠٠).

تنعكس شهرة التحليل النفسي الجنائي في وسائل الإعلام على المفاهيم السائدة عن مدى فعاليتها بين أخصائيي الصحة النفسية والقائمين على تطبيق القانون. ففي دراسة لعدد ٩٢ من علماء النفس والأطباء النفسيين من أصحاب الخبرات في القانون، اتفق ٨٦٪ منهم على أن التحليل النفسي الجنائي «هو أداة مفيدة لتطبيق القانون»، على الرغم من أن ٢٧٪ فقط من بينهم اعتقدوا في قيام ذلك التحليل الجنائي على أسس علمية بدرجة كافية تسمح بأن يعتد به في المحاكم (توريس، بوكاسيني، وميلر، ٢٠٠٦). وفي استبيان آخر لعدد ٦٨ من ضباط الشرطة في الولايات المتحدة، قال ٥٨٪ منهم إن التحليل النفسي الجنائي يساعدهم في توجيه مسارات التحقيقات الجنائية، وقال ٣٨٪ إنه يساعدهم في التعرف على المشتبه فيهم (تراجر، وبروستر، ٢٠٠١).

ثانيًا: أثارت تكهنات العديد من خبراء التحليل النفسي الجنائي التي افتقرت للدقة على نحو كبير في قضية قناص بلتواي سؤالًا شديد الأهمية: هل يجدي التحليل النفسي الجنائي؟ وللإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى أن نحدد ما نقصده بكلمة «يجدي»، فإذا كنا نعني: «هل يمكن أن يتنبأ التحليل النفسي الجنائي بصفات المجرمين أفضل من الاعتماد على الحظ في ذلك؟» فربما تكون الإجابة نعم. تبين الدراسات أن خبراء التحليل النفسي الجنائي المحترفين يمكنهم على نحو دقيق في الغالب التكهن ببعض صفات المجرمين (مثل هل هم ذكور أم أناث، كبار أم شباب) وذلك عندما تتوفر لديهم المعلومات الكاملة عن القضية عند التعامل مع جرائم معينة، مثل جرائم الاغتصاب والقتل، وسيجيدون التصرف على نحو أفضل مما قد نفعله عند اعتمادنا على الحظ (كوكسيس، ٢٠٠٦).

لكن هذه النتائج لا تثير الإعجاب على نحو كبير، وهذا لأن خبراء التحليل النفسي الجنائي قد يعتمدون على «معلومات الحد الأدنى»، أي البيانات الخاصة بصفات المجرمين الذين يرتكبون جرائم معينة، وهي بيانات يمكن أن تتوفر لأي شخص يهتم بالبحث عنها. على سبيل المثال: ما يقرب من ٩٠٪ من السفاحين من الذكور وحوالي ٧٥٪ منهم من البيض (فوكس، وليفين، ٢٠٠١)؛ لذلك لا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيرًا مدربًا في التحليل النفسي الجنائي للتكهن بأن الشخص المسئول عن سلسلة من جرائم القتل ربما يكون ذكرًا أبيض؛ فسيكون على صواب في أكثر من ثلثي الحالات بالاعتماد فقط على الحد الأدنى من المعلومات. ويمكننا أن نحصل على بعض معلومات الحد الأدنى حتى دون مناقشة الأبحاث الرسمية. فعلى سبيل المثال: لا يحتاج الأمر إلى خبير تحليل نفسي جنائي مدرب لكي يستنتج أن رجلًا قتل زوجته وأطفاله الثلاثة على نحو وحشي بطعنهم مرات عدة ربما «كانت لديه مشكلات خطيرة في التحكم في مزاجه.»

ثمة اختبار أفضل من ذلك لمدى جدوى التحليل النفسي الجنائي يتمثل في قياس قدرات خبراء التحليل النفسي الجنائي المحترفين إلى قدرات الأفراد غير المدربين. فعلى أي حال، يفترض أن يكون التحليل النفسي الجنائي منهجًا يتطلب تدريبًا متخصصًا. لكن عند إخضاع التحليل النفسي الجنائي إلى هذا الاختبار الأكثر صعوبة، تجيء النتائج دومًا غير مبهرة. ففي أغلب الدراسات، نادرًا ما يتميز خبراء التحليل النفسي الجنائي المدربون عن الأشخاص غير المدربين في استنتاج سمات شخصيات القتلة الحقيقيين من تفاصيل جرائمهم (هومانت، وكينيدي، ١٩٩٨). ففي دراسة واحدة على الأقل، وضع مخبرو جرائم القتل من أصحاب الخبرات الكبيرة في التحقيق الجنائي وضباط الشرطة أوصافًا لقاتل كانت أقل دقة من الأوصاف التي وضعها الطلاب الذين تخصصوا في علم الكيمياء.

وقد بيَّن تحليل مقارن لأربع دراسات أجريت بدرجة عالية من الدقة أن خبراء التحليل النفسي الجنائي قد أحسنوا بدرجة ضئيلة للغاية عن غيرهم من غير المتخصصين في التحليل النفسي الجنائي (طلاب الجامعة وعلماء النفس) في تقدير الخصائص العامة للمعتدين من خلال المعلومات المتوفرة عن جرائمهم (سنوك، إيستوود، جيندروا، جوجين، وكولين، ٢٠٠٧)، كان قدر نجاحهم مساويًا للقدر الذي أحرزه غير الأخصائيين، بل أقل منه أحيانًا في تقدير: (أ) الخصائص البدنية للمعتدين بما في ذلك النوع إن كان ذكرًا أو أنثى والعمر والعرق، و(ب) أنماط تفكيرهم، بما في ذلك الدوافع والشعور بالذنب فيما يخص الجريمة، و(ﺟ) عاداتهم الشخصية، بما في ذلك الحالة الاجتماعية ودرجة التعليم. ولعل النتيجة التي توصل إليها التحليل — بأن نجاح خبراء التحليل النفسي الجنائي في تقدير الخصائص العامة للمذنبين يزيد زيادة ضئيلة عن غير الأخصائيين — يصعب تفسيرها، ذلك أن خبراء التحليل النفسي الجنائي ربما يكونون أكثر دراية بمعلومات الحد الأدنى التي تتعلق بخصائص المجرمين (سنوك وآخرون، ٢٠٠٨). ومن الممكن لغير الأخصائيين ممن يمتلكون قدرًا ضئيلًا من الخبرة فيما يتعلق بهذه الحدود الدنيا أو من دوافع البحث عنها أن يحرزوا قدر النجاح الذي يحرزه خبراء التحليل النفسي الجنائي، مع أن الباحثين لم يدرسوا بعد هذا الاحتمال.

