الفصل السادس

شيء في صدري

خرافات عن العواطف والدوافع

(١) الخرافة رقم ٢٣: اختبار كشف الكذب وسيلة دقيقة للتحقق من الخداع

هل سبق لك أن كذبت؟

إذا كانت إجابتك هي «لا»، فهناك احتمال كبير أنك تكذب. يعترف طلبة الجامعات بأنهم يلجئون إلى الكذب في موقف من بين كل ثلاثة مواقف اجتماعية تقريبًا، أي بمتوسط مرتين في اليوم، ويعترف الأشخاص العاديون في المجتمع أن هناك موقفًا من بين كل خمسة مواقف يلجئون فيه إلى الكذب، أي بمعدل مرة يوميًّا في المتوسط (ديباولو، كاشي، كيركيندول، واير، وإيبستاين، ١٩٩٦).

وبقدر ما تنتشر محاولات خداع الآخرين في الحياة اليومية، بقدر ما يصعب اكتشافها (إيكمان، ٢٠٠١؛ فريج ومان، ٢٠٠٧). ربما نظن أن براعتنا في اكتشاف الكذب ستكون على نفس مقدار انتشاره، ولكن هذا ظن خاطئ، فعلى عكس ما يصوره المسلسل التليفزيوني الأمريكي «اكذب عليّ» الذي يقوم ببطولته تيم روث لاعبًا دور خبير اكتشاف الكذب د. كال لايتمان، أشارت الكثير من الأبحاث إلى أن عدد الإشارات التي يصح الاستدلال بها على الكذب قليل بصورة غير متوقعة (ديباولو وآخرون، ٢٠٠٣). والأكثر من ذلك أن الكثير من الأشخاص، بما في ذلك أولئك الذين تلقوا تدريبات خاصة في الوظائف الأمنية مثل، القضاة وضباط الشرطة، ليس لديهم وسيلة لاكتشاف الكذب أفضل من المصادفة (إيكمان وأوسوليفان، ١٩٩١؛ إيكمان وأوسوليفان وفرانك، ١٩٩٩). بالطبع يخطئ الكثير منا في تحديد الإشارات الجسدية التي تفضح الكاذبين، فمثلًا يظن حوالي ٧٠٪ من الأشخاص أن تحول عين المتحدث عن النظر في وجه من أمامه يعد مؤشرًا جيدًا على الكذب، ولكن الأبحاث تشير إلى عكس ذلك (فيرج، ٢٠٠٨)، فهناك أسانيد تدلل على أن الأشخاص المضطربين نفسيًّا (السيكوباتيين)، المصابين بمرض الكذب، غالبًا ما يحدقون في وجوه من يحدثونهم عندما يروون الأكاذيب الصريحة (رايم، بوفي، ليبورجن، ورويلون، ١٩٧٨).

إذا كنا لا نستطيع أن نحدد من الذي يكذب ومن الذي يقول الحقيقة بنظر بعضنا في وجوه بعض، فهل هناك شيء آخر يمكن أن نفعله؟ يكشف التاريخ عن الكثير من الوسائل المشكوك في صحتها التي استخدمت لاكتشاف الأشخاص المشتبه في أنهم يكذبون، مثل «اختبار الأرز» الذي استخدمه الهندوس القدامى (لايكن، ١٩٩٨). وتعتمد فكرة هذا الاختبار على أن الخداع سيؤدي إلى الخوف، والخوف سيثبط إفراز اللعاب، ومن ثم لن يستطيع الشخص المتهم بالكذب أن يقذف بالأرز خارج فمه بعد مضغه لأنه سيلتصق باللثة. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت من تتهم من الساحرات تخوض ما يعرف ﺑ «محنة المياه» أو «اختبار الغمر»؛ حيث كان المتهِمون يغمرون الساحرة المتهمة في نبع من المياه البارد، فإذا طفت فهذا يعني أنها نجت من الموت غرقًا، ليحكم عليها بأنها مذنبة ومن ثم يُحكم عليها بالإعدام، غالبًا لأن القوة الخارقة التي تتمتع بها الساحرات تجعل وزنهن خفيفًا للغاية أو لأن المياه تعتبر شيئًا نقيًّا للغاية لا يمكن أن يقبل طبيعة الساحرات الشريرة، وإذا لم تطفُ فهذا يعني أنها بريئة، ولكن ذلك لن يعزيها كثيرًا لأنها ستكون قد ماتت غرقًا.

ومع بداية القرن العشرين بدأ بعض الباحثين المقاديم محاولات عبثية لمعرفة الحقائق من الأكاذيب عن طريق القياسات الفسيولوجية. وفي العقد الثالث من القرن الماضي اخترع ويليام مولتون مارستون جهازًا يكشف الكذب عن طريق قياس الضغط الانقباضي (الذي يمثله الرقم الموجود بالأعلى في قراءة ضغط الدم)، ويعد هذا الجهاز أول جهاز ﻟ «كشف الكذب». وصمم هذا الباحث أيضًا واحدة من أولى بطلات الكرتون الخارقات مستخدمًا الاسم المستعار تشارلز مولتون وهي «واندر ومان»، وكان بإمكان هذه المرأة أن تجبر الأشرار على أن يقولوا الحقيقة عن طريق لفهم بحبلها السحري. في رأي مارستون لم يكن هناك اختلاف بين جهاز كشف الكذب والحبل السحري الذي استخدمته واندر ومان، فكلاهما أداة لكشف الحقيقة لا تُخطئ أبدًا (فينبيرج وستيرن، ٢٠٠٥؛ لايكن، ١٩٩٨). وبصرف النظر عن قصص الكرتون، يعد جهاز قياس الضغط الذي اخترعه مارستون هو ما يقف وراء تطوير النسخة الحديثة من اختبار جهاز كشف الكذب.

يزودنا جهاز كشف الكذب بتسجيل مستمر للنشاط الفسيولوجي — مثل درجة توصيل الجلد للكهرباء، وضغط الدم والتنفس — عن طريق تسجيلها في صورة رسم بياني. ولكن على عكس الانطباع الذي تنقله إلينا أفلام مثل فيلم «تعرف على الآباء» (٢٠٠٠) أو برامج تليفزيونية مثل «لحظة الصدق»، لا يعتبر هذا الجهاز الحل السحري الذي يمكننا من أن نعرف هل يكذب شخص ما، مع أن الرغبة العامة في وجود مثل هذا الحل ساهمت بالتأكيد في شهرة اختبار جهاز كشف الكذب المستمرة (انظر الشكل ٦-١). ولكن الممتحِن الذي يطرح الأسئلة هو الذي يفسر القياسات الموجودة بالرسم البياني ويقرر هل الشخص الخاضع لهذا الاختبار كاذب أم لا. قد يقدم النشاط الفسيولوجي بعض الدلائل على الكذب لأنها ترتبط بمدى كون الشخص متوترًا أثناء خضوعه للاختبار، فالتوتر مثلًا قد يتسبب في تعرّق معظم الأشخاص، وهذا يزيد من درجة كفاءة توصيل الجلد للكهرباء. ولكن هناك الكثير من الأسباب التي تجعل تفسير المعلومات الموجودة بالرسم البياني الذي يسجله جهاز كشف الكذب أمرًا في غاية الصعوبة:

أولًا: هناك اختلافات كبيرة بين الأشخاص في مستويات النشاط الفسيولوجي (إيكمان، ٢٠٠١؛ لايكن، ١٩٩٨)؛ فقد يكون الشخص الخاضع للاختبار صادقًا ولكنه يميل بطبيعته للتعرّق كثيرًا، فتظهر البيانات خطأً أنه مخادع، وقد يكون الممتحَن كاذبًا ولكنه بطبيعته قليل التعرّق فيظهر خطأ أنه صادق. توجد هذه المشكلة ضرورة وجود مقياس أساسي للنشاط الفسيولوجي لكل من يخضع للاختبار. أشهر صيغ كشف الكذب التي تستخدم عند التحقيق في جرائم معينة هو اختبار أسئلة المقارنة (اختبار أسئلة المقارنة؛ راسكن وهونتز، ٢٠٠٢). تتضمن هذه النسخة من اختبارات جهاز كشف الكذب أسئلة متعلقة بالتهمة الموجهة إلى الشخص («هل سرقت ٢٠٠ دولار من الشخص الذي تعمل لديه؟») وأسئلة مقارنة يحاول الممتحِن من خلالها أن يجبر الشخص على أن يروي كذبة لا تتعلق بالتهمة الموجهة إليه («هل حدث يومًا أن كذبت لتتجنب الوقوع في مشكلة؟») كلنا تقريبًا كذبنا لنتجنب إحدى المشكلات على الأقل مرة واحدة، ولأننا لن نكون راغبين في أن نعترف بهذه الحقيقة السخيفة وغير المؤثرة في اختبار لكشف الكذب، فسنكون غالبًا مضطرين إلى أن نكذب بشأن هذا السؤال. تعتمد فكرة اختبار أسئلة المقارنة على أن هذه الأسئلة ستمدنا بمعيار أساسي مفيد لتفسير النشاط الفسيولوجي للأشخاص الخاضعين للاختبار فيما يخص الأكاذيب المعروفة.

fig7
شكل ٦-١: مشهد من الفيلم الكوميدي «تعرف على الآباء» الذي عرض عام ٢٠٠٠. يظهر في الصورة عميل المخابرات المركزية السابق جاك باينز (الذي يلعب دوره روبرت دي نيرو) وهو يجري اختبار كشف الكذب لجريج فوكر (الذي يلعب دوره بين ستيللر) في محاولة لمعرفة هل سيكون فوكر زوجًا مناسبًا لابنته. تعكس لنا معظم الأفلام والبرامج التليفزيونية صورة خاطئة عن جهاز كشف الكذب، إذ تصوره لنا على أنه أداة لا تعرف الخطأ. (المصدر: الصور/موقع Alamy.)

