الفصل الثامن

اعرف نفسك

خرافات عن الشخصية

(١) الخرافة رقم ٣١: تنشئة الأطفال بأسلوب متشابه يجعل شخصياتهم متشابهة عند الكبر

كيف صرت إلى ما أنت عليه الآن؟

هذا بالتحديد أهم سؤال يمكننا أن نطرحه عن الشخصية. إذا فكرت في الأمر دقائق فربما توصلت إلى مجموعة كبيرة من الأجوبة. أما إن كنت كالغالبية العظمى من الأفراد فثمة احتمال كبير أن يأتي كثير من أجوبتك مرتبطًا بالطريقة التي رباك بها أبواك؛ مثل أن تقول: «إنني على خلق لأن أبواي علماني قيمًا نبيلة.» أو أن تقول: «إنني شديد الجرأة لأن أبي أرادني أن أخوض مخاطر كثيرة في الحياة.»

ثمة بضعة معتقدات في أذهاننا عن الشخصية رسخت بقوة كذلك الذي أسمته جوديث ريتش هاريس (١٩٨٨) «فرضية التنشئة»، وهي الفكرة القائلة إن الأساليب التي يتبعها الآباء تجعل شخصيات الأطفال داخل نطاق الأسرة الواحدة أكثر شبهًا بعضهم ببعض؛ وبآبائهم وأمهاتهم (بينكر، ٢٠٠٢؛ رو، ١٩٩٤). من الأمثلة على ذلك ما قالته هيلاري كلينتون — وزيرة خارجية الولايات المتحدة والسيدة الأولى في يوم من الأيام — في كتابها «يلزم قرية» حيث تحدثت عن أن الآباء الذين يتحلون بالصدق مع أبنائهم يميلون إلى تنشئة أطفال صادقين أيضًا، والآباء الذين يعمدون إلى استخدام العنف مع أطفالهم دون داع يميلون إلى تنشئة أبناء عدوانيين، وهلم جرًّا (كلينتون، ١٩٩٦). بالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نجد هذه الفرضية في مئات الكتب والمقالات العلمية. على سبيل المثال: قدم والتر ميشل في إحدى الطبعات الأولى من كتابه المرجعي واسع الانتشار عن الشخصية نتاج تجربة فكرية:

فلنتخيل الفوارق الهائلة التي قد توجد في شخصيتي توءمين لهما صفات جينية متطابقة لو أنهما ترعرعا في أسرتين مختلفتين … فعبر التعلم الاجتماعي تنشأ بين الأفراد فوارق ضخمة في ردود أفعالهم تجاه الجزء الأكبر من المثيرات التي يمرون بها في الحياة اليومية. (ميشل، ١٩٨١، ص٣١١)

تشكل «فرضية التنشئة» بالإضافة إلى ما سبق حجر الأساس لعدد لا حصر له من النظريات التي تتخذ من التنشئة الاجتماعية من جانب الوالدين للابن قوةً دافعةً لتنمية الشخصية (لوفينجر، ١٩٨٧). يقترح سيجموند فرويد أن الطفل يكتسب حسه الخلقي (وهو ما أطلق عليه «الأنا العليا») عن طريق تشبه الابن بأبيه والبنت بأمها ودمجهما لمنظومة القيم الخاصة بالوالدين في شخصيتهما. تقول «نظرية التعلم الاجتماعي» لألبرت باندورا إننا نكتسب السلوكيات على نحو أساسي عن طريق تقليد أفعال والدينا وغيرهم من رموز السلطة. لذلك لا يمكن إنكار الحقيقة القائلة إن شخصياتنا تتقولب إلى حد بعيد بقالب التنشئة الاجتماعية الأبوية. أم ترى يمكن إنكارها؟

لا شك أن الأطفال يغلب عليهم تشابه نسبي مع آبائهم وأمهاتهم وذلك في جميع سمات الشخصية تقريبًا. لكن هذه النتيجة لا توضح أن هذا التشابه في الصفات نتج عن تشابه الظروف البيئية، لأن الآباء والأمهات البيولوجيين يتماثلون مع أطفالهم ليس في البيئة التي يعيشون فيها فحسب، بل في جيناتهم الوراثية أيضًا. لذلك لا بد لنا لإثبات صحة «فرضية التنشئة» أن نقف على وسائل منهجية لفصل الجينات الوراثية عن الظروف البيئية.

تعتمد إحدى طرق القيام بذلك على تجربة طبيعية مهمة، ففي كل حالة ولادة من بين ٢٥٠ حالة تنقسم البويضة المخصبة أو «الزيجوت» إلى نسختين يطلق عليهما التوءم المتماثل، ويطلق عليهما أيضًا التوءم «أحادي الزيجوت». يتطابق نتيجة لذلك التوءم المتماثل في الصفات الوراثية كافةً. لكن عند مقارنة شخصيتين لتوءم متماثل انفصلا منذ الولادة مع شخصيتين لتوءم متماثل تربيا معًا، يمكن للباحثين أن يضعوا تقديرًا لمدى تأثير «البيئة المشتركة»؛ أي محصلة التأثيرات البيئية التي تزيد من درجة التشابه بين أفراد الأسرة الواحدة.

درست أكبر دراسة أجريت على التوائم المتماثلين الذين تربوا منفصلين — والتي أجراها عالم النفس توماس بوشارد وزملاؤه في جامعة مينسوتا — أكثر من ٦٠ زوجًا من التوائم المتماثلة الذين انفصلوا منذ الولادة وتربوا في بيوت مختلفة. تلك الدراسة — التي أطلق عليها من قبيل الدعابة اسم دراسة «توءم مينسوتا» تيمنًا باسم فريق البيسبول بالولاية — جمعت شمل العديد من التوائم بعد بلوغ سن الرشد في مطار سانت بول بمنيابوليس لأول مرة منذ انفصالهم الذي حدث بعد أيام قليلة من لحظة الميلاد.

وجد بوشارد وزملاؤه — من بينهم أوك تليجن وديفيد لايكن — أن هؤلاء التوائم تبدو عليهم غالبًا نقاط تشابه غريبة في الشخصيات والعادات. ففي حالة لتوءم متماثل من الذكور تربى كل منهما في بلد مختلف، حرص كل منهما على دفق الماء لغسل المرحاض قبل الاستخدام وبعده، وكان كل منهما يقرأ المجلة من الخلف إلى الأمام، وكان كل منهما يستمتع بإثارة الخوف بداخل الآخرين عن طريق الاستمرار في العطس بصوت مرتفع داخل المصاعد الكهربية. وكان توءم آخر من الذكور يعيش كل منهما على بعد ٥٠ ميلًا فقط عن الآخر في نيوجيرسي ولا يعرف أي منهما ذلك. وقد اندهش الاثنان كثيرًا عندما اكتشفا أن كلًّا منهما انضم طواعيةً إلى قوات إطفاء الحرائق وأنهما من كبار محبي أفلام الغرب الأمريكي لجون وين، بل على الرغم من حبهما الكبير للجعة، فإنهما لا يشربان سوى جعة «بادوايزر» دون غيرها. وفي أثناء دراستهما الجامعية في ولايتين مختلفتين، كان أحدهما يعمل في تركيب أجهزة كشف الحرائق والآخر في تركيب أجهزة إطفاء الحرائق. وعلى الرغم من روعة هذه القصص الطريفة فإنها لا تحتوي على أدلة مقنعة. فعند النظر إلى عدد مناسب من ثنائيات الأفراد الذين لا تربطهم أي علاقة، يمكن للمرء أن يكتشف كذلك عددًا من المصادفات التي لا تقل عن تلك غرابة (وايت، بوسي، ويلكر، وسيموندز، ١٩٨٤).

والأهم من ذلك تلك النتيجة الجديرة بالملاحظة التي توصل إليها بوشارد وزملاؤه وهي أنه فيما يخص قياسات استبيان سمات الشخصية — مثل الميل إلى القلق، وخوض المخاطر، ودوافع الإنجاز، والعدائية، والتقليدية، والاندفاعية — كانت التوائم التي انفصل بعضها عن بعض عند الولادة على درجة التشابه نفسها التي كانت عليها التوائم الذين نشئوا معًا (تليجين وآخرون، ١٩٨٨). فالنشأة في أسر مختلفة تمامًا كانت ذات تأثير ضعيف أو منعدم على تشابه الشخصيات. وقد أسفرت دراسات أخرى أجريت على التوءم المتماثل الذي تربى كل منهما بعيدًا عن الآخر عن نتائج مشابهة (لوهلين، ١٩٩٢). لذلك كان والتر ميشل مخطئًا؛ وقد حذف تجربته الفكرية من النسخ التالية من مرجعه عن الشخصية.

إحدى الطرق الأخرى لفحص فرضية التنشئة تستفيد مما أسمته نانسي سيجال (١٩٩٩) «التوءم الافتراضي». ويجب ألا ننخدع بهذه التسمية لأنهما ليسا توءمًا على الإطلاق. على العكس، التوءم الافتراضي هما فردان لا علاقة لأي منهما بالآخر، تربيا في الأسرة نفسها. تشير الدراسات التي أجريت على التوءم الافتراضي إلى أن الأفراد الذين لا علاقة لأي منهم بالآخر ويتربون في المنزل نفسه تختلف شخصياتهم بعضها عن بعض على نحو غير متوقع. من أمثلة ذلك ما أظهرته إحدى الدراسات التي أجريت على أربعين من الأطفال والمراهقين من وجود تشابه ضئيل في السمات الشخصية، مثل القلق، وكذلك في الجزء الأكبر من المشكلات السلوكية في ثنائيات التوائم الافتراضية (سيجال، ١٩٩٩).

وتشير نتائج الدراسات التي أجريت على التوائم المتماثلة والتوائم الافتراضية إلى أن درجة تشابه الأفراد مع الآباء والأمهات — في الانبساط والقلق والميل إلى الشعور بالذنب وغيرها من السمات الأخرى — تنتج على نحو شبه تام عن الجينات الوراثية التي يشترك فيها هؤلاء الأفراد مع أولئك الآباء والأمهات. ويقدم هذا البحث أيضًا بعض النصائح المناقضة للبديهيات للآباء والأمهات وإلى من يحتمل أن يصبحوا آباءً وأمهات. فإذا كنت عرضة للضغط العصبي وتريد ألا يتعرض أطفالك له عندما يكبرون، فلا تفرط في القلق تجاه ذلك الأمر. إذ ليس من المحتمل أن يؤثر نمط التربية الذي تتبعه تأثيرًا طويل المدى في معدلات القلق التي يشعر بها أطفالك كما تظن.