فإذا كان الدعم العلمي للتحليل النفسي الجنائي ضعيفًا للغاية، فما الذي يفسر شعبيته الكبيرة؟ ثمة مجموعة من الأسباب المحتملة لذلك (سنوك وآخرون، ٢٠٠٨؛ تحت الطبع)، سنكثف التركيز على ثلاثة فقط من تلك الأسباب. أولًا: تفوق أعداد التقارير التي تبثها وسائل الإعلام عن نجاحات خبراء التحليل النفسي الجنائي — أي التكهنات التي ثبت صدقها — أعداد التقارير التي تبث عن إخفاقاتهم (سنوك وآخرون، ٢٠٠٧). وتثير تلك النزعة المشكلات على نحو خاص، فخبراء التحليل النفسي الجنائي، مثل الوسطاء الروحانيين التابعين للشرطة، يطرحون عادة مجموعات كبيرة من التكهنات المتعلقة بخصائص المجرمين على أمل أن يثبت في النهاية صحة بعضها. وكما تجري المقولة القديمة: «إذا ألقيت قدرًا كافيًا من الطين على جدار ما، فسوف يلتصق بعضه.» على سبيل المثال: قليل من خبراء التحليل النفسي الجنائي أصابوا في التنبؤ بأن جرائم القتل التي نسبت إلى قناص بلتواي ارتكبها شخصان (جيتلمان، ٢٠٠٢)، غير أنه ليس واضحًا هل كانت صحة هذه التكهنات راجعة لأي شيء سوى الحظ.

ثانيًّا: قد يكون لما اصطلح علماء النفس على تسميته «مبدأ استكشاف الخبرة» (ريمر، ماتا، وستوكلين، ٢٠٠٤؛ سنوك وآخرون، ٢٠٠٧) دور في هذا أيضًا. وطبقًا لهذا المبدأ (كما جاء في مقدمة الكتاب، فإن «المنهج الاستكشافي» هو طريق عقلي مختصر)، فإننا نثق بشدة في الأفراد الذين يطلقون على أنفسهم «خبراء». ولأن الغالبية العظمى من خبراء التحليل النفسي الجنائي يدعون امتلاكهم للخبرة التخصصية، فقد نجد تأكيداتهم شديدة الإقناع. وتوضح الدراسات أن ضباط الشرطة يظنون أن أوصاف المجرمين تكون أكثر دقة عندما يعتقدون أن من وضعها هم خبراء التحليل النفسي الجنائي المحترفون مقارنة بغير الخبراء (كوكسيس، وهيز، ٢٠٠٤).

والنقطة الثالثة: أنه ربما يكون تأثير «بي تي بارنوم» — الذي يشير إلى الميل نحو تصديق الأوصاف العامة والغامضة للشخصية (ميهل، ١٩٥٦؛ انظر الخرافتين رقم ٣٦ و٤٠) — سببًا رئيسيًّا في الشعبية التي يتمتع بها التحليل النفسي الجنائي (جلادويل، ٢٠٠٧). فالجزء الأكبر من خبراء التحليل النفسي الجنائي ينثرون تنبؤاتهم في حرية تامة مع تأكيدات شديدة الغموض، حتى إنه لا يمكن إخضاعها للتجربة العملية (كأن يقولوا: «لدى القاتل مشكلات غير منتهية في تقدير الذات.») أو شديدة العموم بحيث يمكن أن تنطبق على جميع الأفراد تقريبًا (كأن يقولوا: «يعاني القاتل خلافات مع أسرته.») أو تأكيدات تقوم على معلومات الحد الأدنى عن معظم الجرائم (كأن يقولوا: «ربما يكون القاتل قد ترك الجثة داخل أو بالقرب من مسطح مائي.») فلأن العديد من تنبؤاتهم يصعب إثبات خطئها أو لا بد أن يتبين صحتها بصرف النظر عن هوية المجرم، لذا تبدو تلك التنبؤات صحيحة على نحو مدهش (أليسون، سميث، إيستمان، ورينبو، ٢٠٠٣؛ سنوك وآخرون، ٢٠٠٨). وتتفق مع هذا الاحتمال النتائج التي توصلت إليها إحدى الدراسات التي أوضحت أن ضباط الشرطة وجدوا أن تحليلًا معتمدًا على «تأثير بارنوم» ويحتوي على عبارات غامضة (مثل: «ليس المعتدي على درجة النضج الملائمة لسنه.» و«كان الاعتداء … تعبيرًا عن رغبة في الفرار من حياة رتيبة مخيبة للآمال.») يناسب مجرمًا حقيقيًّا تمامًا وكأنه تحليل حقيقي مبني على تفاصيل واقعية عن حياة ذلك المجرم (أليسون، سميث، ومورجان، ٢٠٠٣).

فكما كان «بي تي بارنوم» يمزح في عروض السيرك الخاصة به بقوله إنه يحب أن يعطي «شيئًا صغيرًا لكل فرد»، ربما كان خبراء التحليل النفسي الجنائي الناجحون في الظاهر يضعون مقادير كافية من الأشياء في كل تحليل من تحليلاتهم لإرضاء مسئولي تنفيذ القانون دائمًا. لكن هل تزداد درجة نجاح خبراء التحليل النفسي الجنائي عن الأشخاص العاديين في حل ألغاز الجرائم؟ في الوقت الحالي على الأقل، الحكم هو: «كلا؛ فهناك قدر لا بأس به من الشك في هذا الأمر.»

(٣) الخرافة رقم ٤٥: تنجح نسبة كبيرة من المجرمين في استغلال الدفع بالجنون

بعد أن ألقى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان خطابًا صباح ٣٠ مارس (آذار) عام ١٩٨١، خرج من فندق «هيلتون واشنطن» محاطًا بحراس الأمن، وسار وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صوب سيارته الليموزين ملوحًا للجماهير المحيطة به بكل الود والتي تجمعت خارج الفندق، ولم تمض لحظات حتى سُمِع دوي ست رصاصات؛ أصابت إحداها أحد أفراد الحرس الخاص، وأصابت أخرى ضابط شرطة، فيما أصابت ثالثة جيمس برادي، السكرتير الإعلامي للرئيس، وأصابت رابعة الرئيس نفسه. ولمَّا كانت الرصاصة قد استقرت على بعد بضعة سنتيمترات من قلب ريجان، فقد كانت قريبة على نحو يثير القلق من أن تودي بحياة الرئيس رقم ٤٠ للولايات المتحدة. لكن ريجان تماثل للشفاء التام عقب عملية جراحية فيما ظل برادي يعاني تلفًا دائمًا بالمخ.