ولكن هذه الفكرة مشكوك في صحتها، لأن أسئلة المقارنة لا تحسب حسابًا لعدد كبير من العوامل المهمة. بالإضافة إلى أنه ليس هناك، كما قال ديفيد لايكن، ما يدل على «الإجابة الخادعة»؛ أي ليس هناك رد فعل عاطفي أو فسيولوجي مميز يشير إلى الخداع (كروس وساكس، ٢٠٠١؛ ساكس، دوورتي، وكروس، ١٩٨٥؛ فريج، ٢٠٠٨)، فإذا أظهر الرسم البياني أن النشاط الفسيولوجي للممتحِن عند إجابته على سؤال متعلق بالتهمة الموجهة إليه كان أعلى منه عند إجابته على سؤال من أسئلة المقارنة، فأقصى شيء نستطيع أن نستنتجه من هذا الاختلاف هو أنه كان أكثر توترًا في تلك اللحظات.

ولكن هنا يكمن السبب. فاختلاف درجة التوتر يمكن أن يكون مرجعه الإحساس الفعلي بالذنب، أو الشعور بالغضب أو الصدمة من التعرض للاتهام ظلمًا، أو إدراك الشخص أن إجابته عن الأسئلة ذات الصلة بالتهمة الموجهة إليه — وليس عن أسئلة المقارنة — ستؤدي إلى فصله من العمل أو سجنه، أو قد يكون ذلك راجعًا إلى الأفكار المحزنة المتعلقة بالتهمة الموجهة إلى الشخص (روشيو، ٢٠٠٥). وعلى هذا لن نندهش عندما نعرف أن معدل «الحالات الإيجابية الزائفة» — أي الأشخاص الأبرياء الذين ثبتت عليهم التهم — التي يسفر عنها اختبار أسئلة المقارنة وغيره من اختبارات كشف الكذب المماثلة هو معدل مرتفع (إياكونو، ٢٠٠٨). وعلى هذا تسمية هذا الاختبار باختبار «كشف الكذب» هي تسمية خاطئة، لأنه يكشف الإثارة الشعورية وليس الكذب (ساكس وآخرون، ١٩٨٥؛ فريج ومان، ٢٠٠٧). هذا الاسم المضلل قد يسهم في قناعة الجمهور بدقة الاختبار. وعلى الجانب المقابل قد لا يشعر بعض الأشخاص المذنبين بالتوتر عند روايتهم للأكاذيب، حتى عندما يتحدثون مع السلطات، فالأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية يشتهرون بحصانتهم ضد الخوف، وقد يكون بإمكانهم أن يجتازوا الاختبار في المواقف التي تشهد ممارسة درجة كبيرة من الضغط، مع أن الأدلة العلمية على هذا الاحتمال مختلطة (باتريك وأياكونو، ١٩٨٩).

وما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن الذين يجرون اختبارات جهاز كشف الكذب غالبًا يتعرضون ﻟ «انحياز التأكد» (نيكرسون، ١٩٩٨)، أي إنهم يميلون إلى أن يروا ما يتوقعون أن يروه. يحصل الممتحِنون على معلومات خارجية عن التهمة الموجهة إلى الشخص، وغالبًا يكونون قد كوّنوا رأيًا عن براءة الخاضعين للاختبار أو تورطهم في هذه التهمة قبل أن يمتحنوهم. وقد ذكر جيرشون بين شاكار (١٩٩١) أن الفرضية التي يتوصل إليها الممتحِن قد تؤثر على عملية إجراء اختبار كشف الكذب في مراحل متعددة: عند وضع الأسئلة، وتوجيهها للشخص، وإعطاء درجات للبيانات الواردة بالرسم البياني، وتفسير النتائج. ولكي يوضح الدور الذي يلعبه انحياز التأكد، حكى عن قصة صورها البرنامج الإخباري «ستون دقيقة» الذي يعرض على قناة سي بي إس. اتفق منتجو برنامج ستون دقيقة مع ثلاث شركات متخصصة في إجراء اختبارات كشف الكذب لكي تحدد الشخص المسئول عن سرقة كاميرا من أحد مكاتب التصوير، وألمح القائمون على البرنامج ضمنًا لكل ممتحِن بشكهم في أحد الموظفين قبل إجراء الاختبار، ومع أن واقعة السرقة لم تحدث فعليًّا فقد أكد كل ممتحِن ثقته البالغة في أن الشخص الذي تم التلميح ضمنًا أنه مشتبه فيه هو الفاعل.

هناك سبب آخر يقف وراء اقتناع معظم الممتحِنين بدقة هذا الجهاز قد يكون نابعًا من الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهي أن اختبار جهاز كشف الكذب مفيد في انتزاع الاعترافات، وخاصة حينما يخفق المتهمون في اجتيازه (لايكن، ١٩٩٨؛ روشيو، ٢٠٠٥). فبعض الممتحِنين يصادفون أشخاصًا لا يجتازون الامتحان ويعترفون بعد ذلك أنهم كذبوا (ولكننا سنعرف في الخرافة رقم ٤٦ أن بعض هذه الاعترافات قد تكون خاطئة). والأكثر من ذلك أن الممتحِنين يظنون غالبًا أن الأشخاص الذين يفشلون في اجتياز الاختبار ولا يعترفون بأنهم ارتكبوا الجريمة لا بد أنهم كاذبون. وبهذا يصبح اختبار كشف الكذب وسيلة لا تخطئ أبدًا، فإذا أخفق الشخص في اجتياز الاختبار يكون الاختبار «ناجحًا» سواء اعترف بأنه كاذب أم لم يعترف. وبالطبع إذا نجح الشخص في اجتياز الاختبار فسيقول طبعًا إنه كان صادقًا، وفي هذه الحالة سيكون الاختبار «ناجحًا» أيضًا. هذا المنطق الذي يحتم نجاح الاختبار في كل الأحوال يجعل من الأساس الذي يقوم عليه اختبار كشف الكذب شيئًا يصعب أو يستحيل تخطئته. وقد ذكر السير كارل بوبر وهو فيلسوف علمي (١٩٦٣) أن المزاعم التي لا يمكن تخطئتها ليست علمية.

عام ٢٠٠٣ أصدر مجلس الأبحاث القومي تقريرًا شاملًا وجه فيه نقدًا للأساس الفكري الذي تقوم عليه اختبارات أسئلة المقارنة والدراسات التي تزعم تأييد فعالية هذه الاختبارات. كانت أغلب هذه الدراسات دراسات معملية تضمنت قيام عدد صغير نسبيًّا من طلبة الجامعات بجرائم مقلدة («تمثيلية»)، مثل سرقة محفظة نقود، وليست دراسات ميدانية (واقعية) تتضمن عددًا كبيرًا من المشتبهين الجنائيين. أما في القلة القليلة من الدراسات الميدانية فالمعلومات الخارجية (مثل التقارير الصحفية عن هوية مرتكب الجريمة) كانت تؤثر في الأحكام التي يصل إليها الممتحِنون، مما جعل التمييز بين تأثير الحقائق المتعلقة بكل حالة ونتائج الاختبار أمرًا مستحيلًا. بالإضافة إلى أنه في الكثير من الأحوال لم يكن المشاركون مدربين على استخدام «الإجراءات المضادة» التي تتمثل في استراتيجيات «اجتياز» الاختبار. ولاستخدام أحد هذه الإجراءات المضادة يعمد الشخص إلى زيادة معدل الإثارة الفسيولوجية في الأوقات الصحيحة تمامًا أثناء الاختبار، كأن يعمد مثلًا إلى عض لسانه أو يجري عملية حسابية صعبة (مثل أن يطرح ١٧ من ١٠٠٠ ثم يطرح ١٧ من ناتج العملية الأولى وهكذا دواليك) أثناء إجابة أسئلة المقارنة. تتوافر المعلومات عن الإجراءات المضادة في كثير من الموارد الشهيرة، مثل شبكة الإنترنت، وهي تؤدي بالتأكيد إلى تقليل الفعالية الواقعية لاختبارات كشف الكذب.