ولا يعني ذلك نفي تأثير البيئة المشتركة فينا بالكلية؛ فمن بين أشياء كثيرة، عامةً يكون لهذه البيئة بعض التأثير في شخصياتنا، على الأقل في مرحلة الطفولة. مع ذلك تتلاشى عادةً تأثيرات البيئة المشتركة فور أن يبرح الأطفال المنزل ويشرعون في التعامل مع معلميهم وأقرانهم (هاريس، ١٩٩٨). ومن المثير للاهتمام، كما يقول بوشارد، أن هذه النتيجة تقدم مثالًا آخر على أن المعرفة الشعبية الشائعة تخطئ في هذا الأمر. فمعظم الناس يرون أن البيئات التي نعيش فيها يكون لها تأثيرات متزايدة أو متراكمة فينا مع مرور الوقت، في الوقت الذي يبدو فيه أن عكس ذلك هو الصحيح، على الأقل فيما يخص الشخصية (ميل، ٢٠٠٨).

بالإضافة إلى ذلك، يحتمل أن تخلف التربية القاصرة أو المتسمة بالإهمال تأثيرات عكسية في الحياة لاحقًا. لكن إن نظرنا في النطاق الواسع لما أسماه المحلل النفسي هاينز هارتمان (١٩٣٩) «البيئة العادية المتوقعة»، وهي البيئة التي تتوفر بها الاحتياجات الأساسية للأطفال من تغذية وحب واستثارة عقلية، فسنجد أن تأثير البيئة المشتركة في الشخصية لا يكاد يكون ملحوظًا. وأخيرًا تتأثر إحدى الصفات النفسية المهمة بالبيئة المشتركة. هذه الصفة هي السلوك المعادي للمجتمع (ويجب عدم الخلط هنا بين السلوك «المعادي للمجتمع» والسلوك «غير الاجتماعي»، الذي يعني الخجل أو الميل إلى العزلة)، ففي أغلب الأحيان توضح الدراسات التي تُجرى على الأطفال الذين يتبناهم مجرمون أن تربية الطفل عن طريق أب أو أم مجرمين تزيد احتمالات أن يصبح مجرمًا في سن البلوغ (لايكن، ١٩٩٥؛ ريي ووالدمان، ٢٠٠٢).

يسهل للغاية فهم السبب الذي من أجله تجد الغالبية العظمى من الأفراد — بمن فيهم الآباء والأمهات — فرضية التنشئة مقبولة، فنحن نلاحظ أن الآباء والأمهات وأطفالهم يغلب عليهم وجود تشابه في الشخصية، ونعزو هذا التشابه إلى شيء يمكننا أن نراه — وهو الممارسات التربوية — وليس إلى شيء لا يمكننا أن نراه، وهو الجينات الوراثية. لكننا عندما نفعل ذلك فإننا نسقط فريسةً للاستدلال القائل إن «الحدث التالي لا بد أن يكون نتيجة للحدث السابق عليه»؛ أي الافتراض الخاطئ بأنه ما دامت «أ» تأتي قبل «ب»، فإن «أ» هي السبب في «ب» (راجع المقدمة). فالحقيقة القائلة إن الممارسات التربوية تسبق تشابه الأطفال مع آبائهم وأمهاتهم لا تعني أن تلك الممارسات تتسبب في ذلك التشابه.

محو الخرافة: نظرة أكثر إمعانًا

ترتيب الميلاد والشخصية

ليس معنى النتيجة التي توصلت إليها الدراسات من أن التأثيرات البيئية المشتركة — وهي التأثيرات التي تزيد درجة التشابه بين أفراد الأسرة الواحدة — تحدث تأثيرًا ضئيلًا في السمات الشخصية لدى الكبار أن التأثيرات غير المشتركة — وهي تلك التي تسبب اختلافات بين أفراد الأسرة الواحدة — ليست ذات أهمية. في الحقيقة، توضح الدراسات أن ارتباط السمات الشخصية في أزواج التوائم المتماثلة يقل كثيرًا عن «١٫٠» (أي أقل كثيرًا من الارتباط التام)، الأمر الذي يشير إشارة قوية إلى فعالية التأثيرات البيئية غير المشتركة. مع ذلك لاقى الباحثون عناءً عظيمًا في تحديد التأثيرات البيئية المشتركة على الشخصية (ميهل، ١٩٧٨؛ تيركهايمر ووالدرون، ٢٠٠٠).

لعل ترتيب الميلاد هو أحد الأسباب المرشحة بقوة لتفسير التأثير البيئي غير المشترك في الشخصية، وهو متغير طالما حاز التفضيل في علم النفس الشعبي. فوفقًا لنتائج كتب مساعدة الذات؛ مثل كتاب «الكتاب الجديد لترتيب الميلاد: لماذا أنت على ما أنت عليه» (١٩٨٨) لكيفين ليمان، وكتاب «تأثير ترتيب الميلاد: كيف يمكنك فهم نفسك والآخرين على نحو أفضل» (٢٠٠٢) لكليف أيزاكسن وكريس راديش، فإن ترتيب الميلاد يمثل متنبئًا قويًّا بالشخصية. تؤكد لنا هذه الكتب أن أول المواليد من الأطفال يغلب عليهم الالتزام والمثالية، وأوسطهم يكون دبلوماسيًّا ومرنًا، ويكون آخرهم غير تقليدي وميال إلى المخاطرة.

وترسم الأبحاث لوحةً مختلفةً. ففي أغلب الدراسات كانت العلاقة بين ترتيب الميلاد والشخصية غير متوافقة أو غير موجودة. فعام ١٩٩٣ أنعم عالما النفس السويسريان، سيسل إرنست وجولز أنجست، النظر فيما يزيد عن ١٠٠٠ دراسة أجريت على ترتيب الميلاد والشخصية. كان الاستنتاج النهائي الذي توصلا إليه، والذي أحدث اضطرابًا واسعًا بين مؤيدي نظرية ترتيب المواليد يقول إن ترتيب الميلاد غير مرتبط بالشخصية إلى حد بعيد (إرنست وأنجست، ١٩٩٣). وفي بحث أحدث من ذلك، أجرى تايرون جيفرسون وزملاؤه فحصًا للعلاقات بين ترتيب الميلاد والأبعاد «الخمسة الكبرى» للشخصية التي تظهر من تحليلات قياسات الشخصية كلها تقريبًا. هذه السمات هي: الضمير، والانسجام مع الآخرين، والعصابية (وهي وثيقة الصلة بالميل إلى القلق)، والانفتاح على الخبرات (وثيقة الصلة بحب الاستطلاع الفكري)، والانبساط الاجتماعي. وقد وجد جيفرسون ومؤلفون مشاركون أنه ليست هناك علاقات ذات أهمية بين ترتيب الميلاد والقياسات القائمة على الإفادة الذاتية بشأن أي سمة من السمات الخمسة الكبرى من سمات الشخصية. وعندما استخدم هؤلاء العلماء تقييمات النظراء (مثل الأصدقاء وزملاء العمل)، عثروا على ارتباطات بسيطة بين ترتيب الميلاد وبضعة جوانب قليلة من الانسجام مع الآخرين والانفتاح والانبساط الاجتماعي (حيث كان المولودون لاحقًا أكثر انفتاحًا وابتكارًا وثقة بالنفس عن المولودين أولًا)، لكن هذه النتائج لم تصمد كثيرًا عند استخدام تقييمات الأزواج (جيفرسون، هيربست، وماكراي، ١٩٩٨).

انطلاقًا من تحليلات آراء العلماء في نظريات التطور مثل نظرية كوبرنيكوس التي تقول بوجود نظام شمسي مركزه الشمس، ونظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي، قال المؤرخ فرانك سولواي (١٩٩٦) إن ترتيب المواليد مؤشر لسمة التمرد، إذ يزيد احتمال أن يتشكك المولودون لاحقًا في المعارف التقليدية المعهودة (أي المعلومات التي اعتاد الناس تصديقها دون برهان) أكثر من المولودين أولًا. لكن آخرين وجدوا أن تحليلات سولواي غير مقنعة، ويرجع ذلك إلى أنه من ناحية لم يكن سولواي «جاهلًا» بترتيب الميلاد الذي وضعه العلماء عندما صنف آراءهم تجاه النظريات العلمية (هاريس، ١٩٩٨). بالإضافة إلى ذلك، لم يستطع باحثون آخرون تكرار ادعاء سولواي أن المولودين لاحقًا أكثر تمردًا من المولودين أولًا (فريز وباول وستيلمان، ١٩٩٩).

لذا قد يرتبط ترتيب المواليد بقلة من السمات الشخصية ارتباطًا ضعيفًا، إلا أنه بعيد جدًّا عن أن يكون المؤشر القوي الذي يريد علم النفس الشعبي أن يقنعنا به.

(٢) الخرافة رقم ٣٢: السمات الموروثة يستحيل تغييرها

في فيلم «أماكن تجارية» (١٩٨٣)، اختلف اثنان من رجال الأعمال الأثرياء حول كون الطبيعة (التكوين الجيني) أم التربية (البيئة) هي المسئولة عن النجاح في الحياة؟ ولتسوية هذا الخلاف رتب الاثنان أن يفقد لويس وينثورب الثالث (يجسده دان أيكرويد)، وهو موظف في شركتهما الاستثمارية، وظيفته ومنزله وأمواله وصديقته، ثم عينا مكانه بيلي راي فالنتاين. كان فالنتاين (الذي جسده إيدي ميرفي) فنانًا صعلوكًا يعيش مشردًا فمنحه رجلا الأعمال المنزل والمكانة الاجتماعية اللذين كان وينثورب يتمتع بهما فيما سبق. فلو كان نجاح الفرد يعتمد على الطبيعة التي خلق عليها، فلا بد أن يخفق فالنتاين في وظيفته الجديدة وينتهي به الحال إلى العودة إلى الشارع في الوقت الذي يجب فيه أن يتغلب وينثورب على الأزمات المؤقتة وينهض ثانيةً. يعكس الفيلم وجهة النظر السائدة في ذلك الوقت التي تذهب إلى أن وينثورب أصبح ضحيةً لظروفه الجديدة وازدهر حال فالنتاين في وضعه الجديد.

منذ عهد قريب في أوائل الثمانينيات كانت الفكرة القائلة إن الجينات يمكنها أن تلعب دورًا في تشكيل السمات البشرية أو السلوك البشري محل خلاف كبير متزايد، فقبل ما يزيد عن قرن من الزمان كان تشارلز داروين قد قدم نظريته المهمة للتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، وقبل عقدين من تاريخ الفيلم كان جيمس واطسون وفرانسيس كريك (١٩٥٣) قد اكتشفا البنية الجزيئية لجزيء الدي إن أيه (المادة الوراثية). مع ذلك رفض علماء كثيرون هذه الاكتشافات الثورية قائلين إنها لا علاقة لها بالعلوم الاجتماعية والسلوكية، فقد ظنوا ببساطة أن سلوكنا قد تشكل فقط عن طريق البيئات التي نعيش فيها والتي تمثلها المعتقدات والممارسات الثقافية، وأفراد الأسرة وغيرهم من الأفراد ذوي الأهمية في حياتنا، والحوادث والأمراض المسببة للآلام النفسية والعضوية، وما شابه ذلك. ولعل السؤال عن الطريقة التي تؤثر الطبيعة والتربية بها فينا لم يوضع قيد المناقشة، فربما تتصرف الحيوانات «الأدنى» في الترتيب وفقًا لغرائز موروثة، لكن السلوك الإنساني لم يتأثر بالجينات.