أما القاتل الساعي إلى الشهرة فقد كان رجلًا مجهولًا قبل الحادث يبلغ من العمر ٢٦ عامًا ويُدعى جون هينكلي. وقد تبين بعد ذلك أن هينكلي كان قد وقع في حب الممثلة جودي فوستر من بعيد، ثم أحب طالبة بجامعة «ييل». وكان هينكلي قد شاهد قبل الحادث بقليل فيلم «سائق التاكسي» الذي عرض سنة ١٩٧٦ والذي يصور فوستر على أنها طفلة بغي. وكان هينكلي قد تعاطف كثيرًا مع شخصية ترافيز بيكل (التي برع الممثل روبرت دي نيرو في تجسيدها) الذي جالت بخاطره أوهام إنقاذ شخصية فوستر. وكثيرًا ما بعث هينكلي بخطابات حب لفوستر، وزاد على ذلك أنه تمكن من التحدث إليها عبر الهاتف من داخل حجرة نومه في جامعة «ييل»، لكن مساعيه الميئوس منها في التودد إليها باءت جميعًا بالفشل. وهكذا ظل حبه لفوستر من جانب واحد فقط. وفي يأس بالغ، توهم هينلكي أن قتل الرئيس هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تجعل فوستر تقدر عمق مشاعره تجاهها.

عام ١٩٨٢ بعد محاكمة حامية الوطيس شهدت تباريًا حادًّا بين الخبراء النفسيين، رأت هيئة المحلفين أن هينكلي غير مذنب بسبب إصابته بالجنون. وقد تسبب قرار هيئة المحلفين المفاجئ في معارضة شديدة من جمهور الأمريكيين؛ فقد بيّن استطلاع أجرته محطة أيه بي سي نيوز الإخبارية، اعتراض ٧٦٪ من الأمريكيين على الحكم. وكان رد الفعل المعارض مفهومًا، فلم يرق للعديد من الأمريكيين من الناحية الأخلاقية أن يُبَرأ رجل أطلق الرصاص على الرئيس في وضح النهار. بالإضافة إلى ذلك، نظرًا لأن محاولة الاغتيال قد جرى تسجيلها على شرائط فيديو فقد شاهدت الغالبية العظمى من الأمريكيين الحادث بأم أعينهم. وربما كان لسان حال العديد منهم هو: «مهلًا، قد رأيت ذلك الرجل يفعلها، فكيف يمكن أن يكون بريئًا؟!» مع ذلك فإن الدفع بالجنون لا يتعامل مع مسألة ارتكاب المدعى عليه الفعل الإجرامي فعليًّا من عدمه (ما يطلق عليه خبراء القانون «الركن المادي للجريمة» أو الفعل الآثم) لكنه على الأحرى يتعامل مع مسئولية المدعى عليه عن هذا الفعل من الناحية النفسية (ما يطلق عليه خبراء القانون «الركن المعنوي للجريمة» أو النية الإجرامية).

ومنذ محاكمة هينكلي، شهد الأمريكيون عددًا كبيرًا من القضايا البارزة التي تتضمن الدفع بالجنون، بما في ذلك قضايا جيفري دامر (وهو رجل من ميلووكي قتل عددًا من ضحاياه وأكل لحومهم)، وأندريا ييتس (وهي امرأة من ولاية تكساس أغرقت خمسة من أطفالها). وفي كل هذه القضايا، لاقت هيئة المحلفين عنتًا كبيرًا للإجابة عن السؤال الصعب: هل الشخص الذي ارتكب جريمة القتل مسئول من الناحية القانونية عن فعلته؟

أفضل وسيلة لفهم الدفع بالجنون هو إدراك أن مصطلحي «سلامة العقل» و«الجنون» هما مصطلحان قانونيان وليسا متعلقين بالمرض النفسي، فعلى الرغم من الاستخدام غير الرسمي لهذين المصطلحين في الحياة اليومية (كأن نقول: «إن الرجل الذي يسير في الشارع يتحدث إلى نفسه؛ لا بد أنه مجنون»)، لا يشير هذان المصطلحان إلى إصابة أحد الأشخاص بالذهان — أي البعد عن الواقع — من عدمها، لكنهما على الأحرى يشيران إلى مسئولية الشخص عن الجريمة من الناحية القانونية وقت ارتكابها. مع ذلك، فتحديد المسئولية الجنائية هو أبعد ما يكون عن السهولة. وهناك نماذج عديدة من أحكام الجنون يتناول كل منها مفهوم المسئولية الجنائية بطريقة مختلفة عن الآخر اختلافًا طفيفًا.

تتبع الغالبية العظمى من الولايات الأمريكية أشكالًا مختلفة قليلًا من «قاعدة ماكنوتن»، التي تقتضي للحكم على المدعى عليهم بالجنون، إما ألا يكونوا على دراية بما يفعلونه وقت وقوع الحادث، أو غير مدركين أن ما فعلوه كان خطأ. تمعن هذه القاعدة في التركيز على مسألة الإدراك (التفكير)؛ أي هل يدرك المدعى عليه معنى فعلته الإجرامية؟ فمثلًا: رجل قتل عاملًا في محطة للوقود، هل يدري أنه يخالف القانون بذلك؟ هل كان يعتقد أنه يقتل رجلًا بريئًا، أم أنه اعتقد أنه يقتل الشيطان الذي ظهر له في زي عامل محطة الوقود؟

ولفترة من الزمن اتبعت ولايات أخرى عديدة والغالبية العظمى من المحاكم الفيدرالية المعايير التي وضع «معهد القانون الأمريكي» إطارها العام، والتي تشترط لإصدار حكم بالجنون على المدعى عليهم إما أن يكونوا غير مدركين لما فعلوه، أو لم يكونوا قادرين على التحكم في انفعالاتهم مما جعلهم يخرجون عن القانون. وهنا نجد أن قواعد معهد القانون الأمريكي قد تجاوزت دائرة «قاعدة ماكنوتن» لتشمل كلًّا من الإدراك والإرادة، أي قدرة المرء على التحكم في انفعالاته.

ونظرًا لأن هينكلي قد بُرِّئَ بموجب توجيهات معهد القانون الأمريكي، تلقت ولايات عديدة ذلك الحكم بتضييق دائرة هذه التوجيهات. وفي الحقيقة، عادت في الوقت الحالي الغالبية العظمى من الولايات التي تستخدم حكم الجنون إلى معايير أشد حزمًا شبيهة بقاعدة ماكنوتن. بالإضافة إلى ذلك، عقب الحكم في قضية هينكلي، فكر ما يزيد عن نصف الولايات الأمريكية في إبطال حكم الجنون تمامًا (كيليتز، وفولتون، ١٩٨٤)، ونفذت ذلك بالفعل أربع ولايات هي مونتانا وأيداهاو ويوتاه وكانساس (روزين، ١٩٩٩). وعلى الرغم من ذلك، قدمت ولايات أخرى أحد الأشكال الأخرى لحكم الجنون الذي سمي «مذنب لكنه مريض عقلي». وبموجب تلك القاعدة يمكن للقضاة وهيئات المحلفين النظر في المرض النفسي للجاني أثناء مرحلة إصدار الحكم، لكن ليس أثناء المحاكمة نفسها.