تسببت هذه القيود في تردد المجلس القومي للأبحاث (٢٠٠٣) في تقدير دقة اختبارات أسئلة المقارنة. وصف ديفيد لايكن (١٩٩٨) التقدير الذي يقول إن معدل الدقة للأشخاص المذنبين هو ٨٥٪ وللأبرياء ٦٠٪؛ بأنه متساهل. تظهر نتائج هذه الاختبارات ٤٠٪ من الأشخاص الصادقين كمخادعين، وذلك لا يوفر بالمرة الحماية الكافية للأبرياء من المشتبه فيهم، ويتضاعف حجم هذه المشكلة عندما يجري الممتحِن هذه الاختبارات لعدد كبير من المشتبه فيهم. لنفترض حدوث تسرب لبعض المعلومات السرية في مؤسسة ما، وأن الدلائل تشير إلى أن مصدر هذا التسرب هو واحد من بين ١٠٠ موظف يمكنهم الوصول إلى هذه المعلومات، وكلهم خضعوا لاختبار كشف الكذب. إذا استخدمنا التقديرات التي وضعها لايكن فستكون نسبة التعرف على الشخص المذنب هي ٨٥٪، ولكن ٤٠ شخصًا تقريبًا يمكن أن توجه لهم التهمة عن طريق الخطأ. هذا الرقم مثير للقلق خاصة إذا علمنا أن وزارة الدفاع الأمريكية قد عملت على تحسين جهودها لإجراء اختبارات سنوية لموظفيها الحاليين والمستقبليين الذين يبلغ عددهم ٥٧٠٠ في محاولة للتقليل من خطورة حدوث تسرب للمعلومات على أيدي الإرهابيين (وكالة أسوشياتدبرس، ٢٠٠٨).

محو الخرافة: نظرة أكثر إمعانًا

هل يعد مصل الحقيقة أداة لكشف الكذب؟

رأينا أن اختبار كشف الكذب لا يعد أداة مثالية للتمييز بين الحقائق والأكاذيب. ولكن هل يمكن أن يبلي مصل الحقيقة بلاءً أفضل؟ عام ١٩٢٣ أشارت إحدى المقالات المنشورة بمجلة طبية إلى مصل الحقيقة على أنه «أداة لكشف الكذب» (هيرزوج، ١٩٢٣)، وفي عدد من الأفلام — من بينها فيلم «جاك عفريت العلبة» (١٩٨٦)، و«أكاذيب حقيقية» (١٩٩٤)، و«تعرف على الآباء» (٢٠٠٠)، و«جوني إنجليش» (٢٠٠٣) — بدأت الشخصيات التي كانت تخفي بعض الأشياء تنطق بالحقيقة فجأة، الحقيقة كلها، ولا شيء سوى الحقيقة، بعد تناول جرعة من مصل الحقيقة. ولعقود يفترض أن وكالات المخابرات الحكومية — مثل وكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات بالاتحاد السوفييتي السابق — كانت تستخدم مصل الحقيقة عند استجواب الجواسيس المشتبه فيهم. وحتى وقت قريب — عام ٢٠٠٨ — ذكرت بعض التصريحات أن الشرطة الهندية استخدمت مصل الحقيقة مع عزام قاصر قصاب، الإرهابي الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد هجمات مومباي المدمرة في الهند (بليكلي، ٢٠٠٨). ومنذ العقد الثاني بالقرن الماضي والمعالجون النفسيون يستخدمون أحيانًا مصل الحقيقة للكشف عن الذكريات المدفونة عن الأحداث الصادمة (وينتر، ٢٠٠٥). فجرائم التحرش الجنسي التي اتهم بها المطرب مايكل جاكسون عام ١٩٩٤، ظهرت على الساحة بعد أن أعطى أحد أطباء التخدير الصبي ذا الثلاثة عشر ربيعًا جوردان تشاندلر مصل الحقيقة، وكان تشاندلر قد أنكر أن جاكسون تحرش به جنسيًّا قبل تعاطي المصل (تارابوريللي، ٢٠٠٤).

ولكن مصل الحقيقة مثله مثل جهاز كشف الكذب اسم على غير مسمى، فمعظم أمصال الحقيقة تتكون من مواد مهدئة مثل أميتال الصوديوم أو بنتوثال الصوديوم. ولأن التأثيرات النفسية والفسيولوجية للمهدئات تتشابه إلى حد بعيد مع تأثير الكحول (سودزاك، شوارتز، سكولنيك، وبول، ١٩٨٦)، لن يختلف تأثير تعاطي مصل الحقيقة عن شرب بعض المشروبات الكحولية القوية، فأمصال الحقيقة مثلها مثل الكحول تتسبب في شعورنا بالنعاس وتجعلنا لا نأبه بصورة كبيرة بالمظهر الخارجي، وهي مثلها مثل الكحول لا تكشف عن الحقيقة، وإنما كل ما تفعله أنها تضعف آليات الكبت، مما يجعلنا أكثر استعدادًا للتصريح بمعلومات صحيحة وأخرى غير صحيحة (دايسكن، كوسر، هاراسزتي، ديفيز، ١٩٧٩؛ بيبر، ١٩٩٣؛ ستوكس، ١٩٩٨)؛ ونتيجة لذلك، يرفع استخدام مصل الحقيقة إلى حد بعيد من احتمالات استدعاء ذكريات خاطئة واعترافات زائفة. بالإضافة إلى وجود أسانيد علمية قيمة على أن الأشخاص من الممكن أن يكذبوا وهم تحت تأثير مصل الحقيقة (بيبر، ١٩٩٣)؛ لذا، مهما كان ما تصوره لنا أفلام هوليوود لن يبلي مصل الحقيقة بلاء أفضل من أجهزة كشف الكذب.

ولكن اختبارات كشف الكذب لا تزال إحدى العلامات المميزة في خيال العامة. ففي أحد استطلاعات الرأي وصف ٦٧٪ من جمهور المواطنين في أمريكا هذه الاختبارات بأنها «مفيدة» أو «يمكن الاعتماد عليها» في اكتشاف الكذب، مع أن الغالبية العظمى لم تكن ترى أنها إحدى الأدوات التي لا يمكن أن تخطئ (مايرز، لاتر، وعبد الله أرينا، ٢٠٠٦). وأظهر استطلاع آخر للرأي أجرته أنيت تايلور وباتريشيا كواليسكي (٢٠٠٣) أن ٤٥٪ من دارسي علم النفس التمهيدي مقتنعون بأن جهاز كشف الكذب «يمكن أن يكتشف بدقة محاولات الخداع» (ص٦). بالإضافة إلى أن هذه الاختبارات ظهرت بصورة مرموقة في أكثر من ٣٠ فيلمًا سينمائيًّا وبرنامجًا تليفزيونيًّا دون ذكر لعيوبها. وبحلول الثمانينيات من القرن الماضي أصبح عدد اختبارات كشف الكذب السنوية في الولايات المتحدة فقط حوالي ٢ مليون (لايكن، ١٩٩٨).

ونتيجة زيادة الإدراك لمحدودية صلاحية اختبارات كشف الكذب، نادرًا ما تستخدم هذه الاختبارات في المحاكم. وقد أقرت الحكومة الفيدرالية ما يعرف بقانون حماية الموظفين من أجهزة كشف الكذب لعام ١٩٨٨، الذي يقضي بمنع معظم أصحاب الأعمال من استخدام هذه الأجهزة. ولكن من المثير للسخرية أن الحكومة أعفت نفسها من الالتزام بهذا القانون وسمحت باستخدام اختبار كشف الكذب داخل الوكالات العسكرية والأمنية وتلك المعنية بتطبيق القوانين. وعلى ذلك أصبح اختبار كشف الكذب — الذي لا يصلح كإجراء موثوق فيه لتعيين عامل في محل بقالة صغير — يستخدمه مكتب التحقيقات الفيدرالي والمخابرات المركزية للتأكد من ولاء الموظفين لديهما.

لو كان ويليام مولتون مارستون لا يزال على قيد الحياة، لأصابه الإحباط من معرفة أن الباحثين لا يزالون يحاولون أن يتوصلوا إلى مكافئ نفسي لحزام واندر ومان السحري. حتى الآن، وعلى الأقل في المستقبل القريب، لا يزال الوعد بالتوصل إلى جهاز مثالي لكشف الكذب أحد معالم الخيال العلمي وخيالات كتب الرسوم المتحركة.

(٢) الخرافة رقم ٢٤: يتوقف شعورنا بالسعادة إلى حد بعيد على الظروف الخارجية

قالت جينيفر مايكل هيكت في كتابها «خرافة السعادة»: إن كل جيل من الأجيال تقريبًا حصل على نصيبه من الوصفات الموثقة والمؤكدة النجاح للحصول على السعادة المطلقة. ولأن بعض هذه الوصفات تعود إلى مطلع القرن الحادي والعشرين فقد تصدمنا بغرابتها. فعلى مدار التاريخ، ظل الناس يبحثون عن عدد من الأطعمة والعقاقير التي يفترض أنها تثير الشهوة مثل قرن وحيد القرن، والذبابة الإسبانية، والفلفل الحار، والشوكولاتة، والمحار، وحديثًا ادعى البعض أن حلوى إم آند إم الخضراء هي الأخرى تحسن من العلاقات والرغبة الجنسية (آيسنك، ١٩٩٠). ولكن الأبحاث تشير إلى أن تأثير أي من هذه المواد التي ترفع مستوى الدهون في الجسم لا يفوق تأثير العلاج الوهمي، الذي هو قرص من المواد السكرية (نوردنبيرج، ١٩٩٦). وفي نهاية القرن التاسع عشر أصاب «نظام فليتشر الغذائي» أمريكا بالهوس؛ يقول أنصار هذا النظام إن مضغ كل قطعة من الطعام ٣٢ مرة (أي مرة لكل سِنّة) سيحقق لنا الصحة والسعادة (هيكت، ٢٠٠٧). وربما تثير وصفات السعادة المنتشرة اليوم استغراب الأمريكيين في بداية القرن الثاني والعشرين بوصفها غريبة. ترى ماذا سيكون رأي الأجيال القادمة في من ينفقون اليوم آلافًا من الدولارات التي اكتسبوها بعد عناء على العلاج بالروائح، وعلم طاقة المكان المعروف بالفانج شواي (إحدى الممارسات الصينية المعنية بترتيب الأشياء داخل الغرف على وجه يحقق الرضا النفسي)، وحضور الندوات التحفيزية، وشراء الكريستالات المحسنة للمزاج؟