ولا شك أن كثيرًا من الأشياء قد تغير منذ ذلك الحين، فقد بات العلماء الآن على يقين تام من تأثير الجينات الوراثية في الشخصية وفي العديد من الجوانب الأخرى من السلوك الإنساني. مع ذلك لا تزال الأفكار الخاطئة المتعلقة بالانتقال الوراثي للسمات النفسية قائمةً. وربما كانت أكثر الخرافات انتشارًا هي أن السمات الموروثة لا يمكن تغييرها، وهذه رسالة قد تكون باعثة على الإحباط إن كانت صحيحة. فعلى سبيل المثال: ذكر دانيال كيفلز (١٩٨٥) في كتابه «باسم اليوجينيا: علم الوراثة واستخدامات الوراثة البشرية»، الذي حظي بإعجاب الكثيرين، أن عالم الإحصاء الشهير كارل بيرسون «أثار غضب كلٍّ من الفيزيائيين ومؤيدي الاعتدال في تناول الخمور … بإصراره الصريح على أن احتمال الإصابة بمرض السل خاضع للعوامل الوراثية، وهو ما ضرب عرض الحائط بتدابير الصحة العامة لمكافحته» (ص٦٧). بالمثل، ارتكب ريتشارد هيرنستاين وتشارلز موراي (١٩٩٤) أخطاء عديدةً في كتابهما «منحنى الجرس: الذكاء والهيكل الطبقي في الحياة الأميركية» الذي أثار جدلًا واسعًا، عندما كتبا عن الانتقال الوراثي. فقد أشارا على وجه الخصوص إلى «الحدود التي يفرضها الانتقال الوراثي على القدرة على التأثير في مستوى الذكاء» وقالا إنه «حتى الانتقال الوراثي بنسبة ٦٠٪ يترك مساحةً لتغيير كبير إن كانت التغييرات في البيئة المحيطة مكافئة في الحجم» (ص١٠٩). معنى هذه العبارة أن الانتقال الوراثي عالي النسبة لن يترك مساحةً لتغيير كبير، فقد أشار هذان المؤلفان، مثل كثيرين غيرهما، على نحو خاطئ إلى أن السمات التي ترتفع قابلية انتقالها بالوراثة يصعب تغييرها أو يستحيل تغييرها. وكما سنعرف قريبًا، فحتى إذا كانت نسبة قابلية الانتقال الوراثي ١٠٠٪، فلا يعني ذلك عدم إمكانية التغيير. ولكي نعرف السبب، يجب أن نفهم معنى الانتقال الوراثي وكيف يتناوله الباحثون.

يُعرِّف العلماء الانتقال الوراثي بأنه النسبة المئوية للاختلافات الفردية (الاختلافات بين الأفراد) في سمة ناتجة عن اختلافات جينية. ولننظر على سبيل المثال إلى سمة كسمة الانبساط، أو مدى انفتاح المرء وميله للاختلاط الاجتماعي. فإذا كانت نسبة قابلية سمة الانبساط للانتقال الوراثي هي ٠٪، فإن الاختلافات الفردية بين الأفراد الخجلى والاجتماعيين ستكون راجعةً إلى عوامل بيئية فقط، وليس إلى الجينات الوراثية. وعلى الجانب الآخر، إذا كانت نسبة قابلية الانبساط للانتقال الوراثي هي ١٠٠٪، فإن جميع الاختلافات في هذه السمة ستكون الجينات الوراثية هي السبب فيها وليس العوامل البيئية. وقد تبين أن نسبة قابلية الانبساط للانتقال الوراثي هي ٥٠٪ وذلك كغالبية السمات الأخرى للشخصية (بلومين وريندا، ١٩٩١). لكن ما الذي يعنيه أن نقول إن شيئًا ما قابلٌ للانتقال الوراثي على نحو جزئي؟ من المهم للغاية، للإجابة عن ذلك السؤال، النظر في جانبين لمفهوم الانتقال الوراثي الذي يبدو بسيطًا ولكنه خادع.
  • أولًا: على عكس ما يظنه كثير من الناس، الانتقال الوراثي يُعنى في المقام الأول بالاختلافات بين الأفراد، وليس داخل الفرد. حتى تشارلز موراي، المؤلف المشارك لكتاب «منحنى الجرس»، عبر عن ذلك الفهم الخاطئ أيضًا في حوار له مع قناة سي إن إن عام ١٩٩٥ عندما قال: «عندما أقول — أو نقول — انتقال وراثي بنسبة ٦٠٪، فلا تشير تلك النسبة إلى ٦٠٪ من الاختلاف. إنها نسبة ٦٠٪ من معدل الذكاء لأي شخص» (مقتبس من بلوك، ١٩٩٥، ص١٠٨). لكن الانتقال الوراثي ليس له معنى داخل «شخص بعينه». فمهما يكن معدل الذكاء الخاص بك فلا يمكنك أن تقول إنك حصلت على ٦٠٪ منه من جيناتك الوراثية وعلى ٤٠٪ أخرى من البيئة المحيطة. وعوضًا عن ذلك، فهذه النسبة الإحصائية معناها أنه بين جموع الأفراد في قطاع ما من السكان ترجع ٦٠٪ من اختلافاتهم في معدل الذكاء إلى الاختلافات في الجينات الوراثية فيما ترجع ٤٠٪ من اختلافاتهم إلى البيئات التي يعيشون فيها.
  • ثانيًا: الانتقال الوراثي يعتمد على المجموعات المتنوعة من الاختلافات الجينية والبيئية في إحدى العينات. فعند دراسة سلوك الكائنات الحية المتطابقة في الجينات الوراثية التي تربت في ظروف مختلفة، وجد أن نسبة الانتقال الوراثي تساوي ٠٪، فنظرًا لغياب التنوع الوراثي بين الكائنات في هذه الحالة، فإن الاختلافات البيئية هي وحدها التي يمكن أن تمارس أي تأثير عليها. ويحاول العلماء أحيانًا الوصول بالاختلافات الوراثية في السلوك إلى الحد الأدنى عن طريق إجراء التجارب على سلالات من الفئران البيضاء جرى تربيتها تربية خاصة وتتطابق جيناتها الوراثية تطابقًا شبه تام. وعن طريق إزالة جميع أشكال التباين الوراثي تقريبًا، يسهل رصد تأثيرات عمليات المعالجة التجريبية. وعلى النقيض من ذلك، عند دراسة سلوك الكائنات الحية المتباينة في جيناتها الوراثية في ظل الظروف المعملية نفسها، تكون النسبة المئوية للانتقال الوراثي هي ١٠٠٪. فنظرًا لغياب التنوع البيئي في هذه الحالة، فإن الاختلافات الوراثية فقط هي التي يمكنها أن تمارس تأثيرًا. ويمكن للعلماء الذين يقارنون نتاج أصناف البذور المتباينة جينيًّا أن يزرعوا تلك البذور في تربة ودرجة حرارة وظروف إضاءة متطابقة تمامًا؛ وذلك لإزالة جميع التأثيرات البيئية تقريبًا. من هنا، إن أردنا دراسة قابلية السمات النفسية للتوارث، يجب أن تشمل تلك الدراسة مجموعة عريضة من البيئات والجينات الوراثية.

كيف يحسب العلماء قابلية الانتقال الوراثي إذن؟ ليس الأمر ببساطة البحث عن أوجه التشابه بين أفراد الأسر الكاملة، لأن هذا الأسلوب يخلط بين تأثير كل من الجينات الوراثية والبيئة؛ فالأطفال لا يشتركون مع إخوانهم وأخواتهم وآبائهم وأمهاتهم وغير أولئك من الأقارب البيولوجيين في الجينات الوراثية فقط، بل يشاركونهم أيضًا في جوانب عديدة من بيئتهم. وتكمن المشكلة في تصميم دراسة تتنوع فيها الجينات والظروف البيئية على نحو منهجي وكل منهما منفصل عن الآخر. من أمثلة ذلك أنه في الغالبية العظمى من دراسات التوائم يختبر الباحثون أوجه تشابه بين الإخوة والأخوات الذين ولدوا من رحم واحد وفي توقيت واحد، والذين يعيشون في المنزل نفسه. إنهم تحديدًا يقارنون درجة تشابه التوءمين المتماثلين اللذين يشتركان في ١٠٠٪ من الجينات الوراثية، ودرجة تشابه التوءمين المتآخيين اللذين يشتركان في ٥٠٪ من الجينات الوراثية في المتوسط (انظر الخرافة رقم ٣١). وعادة ًكان كل من التوءمين المتماثلين والتوءمين المتآخيين يشتركان إلى درجة مقاربة في الجوانب البيئية ذات الصلة بأسباب السمات الشخصية. لذلك يمكننا أن نتعامل مع التأثيرات البيئية على أنها شبه متساوية في كل نوع من التوائم وأن نبحث في الاختلافات الناتجة عن الجينات الوراثية المشتركة. فإذا كان التوءم المتماثل أكثر تشابهًا في إحدى السمات الشخصية عن التوءم المتآخي، فهذه النتيجة تشير إلى أن هذه السمة هي على أقل الفروض سمة قابلة للانتقال الوراثي؛ وكلما زاد الاختلاف بين التوءم المتماثل والتوءم المتآخي زادت قابلية الانتقال الوراثي.

اتفق الباحثون في النتائج التي توصلوا إليها باستخدام دراسات التوائم وغيرها من الأبحاث المصممة لاستقاء المعلومات على وجود قابلية معتدلة للتوارث لبعض سمات الشخصية؛ كالانبساط (كون المرء اجتماعيًّا)، والضمير، والميل للاندفاع والتهور، إضافة إلى القدرة المعرفية وقابلية الإصابة بالأمراض النفسية (بلومين ورندي، ١٩٩١). وحتى المواقف التي يتبناها الناس تجاه القضايا السياسية كالإجهاض، وتجاه بعض الاتجاهات الأيديولوجية كالفكر الليبرالي أو المحافظ، قابلة للتوارث، وهي في ذلك أكثر قابلية من الانتماء مثلًا لأي من الحزبين السياسيين الديمقراطي أو الجمهوري (ألفورد، فانك، وهيبينج، ٢٠٠٥). وأعادت جوديث ريتش هاريس (١٩٩٥) النظر في الدلائل التي تشير إلى أن جزءًا من الاختلافات بين الأفراد في سمات الشخصية ذات المنشأ البيئي ليست لها علاقة قوية بالعوامل البيئية المشتركة، كالتربية المتشابهة التي يمارسها الآباء، وأنها أكثر ارتباطًا بالعوامل البيئية غير المشتركة، مثل اختلاف درجة اتصال الفرد بأقرانه (انظر الخرافة رقم ٣١).