كما يصور لنا رد الفعل القوي من الجماهير تجاه حكم براءة هينكلي، هناك كثيرون يعارضون بشدة الدفع بالجنون. وتشير الدراسات إلى أن الجزء الأكبر من الأمريكيين يعتقد أن الجناة غالبًا يستخدمون الدفع بالجنون منفذًا يفلتون عبره من العقوبة. وأوضحت إحدى الدراسات أن الشخص العادي يعتقد أن الدفع بالجنون يُستخدم في ٣٧٪ من قضايا الجنايات، وأن هذا الدفع ينجح في ٤٤٪ من المرات. وتوضح هذه الدراسة كذلك أن متوسط الأشخاص العاديين يؤمنون بأن ٢٦٪ ممن يُبرَّءُون بدفع الجنون يطلق سراحهم، وأن هؤلاء المبرئين يقضون ما يقرب من ٢٢ شهرًا فقط في مستشفى نفسي بعد انتهاء محاكماتهم (سيلفر، سيرينسيوني، وستيدمان، ١٩٩٤). وأشارت دراسة أخرى إلى أن ٩٠٪ من عامة الناس اتفقوا على أن «الدفع بالجنون يُستخدم بدرجة مكثفة للغاية، فكثير من الأفراد يتملص من تحمل مسئولية الجرائم التي يرتكبونها عن طريق ادعاء الجنون» (بيزوراك، وسادينزال، ١٩٧٩).

ويشترك العديد من الساسة في تلك المفاهيم نفسها. فعلى سبيل المثال: طلب ريتشارد بيزوراك ومارك بانتل (١٩٧٩) من مشرعي ولاية وايومنج تقدير عدد مرات استخدام الدفع بالجنون في ولايتهم، وكان رأي هؤلاء الساسة أن ٢١٪ من المجرمين المتهمين قد استخدموا هذا النوع من الدفع ونجحوا في ذلك بنسبة ٤٠٪ من مجمل المرات. بالإضافة إلى ذلك، حاول العديد من الساسة البارزين في نشاط بالغ إثناء المشرعين عن الدفع بالجنون. ففي عام ١٩٧٣ جعل ريتشارد نيكسون — رئيس الولايات المتحدة آنذاك — من إبطال الدفع بالجنون السمة الغالبة لجهوده التي شملت البلاد بأسرها لمكافحة الجريمة (ولم تحظ هذه المبادرة بتأييد كبير لتقاعد نيكسون بعد عام واحد فقط إثر فضيحة «ووترجيت»)، وقد دعا العديد من الساسة الآخرين منذ ذلك الحين إلى وضع نهاية لذلك الحكم (روزين، ١٩٩٩).

ومع ذلك فمفاهيم الساسة والأشخاص العاديين عن الدفع بالجنون تعوزها الدقة إلى حد بعيد. فمع أن الغالبية العظمى من الأمريكيين يؤمنون بانتشار استخدام الدفع بالجنون، فالبيانات تشير إلى أن هذا النوع من الدفع تجري الاستعانة به في أقل من ١٪ فقط من المحاكمات الجنائية، وأن نسبة النجاح في استخدامه تقترب من ٢٥٪ من مجمل مرات استخدامه (فيليبس، وولف، وكونز، ١٩٨٨؛ سيلفر وآخرون، ١٩٩٤). فعلى سبيل المثال: في ولاية وايومنج بين عامي ١٩٧٠ و١٩٧٢، نجح مجرم واحد فقط في استخدام الدفع بالجنون (بيزوارك، وبانتل، ١٩٧٩)، وبوجه عام، يعتقد العوام أن هذا الدفع يُستخدم بنسبة تزيد عن مرات استخدامه الفعلية أربعين مرةً (سيلفر وآخرون، ١٩٩٤).

ولا تنتهي المفاهيم الخاطئة عند هذا الحد، ذلك أن أعدادًا من عوام الأفراد يبالغون في تقدير مرات إطلاق سراح المبرئين بالدفع بالجنون مع أن النسبة الحقيقية للحالات التي أطلق سراحها تقترب من ١٥٪ فقط. فعلى سبيل المثال: ظل هينكلي في مستشفى سانت إليزابيث، وهي منشأة نفسية مشهورة في واشنطن العاصمة منذ ١٩٨٢. بالإضافة إلى ذلك، يقضي الفرد المبرأ بالجنون ما بين ٣٢ و٣٣ شهرًا في مستشفى نفسي، وهي فترة أطول بكثير من تقديرات العوام (سيلفر وآخرون، ١٩٩٤)، وفي حقيقة الأمر، تشير نتائج دراسات عديدة أن المجرمين المبرئين بموجب حكم بالجنون يقضون في إحدى المؤسسات (مستشفى نفسي مثلًا) عادةً وعلى الأقل فترةً مساويةً للفترة التي يقضيها المجرمون المدانون، إن لم تزد عنها (رودريجز، ١٩٨٣).

فكيف نشأت هذه المفاهيم الخاطئة عن الدفع بالجنون؟ نعيش — نحن الأمريكيين — وعلى نحو آخذ في الازدياد في «ثقافة قاعة المحكمة»، فما بين «كورت تي في» و«سي إس آي» و«القاضية جودي» و«القانون والنظام» و«نانسي جريس» على شبكة سي إن إن، والتغطية الإعلامية لمحاكمات المشاهير (مثل محاكمة أو جيه سيمبسون وروبرت بلايك ومايكل جاكسون)، تحيط بنا على نحو شبه يومي معلومات عن الأنظمة القضائية وأعمق تفاصيلها. مع ذلك، يمكن أن تكون هذه المعلومات خادعة، لأننا نسمع عن القضايا المثيرة أكثر بكثير مما نسمع عن القضايا العادية؛ فهي في نهاية الأمر عادية. وفي حقيقة الأمر تخصص وسائل الإعلام تغطية للقضايا القانونية التي ينجح فيها الدفع بالجنون، مثل قضية هينكلي، أكبر بكثير من التغطية التي تخصصها للقضايا التي لا ينجح فيها الدفع بالجنون (وال، ١٩٩٧)، فبسبب منهج «توافر وسيلة الاسترشاد»، يرجح أن نسمع عن حالات الاستخدام الناجح للدفع بالجنون ونتذكرها بدرجة أكبر من حالات الاستخدام غير الناجح.