تعكس هذه الصيحات جميعها فكرة أساسية تقف وراء الكثير من المعتقدات الشائعة في علم النفس الشعبي، وتتمثل هذه الفكرة في أن سعادتنا تتوقف إلى حد بعيد على ظروفنا الخارجية. تقول هذه الفكرة إنه من أجل أن نحصل على السعادة، لا بد أن نعثر على «التركيبة» المناسبة لها، التي توجد في الأساس بالخارج. وتتضمن هذه التركيبة الكثير من المال غالبًا، ومنزلًا رائعًا، ووظيفة عظيمة، وكمًّا لا بأس به من الأحداث الممتعة في حياتنا. يعود هذا الرأي إلى القرن الثامن عشر، إذ ذكر الفيلسوفان البريطانيان جون لوك وجيريمي بينثام أن السعادة هي النتيجة المباشرة لعدد من الأحداث الإيجابية التي يعايشها الأشخاص (آيسنك، ١٩٩٠) أما في يومنا هذا، فيكفي أن يزور المرء موقعًا مثل موقع أمازون على شبكة الإنترنت ليجد كنزًا ثمينًا من الكتب الإرشادية إلي توجهنا إلى كيفية تحقيق السعادة بالمال. ومن أمثلة هذه الكتب: «المال والسعادة: دليلك لحياة سعيدة» للورا راولي (٢٠٠٥)، و«التفكير في المال: طريقك للثروة والسعادة» لإريك تايسون (٢٠٠٦)، و«المال يمكن أن يشتري السعادة: كيف تنفق لتحصل على الحياة التي تريدها» لإم بي دانليفي (٢٠٠٧). في تعليق ساخر قال الناقد الاجتماعي إريك هوفر: «لا يمكنك أبدًا أن تحصل على ما يكفيك مما لا تحتاجه لتصبح سعيدًا.»

منذ أكثر من ٢٠٠ عام قالت مارثا واشنطن «أول سيدة أولى» لأمريكا رأيًا يتعارض بشدة مع الكثير من الثقافة المعاصرة الشهيرة، وينص على أن: «الجزء الأكبر من شعورنا بالسعادة أو بالتعاسة يعتمد على مواقفنا وليس على ظروفنا.» في العقود الحديثة بدأ علماء النفس يتشككون في «المسلمة» التي تقول إن جزءًا كبيرًا من السعادة يعد نتيجة مباشرة لما يحدث لنا. لقد أصر عالم النفس الراحل ألبرت أليس (١٩٧٧) على أن أحد أكثر الأفكار غير المنطقية انتشارًا — وأكثرها ضررًا أيضًا — هي الفكرة القائلة إن السعادة أو التعاسة تنبع إلى حد بعيد من ظروفنا الخارجية وليس من التفسيرات التي نضعها لهذه الظروف. كان أليس كثيرًا ما يستشهد بما كتب شكسبير في مسرحية هاملت: «ليس هناك شيء سيئ أو جيد، ولكن تفكيرنا هو الذي يجعله كذلك.» يقول عالم النفس مايكل آيسنك (١٩٩٠) إن الخرافة الأولى عن السعادة هي أن «مقدار سعادتك يعتمد ببساطة على عدد الأحداث الممتعة التي تحدث لك وطبيعتها» (ص١٢٠).

ولكنَّ كثيرًا منا يرفضون بشدة الفكرة القائلة إن سعادتنا تتأثر بسماتنا الشخصية ومواقفنا أكثر من تأثرها بتجاربنا في الحياة، بالإضافة إلى أننا نرفض بشدة أن نتقبل فكرة أن السعادة تتأثر بدرجة كبيرة بتكويننا الجيني. في أحد استطلاعات الرأي أعطى طلبة المرحلتين الثانوية والجامعية تقديرًا منخفضًا (٢٫٨ من ٧ نقاط) لأحد البنود التي تقيم أهمية الجينات الواضحة للشعور بالسعادة (فورنهام وتشينج، ٢٠٠٠).

إذن هل كانت مارثا واشنطن على حق حينما قالت إن سعادتنا «تعتمد على مواقفنا، وليس على ظروفنا»؟ لنلق نظرة على نتيجتين من النتائج المثيرة؛ أولًا: اختبر إد دينير ومارتن سليجمان أكثر من ٢٠٠ طالب من طلاب المرحلة الجامعية لمعرفة مستويات سعادتهم، وأجروا مقارنة بين العشرة في المائة الذين جاءوا على رأس القائمة (من هم في منتهى السعادة) والطلاب الذي توسطوا القائمة والعشرة بالمائة الذين جاءوا في ذيلها. الطلاب الذين كانوا في منتهى السعادة لم يمروا بعدد من الأحداث الشخصية الإيجابية، مثل الأداء الجيد في الامتحانات أو العلاقات العاطفية المثيرة، أكبر من تلك التي مر بها طلاب المجموعتين الأخريين (دينير وسليجمان، ٢٠٠٢). ثانيًا: تتبع عالم النفس الحاصل على جائزة نوبل دانيال كانيمان وزملاؤه الحالات المزاجية لحوالي ٩٠٩ امرأة عاملة وأنشطتهن عن طريق تسجيل كل ما مررن به في اليوم السابق بالتفصيل (كانيمان، كروجر، شكادي، شوارز، وستون، ٢٠٠٤)، واكتشفوا أن ظروف الحياة الأساسية — مثل دخل المنزل والسمات المختلفة لوظائفهن (مثل هل تتضمن هذه الوظائف مزايا ممتازة أم لا) — ترتبط فقط بجزء صغير للغاية من شعورهن اللحظي بالسعادة، في حين مثلت جودة النوم الذي تحصل عليه هؤلاء السيدات ودرجة تعرضهن للاكتئاب مؤشرين من المؤشرات الجيدة على شعورهن بالسعادة.

وأيدت بعض الأبحاث الأخرى ما أطلق عليه فيليب بريكمان ودونالد كامبيل (١٩٧١) اسم «مشّاية المتعة». فمثلما نسرع في تعديل سرعة مشينا أو ركضنا لتتماشى مع سرعة سير المشّاية الكهربائية أو جهاز السير في المكان (لأننا إذا لم نفعل فسنسقط على وجوهنا) تتأقلم حالتنا المزاجية سريعًا مع معظم ظروف الحياة. تتوافق فرضية مشّاية المتعة مع نتائج الأبحاث التي تثبت أن نسبة التماثل بين معدلات السعادة ترتفع لدى التوائم المتماثلة، الذين تتشابه جيناتهم، عنها لدى التوائم غير المتماثلة الذين يشتركون في ٥٠٪ من الجينات في المتوسط (لايكن وتيليجين، ١٩٩٦). تشير هذه النتيجة إلى أن الجينات تسهم إسهامًا كبيرًا في الشعور بالسعادة وتزيد من احتمالية أن كلًّا منا وُلد ولديه «نقطة ضبط» محددة خاصة بالسعادة، أو بمعنى آخر مستوى أساسي من السعادة يتأثر بجيناته ويعلو أو يهبط عنه وفقًا للأحداث قصيرة الأجل في الحياة، ولكن ما إن يتكيف مع هذه الأحداث يعود مرة أخرى إلى هذا المستوى (لايكن، ٢٠٠٠).

المزيد من الأدلة المباشرة على فرضية مشّاية المتعة تنبثق من الدراسات التي شملت أشخاصًا عايشوا أحداثًا إما إيجابية للغاية أو سلبية للغاية، أو حتى مأساوية. ربما يظن المرء أن المجموعة الأولى من الأشخاص يشعرون بسعادة أكبر بكثير من المجموعة الثانية. إنهم كذلك، ولكن هذا الشعور يستمر غالبًا لفترة وجيزة جدًّا من الوقت (جيلبرت، ٢٠٠٦)؛ فمثلًا، رابحو الجوائز الكبرى في مسابقات اليانصيب يطيرون من السعادة فور حصولهم على الجائزة الكبرى، ولكن ما إن يمر شهران حتى تنخفض معدلات السعادة التي يشعرون بها لتتماثل مع المعدلات التي يشعر بها الآخرون (بريكمان، كوتس، وجانوف-بولمان، ١٩٧٨). أما الأشخاص الذين يتعرضون للإصابة بشلل نصفي سفلي إثر التعرض للحوادث فيعودون إلى حد بعيد (ولكن ليس بصورة كلية) إلى مستويات سعادتهم الأساسية خلال أشهر قليلة بعدها (بريك وآخرون، ١٩٧٨؛ سيلفر، ١٩٨٢). وبالرغم من أن أعضاء هيئة التدريس الشباب الذين حُرموا من التثبيت في العمل (وهذا يعني أنهم فقدوا وظائفهم) تحطموا بعد تلقيهم الأخبار، ففي غضون سنوات قليلة أصبحت مستويات سعادتهم تتماثل مع أعضاء هيئات التدريس الشبان الذين ثُبتوا في وظائفهم (جيلبرت، بينال، ويلسون، بلومبيرج، وويتلي، ١٩٩٨). يتكيف معظمنا بسرعة مقبولة مع ظروف الحياة، سواء أكانت جيدة أم سيئة.