اختلف العلماء تحديدًا حول قابلية الانتقال الوراثي للذكاء. ففي بداية التسعينيات كان هناك اتفاق قوي على أن معدل الذكاء قابل للانتقال الوراثي، لكن تقديرات درجة ذلك الانتقال تراوحت من ٤٠٪ إلى ٨٠٪ (جوتفريدسون، ١٩٩٧)، فما السبب وراء اتساع هذا االنطاق؟ يمكن أن تؤثر عوامل عديدة في اختلاف تقديرات الدراسات لقابلية التوارث، مثل الحالة الاقتصادية الاجتماعية أو العمر. ففي عينة من أطفال في السابعة من عمرهم وجد إريك توركهايمر وزملاؤه أن قابلية التوارث كانت ١٠٪ فقط بين أفقر الأسر، لكنها كانت ٧٢٪ بين الأسر الأكثر ثراءً (توركهايمر، هالي، والدرون، دونوفريو، وجوتسمان، ٢٠٠٣). وقد وجد باحثون آخرون أن قابلية توارث معدل الذكاء تزيد كلما زاد العمر (بلومين وسبيناث، ٢٠٠٤)، فمع بلوغنا سن الرشد، تكون لسماتنا وميولنا الموروثة تأثير متزايد على البيئات التي نعيش فيها. تحدث هذه الظاهرة بتفاعل من جانبنا؛ إذ نحدد البيئات الخاصة بنا ونشكلها، ودون تفاعل، كما يحدث عندما يعاملنا الناس بأساليب مختلفة. والنتيجة النهائية هي أن سماتنا الموروثة يكون لها تأثير أعظم في نمو ذكائنا مع مرور الوقت. لذلك تنخفض تقديرات قابلية معدل الذكاء للتوارث بينما يشكل آباؤنا وأمهاتنا البيئات التي نعيش فيها، لكنها قد تزيد لتصل إلى ٨٠٪ عندما نصل إلى مرحلة البلوغ.

وكما توضح الأمثلة السابقة، فحتى المؤلفون واسعو الاطلاع أخطئوا في فهم معنى قابلية التوارث. والأكثر أهمية من ذلك أن قابلية توارث سمة كمعدل الذكاء لا تعني أننا لا يمكننا تغييرها (جوتفريدسون، ١٩٩٧). فلا تعني قابلية التوارث العالية سوى أن البيئات «الحالية» تمارس تأثيرًا ضئيلًا على الاختلافات الفردية في إحدى السمات، لكنها لا تثبت أي شيء عن التأثيرات المحتملة للبيئات «الجديدة»، كما أنها لا تعني أننا لا يمكننا أن ننجح في علاج أحد الاضطرابات. فعلى سبيل المثال: يمثل مرض الفينيل كيتون حالة مرضية وراثية مائة في المائة تؤدي إلى العجز عن هضم (تكسير) الحمض الأميني فينيل ألانين. ويمكن أن تؤدي هذه الحالة إلى مشكلات لا يمكن علاجها في نمو المخ، كالتخلف العقلي. والمنتجات التي تحتوي على مادة الفينيل ألانين — التي تشمل أي شيء مصنوع عن طريق المُحَلِّي الاصطناعي «الأسبارتام» (وأسماؤها التجارية هي «إيكوال» و«نوتراسويت») — يوجد على العبوات الخاصة بها تحذير لمرضى الفينيل كيتون، ولك أن تفحص ظهر أي عبوة مياه غازية لمتبعي الأنظمة الغذائية لترى بنفسك ما نقصده. فيمكن لمرضى الفينيل كيتون عن طريق إخلاء وجباتهم من الفينيل ألانين أن يتجنبوا تأثيرات مضرة. لذلك لا تعني حقيقة أن مرض الفينيل كيتون هو مرض وراثي مائة في المائة أننا لا يمكننا أن نغيره، بل يمكننا ذلك.

بالمثل، يمكن للبيئة الغنية أن تزيد نمو القدرة العقلية حتى وإن كان معدل الذكاء سمة موروثة إلى حد بعيد. ففي الواقع، إذا أخبرتنا الأبحاث بمواصفات بيئة التعلم المثالية ووفرنا نحن بدورنا هذه البيئة لجميع الأطفال على حد سواء في إحدى الدراسات، فإن قابلية توارث معدل الذكاء هي ١٠٠٪؛ إذ إن التباين الوراثي وحده هو ما سيتبقى. لذلك فالجانب الجيد من الأمر يكمن في أنه لا داعي لأن نقلق تجاه قابلية التوارث العالية، فهي لا تعني بأي حال من الأحوال أننا لا يمكننا تغيير إحدى السمات، بل إنها على العكس تشير إلى أننا قد أحرزنا تقدمًا لا بأس به في تحسين البيئات السيئة. ومن يدري؛ ربما استخدمنا تقديرات قابلية التوارث خلال بضعة عقود في قياس نجاح برامجنا!

(٣) الخرافة رقم ٣٣: تدني تقدير الذات سبب رئيسي للمشكلات النفسية

في صباح يوم ٢٠ أبريل (نيسان) عام ١٩٩٩ — الذي ربما لم تكن مصادفةً أن يوافق عيد الميلاد العاشر بعد المائة لأدولف هتلر — ارتدى طالبان في سن المراهقة معطفين أسودين وسارا في هدوء إلى مدرسة كولومباين الثانوية في ليتلتون بكولورادو. وعلى الرغم من أن أحدًا لم يكن قد سمع قط بإريك هاريس وديلان كليبولد قبل صباح ذلك اليوم، فقد أصبح الاثنان في نهاية اليوم نفسه مدار حديث الجميع في أرجاء الولايات المتحدة. فبعد أن تسلح الاثنان بمجموعة متنوعة من البنادق والبارود أخذا يعدوان خلف ١٢ طالبًا ومدرسًا ليقتلاهم جميعًا متلذذين بذلك، قبل أن يقتلا أنفسهما.

وما إن وقعت فاجعة كولومباين حتى هرع فوج من خبراء الصحة العقلية والمعلقين الاجتماعيين إلى وسائل الإعلام المختلفة للتكهن بأسباب هذه الكارثة. ومع أن هؤلاء الخبراء قد ذكروا الكثير من التأثيرات الممكنة فقد ظهر أحد التأثيرات بوصفه الأقوى على الإطلاق؛ إنه تدني تقدير الذات. كانت الآراء التي عرضت على أحد مواقع الإنترنت مطابقة لذلك تمامًا:
حادثة إطلاق النار التي وقعت في مدرسة كولومباين وغيرها من المدارس في أنحاء الولايات المتحدة تستأنف نمطًا مروعًا يطلق فيه صبية النار على صبية مثلهم … ورغم أهمية إبعاد الأسلحة عن متناول أيدي أبنائنا، فإن تلقينهم تقدير الذات وتقدير الغير أكثر أهمية (www.axelroadlearning.com/teenvaluestudy.htm).

فسر آخرون الوباء الجديد المزعوم المتمثل في عمليات إطلاق النار داخل المدارس في أنحاء الولايات المتحدة على أنه تدنٍّ ملحوظ في تقدير الذات عند الأطفال (وقد استخدمنا كلمة «مزعوم» لأن ادعاء أن عمليات إطلاق النار داخل المدارس قد باتت أكثر شيوعًا هو نفسه خرافة كبيرة؛ كورنيل، ٢٠٠٦). ولم تلق آراء مجموعة خبراء الصحة النفسية الذين شككوا علانيةً في صحة هذا الرأي الذائع استحسانًا. ففي أحد البرامج الحوارية الذي كان يبث في التسعينيات حاولت عالمة نفس في صبر أن توضح الأسباب العديدة التي تقف خلف عنف الأطفال. لكن أحد المنتجين المساعدين — الذي رأى أن الحجج التي تعرضها عالمة النفس كانت معقدةً أكثر مما ينبغي — لوح لها بغضب شديد بلافتة كبيرة مكتوب عليها «تقدير الذات» (كولفين، ٢٠٠٠).

في الحقيقة، كان كثير من علماء النفس المشهورين يؤكدون لفترة طويلة أن تدني تقدير الذات هو المتسبب الأول في خلق كثير من السلوكيات غير الصحية، بما في ذلك العنف والاكتئاب والقلق وإدمان الكحوليات، فمنذ كتاب نورمان فنسنت بيل الرائع «قوة التفكير الإيجابي»، أصبحت كتب مساعدة الذات التي تنادي بفضائل تقدير الذات دائمة الحضور في محلات بيع الكتب. ويصر ناثانيل براندن، أحد خبراء تقدير الذات، في كتابه الأكثر مبيعًا «الأعمدة الستة لتقدير الذات» على أن المرء:

لا يستطيع أن يجد مشكلة نفسية واحدة — من القلق والاكتئاب، إلى الخوف من العلاقة الحميمية أو من النجاح، وكذلك ضرب الزوج أو الزوجة والاعتداء الجنسي على الأطفال — لا يعود أصلها إلى مشكلة تدني تقدير الذات. (براندن، ١٩٩٤)

وتدعي الجمعية الوطنية لتقدير الذات بالمثل أنه:

ثمة علاقة وثيقة بين تدني تقدير الذات ومشكلات معينة مثل العنف وإدمان الكحوليات والمخدرات، واضطرابات الأكل، والتوقف عن الدراسة، وحمل المراهقات، والانتحار، وتدني مستوى الإنجاز الأكاديمي. (ريزونر، ٢٠٠٠)

كان للفكرة القائلة إن تدني تقدير الذات يضر بالصحة النفسية تأثير في السياسة العامة، فقد مولت كاليفورنيا عام ١٩٨٦ صندوقًا للإنفاق على فريق مهام لتقدير الذات والمسئولية الشخصية والاجتماعية بتكلفة وصلت إلى ٢٤٥٠٠٠ دولار سنويًّا. كان هدف الفريق هو فحص العواقب السلبية لتدني تقدير الذات وأن يجد وسائل لعلاج تلك العواقب. وكان المقترح الأول لفكرة تكوين هذا الفريق رجل البرلمان الكاليفورني جون فاسكونسيلوس، الذي نادى بأن النهوض بدرجة تقدير الذات لدى مواطني كاليفورنيا من شأنه أن يساعد على إعادة الاتزان لموازنة الولاية (دوز، ١٩٩٤).