كما هي الحال في الغالب، فإن أفضل علاج للمفهوم الخاطئ لدى العوام هو المعرفة الدقيقة. وقد وجد لين ولورين ميكيتشن (١٩٩٤) أن تقريرًا موجزًا مبنيًّا على حقائق عن الدفع بالجنون — مقارنةً بأحد البرامج الإخبارية التي تتناول هذا الدفع — قد أدى إلى انخفاض ملحوظ في المفاهيم الخاطئة لدى طلبة الجامعة فيما يتعلق بالدفع بالجنون (مثل الفكرة القائلة بانتشار حالات استخدام الدفع بالجنون داخل نظام العدالة الجنائية ونجاح معظم تلك الحالات). تعطينا هذه النتائج سببًا للأمل، إذ إنها تشير إلى أن التغلب على المعلومات الخاطئة ربما يحتاج فقط إلى قدر ضئيل من المعلومات.

لذلك، في المرة القادمة التي تسمع فيها أصدقاءك أو زملاءك في العمل يشيرون إلى شخص ما يسلك سلوكيات غريبة متهمين إياه ﺑ «الجنون»، فلعلك تتدارك الخطأ وتصححه بأدب. هذا من شأنه أن يحرز تقدمًا أكبر مما تظن.

(٤) الخرافة رقم ٤٦: كل من يعترف بارتكاب جريمة ما يكون هو الذي ارتكبها حقًّا

رأينا جميعًا أمثلة لا حصر لها في وسائل الإعلام للعبة «الشرطي الطيب والشرطي الشرير» التي تلعبها الشرطة لاستخلاص الاعترافات من المشتبه فيهم في الجرائم الجنائية. وما يحدث عادة هو أن «الشرطي الشرير» يواجه المشتبه فيه بأدلة دامغة على جريمته (عادةً يكون المشتبه فيه ذكرًا)، ويشير إلى مواطن التضارب في شهادته ثم يسأله عن المكان الذي كان موجودًا فيه وقت وقوع الجريمة، ثم يروعه باحتمال قضائه مدة طويلة في السجن إن لم يعترف. وعلى العكس، يعرض «الشرطي الجيد» التعاطف والدعم، ويشير إلى التبريرات الممكنة للجريمة ثم يأخذ في التأكيد على مزايا الوشاية بشركاء الجريمة. ومع استمرار هذا السيناريو، يعترف المجرم بالجريمة، وليس ثمة شك في كونه مذنبًا.

إن الاعتقاد بأن جميع الأفراد الذين يعترفون بارتكابهم الجريمة مذنبون هو اعتقاد يعطي شعورًا بالارتياح. وربما كان أحد أسباب شدة القبول التي تحظى بها هذه الفكرة هو أن الأشخاص الطالحين يختفون من الشوارع، ومن ثم يسود الأمن والنظام. وبذلك فالقضية منتهية.

يدعي مكافحو الجريمة الدقة في التحري عن الأطراف المذنبة. في أحد استطلاعات الرأي التي أجريت على محققي الشرطة الأمريكيين وموظفي الجمارك الكنديين، اعتقد ٧٧٪ من المشاركين أنهم كانوا على صواب في التعرف على ارتكاب المشتبه فيه للجريمة من عدمه (كاسين وآخرون، ٢٠٠٧). ويفترض كثير من وسائل الإعلام الإخبارية والترفيهية أن اعترافات المجرمين تكون صحيحة دائمًا. وقد أشار صحفيان من نيويورك تايمز في معرض تناولهما قضية الجمرة الخبيثة التي لم يفصل فيها بعد، والتي بثت الرعب في قلوب جميع الأمريكيين أواخر عام ٢٠٠١، إلى أن اعتراف الدكتور بروس آيفنز (شخص لاحقه مكتب التحقيقات الفيدرالي وانتهى به الحال إلى الانتحار) كان سيقدم «دليلًا قاطعًا يثبت بلا شك أن الدكتور آيفنز هو من أرسل الرسائل» التي تحتوي على الجمرة الخبيثة (شين وليتشتبلاو، ٢٠٠٨، ص٢٤). وقد أثلج الفيلم الوثائقي «اعترافات بجريمة» (١٩٩١) صدور المشاهدين بما احتواه من اعترافات مسجلة على شريط فيديو لقتلة مدانين بجرائم، وقد زينت علبة الشريط عبارة «حقيقة لا خيال» كتبت بأحرف ظاهرة. وربما يكون العنف المصور بها عنفًا مزعجًا حقًّا، لكن صار بإمكاننا الخلود إلى النوم لعلمنا أن الأشرار قد انتهى بهم الحال داخل السجون. وفي فيلم تسجيلي آخر بعنوان «رجل الثلج: اعترافات قاتل من المافيا» (٢٠٠٢)، وصف ريتشارد كوكلينسكي بالتفصيل جرائم القتل العديدة التي ارتكبها عندما كان متخفيًا في شخصية رجل أعمال ورب أسرة. نعم، الخطر قابع هناك في مكان ما، لكن يمكننا أن نشعر بالاطمئنان إذ يمكث كوكلينسكي خلف القضبان الآن.

ولا يكف التليفزيون والأفلام عن توضيح الفكرة القائلة إن الأفراد الذين يعترفون بأعمالهم الشريرة هم المذنبون الحقيقيون دائمًا. مع ذلك، فالأوضاع الحقيقية أكثر إزعاجًا بكثير وأقل تنظيمًا بكثير أيضًا. فأحيانًا يعترف الأفراد بجرائم لم يرتكبوها. ولدينا مثلًا قضية جون مارك كار. ففي أغسطس (آب) عام ٢٠٠٦ اعترف كار بارتكابه جريمة قتل ملكة جمال العالم للصغار ذات الست سنوات، جونبينت رامزي. وقد شغلت قضية رامزي انتباه وسائل الإعلام عشر سنوات كاملة، ومن ثم زادت الآمال في أن جريمة القتل ستُفك طلاسمها في النهاية. لكن عقب تدفق القصص التي تشير بأصابع الاتهام إلى كار باعتباره القاتل، سرعان ما نقلت وسائل الإعلام أن كار لا يمكن أن يكون مرتكب الجريمة لأن تحليل الحمض النووي لم يطابق ما عثر عليه المحققون في موقع الجريمة. وقد كثرت التكهنات عن سبب اعتراف كار، وهو شخص زعم أنه مصاب بميل جنسي للأطفال، وشاع أنه أحب جونبينت حبًّا شديدًا وأولع بها، فهل كان كار واهمًا أم مجرد شخص يلهث وراء الشهرة؟ وعلى نحو أوسع نطاقًا، لماذا يعترف الناس بجرائم لم يرتكبوها؟

سنعود إلى ذلك السؤال عما قريب، لكننا الآن يجب أن نشير إلى أن الاعترافات الكاذبة ليست قليلة في القضايا الجنائية ذائعة الصيت. فبعد أن اختطف ابن الطيار الشهير تشارلز ليندبيرج عام ١٩٣٢، اعترف أكثر من ٢٠٠ شخص بارتكابهم الجريمة (ماكدونالد، وميتشاود، ١٩٨٧)، وبالطبع لا يمكن أن يكون هؤلاء الأشخاص جميعًا هم من ارتكب الجريمة. وفي أواخر الأربعينيات، أوحت قضية «داليا السوداء» إلى ما يزيد عن ٣٠ شخصًا بالاعتراف بارتكاب الجريمة، وتجدر الإشارة إلى أن هذه القضية قد سُمِّيت بذلك الاسم لأن الممثلة الناشئة إليزابيث شورت التي قتلت ومثِّل بجثتها كانت ترتدي ملابس سوداء دائمًا. وعلى الأقل ٢٩ أو ربما ٣٠ من تلك الاعترافات كانت كاذبةً. وإلى الوقت الحالي، لم تفك بعد طلاسم جريمة قتل شورت (ماكدونالد، وميتشاود، ١٩٨٧).