تشكك الأبحاث أيضًا في الرأي الشائع القائل إن المال يمكن أن يشتري لنا السعادة (كانمان، كروجر، شكادي، شوارز، وستون، ٢٠٠٦؛ مايرز، ودينر، ١٩٩٦). بلغ متوسط معدل الشعور بالرضا عن الحياة لدى أغنى ٤٠٠ أمريكي ذكرتهم مجلة «فوربس» ٥٫٨ من ٧ نقاط، ويعد هذا دليلًا على عدم وجود أي صلة بين السعادة والمال (دينر، هوروويتز، وإيمونز، ١٩٨٥). ويبلغ متوسط معدل الشعور بالرضا عن الحياة لدى طائفة الأميش ببنسلفانيا ٥٫٨ نقطة أيضًا (دينر وسليجمان، ٢٠٠٤)، على الرغم من أن متوسط دخلهم السنوي يقل عن أغنى ٤٠٠ أمريكي بعدة «ملايين» من الدولارات. صحيح أننا نحتاج إلى «ما يكفينا» من المال حتى نحيا حياة مريحة. عندما يكون الدخل أقل من ٥٠٠٠٠ دولار أمريكي، يرتبط الدخل قليلًا بالشعور بالسعادة، ربما لأنه من الصعب أن نشعر بالسعادة في الوقت الذي يساورنا فيه القلق بشأن الطعام الذي يحتاجه المنزل أو دفع إيجار الشهر القادم. ولكن الأشخاص الذين تزيد دخولهم عن هذا الرقم تختفي تقريبًا عندهم العلاقة بين السعادة والمال (هيليويل وبوتنام، ٢٠٠٤؛ مايرز، ٢٠٠٠). ولكن هذه الحقيقة لم تثنِ اللاعبين الكبار في اتحاد كرة البيسبول الذين يبلغ متوسط الدخل السنوي للواحد منهم ١٫٢ مليون دولار عن الإضراب عام ١٩٩٤ من أجل الحصول على رواتب أعلى.

لكن ربما لم تكن مارثا واشنطن على حق تمامًا فيما قالت، فهناك أحداث مصيرية معينة يمكنها أن تؤثر سلبًا أو إيجابًا على سعادتنا على المدى الطويل، ولكن ليس بالقوة التي يتوقعها معظمنا. على سبيل المثال: الطلاق أو فقدان شريك الحياة أو التسريح من العمل ربما يؤدي إلى انخفاض مستويات السعادة بصورة مستمرة وفي بعض الأحيان أبدية (دينر، ولوكاس، وسكولون، ٢٠٠٦). ولكن حتى عند الانفصال أو وفاة شريك الحياة يتأقلم معظم الناس في النهاية مع مرور الوقت بصورة كاملة تقريبًا (كلارك، دينر، جورجليس، ولوكاس، ٢٠٠٨).

لهذا لا يرتبط جزء كبير من سعادتنا على المدى البعيد بما يحدث لنا على الرغم من أن ظروف حياتنا قد تؤثر حتمًا على سعادتنا على المدى القصير. قد يكون ذلك أكثر مما نود أن نعترف به، ولكن السعادة ترتبط بما نصنعه بحياتنا ونحققه فيها على الأقل بقدر ارتباطها بحياتنا نفسها. يقول عالم النفس الخبير بأمور السعادة إد دينير: «يشعر المرء بالمتعة لأنه يكون سعيدًا، وليس العكس» (نقلها آيسنك، ١٩٩٠، ص١٢٠).

(٣) الخرافة رقم ٢٥: السبب الأساسي أو الوحيد للقرح هو التوتر

منذ عقدين من الزمان أو أكثر قليلًا، كان من المستغرب أن يكون العلاج المفضل للتعامل مع القرح الهضمية هو تناول قرص دوائي. ولكن الطفرات التقدمية في مجال الطب، و«تجربة» شخصية جريئة، والأبحاث المضنية والدقيقة أحدثت تغيرًا في الآراء الطبية عن القرح. قبل منتصف الثمانينيات، كان معظم الأطباء والأشخاص العاديين على قناعة بأن السبب الأساسي في الإصابة بالقرح هو التوتر، وكانوا يرون أيضًا أن الأطعمة الحريفة، وزيادة السائل الحمضي في المعدة، والتدخين، وتعاطي الكحول تلعب أدوارًا ثانوية مهمة في تكوّن القرح. ولكننا اليوم أصبحنا على دراية بمفاهيم تختلف عن هذه القناعات بفضل الأعمال الرائدة لباري مارشال وروبين وارين اللذين حازا جائزة نوبل لقيامهما بأبحاث رائدة غيرت مفهومنا تمامًا عن القرح وطرق علاجها (مارشال، ووارين، ١٩٨٣).

ظن الكثير من علماء النفس الذين تأثروا بكتابات سيجموند فرويد أن القرح تنتج عن الصراعات النفسية. أشار أخصائي التحليل النفسي فرانز أليكساندر (١٩٥٠) إلى أن القرح ترتبط بالرغبات الملحة التي تراود الطفل ويحتاج إلى تلبيتها وبشعوره بأنه يعتمد على الآخرين. ويظن أن هذه الصراعات تتأجج من جديد بعد أن يبلغ الطفل فتثير الجهاز المعوي المعدي (المعدة والأمعاء) الذي يرتبط بالتغذية.

جردت الأبحاث العلمية الفكرة التي تقول إن تكوّن القرح يرتبط بمشاعر وصراعات معينة من المصداقية، ولكنها استبدلت بها الرأي الشائع القائل إن التوتر هو السبب الرئيسي لهذه المشكلة، بالإضافة إلى العادات الغذائية والاختيارات المتعلقة بأسلوب الحياة. يقول توماس جيلوفيتش وكينيث سافيتسكي (١٩٩٦) إن الاعتقاد في أن التوتر هو الذي يسبب الإصابة بالقرح ربما ينبثق من التطبيق الخاطئ للمنهج الاستكشافي القائم على التماثل (راجع المقدمة)؛ فلأن التوتر يؤدي غالبًا إلى حدوث اضطراب بالمعدة، فقد يبدو أنه من المنطقي أن نظن أنه يمكن أن يسبب لنا مشكلات أخرى بالمعدة ومن ضمنها القرح، بالإضافة إلى أن القرح ليست مقصورة على الرؤساء التنفيذيين الأكثر إنجازًا في أفضل شركات قائمة «فورتشن ٥٠٠». فهناك نحو ٢٥ مليون أمريكي من كل الشرائح الاجتماعية والاقتصادية معرضون للإصابة بآلام القرح (سونينبيرج، ١٩٩٤).

على الرغم من أن هناك مفهومًا عامًّا شائعًا عن وجود رابطة قوية بين التوتر والإصابة بالقرح، فلطالما تشكك كثير من العلماء في أن السبب في تكون بعض أنواع القرح على الأقل قد يكون مرجعه الإصابة بنوع من العدوى. ولكن لم يحقق العلماء تقدمًا حقيقيًّا في تحديد عامل بعينه يقف وراء هذا المرض إلا عندما اكتشف مارشال ووارين (١٩٨٣) وجود صلة بين القرح المعدية ونوع من البكتيريا المنحنية يعرف بالملوية البوابية تعيش في الغشاء المبطن للمعدة والأمعاء.

وكان أول ما توصلا إليه هو أن الإصابة بعدوى هذا النوع من البكتيريا تشيع لدى الأشخاص المصابين بالقرح، ولكنها ليست كذلك لدى من لا يعانون القرح. ولكي يثبت أن هذا الميكروب الذي يغزو المعدة هو المسبب الرئيسي في تكوّن القرح قام مارشال بخطوة جريئة (ربما يعتبرها البعض حمقاء)، فقد ابتلع خليطًا من الكائنات العضوية وأصيب بنوع من الاضطرابات المعوية يعرف بالتهاب المعدة استمر أسابيع، ولكن هذه الخطوة الجريئة التي قام بها مارشال لم تكن حاسمة، فقد أصيب بألم حاد في المعدة، ولكنه لم يصب بقرحة في المعدة، ولذا لم يستطع أن يثبت وجود علاقة مباشرة بين بكتيريا الملوية البوابية وتكوّن القرح. ولكن هذه النتيجة ليست مستغربة إلى حد بعيد حينما نعرف أن هذا النوع من البكتيريا يعيش بداخل أجسام خمسين بالمائة من البشر، ولكن ١٠ إلى ١٥٪ فقط ممن تعيش هذه البكتيريا داخلهم يصابون بالقرح. بالإضافة إلى أن هذه المحاولة الفردية لإثبات شيء ما أفضل ما يمكن أن تقدمه لنا مجرد استدلالات، خاصة عندما يكون من قام بها هو الشخص الذي وضع الفرضية التي تُجرى عليها الدراسة. صحيح أن هذه النتائج أثارت اهتمام وحيرة الوسط الطبي، إلا أنه ترقب في صبر ظهور أبحاث أكثر إقناعًا.