وقد شقت حركة تقدير الذات طريقها فصارت من الممارسات التعليمية والمهنية الرسمية. فالعديد من المعلمين يطلبون من التلاميذ وضع قوائم بالأشياء التي تجعلهم أفرادًا صالحين أملًا في دعم شعور تلاميذهم بالأهمية. وبالمثل، تمنح بعض الدوريات الرياضية ميداليات تذكارية لكل أطفال المدارس تجنبًا لإشعار المنافسين الخاسرين بالدونية (سومرز وساتل، ٢٠٠٥). وقد حظرت إحدى المدارس الابتدائية في سانتا مونيكا بكاليفورنيا على الأطفال ممارسة لعبة «المطاردة واللمس» لأن «الأطفال لا يشعرون بالارتياح تجاهها» (فوجل، ٢٠٠٢). كذلك أطلقت بعض المدارس على الأطفال الذين يعانون صعوبات في التهجي اسم «المتهجِّين الفرديين» لكي يتجنبوا جرح مشاعر هؤلاء الأطفال (ساليرنو، ٢٠٠٩). بالإضافة إلى ذلك، شرع عدد من الشركات الأمريكية في تبني فكرة تقدير الذات، فقد عينت شركة سكوتر ستور في نيوبراونفيلز بتكساس «مساعد احتفالات» وعهدت إليه بتقديم ٢٥ رطلًا من الحلويات كل أسبوع إلى الموظفين في محاولة من الشركة للارتقاء بشعور هؤلاء الموظفين بقيمتهم. وبالمثل، أنشأت شركة كونتينر ستور «صناديق بريد صوتي للاحتفالات» تستخدمها في إسداء المديح المتواصل للعاملين بها (زاسلو، ٢٠٠٧).

بالإضافة إلى ذلك، تعج شبكة الإنترنت بالكتب التعليمية والمنتجات المخصصة لتعزيز تقدير الأطفال لذواتهم. ويحتوي أحد هذه الكتب وهو «ألعاب تقدير الذات» (شير، ١٩٩٨)، على ٣٠٠ نشاط الهدف منها مساعدة الأطفال على الوصول إلى الشعور بالرضا عن أنفسهم، ومن هذه الأنشطة تكرار التأكيدات الإيجابية التي تبرز تفردهم. ويشجع أحد هذه الكتب أيضًا وهو «٥٠١ طريقة للارتقاء بتقدير طفلك لذاته» (رامزي، ٢٠٠٢)، الآباء والأمهات على منح أطفالهم مساحة أكبر للتعبير عن الرأي في القرارات التي تخص الأسرة، مثل السماح لهم باختيار طريقة معاقبتهم. يمكن لأحدهم طلب «مكتب أسئلة عن تقدير الذات» مكون من بطاقات تحتوي على أسئلة موضوعة للتذكير بالإنجازات مثل: «ما الهدف الذي حققته فعلًا؟» و«ما التكريم الذي حصلت عليه في الماضي ويمنحك شعورًا بالفخر؟» أو يمكن لأحدهم شراء طبق وجبات حبوب خاص بتقدير الذات مزين بتأكيدات إيجابية مثل: «أنا موهوب!» و«أنا حسن المظهر!»

لكن دائمًا تكون هناك تفصيلة صغيرة تفسد الأمر كله، فالغالبية العظمى من الأبحاث تبين أن تدني تقدير الذات لا يرتبط ارتباطًا قويًّا بالصحة النفسية المتدنية. وقد ناقش كل من روي باومايستر وجنيفر كامبل وجواكيم كروجر وكاثلين فون (٢٠٠٣) في بحث نقدي مجهد — ولعله مؤلم أيضًا — جميع الأدلة المتوفرة التي قد تزيد عن ١٥٠٠٠ دراسة مستقلة، رابطين بين تقدير الذات وجميع المتغيرات النفسية التي يمكن تصورها تقريبًا. وعلى عكس الادعاءات المنتشرة، وجد هؤلاء العلماء أن تقدير الذات يرتبط ارتباطًا ضئيلًا بالنجاح في التعاملات الشخصية، ووجدوا أيضًا أنه لا يرتبط دائمًا بالتدخين وإدمان الكحوليات أو المخدرات. وقد اكتشف هؤلاء العلماء بالإضافة إلى ذلك أنه على الرغم من أن تقدير الذات يرتبط ارتباطًا إيجابيًّا بالأداء المدرسي، فإنه لا يبدو سببًا فيه (ميرسر، ٢٠١٠)، وعوضًا عن ذلك، يبدو أن الأداء المدرسي الأفضل يسهم في ارتفاع درجة تقدير الذات (باومايستر وآخرون، ٢٠٠٣). وأغلب الظن أن بعض الباحثين القدامى قد أخطئوا تفسير العلاقة القائمة بين تقدير الذات والأداء المدرسي بوصفه نتيجة مباشرة لتقدير الذات (راجع المقدمة). بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن تقدير الذات يرتبط بالاكتئاب فإن هذا الارتباط يكون محدودًا (جوينر، ألفانو، وميتالسكاي، ١٩٩٢)؛ نتيجة لذلك «لا يعد تدني تقدير الذات شرطًا ضروريًّا ولا حتى كافيًا للإصابة بالاكتئاب» (باومايستر وآخرون، ٢٠٠٣، ص٦).

مع ذلك، ليس هناك داع لأن يصاب القراء الذين يتمتعون بدرجات عالية من تقدير الذات باليأس، فيبدو أن تقدير الذات يمكن أن يؤدي إلى فائدتين (باومايستر وآخرون، ٢٠٠٣)، ونقول «يبدو» لأن النتائج مرتبطة بالكاد بعضها ببعض وقد لا تكون سببية (راجع المقدمة)، فلا شك أن تقدير الذات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدرجات أكبر من: (١) المبادرة والإصرار؛ أي الرغبة في الاضطلاع بالمهام والإصرار على تنفيذها عندما تظهر الصعوبات، و(٢) المرونة العاطفية والسعادة.

يرتبط تقدير الذات كذلك بميل إلى رؤية الذات على نحو أكثر إيجابيةً مما يراه الآخرون؛ فدائمًا ينظر الأفراد الذين يحملون درجات عالية من تقدير الذات إلى أنفسهم على أنهم أكثر ذكاءً وجاذبيةً وشعبيةً من غيرهم من الأفراد. لكن هذه مفاهيم واهمة؛ فالأفراد الذين يحملون درجات عالية من تقدير الذات لا يحصلون على درجات أعلى من غيرهم من الأفراد في القياسات الموضوعية للذكاء والجاذبية والشعبية (باومايستر وآخرون، ٢٠٠٣).

وعند الحديث عن العنف تزداد الأمور تعقيدًا؛ فهناك أدلة على أن تدني تقدير الذات يرتبط بزيادة احتمال اللجوء للعنف البدني وخرق القوانين (دونيلان، ترزيسنيفسكي، روبينز، موفيت، وكاسبي، ٢٠٠٥). مع ذلك، لا تحمي الدرجات العالية من تقدير الذات الأفراد من العنف. فعلى النقيض، قد تكون مجموعة فرعية من الأفراد أصحاب الدرجات «العالية» من تقدير الذات — خاصةً أولئك الأشخاص الذين لا يتسم تقديرهم لذواتهم بالثبات — أكثر ميلًا إلى العنف البدني (باومايستر، ٢٠٠١)، فمثل هؤلاء الأفراد تغلب عليهم النرجسية ويظنون أنهم يستحقون مزايا خاصة، أو ما يسمى «حقوقًا» نرجسية. وعند مواجهة تحدي لقيمتهم المدركة، أو ما يصطلح علماء النفس المعالجون على تسميته «الجرح النرجسي»، يكونون ميالين إلى الهجوم على الآخرين.

من المثير للاهتمام أن هاريس وكليبولد لم يكن بهما أي سوء غير أنهما افتقدا الثقة بالنفس. كان كل منهما قد استهوته النازية واستولت عليهما خيالات السيطرة على العالم. وقد أوضحت مذكرات هاريس أنه كان يرى نفسه أفضل أخلاقيًّا من غيره، وكان يستخف بالغالبية العظمى من زملائه. وكان هاريس وكليبولد يستثيرهما زملاؤهما في حجرة الدراسة مرارًا، وافترض الجزء الأكبر من المعلقين أن هذه المعاملة السيئة قد أدت إلى تدني تقدير الذات عند هاريس وكليبولد مما زاد احتمالات لجوئهما إلى العنف. وربما وقع هؤلاء المعلقون فريسةً لمنطق: «الحدث التالي لا بد أن يكون بسبب الحدث الأول» (راجع المقدمة) الذي قد يكون مصدرًا رئيسيًّا لخرافة تدني تقدير الذات. وعلى الرغم من الإغراء الشديد فلا يمكننا أن نستنتج أنه نظرًا لأن العنف قد سبقته استثارة، فهذه الاستثارة هي بالضرورة ما تسبب به. وبدلًا من ذلك، ربما يكون تقدير هاريس وكليبولد «العالي» لذاتيهما قد أدى بهما إلى أن يفهما سخرية زملائهما في الفصل على أنها تهديد لإحساسهما المفرط بالأهمية، مما دفعهما للانتقام.

في سلسلة من التجارب البارعة طلب براد بوشمان بالتعاون مع باومايستر من المشاركين أن يكتبوا مقالات يعبرون فيها عن آرائهم في الإجهاض (انظر أيضًا الخرافة رقم ٣٠). وقَيَّمَ باحث مساعد ادعى أنه أحد المشاركين كل مقال. والأمر الذي كان يجهله المشاركون أن هذا التقييم كان خدعةً كبيرة. ففي الحقيقة، كان بوشمان وباومايستر يقصدان أن تأتي تعليقاتهما إيجابية («مقال عظيم؛ لا ملحوظة واحدة!») على نحو عشوائي لنصف المشاركين، وأن يتلقى النصف الآخر تعليقات سلبية («هذا واحد من أسوأ المقالات التي قرأتها في حياتي!») بعد ذلك انخرط المشاركون في «منافسة» مختلقة سمحت لهم بالثأر من مقيِّم مقالاتهم بموجة عاتية وعالية من الضوضاء. وقد جاء رد فعل النرجسيين من المشاركين على التقييمات السلبية في صورة هجوم ضار على خصومهم في شكل أصوات أكثر ارتفاعًا من أصوات غيرهم من المشاركين. أما المقالات ذات التعليقات الإيجابية فلم تؤدِّ إلى أي من تلك النتائج (بوشمان وباومايستر، ١٩٩٨).