ولأن العديد من الأشخاص يعترفون كذبًا بارتكاب الجرائم الشهيرة، يؤثر المحققون الاحتفاظ بتفاصيل موقع الجريمة بعيدةً عن وسائل الإعلام لكي يتمكنوا من إبعاد «المعترفين الكاذبين». وينبغي للأشخاص المذنبين حقًّا أن يكونوا قادرين على تقديم معلومات دقيقة عن موقع الجريمة، وهي معلومات تحتفظ بها الشرطة، ومن ثم يثبت هؤلاء المذنبون ارتكابهم الجريمة. وربما كان هنري لي لوكاس، الذي اعترف بارتكاب أكثر من ٦٠٠ جريمة قتل، هو أكثر من اعترف بجرائم من المعترفين الكذبة. وقد تميز بأنه الشخص الوحيد الذي خفف جورج دابليو بوش — الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا للولايات المتحدة — حكم الإعدام الصادر ضده من بين ١٥٣ حكمًا آخر صدرت عندما كان حاكمًا لولاية تكساس. وعلى الرغم من أن لوكاس ربما يكون قد قتل شخصًا أو اثنين، فالغالبية العظمى من الهيئات القضائية تشك — ولها الحق في ذلك — في ادعاءاته. وقد أجرى جيسلي جودجونسون (١٩٩٢) تقييمًا شاملًا للوكاس وانتهى إلى أن لوكاس فعل أشياء وقالها لا لشيء إلا لتحقيق مكاسب فورية وجذب الانتباه، ولحماسته البالغة لكسب إعجاب الآخرين. فمن الواضح أن هذه الأنواع من الدوافع تضطلع بدور في الاعترافات الخاصة بالعديد من جرائم القتل الشهيرة مثل قضية «جونبينت رامزي» و«داليا السوداء».

هناك من يعترفون طواعية بجرائم لم يرتكبوها لكثير من الأسباب الأخرى، منها الحاجة إلى معاقبة الذات من أجل «التكفير عن» تجاوزات الماضي الحقيقية أو المتخيلة، أو رغبةً في حماية الجاني الحقيقي، كما هي الحال عندما يكون ذلك الجاني هو الزوجة أو الابن، أو لأن هؤلاء الأفراد يجدون صعوبةً في التمييز بين الحقيقة والخيال (جودجونسون، ٢٠٠٣؛ كاسين، وجودجونسون، ٢٠٠٤). ومع الأسف، عندما يهبط هؤلاء الناس من السقف ليعترفوا بجرائم لم يرتكبوها أو يبالغوا في بيان مشاركتهم في التحقيقات الجنائية الفعلية، ربما يعيق ذلك محاولات الشرطة تحديد الجاني الحقيقي.

لكن هناك جانبًا آخر أكثر أهمية في مسألة الاعترافات الكاذبة يتمثل في أن القضاة والمحلفين على الأرجح ينظرون إلى الاعترافات الكاذبة على أنها أدلة قاطعة بالإدانة (كونتي، ١٩٩٩؛ كاسين، ١٩٩٨؛ رايتسمان، نيتزيل، وفورتشن، ١٩٩٤). ووفقًا لما جاء في الإحصاءات التي جمعها «مشروع البراءة» (٢٠٠٨)، في أكثر من ٢٥٪ من القضايا، بَرَّأت تحليلات الحمض النووي في وقت لاحق الأشخاص المدانين الذين كانوا قد قدموا اعترافات كاذبة أو أدينوا بجرائم لم يرتكبوها. وهذه النتائج تبعث على القلق على نحو كبير، لكن نطاق المشكلة ربما يكون أعظم بكثير، لأن العديد من الاعترافات الكاذبة ربما تقابل بالرفض لأنها لا أساس لها من الصحة، وذلك قبل وقت طويل من وصول الأفراد إلى مرحلة المحاكمة بسبب الاشتباه في مرض نفسي. بالإضافة إلى ذلك، توضح الدراسات المختبرية أن طلاب الجامعة وضباط الشرطة لا يجيدون اكتشاف الحالات التي يعترف فيها الأفراد كذبًا بارتكاب أنشطة محظورة أو جنائية (كاسين، مايسنر، ونورويك، ٢٠٠٥؛ لاسيتر، كلارك، دانيالز، وسوينسكي، ٢٠٠٤). وفي إحدى الدراسات (كاسين وآخرون، ٢٠٠٥) كان رجال الشرطة أكثر ثقة من طلاب الجامعة في قدرتهم على رصد الاعترافات الكاذبة، على الرغم من أن رجال الشرطة لم يتميزوا بأي قدر زائد من الدقة. وفي إحدى الحالات التي استمع فيها المشاركون إلى اعترافات مسجلة، ظن رجال الشرطة غالبًا أن الاعترافات الكاذبة صادقة في واقع الأمر. وهكذا، ربما يجنح رجال الشرطة إلى النظر إلى الأفراد كمذنبين في الوقت الذي يكونون فيه أبرياء.

وتلقي القضايا التالية مزيدًا من الضوء على الصعوبات التي تكتنف الاعترافات الكاذبة، وتعطي أمثلةً على الأنواع المختلفة من الاعترافات الكاذبة. وراء الاعترافات التطوعية صنف سول كاسين وزملاؤه (كاسين، ١٩٩٨؛ كاسين، ورايتسمان، ١٩٨٥؛ رايتسمان، وكاسين، ١٩٩٣) الاعترافات الكاذبة إلى نوعين: مذعنة وداخلية. في الاعترافات الكاذبة المذعنة، يعترف الأفراد أثناء التحقيق إما للحصول على منحة ما أو للهروب من موقف كريه أو لتجنب تهديد ما (كاسين، وجودجونسون، ٢٠٠٤). ومن الأمثلة الواضحة على الاعتراف الكاذب المذعن قضية «صبية سنترال بارك الخمسة»، التي اعترف فيها خمسة مراهقين بضرب سيدة كانت تمارس العدو في منتزه «سنترال بارك» بمدنية نيويورك واغتصابها بوحشية عام ١٩٨٩. وفي وقت تال، تراجع المراهقون عن اعترافهم قائلين إنهم ظنوا أن بمقدورهم الذهاب إلى المنزل بعد الاعتراف بذنبهم. وبعد أن قضوا من خمسة أعوام ونصف العام إلى ثلاثة عشر عامًا في السجن، أطلق سراحهم بعد أن برأهم تحليل الحمض النووي. وعام ٢٠٠٢، وعقب ١٣ عامًا من ارتكاب الجريمة، اعترف شخص ارتكب العديد من جرائم الاغتصاب بارتكاب الجريمة.