جاءت أكثر الحجج إقناعًا على أيدي باحثين من مختلف أنحاء العالم استزرع كل منهم بصورة مستقلة هذا النوع من البكتيريا، وأثبتوا أن معالجتها بالمضادات الحيوية القوية قلل من تكرار تكوّن القرح بصورة مذهلة. تعد هذه النتيجة مهمة إذ إن العقاقير التي تُحيد السائل الحمضي بالمعدة أو تقلل من إفرازه يمكن أن تعالج القرح لدى معظم الحالات، ولكن من ٥٠ إلى ٩٠٪ من القرح تتكرر مرة أخرى بعد وقف العلاج (جوف وآخرون ١٩٨٤). وكون المضادات الحيوية قللت من تكرار حدوث القرح بنسبة ٩٠ إلى ٩٥٪ يعد دليلًا قويًّا على أن بكتيريا الملوية البوابية تتسبب في تكوّن القرح.

ومع ذلك، وكما هو الحال دائمًا، لم يواكب الرأي العام الاكتشافات الطبية. فبحلول عام ١٩٩٧ كان ٥٧٪ من الأمريكيين لا يزالون يرون أن التوتر هو السبب الرئيسي في الإصابة بالقرح، و١٧٪ كانوا على قناعة بأن الأطعمة الحريفة تسبب القرح (مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، ١٩٩٧)، مع أن المعاهد القومية للصحة بالولايات المتحدة كانت قد أعلنت عام ١٩٩٤ أن الأسانيد العلمية التي تدلل على أن بكتيريا الملوية البوابية تسبب القرح مقنعة، وأوصت باستخدام المضادات الحيوية لعلاج الأشخاص المصابين بالقرح وبعدوى هذا النوع من البكتيريا (مؤتمر الإجماع لمعاهد الصحة القومية، ١٩٩٤). حتى في يومنا هذا، تروج وسائل الإعلام للدور المهم للمشاعر السلبية في تكون القرح. ففي فيلم «الجانب الإيجابي للغضب» (٢٠٠٥) تصاب إميلي (التي لعبت دورها كيري راسل) بقرحة بعد أن يتخلى والدها عن العائلة وتحبط أمها أحلامها في أن تصبح راقصة.

لأن الغالبية العظمى من المصابين بعدوى الملوية البوابية لا يتعرضون للإصابة بالقرح، أدرك العلماء أنه لا بد أن تكون هناك عوامل أخرى تلعب دورًا في هذه المشكلة. وسرعان ما انتشر في الأجواء الوعي بأن الاستخدام المفرط للأدوية المضادة للالتهاب، مثل الأسبرين والإيبوبروفين، يمكن أن يسهم في حدوث القرح إذ يهيج الغشاء المبطن للمعدة. بالإضافة إلى أن الباحثين لم يتوقفوا عن سعيهم لتحديد الدور الذي يلعبه التوتر في تكوّن القرح. قد يلعب التوتر في الحقيقة دورًا ما في تكون القرح، ولكن الأبحاث تظهر أن المفهوم الشائع الذي يقول إن التوتر «في حد ذاته» يتسبب في تكوّن القرح مفهوم خاطئ. على سبيل المثال: يرتبط الاضطراب النفسي بوجود نسب أعلى من القرح لدى الإنسان والحيوان (ليفينشتاين، كابلان، وسميث، ١٩٩٧؛ أوفرماير وموريسون، ١٩٩٧)، ويرتبط التوتر أيضًا بضعف الاستجابة لعلاجات القرح (ليفينشتاين وآخرون، ١٩٩٦)، وترتبط الأحداث المشحونة بالتوتر، مثل الزلازل والأزمات الاقتصادية، بارتفاع نسب تكوّن القرح (ليفينشتاين، أكرمان، كيكولت-جليسر، دوبويس، ١٩٩٩)، بالإضافة إلى أن الأشخاص الذين يصابون باضطراب القلق العام، وهي حالة تتسم بالقلق الزائد طوال الوقت بشأن أشياء عدة، ترتفع نسبة تعرضهم للإصابة بالقرح (جودوين وشتاين، ٢٠٠)، ولكن من المحتمل ألا يتسبب القلق في الإصابة بالقرح، فالإصابة بالقرحة والألم الناتج عنها ربما يصيب الأشخاص بحالة مستمرة من القلق، أو ربما يكون الأشخاص معرضين للقلق المفرط وللقرح بفعل مؤثرات وراثية تتعلق بالحالتين.

يمكننا أن نتفهم حقيقة أن التوتر ربما يسهم في تكون القرح من منطلق «المنظور الاجتماعي والنفسي والبيولوجي»، الذي يقول إن معظم الحالات المرضية يعتمد على تضافر عوامل عدة تتمثل في الجينات وأساليب الحياة والمناعة ومثيرات التوتر اليومية (ماركوس وكيتاياما، ١٩٩١؛ تورك، ١٩٩٦). ربما يكون للتوتر تأثير غير مباشر على تكوّن القرح عن طريق استثارة بعض السلوكيات مثل تعاطي الكحول، وقلة النوم، مما يزيد من احتمالات حدوث القرح.

لم يحسم الأمر بعد، فلا يزال الباحثون يحاولون تحديد الدور الذي يلعبه التوتر في تكون القرح بالتحديد، ولكن من الواضح أن التوتر ليس هو المسبب الأوحد أو حتى الأكثر أهمية. من المؤكد أن التوتر، والمشاعر، والتلف الناتج عن الكائنات المسببة للأمراض تجتمع معًا لتخلق ظروفًا مناسبة لنمو بكتيريا الملوية البوابية. لذا إذا كنت تعاني مشكلات بالمعدة فلا تندهش إذا أشار عليك الطبيب بأن تتعلم طرق الاسترخاء وهو يمسك بقلمه ليكتب لك وصفة طبية تحتوي على مضادات حيوية قوية.

(٤) الخرافة رقم ٢٦: التوجه الذهني الإيجابي يمكن أن يقي من السرطان

هل السرطان يتعلق فقط «بالتوجه الذهني»؟ ربما يسهم التوتر، والتفكير السلبي، والتشاؤم في تهيئة الظروف لخلايا الجسم لكي تفلت من الزمام وتساعد على انتشار السرطانات. إذا كان الحال كذلك، فمن الممكن لكتب مساعدة الذات، والتأكيدات الشخصية، وتخيل الجسم خاليًا من السرطان، أن تسهم في شحذ طاقة التفكير الإيجابي ومساعدة الجهاز المناعي في التغلب على السرطان.

العديد من الروايات الشهيرة تروج للدور الذي تلعبه التوجهات الذهنية والمشاعر الإيجابية في وقف تقدم الخلايا السرطانية الذي يكون في الأغلب تقدمًا شرسًا. ولكن هذه الرسالة تلمح ضمنيًّا إلى مفهوم سلبي؛ فإذا كانت المفاهيم الإيجابية على هذا القدر من الأهمية فربما يكون الأشخاص المعرضون للتوتر الشديد الذين ينظرون إلى العالم وإلى أنفسهم بمنظور أقل تفاؤلًا يفرضون على أنفسهم الإصابة بالسرطانات (بايرستاين، ١٩٩٩؛ جيلوفيتش، ١٩٩١؛ ريتينبيرج، ١٩٩٥)؛ ولذا فحقيقة أو زيف العلاقة بين السرطان ومواقف المرضى ومشاعرهم من جهة، والسرطان نفسه من جهة أخرى، تحمل نتائج على قدر من الأهمية لاثني عشر مليون شخص يصابون بالسرطان سنويًّا في مختلف أنحاء العالم، ولهؤلاء الذين يخوضون معركة طويلة مع المرض.

قبل أن نمحص الأدلة العلمية لنستعرض بعض مصادر المعلومات الشهيرة التي تحدثت عما إذا كانت العوامل النفسية تسبب السرطان أو تعالجه أم لا. في كتابها «تسع خطوات للشفاء من السرطان وأمراض أخرى أو الوقاية منها»، كتبت المؤلفة د. شيفاني جودمان (٢٠٠٤) أنها في يوم من الأيام تمكنت من أن «تفهم فجأة» سبب إصابتها بسرطان الثدي. فعندما كانت طفلة، كانت تسمع أباها يردد كل صباح هذا الابتهال اليهودي: «اللهم لك الحمد لأنك لم تخلقني امرأة» (ص٣١). ما اكتشفته هو أن ثدييها كانا هما «رمز أنوثتها»، وأنها دون أن تعي كانت «ترفض كونها امرأة، بالإضافة إلى فكرة أنها تستحق أن تعيش» (ص٣٢). وفور أن أدركت توجهاتها الذهنية الضارة ادعت أنها «غيرتها إلى توجهات تساعد على الشفاء وأن هذه التوجهات جلبت لها الصحة الوافرة» (ص٣٢).