ويتفق مع هذه النتائج أن المتنمرين وبعض الأطفال العدوانيين يغلب عليهم امتلاك مفاهيم مفرطة في الإيجابية عن الطريقة التي يراهم الآخرون بها (باومايستر وآخرون، ٢٠٠٣). وقد طلب كريستوفر باري من الأطفال العدوانيين وغير العدوانيين أن يضعوا تقييمًا لشعبيتهم بين زملائهم، وقارن تقييمات هؤلاء الأطفال بالتقييمات الفعلية للشعبية التي حصل عليها من زملائهم. كان الطلاب العدوانيون أكثر ميلًا من الطلاب غير العدوانيين إلى المبالغة في تقييم شعبيتهم، وقد سهلت ملاحظة ذلك الميل على نحو خاص لدى الأطفال ذوي الطبيعة النرجسية (باري، فريك، وكيليان، ٢٠٠٣؛ إيملر، ٢٠٠١).

ولعل ما تحمله هذه النتائج من دلالات يدعو إلى القلق، خاصةً فيما يتعلق بشعبية برامج تقدير الذات الموجهة للمراهقين المعرضين للخطر. وتوصي الجمعية الوطنية لتقدير الذات بثلاثة عشر برنامجًا — يندرج العديد منها تحت مظلة «برامج التعليم الوجداني» — وضعت لدعم تقدير الذات لدى الصغار الذين يعانون الاضطراب (http://www.self-esteem-nase.org/edu.php). بالإضافة إلى ذلك، طور عديد من السجون برامج تقدير الذات لتقليل الإهانة المتكررة. ويشير البحث الذي عرضنا له إلى أن هذه البرامج يمكن أن تؤدي إلى عواقب سلبية، خاصةً بين المشاركين الذين يزيد احتمال تحولهم إلى العنف. لقد كان الشيء الوحيد الذي لم يكن إريك هاريس وديلان كليبولد يفتقران إليه هو تقدير الذات الزائد.

(٤) الخرافة رقم ٣٤: يعاني معظم الأفراد الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي في طفولتهم اضطرابات حادة في الشخصية عند البلوغ

«جرح سيلازمني طيلة حياتي.» تظهر عبارات مثل تلك في سلسلة تبدو لانهائية من كتب علم النفس الشعبي لتشير إلى ضحايا الاعتداء الجنسي. وتعج كتب مساعدة الذات بالادعاءات التي تقول إن الاعتداء الجنسي يُحدث تغيرات دائمة في الشخصية، منها جراح نفسية عميقة. وتتحدث كتب أخرى في علم النفس الشعبي عن «دورة الاعتداء الجنسي على الأطفال»، ككتاب «حالة طوارئ أخلاقية» للكاتبة جيد آنجليكا (١٩٩٣). ووفقًا لهذه الكتب يتحول كثير من الأفراد الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي أو غالبيتهم إلى معتدين بدورهم. وتذهب بعض كتب مساعدة الذات إلى أبعد من ذلك مشيرةً إلى أن الاعتداء الجنسي يخلف وراءه «صورة متفردة للشخصية». وتدني الثقة بالنفس ومشكلات العلاقات الحميمية وعدم الرغبة في الارتباط بالآخرين في العلاقات والمخاوف من الجنس، جميعها من بين الأعراض المتعارف عليها للاعتداء الجنسي (برادشو، ١٩٩١؛ فريدريكسون، ١٩٩٢).

إن التغيرات العميقة في الشخصية التي يتسبب فيها الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة حقائق بديهية في أوساط عديدة لعلم النفس الشعبي. ويذهب أحد المقالات الشهيرة (ميجان، ١٩٩٧) إلى التأكيد على أن «الخبراء يقولون إن آثار الاعتداء الجنسي مثل الندوب؛ لا تزول مطلقًا، وتستمر في التأثير في الضحايا بطرق شتى، كالإسهام في إدمان الكحول والمخدرات وتدني تقدير الذات والطلاق وانعدام الثقة.» أو لنلق نظرةً على كتاب «شجاعة الشفاء»، وهو أحد كتب مساعدة الذات للكاتبتين إلين باس ولورا ديفيز وقد بيع منه أكثر من ميلون نسخة. تخبر المؤلفتان القراء بما يلي:

يمكن أن تكون الآثار طويلة الأجل للاعتداء الجنسي على الأطفال شديدة التغلغل في النفس، حتى إنه في بعض الأحيان يصعب تحديد الشكل الذي يؤثر به ذلك الاعتداء فيك بدقة، فذلك الاعتداء يتغلغل في كل شيء: إحساسك بذاتك، وعلاقاتك الحميمية، وحياتك الجنسية، وطريقتك في تربية الأطفال، وحياتك العملية، وكذلك صحتك العقلية. فأينما وليت وجهك رأيت آثاره. (باس وديفيز، ١٩٨٨، ص٣٧)

بالإضافة إلى ذلك، تصور أعداد كبيرة من أفلام هوليوود، ومنها «راعي بقر منتصف الليل» (١٩٦٩)، و«اللون الأرجواني» (١٩٨٥)، و«فورست جامب» (١٩٩٤)، و«أنتوني فيشر» (٢٠٠٢)، و«النهر الغامض» (٢٠٠٣)، تصويرًا قويًّا عددًا من الشخصيات الراشدة التي مرت بتغييرات طويلة المدى في الشخصية في أعقاب تعرضها للاعتداء الجنسي في الطفولة.

لا عجب أن العديد من العوام يعتقدون في رسوخ الارتباط الوثيق بين الاعتداء الجنسي على الأطفال والتغيرات التي تطرأ على شخصياتهم. ففي إحدى الدراسات التي أجريت على ٢٤٦ من مواطني المناطق الريفية من ولاية أوريجون، عبّر ٦٨٪ من الذكور و٧٤٪ من الإناث عن وجهة نظر تقول إن الاعتداء الجنسي على الأطفال تنتج عنه دائمًا تغيرات سلوكية واضحة (كالفيرت، ومونسي-بنسون، ١٩٩٩).

لا شك في أن الاعتداء الجنسي على الأطفال، لا سيما عندما يكون مفرطًا، يمكن أن يخلف آثارًا ضارة (نيلسون وآخرون، ٢٠٠٢)، مع ذلك فالنتيجة الأكثر تأثيرًا من بين المادة العلمية البحثية المتوفرة عن العواقب طويلة الأجل للاعتداء الجنسي على الأطفال هي غياب النتائج. فقد أشارت أبحاث لا حصر لها إلى أن رد الفعل المعتاد تجاه حادثة اعتداء جنسي في الطفولة هو اكتساب قدرة تجاوز الأزمات لا الإصابة بالأمراض النفسية (انظر أيضًا، «محو الخرافة: نظرة أكثر إمعانًا»).

أجرى بروس ريند وزملاؤه عام ١٩٩٨ تحليلًا مقارنًا للمواد البحثية المتوفرة عن تداعيات الاعتداء الجنسي على الأطفال بين طلاب الجامعة. وكانوا قد أجروا في وقت سابق لذلك تحليلًا مشابهًا باستخدام عينات مجتمعية أسفر عن نتائج شبه مطابقة (ريند وتروموفيتش، ١٩٩٧). وقد نشرت مقالتهم لعام ١٩٩٨ في دورية «النشرة النفسية» التي تصدرها «جمعية علم النفس الأمريكية»، وهي إحدى الدوريات الرئيسية في علم النفس. ولمّا كانت مقالة ريند وزملائه تعج عن آخرها بجداول عدديَّة شديدة التفصيل فضلًا عن التفاصيل التقنية للتحاليل الإحصائية، بدا من غير المحتمل أن تتسبب المقالة في عاصفة سياسية قومية. ولم يعرف ريند وزملاؤه ما كان مخبأً لهم.

أورد ريند وزملاؤه أن الارتباط بين تاريخ من الاعتداء الجنسي على الأطفال يفيد به من تعرضوا للاعتداء أنفسهم وبين ١٨ شكلًا من أشكال الاضطراب النفسي لدى البالغين — بما في ذلك الاكتئاب والقلق واضطرابات الأكل — كان ضئيلًا للغاية (ريند، تروموفيتش، بوسرمان، ١٩٩٨). فقد كان متوسط الارتباط بين المتغيرين هو «٠٫٠٩» فقط، وهو ارتباط يقترب من الصفر. بالإضافة إلى ذلك، وجد أن تاريخًا لبيئة أسرية مناوئة، مثل منزل تعصف به الخلافات، مؤشر تنبؤ أقوى بالإصابة باضطرابات نفسية لاحقة، وذلك مقارنة بتاريخ من الاعتداءات الجنسية. وكما حذر ريند وزملاؤه، فإن آثار الاعتداء الجنسي المبكر يصعب فصلها عن آثار البيئة الأسرية المضطربة، خاصةً لأن كل أثر منها يمكن أن يكون سببًا في الآخر. والمثير حقًّا هو انتهاء هؤلاء العلماء إلى أن العلاقة بين الاعتداء الجنسي والمرض النفسي لم تكن أكثر قوةً عندما كان الاعتداء أكثر قسوة أو تكررًا.

استثارت «مقالة ريند»، كما عرفت فيما بعد، الغضب في وسائل الإعلام فضلًا عن إثارتها للجدل السياسي. أدانت الشخصية الإذاعية المشهورة، الدكتورة لورا شلسنجر (المعروفة باسم «دكتورة لورا»)، المقالة واصفةً إياها بأنها «العلم التافه في أسوأ صوره»، وبأنها «محاولة مكشوفة لتطبيع اشتهاء الأطفال» (ليلينفيلد، ٢٠٠٢). وبالمثل، هاجم العديد من نواب الكونجرس، وعلى رأسهم توم ديلاي، وهو نائب عن ولاية تكساس، ومات سالمون، وهو نائب عن ولاية أريزونا، «جمعية علم النفس الأمريكية» لنشر مقالة تقول إن الاعتداء الجنسي ليس من الضرر بقدر ما يشيع اعتقاده بين الناس. ووصف سالمون المقالة من داخل مبنى الكونجرس بأنها «بيان يدعو لإطلاق أيدي مشتهي الأطفال». وأخيرًا، في ١٢ يوليو (تموز) ١٩٩٩، أعلن مجلس النواب الأمريكي شجبه لمقالة ريند واستنكاره لها في تصويت كانت نسبته ٣٥٥ إلى صفر، ليلحق بها وصمة كونها أول مقالة علمية يدينها الكونجرس الأمريكي (ليلينفيلد، ٢٠٠٢؛ ماكنالي، ٢٠٠٣؛ ريند، تروموفيتش، وبوسرمان، ٢٠٠٠).