ولننظر أيضًا في قضية «إدي جو لويد» (كمثال على الاعتراف المذعن). كان للويد تاريخ مع المشكلات النفسية واعتاد استدعاء الشرطة بمقترحات لديه عن حل الجرائم. وعام ١٩٨٤ أقنعه أحد رجال التحري بالاعتراف باغتصاب ميشيل جاكسون ذات الستة عشر عامًا وقتلها لخداع المغتصب الحقيقي ودفعه إلى الإفصاح عن نفسه. وبناء على ذلك الاعتراف سجن لويد وأطلق سراحه بعد ١٨ عامًا لأن تحليل الحمض النووي لم يتطابق مع تحليل الحمض النووي للمغتصب الحقيقي (ويلجورين، ٢٠٠٢).

أما في الاعترافات الكاذبة الداخلية، فالحال يصل بالأفراد المعرضين للأذى إلى الاعتقاد أنهم ارتكبوا الجريمة فعلًا بسبب الضغوط التي تتراكم عليهم أثناء التحقيق. فلدى رجال الشرطة حرية كبيرة أثناء التحقيقات، ويمكنهم — على الأقل في الولايات المتحدة — على نحو قانوني ممارسة لعبة «الشرطي السيئ»، إذ يواجه الشرطي المشتبه فيه بمعلومات كاذبة عن جريمته المزعومة، ويطعن في أدلة النفي التي يتقدم بها ويقوض ثقة المشتبه فيه في إنكاره للجريمة، بل يخبر المشتبه فيه كذبًا بأنه لن يتمكن من اجتياز اختبار كشف الكذب (ليو، ١٩٩٦).

وقد سقط خورجي هيرنانديز ضحية لمثل هذه الأساليب للضغط الشديد في أحد التحقيقات الخاصة بجريمة اغتصاب سيدة عمرها ٩٤ عامًا. ذكر هيرنانديز على نحو متكرر أنه لا يستطيع أن يتذكر ما كان يفعله ليلة الجريمة التي وقعت قبل أشهر عديدة من القبض عليه. ولم يكتفِ رجال الشرطة بادعاء أنهم وجدوا بصمات أصابعه في موقع الجريمة فقط، بل ادعوا كذلك أن لديهم فيلمًا مسجلًا من كاميرا للمراقبة وفيه هيرنانديز داخل موقع الجريمة. وعندما عرضت على هيرنانديز هذه الأدلة الكاذبة وأخبر أن الشرطة ستساعده إن اعترف بالجريمة، بدأ هيرنانديز يشك في ذاكرته، وانتهى إلى أنه كان ثملًا بلا شك، ولم يتمكن من أن يتذكر أنه ارتكب جريمة الاغتصاب. ولحسن طالع هيرنانديز، بعد أن قضى ثلاثة أسابيع في السجن، أطلق سراحه عندما قررت الهيئات القضائية أن تحليل الحمض النووي لم يطابق العينات المأخوذة من موقع الجريمة.

تشير الأبحاث إلى أن العديد من الناس معرضون للإدلاء باعترافات كاذبة (كاسين، وكيتشل، ١٩٩٦)، ففي إحدى التجارب التي يفترض أنها تخص وقت رد الفعل، دفع الباحثون الأفراد الخاضعين للتجربة إلى الاعتقاد أنهم مسئولون عن التوقف الذي وقع لجهاز الكمبيوتر لأنهم ضغطوا على مفتاح كان الباحثون قد أعطوا لهم تعليمات بأن يبتعدوا عنه. وفي حقيقة الأمر كان الباحثون قد تلاعبوا بجهاز الكمبيوتر ليتوقف عند وقت معين، ولم يمس أي من الخاضعين للتجربة المفتاح «المحظور». ومع حضور شاهد مفترض وسرعة الخطوات، وقع جميع الخاضعين للتجربة اعترافًا بعد ذلك يقرون فيه «بذنبهم». بالإضافة إلى ذلك، اعتقد ٦٥٪ من الخاضعين للتجربة داخليًّا أنهم مذنبون، كما أشار إلى ذلك قولهم لشخص ما كان موجودًا في حجرة الانتظار (وهو أحد الباحثين في حقيقة الأمر) إنهم كانوا مسئولين عن توقف جهاز الكمبيوتر. وعندما عادت النسبة الباقية منهم إلى المختبر لوصف ما حدث اختلقوا تفاصيل تتفق مع اعترافهم (مثل: «ضغطت على المفتاح بيدي اليمنى عندما قلت: أ»).

حدد الباحثون السمات الشخصية والظرفية التي تزيد احتمال وقوع الاعترافات الكاذبة، فالأشخاص الذين يعترفون بارتكاب جرائم لم يرتكبوها يحتمل أن: (أ) يكونوا صغار السن نسبيًّا (ميدفورد، جودجونسون، وبيرس، ٢٠٠٣) وسريعي الانقياد (جودجونسون، ١٩٩٢) ومنعزلين عن الآخرين (كاسين وجودجونسون، ٢٠٠٤)؛ (ب) يكونوا في مواجهة أدلة قوية على إدانتهم (موستون، ستيفنسون، وويليامسون، ١٩٩٢)؛ (ﺟ) يكونوا أصحاب تاريخ جنائي سابق وإدمان للمخدرات وليس لديهم مستشار قانوني (بيرس، جودجونسون، كلير، وروتر، ١٩٩٨)؛ و(د) يجري التحقيق معهم محققون مخيفون متلاعبون (جودجونسون، ٢٠٠٣).

ومن المثير أن وسائل الإعلام قد تكون مفيدة في تقليل احتمال وقوع الاعترافات الكاذبة إلى أدنى حد، فربما يدفع بث القضايا التي يُسجن فيها الأبرياء خطأ بناءً على اعترافات كاذبة الجهود لإدخال الإصلاحات اللازمة على تحقيقات الشرطة، مثل تسجيل الاستجوابات على شرائط فيديو من البداية إلى النهاية لتقييم استخدام الإجراءات القسرية وآثارها. ولعل العديد من إدارات الشرطة في الحقيقة تسجل بالفعل التحقيقات مع المشتبه فيهم على شرائط فيديو. لذا لا بد لنا من «الاعتراف» بأننا سنشعر بسعادة بالغة لو أن هذه الممارسة نُفِّذَت على نطاق شامل. ونحن متمسكون باعترافنا هذا.