وحكت لويز هايز عن موقف مماثل في كتابها «يمكنك أن تشفي نفسك» (١٩٨٤)، إذ تفاخرت بأنها عالجت سرطان المهبل الذي أصابها عن طريق التفكير الإيجابي. ادعت هايز أن الخلايا السرطانية تكاثرت في مهبلها لأنها تعرضت للتحرش الجنسي وهي طفلة. أوصت المؤلفة قراءها بأن يرددوا عبارات توكيدية مثل «أنا أستحق الأفضل، وأتقبل ذلك الآن» لكي يعالجوا السرطان، وانبثقت هذه التوصية من قناعتها بأن الأفكار والخواطر تشكل الواقع. وبثت روندا بايرن (٢٠٠٦) رسالة مماثلة في كتابها الذي نجح نجاحًا ساحقًا وحقق أعلى المبيعات «السر» (الذي بيعت منه أكثر من ٧ ملايين نسخة)، فقد حكت قصة امرأة رفضت أن تتلقى العلاج الطبي وشفت نفسها من السرطان بعد أن تخيلت أن جسدها خالٍ من الخلايا السرطانية. تقول بايرن: إن بث الأفكار السلبية يجذب التجارب السلبية إلى حياتنا، ولكننا إذا نشرنا الأفكار الإيجابية فبإمكاننا أن نخلص أنفسنا من الحالات المرضية الجسدية والنفسية. وبعد أن أعلنت أوبرا وينفري عن هذا الكتاب في برنامجها التليفزيوني الشهير عام ٢٠٠٧، قررت إحدى المشاهدات التي تعاني سرطانًا بالثدي أن تتوقف عن العلاج الطبي الذي أوصى به الأطباء وتلجأ إلى الأفكار الإيجابية لمعالجة مرضها (وفي حلقة لاحقة حذرت أوبرا وينفري مشاهديها من أن يحذوا حذو هذه السيدة.) وفي كتاب «الشفاء الكمي» ادعى ديباك تشوبرا، الخبير في مجال مساعدة الذات، أن بإمكان المرضى تخفيف حدة السرطان حينما يتحولون بوعيهم إلى الإيمان بإمكانية شفائهم، وعندما يحدث ذلك التحول تستخدم خلايا الجسم «ذكاءها» لكي تهزم السرطان.

وتكتظ شبكة الإنترنت بمقترحات لتطوير التفكير الإيجابي عن طريق وضع تصور ذهني لعملية الشفاء. هذا بالإضافة إلى روايات عن معجزة الشفاء من السرطان التي حققها أشخاص وجدوا مغزى في حياتهم، أو أخمدوا مشاعر الاضطراب داخلهم، أو مارسوا تدريبات التخيل لشحذ طاقة التفكير الإيجابي وتقليل التوتر. فعلى سبيل المثال: يقترح القائمون على الموقع الإلكتروني Healing Cancer & Your Mind أن يتخيل المرضى ما يلي: (أ) جيوشًا من كرات الدم البيضاء تهاجم السرطان وتتغلب عليه، (ب) كرات الدم البيضاء في صورة فرسان يركبون جيادًا بيضاء ويركضون بها في أنحاء الجسم وهم يدمرون السرطان، (ﺟ) السرطان كلون داكن يصبح أفتح رويدًا رويدًا حتى يتحول لونه إلى نفس لون النسيج المحيط به.
«أدوات الشفاء» المزعومة على شبكة الإنترنت تقدم الإرشادات والنصائح عن كيفية القضاء على السرطان. كتب برنت أتواتر، الذي يزعم أنه «معالج طبي بالحدس والطاقة عن بعد»، دليلًا إرشاديًّا للمساعدة على التغلب على السرطان يحتوي على النصائح الآتية:
  • (١)

    افصل بين «هويتك» و«هوية السرطان».

  • (٢)

    أنت شخص يمر ﺑ «تجربة» الإصابة بالسرطان. اعلم أن «التجارب» تحدث وتنتهي!

  • (٣)

    «تجربة» السرطان التي تعيشها هي زر إعادة ضبط حياتك، فتعلم منها!

لا يستطع الكثيرون أن يرفضوا فكرة أنَّ تبنِّي توجهات ذهنية إيجابية في مواجهة أحرج الظروف وأصعبها هو هدف يستحق منا أن نصل إليه. ولكن العديد من المصادر الإعلامية الشهيرة تلمح إلى أن التوجهات الإيجابية وخفض التوتر يمكن أن يهزما السرطان أو يُبطئا من تقدمه، فهل تؤيد الأسانيد العلمية هذا الادعاء؟ الكثير من الأشخاص الذين سبق لهم أن أصيبوا بالسرطان يظنون ذلك، فقد أجريت استطلاعات للرأي شملت السيدات اللاتي بقين على قيد الحياة لسنتين على الأقل بعد الإصابة بسرطان الثدي (ستيوارت وآخرون، ٢٠٠٧)، وسرطان المبيض (ستيوارت، داف، وونج، ميلانكون، وتشيانج، ٢٠٠١)، وسرطان بطانة وعنق الرحم (كوستانزو، لوتجيندورف، برادلي، روز، وأندرسون، ٢٠٠٥). وأظهرت هذه الاستطلاعات أن نسبة السيدات اللاتي ظنن أن السبب في إصابتهن بالسرطان هو التوتر تراوحت بين ٤٢ و٦٠٪، وأن نسبة هؤلاء اللاتي كن على قناعة بأن أجسادهن خالية من الخلايا السرطانية بسبب توجهاتهن الذهنية الإيجابية تراوحت بين ٦٠ و٩٤٪. وفي هذه الدراسات ترتفع نسبة السيدات اللاتي ظنن أن سبب إصابتهن بالسرطان هو التوتر وليس عددًا من المؤثرات تتضمن السمات الوراثية، والعوامل البيئية، مثل النظام الغذائي.

ولكن التحليل المقارن لنتائج الدراسات البحثية يخبرنا قصة مختلفة، إذ تتعارض هذه النتائج مع المفهوم الشائع بوجود رابطة بين أحداث الحياة المشحونة بالتوتر والسرطان، حيث تظهر معظم الدراسات أنه لا توجد رابطة بين المشاعر أو التوتر والسرطان (بوتاو وآخرون، ٢٠٠٠؛ دويجتس، زيجرز، وبورن، ٢٠٠٣؛ بيتي كرو، فريزر، وريجان، ١٩٩٩). هناك دراسة حديثة عن التوتر الناتج عن العمل أظهرت نتائج مثيرة للاهتمام (شيرنهامر وآخرون، ٢٠٠٤)، شملت هذه الدراسة ٣٧٥٦٢ ممرضة مسجلة بالولايات المتحدة الأمريكية تابعهن الباحثون فترة امتدت إلى ثمان سنوات (١٩٩٢–٢٠٠٠)، ولاحظوا أن الإصابة بسرطان الثدي بين النساء اللاتي يتعرضن لتوتر عالٍ نسبيًّا في وظائفهن «تقل» بنسبة ١٧٪ عنها بين النساء اللاتي يتعرضن لقدر منخفض نسبيًّا من التوتر أثناء العمل. وقال الباحثون الذين تابعوا ٦٦٨٩ سيدة في كوبنهاجن مدة ١٦ عامًا إنهم اكتشفوا أن السيدات اللاتي قلن إنهن يتعرضن لتوتر «كبير» تقل احتمالات إصابتهن بسرطان الثدي عن هؤلاء اللاتي قلن إنهن يتعرضن لمقدار منخفض من التوتر بنسبة ٤٠٪ (نيلسن وآخرون، ٢٠٠٥). كما نفت الأبحاث العلمية المنهجية الفكرة التي كانت شائعة في وقت من الأوقات عن «الشخصية المعرضة للإصابة بالسرطان»، التي تتسم بمجموعة من السمات الشخصية، مثل عدم الحسم، والخجل، وتجنب الصراع، يُفترض أنها تعرض صاحبها للإصابة بالسرطان (بايرستاين، سامبسون، ستوجانوفيك، وهاندل، ٢٠٠٧).

لم يفلح العلماء في اكتشاف أي علاقة بين التوجهات الذهنية الإيجابية والحالات الشعورية وبين البقاء على قيد الحياة بعد الإصابة بالسرطان (بايرستاين وآخرون، ٢٠٠٧). تابع جيمس كوين وزملاؤه (كوين وآخرون، ٢٠٠٧) مدة تجاوزت تسع سنوات ١٠٩٣ مريضًا مصابين بحالات متقدمة من سرطان الرأس والرقبة ويعانون أورامًا غير منتشرة. لم تكن فرصة المرضى الذين أيدوا عبارات مثل «أنا أفقد الأمل في حربي مع مرضي» في البقاء على قيد الحياة فترة أطول أقل من فرصة المرضى الذين كانت لهم توجهات إيجابية. حتى أكثر المرضى تفاؤلًا لم يعيشوا أطول من أكثر المرضى إيمانًا بالحتمية القدرية. لثمان سنوات تابعت كيلي-آن فيليبس وزملاؤها (٢٠٠٨) ٧٠٨ نسوة أستراليات عرفن حديثًا بإصابتهن بسرطان موضعي في الثدي واكتشفوا أنه ليست هناك أي علاقة بين مشاعر الأشخاص السلبية، مثل الاكتئاب والقلق والغضب، وتوجهاتهم التشاؤمية وبين المقدار الزمني الذي من المتوقع أن يعيشوه.

تشير هذه النتائج وغيرها من النتائج المماثلة إلى أن العلاج النفسي ومجموعات الدعم التي تهدف إلى تعديل التوجهات الذهنية للفرد ومشاعره ليس من المرجح أن تقضي على السرطان نهائيًّا أو تُبطئ من تقدمه. ولكن الدراسة التي قام بها الطبيب النفسي ديفيد شبيجيل وزملاؤه (شبيجيل بلوم، وجوتهيل، ١٩٨٩) عن فترة بقاء مريضات سرطان الثدي على قيد الحياة والتي حظيت بشهرة واسعة تشير إلى عكس ذلك؛ إذ اكتشف هؤلاء الباحثون أن مصابات أورام الثدي المنتشرة اللاتي شاركن في جماعات الدعم بقين على قيد الحياة بعد مرضهن ضعف الفترة التي عاشتها السيدات اللاتي لم يحضرن جلسات هذه المجموعات: ٣٦٫٦ شهرًا في مقابل ١٨٫٩ شهرًا. ولكن لم تفلح محاولات الباحثين خلال العقدين التاليين لهذه الدراسة في التوصل إلى نتائج مماثلة (بايرستاين وآخرون، ٢٠٠٧). البيانات الصادرة عن جلسات العلاج النفسي ومجموعات مساعدة الذات تظهر أن التدخل النفسي، بما في ذلك مجموعات الدعم، يمكن أن يحسن جودة حياة المرضى ولكنه لن يطيلها (كوين، ستيفانيك، وبالمر، ٢٠٠٧).