أثار نقاد كثيرون اعتراضات مدروسة على استنتاجات ريند وزملائه، خاصةً مدى قابلية تلك الاستنتاجات للتعميم على عينات أكبر. فمثلًا، قد لا يكون في طلبة الجامعة عينات مثالية لدراسة الآثار النفسية السلبية للاعتداء الجنسي على الأطفال، لأن الأفراد الذين يعانون اضطرابات نفسية شديدة يقل احتمال التحاقهم بالجامعة عن غيرهم من الأفراد (دالام وآخرون، ٢٠٠١). مع ذلك، لا يزال التماسك هو السمة الغالبة على المعنى الرئيسي في استنتاج ريند وزملائه المتمثل في أن أفرادًا عديدين يخرجون من حادثة اعتداء جنسي مبكر بقليل من العواقب النفسية طويلة المدى أو دون أي عواقب (ريند، بوسرمان، وتروموفيتش، ٢٠٠٢؛ أولريك، راندولف، وآتشيسون، ٢٠٠٦).

ولا توجد أيضًا أدلة على أن الناجين من الاعتداء الجنسي على الأطفال يمتلكون سمات شخصية متفردة. ففي مقالة نقدية عام ١٩٩٣ لم تعثر كاثلين كيندل-تاكيت والمؤلفون المشاركون معها على أي دليل على ما يسمى «السمة المميزة» للاعتداء الجنسي. فعلى الرغم من أن بعض الأفراد الذين اعتدي عليهم جنسيًّا عانوا مشكلات نفسية في طور البلوغ، فلم يظهر نمط ثابت لأعراض معينة بين ضحايا الاعتداء الجنسي (كيندل-تاكيت، ويليامز، وفينكلهر، ٢٠٠٣)، وعلى العكس، تباينت تمامًا في العادة الأعراض التي عاناها مختلف الضحايا.

وقد شككت الأبحاث في ادعاءات أخرى ذائعة الانتشار فيما يخص ضحايا الاعتداء الجنسي. فعلى سبيل المثال: توصلت مقالة نشرت عام ٢٠٠٣ لديفيد سكيوز وزملائه إلى أدلة ضعيفة على عبارة «دورة الاعتداء الجنسي على الأطفال» التي كثيرًا ما يُستشهد بها، والتي تشير إلى الاعتقاد الشائع بأن المعتدى عليهم عادةً يتحولون إلى معتدين. فقد تحول عدد أقل بقليل من ثُمْن عينة سكيوز وزملائه التي كان عددها ٢٢٤ رجلًا ممن تعرضوا للاعتداء الجنسي في الطفولة إلى مغتصبين بعد أن كبروا. ولأن نسبة المغتصبين الجنسيين بين البالغين ممن لم تمر بهم حادثة اعتداء جنسي كانت ١ إلى ٢٠ في عينة سكيوز وزملائه، فإن النتائج التي توصلوا تزيد احتمالات تحول الشخص الذي تعرض للاعتداء الجنسي المبكر إلى معتدٍ جنسي بعد البلوغ. لكن استنتاجاتهم تشير إلى أن دورة الاعتداء لا تقترب بأي حال من أن تكون حتمية (سولتر وآخرون، ٢٠٠٣).

وربما لا يكون مدهشًا أن ينكر معالجون كثيرون هذه النتائج كافةً، خاصةً مع استنتاجات ريند وزملائه، فالادعاء بأن العديد من ضحايا الاعتداء الجنسي ينعمون بحياة طبيعية بعد البلوغ لم يتفق مع خبراتهم الطبية.

وفي محاولة لتفسير هذه الفجوة الكبرى بين الفهم الطبي السريري والحقيقة العلمية، تتجه أصابع الاتهام في المقام الأول إلى «تحيز الانتقاء»؛ فلأن جميع المرضى تقريبًا الذين يفحصهم الأطباء السريريون في أعمالهم اليومية مصابون بالاكتئاب، ومن بينهم المرضى الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي، قد يُدفع هؤلاء الأطباء إلى تخيل نوع من الارتباط الوهمي (راجع المقدمة) بين الاعتداء الجنسي على الأطفال والاضطراب النفسي (تشابمان وتشابمان، ١٩٦٧؛ وكوين وكوين، ١٩٨٤). لكن يكاد يكون من المؤكد أن هذا الاستنتاج يأتي نتيجة لأن الغالبية العظمى من الأطباء السريريين لا يكادون يصلون إلى خانتين من أهم خانات «جدول الحياة الرباعي الكبير»، وتحديدًا هاتين الخانتين اللتين تتكونان من الأفراد المُعْتَدَى عليهم جنسيًّا وغير المعتدى عليهم الذين لا يعانون مشكلات نفسية (مرة أخرى، راجع المقدمة). فلو تعامل الأطباء السريريون أثناء العلاج مع الأفراد غير المصابين بالقدر نفسه الذي يتعاملون به مع الأفراد المصابين بالاكتئاب، فإنهم قد يكتشفون أن رواياتهم عن الاعتداء الجنسي ستتكرر تقريبًا بنفس القدر.

محو الخرافة: نظرة أكثر إمعانًا

الاستخفاف بقدرة الأطفال على تجاوز الأزمات

الأبحاث التي استعرضناها والمتعلقة بالاعتداء الجنسي على الأطفال والاضطراب النفسي الذي يظهر بعده تعلمنا درسًا قيِّمًا كثيرًا ما يبخس الناس قدره، وهذا الدرس هو أن الغالبية العظمى من الأطفال يتميزون بالقدرة على تجاوز الأزمات في مواجهة عوامل الضغط العصبي (بونانو، ٢٠٠٤؛ جارميزي، ماستن، وتيليجن، ١٩٨٤). وقد استخف علم النفس الشعبي بقدرة الأطفال على تجاوز الأزمات، إذ يصورهم دائمًا على هيئة مخلوقات ضعيفة يغلب عليها «الانهيار» إذا واجهتها الضغوط (سومرز، وساتل، ٢٠٠٥). لكن الأدلة العلمية تؤكد عكس هذه الخرافة؛ «خرافة هشاشة الأطفال» (باريس، ٢٠٠٠).

من أمثلة ذلك ما حدث في ١٥ يوليو (تموز) عام ١٩٧٦ عندما وقعت مجموعة من التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين ٥ و١٤ عامًا ضحايا لاختطاف مروع في تشاوتشيلا بكاليفورنيا. احتجز الخاطفون الأطفال وسائق الحافلة التي تقلهم في الحافلة مدة ١١ ساعةً، وأخفوهم تحت الأرض في حافلة أخرى مدة ١٦ ساعة، وهناك تمكن الأطفال من التنفس عبر بضع فتحات تهوية ضيقة للغاية. وما يدعو للعجب أن الأطفال والسائق تمكنوا من الهرب وكانوا جميعًا على قيد الحياة دون أي إصابات، وعندما عثر عليهم كان الجزء الأكبر منهم في حالة من الاضطراب الشديد وتغوط بعضهم في ملابسه. وبعد عامين من ذلك، وعلى الرغم من أن ذكريات الحادثة كانت مترسخةً في أذهان غالبية هؤلاء الأطفال، فقد تمكن جميعهم تقريبًا من تجاوز الأزمة (تير، ١٩٨٣).

وثمة مثال آخر؛ فكثير من مؤلفات علم النفس الشعبي المشهورة تخبرنا أن الطلاق يسبب للأطفال على نحو شبه دائم أضرارًا عاطفية سيئة للغاية وتمتد فترات طويلة. ويذكر أحد مواقع الإنترنت التي تتناول موضوعات الطلاق أن «الأطفال لا يمتلكون فعلًا «القدرة على تجاوز الأزمات»»، وأن «الطلاق يترك الأطفال في معاناة حياتية من آثار قرار اتخذه الأبوان» (ماير، ٢٠٠٨). في ٢٥ سبتمبر (أيلول) عام ٢٠٠٠ أكدت مجلة «تايم» صدق تلك الادعاءات عندما نشرت على غلاف العدد قصةً عنوانها «ما يفعله الطلاق بالأطفال» مصحوبةً بتحذير مخيف من أن «بحثًا جديدًا يقول إن الضرر على المدى البعيد أسوأ مما تخيلتم.» وقد كانت بداية هذه القصة بحثًا مدته ٢٥ عامًا أجرته جوديث والرستين (١٩٨٩)، التي رصدت أحوال ٦٠ أسرة وقع بها الطلاق في كاليفورنيا. قالت والرستين إنه على الرغم من الأطفال في هذه الأسر ظهر في البداية أنهم تمكنوا من تجاوز محنة طلاق والديهم، فقد كانت آثار هذا الطلاق خفية وممتدة لوقت طويل. فبعد أعوام عديدة، لم يعانِ هؤلاء الأطفال صعوبات في إقامة علاقات عاطفية مستقرة فحسب، بل في وضع أهداف مهنية في حياتهم. مع ذلك لم تضم دراسة والرستين فريق مراقبة للأسر التي انفصل فيها أحد الأبوين أو كلاهما عن الأبناء لأسباب أخرى سوى الطلاق، كالموت المفاجئ. لذلك قد تعكس النتائج التي توصلت إليها الآثار المترتبة على أي نوع من أنواع التفكك المؤلم داخل الأسرة غير الطلاق.

والحق أن الجزء الأكبر من الدراسات الأفضل تصميمًا يوضح أنه على الرغم من أن الأطفال يرون على نحو شبه دائم أن الطلاق يبعث على الضيق، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال يتجاوزون ظروف الطلاق دون أن يصيبهم كثير من الأضرار النفسية طويلة المدى أو دون أي أضرار على الإطلاق (هيثرنجتون، كوكس وكوكس، ١٩٨٥). وتوضح هذه الأبحاث عامةً أن ٧٥٪ إلى ٨٥٪ من الأطفال يجيدون التأقلم إلى درجة بعيدة عقب انفصال والديهم (هيثرنجتون، وكيلي، ٢٠٠٢). بالإضافة إلى ذلك، عندما يقوم خلاف عنيف بين الوالدين قبل الطلاق تبدو الآثار العكسية الواضحة للطلاق في نطاق الحدود الدنيا لها (أماتو، وبوث، ١٩٩٧؛ راتر، ١٩٧٢)، وربما يرجع ذلك إلى أن الأطفال في هذه الحالة يجدون في الطلاق وسيلةً مباركةً للهرب من الخلاف المرير بين الوالدين.