(٥) الفصل ١٠: خرافات أخرى تستحق الدراسة

الخرافة الحقيقة
«ليس لبرامج إعادة التأهيل أي تأثير في معدلات انتكاس المجرمين.» توضح الدراسات النقدية أن برامج إعادة التأهيل تقلل من المعدل العام للعودة إلى ارتكاب الجرائم.
«ترتفع معدلات الانتكاس لدى الغالبية العظمى من المصابين بمرض اشتهاء الأطفال.» لا تعاود الغالبية العظمى من المصابين بمرض اشتهاء الأطفال ارتكاب الجريمة طوال ١٥ عامًا من جريمتهم الأولى، أو على الأقل لا يتم ضبطهم يفعلون ذلك.
«جميع المصابين باشتهاء الأطفال لا يمكن علاجهم.» توضح الدراسات النقدية للعلاج أن له آثارًا إيجابية متواضعة على العودة لارتكاب الجرائم بين مشتهي الأطفال.
«أفضل طرق التعامل مع المجرمين هي استعمال «الغلظة» معهم.» توضح الدراسات المنهجية أن تدخلات معسكرات التدريب و«أسلوب التقويم بالتخويف» غير فعالة، وقد تضر بالمجرمين.
«يرتكب الرجال الغالبية العظمى من أعمال العنف المنزلي.» يعتدي الرجال والنساء بعضهم على بعض جسديًّا بالمعدل نفسه تقريبًا، على الرغم من أن مزيدًا من النساء يعانين إصابات بالغة نتيجة لذلك.
«تزيد معدلات الاعتداء المنزلي على النساء على نحو ملحوظ يوم الأحد الذي تقام فيه مباراة نهائي كأس السوبر.» ليس هناك دليل على هذا الادعاء واسع الانتشار.
«مهنة عامل البريد هي من بين أكثر المهن خطورةً على إطلاق.» مهنة عامل البريد مهنة آمنةً؛ فاحتمالات الموت في هذه الوظيفة تصل إلى شخص واحد فقط بين كل ٣٧٠٠٠٠ شخص، مقارنةً بنسبة المشتغلين بالزراعة التي تساوي ١ من كل ١٥٠٠٠ أو عمال البناء التي تساوي نسبتهم ١ من كل ٧٣٠٠.
«تتسم الغالبية العظمى من مرضى الاعتلال النفسي بالعنف.» لا تتسم الغالبية العظمى من مرضى الاعتلال النفسي بالعنف الجسدي.
«تتسم الغالبية العظمى من مرضى الاعتلال النفسي بجنوحهم التام عن الواقع.» تتسم الغالبية العظمى من المرضى النفسيين بالعقلانية التامة والإدراك الكامل لخطأ أفعالهم، لكنهم لا يلقون بالًا لذلك.
«حالات الاعتلال النفسي غير قابلة للعلاج.» تدعم الأبحاث هذا الادعاء على استحياء شديد، وتشير أدلة أكثر حداثة إلى أن مرضى الاعتلال النفسي المحتجزين يستفيدون من العلاج بقدر ما يستفيد منه غيرهم من المرضى النفسيين.
«تشيع جرائم القتل المتسلسل على نحو خاص بين أصحاب البشرة البيضاء.» لا تزيد أعداد القتلة المتسلسلين بين أصحاب البشرة البيضاء عنها بين غيرهم من الأعراق.
«ترتفع معدلات الانتحار بين ضباط الشرطة على نحو خاص.» توضح التحاليل المقارنة أن ضباط الشرطة لا ترتفع عندهم درجة الميل إلى الانتحار عن غيرهم من الأفراد.
«ثمة ما يسمى «شخصية إدمانية».» ليس هناك «نمط» شخصية معين عرضة لخطر الإدمان، على الرغم من أن سمات الاندفاع والميل إلى القلق تنبئ باحتمال الوقوع في الإدمان.
«إدمان الكحوليات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحالة من «الإنكار».» ثمة أدلة قليلة على أن الأفراد المدمنين للكحوليات يغلب عليهم إنكار مشكلاتهم بدرجة أكبر من الأفراد المصابين بالغالبية العظمى من الاضطرابات النفسية الأخرى.
«معظم جرائم الاغتصاب يرتكبها أشخاص أغراب.» تشكل جرائم الاغتصاب التي يرتكبها غرباء ما يقرب من ٤٪ من إجمالي جرائم الاغتصاب.
«أثبت الوسطاء الروحانيون الذين يعملون مع الشرطة أن لهم فائدة في حل ألغاز الجرائم.» لا تزيد درجة نجاح الوسطاء الروحانيين الذين يعملون مع الشرطة في المساعدة في حل الجرائم عن أي شخص آخر.
«يشيع القتل بدرجة أكبر من الانتحار.» يكثر الانتحار عن القتل بمقدار الثلث.
««الجنون» مصطلح رسمي في كل من علم النفس والطب النفسي.» مصطلحا «الجنون» و«سلامة العقل» هما مصطلحان قانونيان تمامًا يشيران عادة إلى عجز الفرد عن (أو قدرته على) تمييز الصواب من الخطأ، أو إدراك ما كان يقوم به وقت الفعل.
«يعتمد الحكم القانوني بالجنون على الحالة العقلية الحالية للشخص.» يعتمد الحكم القانوني الخاص بالجنون على الحالة العقلية للشخص وقت وقوع الجريمة.
«الغالبية العظمى من الأفراد الذين يلجئون إلى الدفع بالجنون تدعي زورًا الإصابة بالمرض العقلي.» عدد صغير فقط ممن يلجئون إلى الدفع بالجنون يحصلون على درجات مرتفعة سريريًّا في قياسات التمارض.
«الحكم بالجنون هو دفاع «شخص ثري».» قضايا الأفراد ذوي الثراء الفاحش الذين يدَّعون الجنون بدعم من المحامين أصحاب الأجور العالية تحظى بشهرة كبيرة لكنها نادرة.

(٦) مصادر وقراءات مقترحة

للتعرف أكثر على هذه الخرافات وغيرها عن علم النفس والقانون، انظر: أموت (٢٠٠٨)؛ أركوويتز وليلينفيلد (٢٠٠٨)؛ بورجيدا وفيسك (٢٠٠٨)؛ إيدنز (٢٠٠٦)؛ نيكيل (١٩٩٤)؛ فيليبس وولف وكونز (١٩٨٨)؛ سيلفر وسيركينسيون وستيدمان (١٩٩٤)؛ روبيك وجراي (٢٠٠٢)؛ سكيم دوجلاس وليلينفيلد (٢٠٠٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