إذن لماذا هذا الانتشار للاعتقاد الشائع بأن التوجهات الذهنية الإيجابية يمكن أن تساعد في مكافحة السرطان؟ أحد أسباب انتشار هذا المفهوم هو أنه يغذي بالطبع شعور الناس بالأمل، خاصة هؤلاء الذين يسعون وراءه باستماتة. بالإضافة إلى أن الأشخاص الذين يبقون على قيد الحياة بعد الإصابة بالسرطان والذين يرجعون النتائج الجيدة التي حققوها إلى تبني موقف ذهني إيجابي يمكن أن يكونوا فريسة لمنطق «الحدث التالي وقع بسبب الحدث الأول» (راجع المقدمة). فكون شخص ما تبنى توجهًا ذهنيًّا إيجابيًّا قبل أن يتراجع تقدم السرطان المصاب به لا يعني أن التوجه الذهني الإيجابي هو سبب هذا التراجع؛ فتلك الرابطة قد تكون مجرد صدفة.

وأخيرًا، قد يكون من المرجح أننا نسمع عن حالات حاربت السرطان عن طريق تبني نظرة إيجابية، ونتذكر هذه الحالات أكثر مما نسمع عن حالات المرضى الذين فقدوا حياتهم بسبب السرطان مع أنهم كانوا ينظرون إلى الحياة بطريقة إيجابية. تقدم لنا الحالات في المجموعة الأولى قصصًا تنال اهتمام الناس، ناهيك عن كونها تمثل مادة أفضل للبرامج التليفزيونية الحوارية.

ومع أن الصور الذهنية، والعبارات التوكيدية، والنصائح غير الموثوق في صحتها الموجودة على شبكة الإنترنت لن تقضي على السرطان أو تقي منه، فإن هذا لا يعني أنها لا يمكن أن تساعد في «التكيف» معه. الأشخاص المصابون بالسرطان يمكنهم أن يخففوا إلى حد بعيد من معاناتهم الشعورية والجسدية عن طريق التماس الرعاية الطبية والنفسية الجيدة، والاتصال بالأصدقاء والعائلة، وإيجاد مغزى وهدف لكل لحظة من لحظات حياتهم. وعلى عكس ما هو شائع، يستطيع الأشخاص المصابون بالسرطان أن يشعروا بالراحة في ظل ما توصلت إليه الأبحاث وأثبتته جيدًا من أن توجهاتهم الذهنية ليست هي السبب في مرضهم.

(٥) الفصل ٦: خرافات أخرى تستحق الدراسة

الخرافة الحقيقة
«أجهزة تحليل درجة التوتر في الصوت يمكن أن تساعد في كشف الكذب.» أجهزة تحليل درجة التوتر في الصوت تكشف فقط عن التغيرات الصوتية التي ترتبط أحيانًا بحالة الاستثارة وليس الكذب في حد ذاته.
««التفكير الإيجابي» أفضل من التفكير السلبي لكل الأشخاص.» الأشخاص الذين ترتفع لديهم مستويات «التشاؤم الدفاعي» — الذين يمثل القلق لهم استراتيجية تكيف — تنخفض جودة أدائهم للمهام عندما يجبرون على أن يفكروا بإيجابية.
«إذا كنا منزعجين من شيء ما، فكل ما علينا فعله هو أن نحاول أن نخرجه من تفكيرنا.» تشير الأبحاث التي أجراها دانيال فيجنر وآخرون عن «كبت الأفكار» إلى أن محاولة إخراج شيء ما من تفكير المرء تزيد في الأغلب من احتمالات عودته إلى حيز التفكير من جديد.
«تتمتع السيدات بدرجة من الفراسة الاجتماعية أعلى من تلك التي يمتلكها الرجال.» تظهر الدراسات أن النساء لسن أفضل من الرجال فيما يتعلق بدقة استنباط مشاعر الآخرين.
«ينتاب الأشخاص حزن شديد في بداية الأسبوع.» لم تقدم أغلب الأبحاث دليلًا على هذا الادعاء الذي يبدو أن مبعثه هو توقعات الأشخاص بشأن شعورهم بالإحباط في بداية الأسبوع.
«الأشخاص الميالون إلى حالات مزاجية جيدة أقل عرضة لحالات سوء المزاج من غيرهم.» الميل إلى الحالات المزاجية الإيجابية (أي، الانفعالية الإيجابية) هو شيء مستقل إلى حد بعيد أو بصورة كلية عن الميل إلى الحالات المزاجية السلبية (الانفعالية السلبية).
«تسوء الحالات المزاجية لدى معظم النساء أثناء الدورة الشهرية.» تظهر الدراسات التي شملت عددًا من السيدات تابعن أمزجتهن عن طريق تسجيل يومياتهن أن أمزجة معظمهن لم تصبح أسوأ خلال الدورة الشهرية.
«العيش بالمجتمعات الغربية المتقدمة يبعث على التوتر أكثر من العيش في الدول المتأخرة.» ليست هناك أي أدلة منهجية تدعم هذا الرأي.
«تولي المسئولية في موقف مثير للتوتر يتسبب في الإصابة بالقرح.» يرجع هذا الادعاء الخاطئ في جزء كبير منه إلى الدراسة المعيبة التي أجراها جوزيف برادي عام ١٩٥٨ على مجموعة من القردة. فعلى عكس هذا الرأي، فإن تولي المسئولية في موقف مثير للتوتر لا يثير القلق بالقدر الذي قد يثيره الافتقار إلى السيطرة والتحكم.
«الألفة مجلبة الاستخفاف: يكره الإنسان الأشياء التي يكثر تعرضه لها.» تشير الأبحاث التي أجريت على التأثير الذي يحدثه تعرضنا للأشياء المختلفة إلى أننا نفضل المثيرات التي رأيناها من قبل أكثر من مرة عن تلك التي لم نرها.
«الخوف الشديد قد يحول لون الشعر إلى اللون الأبيض.» ليس هناك أسانيد علمية على هذا الرأي، ولا توجد أي آلية معروفة تسمح بحدوث ذلك.
«الجنس في الإعلانات يجعلها أكثر فعالية.» استخدام الجنس في الإعلانات يجذب اهتمام المشاهدين أكثر لها، ولكنه يؤدي غالبًا إلى انخفاض قدرتهم على تذكر الاسم التجاري للمنتج.
«هناك منطقة معينة داخل المهبل تسمى «جي سبوت» لدى النساء تضاعف من إثارتهن الجنسية.» لا توجد أسانيد علمية على وجود هذه المنطقة، وإن وجدت فهي قليلة.
«يفكر الرجال في الجنس مرة كل ٧ ثوانٍ في المتوسط.» هذا الزعم خرافة حضرية بدون أي سند علمي.
«الجمال في عين الرائي.» هناك نقاط كثيرة مشتركة بين الثقافات المختلفة فيما يتعلق بمعايير الجمال الحسي.
«الأشخاص الأكثر تميزًا في سمات شكلية معينة غالبًا ما يراهم الآخرون أكثر جاذبية.» الأشخاص الذين تشير الإحصاءات إلى تمتعهم بسمات شكلية متوسطة الجمال غالبًا ما يراهم الآخرون أكثر جاذبية.
«يجب ألا يمارس الرياضيون العلاقة الجنسية قبل المباريات الكبيرة.» تظهر الدراسات أن ممارسة العلاقة الجنسية تحرق فقط ٥٠ سعرًا حراريًّا في المتوسط ولا تسبب وهن العضلات.
«مشاهدة المواد الإباحية يزيد من الاتجاه العدواني لدى الشخص.» تشير معظم الدراسات إلى أن مشاهدة المواد الإباحية لا يزيد من خطورة نزوع الشخص إلى العنف إلا إذا كانت تحتوي على العنف.
«معظم الأطفال الذين يستكشف بعضهم المناطق الجنسية لدى بعض أو يمارسون العادة السرية تعرضوا للتحرش الجنسي.» لا توجد أسانيد علمية على هذا الرأي.

(٦) مصادر وقراءات مقترحة

للتعرف أكثر على هذه الخرافات وغيرها عن العاطفة والتحفيز انظر: بورنستاين (١٩٨٩)؛ كروفت وووكر (٢٠٠١)؛ آيسنك (١٩٩٠)؛ جيلبرت (٢٠٠٦)؛ هاينز (٢٠٠١)؛ أيكس (٢٠٠٣)؛ لايكن (١٩٩٨)؛ نيتل (٢٠٠٥)؛ نوريم (٢٠٠١)؛ أوكونور (٢٠٠٧)؛ رادفورد (٢٠٠٧)؛ تافريس (١٩٩٢)؛ ويجنر (٢٠٠٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