(٥) الخرافة رقم ٣٥: تكشف إجابات الأفراد على اختبارات بقع الحبر عن قدر كبير من المعلومات عن شخصياتهم

هل بقعة الحبر دائمًا تكون بقعة حبر فقط؟ أم أنها يمكن أن تعبر عن شيء أكثر بكثير، ربما عن طريق سري يؤدي إلى السمات الخفية للشخصية والاضطرابات النفسية؟

إن أكثر النسخ شيوعًا من اختبار بقع الحبر الذي ابتكره الطبيب النفسي السويسري هيرمان رورشاك تحظى بقبول واسع في الثقافة الشعبية. فقد رسم آندي وارهول سلسلةً من أشكال بقع الحبر الضخمة استوحاها من اختبار رورشاك، وتسوق شركة «ماتيل» للعبة تسمى «بقعة التفكير» تشجع اللاعبين على ابتكار استجابات خلاقة تجاه الأشكال الأميبية المرسومة بالأبيض والأسود. حتى إن إحدى فرق موسيقى الروك المشهورة لتطلق على نفسها «اختبار رورشاك». والشخصية الرئيسية في فيلم «حراس» اسمها «رورشاك»، وترتدي تلك الشخصية قناعًا يتكون من بقعة حبر.

ولعله من الممكن أن نرجع «اختبار بقع الحبر لرورشاك» (الذي غالبًا ما يطلق عليه اختصارًا اسم «رورشاك») إلى لعب هيرمان رورشاك ببقع الحبر في الطفولة. ومن الواضح أن رورشاك استوحى فكرة الاختبار الذي حمل اسمه بعد ذلك من إحدى ألعاب الألغاز الأوروبية الشعبية. يتكون اختبار رورشاك من عشر بقع حبر متطابقة، خمس منها مرسومة بالأبيض والأسود وخمس ملونة، وقد نشر ذلك الاختبار للمرة الأولى عام ١٩٢١. ويمكن الاطلاع على أحد أشكال بقع الحبر المشابهة للأشكال التي وضعها رورشاك في الشكل ٨-١ (نظرًا لخشية ناشر اختبار رورشاك من التأثير في استجابات الأفراد للاختبار، فقد آثر عدم نسخ البقع الفعلية).
fig9
شكل ٨-١: بقعة مشابهة لأحد الأشكال العشرة لبقع حبر رورشاك (حذر ناشر اختبار رورشاك بشدة من أي عملية نسخ لبقع الحبر الفعلية.) وطبقًا لمؤيدي رورشاك، يشير اختلاف أنواع استجابات الأفراد إلى الميل للمقاومة والاستحواذ ومجموعة من سمات الشخصية الأخرى. (المصدر: أناستاسي وأوربينا، ص٤١٣.)

لكنَّ اختبار رورشاك أكثر بكثير من كونه علامة بارزة في الثقافة الشعبية، فهو وسيلة مفضلة لدى الأطباء السريريين الذين يظن العديد منهم أن بإمكان ذلك الاختبار النفاذ إلى أعمق أغوار العقل الباطن وأشدها إظلامًا. ففي الأربعينيات والخمسينيات أطلق عالما النفس لورانس فرانك وبرونو كلوفر على اختبار رورشاك اسم «الأشعة السينية النفسية». وعلى مدار ربع قرن من ذلك الوقت ظل كثير من الأطباء السريريين يرون اختبار رورشاك وسيلة مهمة لكشف الصراعات النفسية (وود، نيزورسكي، ليلينفيلد، وجارب، ٢٠٠٣). ويقدر أحد التقييمات عدد اختبارات رورشاك التي تجرى سنويًّا بستة ملايين اختبار في أنحاء العالم (سازرلاند، ١٩٩٢). وقد بين استطلاع رأي أُجري عام ١٩٩٥ على أعضاء «جمعية علم النفس الأمريكية» أن ٨٢٪ من علماء النفس السريريين يستخدمون رورشاك في عملهم من حين لآخر على أقل التقديرات، وأن ٤٣٪ منهم يستخدمونه مرارًا أو دومًا (واتكينز، كامبل، ونيبردينج، وهولمارك، ١٩٩٥). وعام ١٩٩٨ وصف مجلس إدارة الشئون المهنية لجمعية علم النفس الأمريكية رورشاك بأنه «ربما يكون أفضل أداة ظهرت على الإطلاق فيما يخص القياسات النفسية» (مجلس إدارة الشئون المهنية لجمعية علم النفس الأمريكية، ١٩٩٨، ص٣٩٢). وقد لا يكون عجيبًا أن يقول ٧٤٪ من طلاب الجامعات من دارسي علم النفس في إحدى الدراسات إن اختبار رورشاك والاختبارات وثيقة الصلة به عظيمة الفائدة في التشخيص النفسي (لينز، إيك، وميلز، ٢٠٠٩).

ليس اختبار رورشاك إلا واحدًا من مئات «الطرق الإسقاطية» التي تتكون الغالبية العظمى منها من المثيرات الغامضة التي يطلب الأطباء النفسيون من المشاركين في الاختبارات تفسيرها. ويصف علماء النفس هذه الطرق بصفة «الإسقاطية»؛ حيث إنهم يفترضون أن المستجيبين يسقطون جوانب رئيسية من شخصياتهم على مثيرات غامضة أثناء عملية فهم هذه الجوانب. فباستخدام نوع من الهندسة العكسية النفسية يعمل محللو الاختبارات بطريقة عكسية محاولين الاستدلال على سمات شخصيات المشاركين في الاختبارات. وكان «اختبار الصورة السحابية» أحد الأمثلة الأولى على هذه الطرق، وهو اختبار ابتكره في مطلع القرن الحادي والعشرين عالم النفس الألماني فيلهيلم شتيرن، وفيه يطلب ممن يجيبون عنه أن يصفوا ما يرونه في شكل صور تشبه السحب (أيكن، ١٩٩٦؛ ليلينفيلد، ١٩٩٩). بل إن هناك نسخة من اختبار رورشاك للمكفوفين وتسمى «الطريقة الإسقاطية لجذور السرو»، وفيها يطلب من المستجيبين أن يضعوا أيديهم حول التفرعات العقدية من جذور شجرة سرو، وأن يَصِفُوا الصورة التي تكونت في مخيلتهم (كيرمان، ١٩٥٩).

وجه الباحثون موجة من النقد العلمي الثابت إلى اختبار رورشاك منذ الأربعينيات حتى السبعينيات، قائلين إنه لم يكن موضوعيًّا في تقييمه وتفسيره، وإنه لم تثبت صحة أي من ارتباطات الشخصية المزعومة الخاصة به ببحث متأن. وفي ١٩٦٥ قال أحد المؤلفين، عالم علم النفس التربوي آرثر جنسن: «إن نسبة التقدم العلمي في علم النفس السريري ربما يمكن قياسها على نحو جيد عن طريق مدى السرعة والدقة اللتين يتغلب بهما على اختبار رورشاك» (جنسن، ١٩٦٥، ص٥٠٩).

وكانت النسخة الجديدة من اختبار رورشاك، التي تسمى «النظام الشامل»، عملًا بطوليًّا لإنقاذ رورشاك من سيل من الهجمات العلمية، وقد ابتكرها عالم النفس، جون إكسنر عام ١٩٧٤. ويقدم «النظام الشامل» قواعد مفصلة للتقييم والتفسير وما يزيد عن ١٠٠ مؤشر من المفترض أن تقيس كل سمات الشخصية التي يمكن تخيلها تقريبًا (إكسنر، ١٩٧٤). على سبيل المثال: الإجابات (انظر الشكل ٨-١ للتأكد فيما يخص هذا المثال والأمثلة التي تليه) التي تتضمن انعكاسات (مثل: «أرى كلبًا من فصيلة «بودل» ينظر إلى نفسه في المرآة») من المفترض أنها تعكس سمة النرجسية. ويكفي أن نقول إن كلمة نرجسية مشتقة من الشخصية الخرافية في الأدب اليوناني «ناركيسوس» الذي وقع في غرام صورته المنعكسة على صفحة الماء. بالمثل، تشير الإجابات التي تتضمن تفاصيل غير عادية («هذه النقطة الصغيرة من الحبر على الجزء الأيمن من بقعة الحبر الكبيرة تشبه ذرة الغبار») ظاهريًّا إلى الميل للإصابة بالوسواس. والإجابات التي تعلق على المساحة البيضاء الواقعة داخل بقع الحبر لا بالقرب من البقع نفسها («تشبه تلك المنطقة البيضاء هناك مكنسة اليد») تشير ظاهريًّا إلى التمرد على السلطة.

مع ذلك لا يقدم أي من الأبحاث المنظمة تقريبًا أي دليل على هذه التأكيدات. فقد وجد جيمس وود وزملاؤه أن الغالبية الساحقة من درجات اختبار رورشاك ليس لها في الأساس أي علاقة بسمات الشخصية. والاستثناء الوحيد الممكن هو الاتكال (بورنستاين، ١٩٩٦)، الذي وجد بعض الباحثين أنه يرتبط بعدد من الاستجابات أعلى من المتوقع بما في ذلك الأفواه والطعام (لا شك أن المؤمنين بفكر فرويد، الذين يعتقدون أن الإرضاء المبالغ فيه أثناء المرحلة الفموية من الطفولة يؤدي إلى الاتكال، سيسعدون بالنتيجة السابقة). بالمثل، ليس في رورشاك فائدة عظيمة للأغراض التشخيصية، فتقييمات رورشاك تكاد تنعدم العلاقة بينها وبين الاكتئاب السريري أو اضطرابات القلق أو حالة اضطراب الشخصية المعادي للمجتمع التي تشير إلى حالة تتسم بتاريخ من السلوكيات الإجرامية والمستهترة (وود، ليلينفيلد، جارب، ونيزورسكي، ٢٠٠٠).

مع ذلك، يقدم اختبار رورشاك دورًا خدميًّا عظيمًا يتمثل في رصد الحالات التي تظهر عليها اضطرابات التفكير، كانفصام الشخصية والاضطراب ثنائي القطب (الذي أطلق عليه فيما مضى «الاكتئاب الهوسي») (ليلينفيلد، وود، وجارب، ٢٠٠١). وهذه الحقيقة لا تثير الدهشة بدرجة كبيرة، لأن الأفراد الذين تصدر عنهم ردود غريبة على بقع الحبر (مثل: «يشبه ذلك انفجار رأس زرافة داخل طبق طائر»، كاستجابة للبطاقة الموجودة في الشكل ٨-١) يزيد احتمال معاناتهم من أفكار مضطربة عن غيرهم من الأفراد. وكما ذكر عالم النفس روبين داوز (١٩٩٤)، فإن استخدام اختبار رورشاك لرصد اضطراب التفكير «ليس إسقاطيًّا» في حقيقة الأمر؛ لأنه يعتمد على المدى الذي إليه «لا» يدرك المجيبون أشكالًا معينة في بقع الحبر.

بالإضافة إلى ذلك، الأدلة على أن رورشاك له دور في رصد الخصائص النفسية يفوق دور أكثر الطرق بساطة ويتعداها — ما يسميه علماء النفس «الدقة الإضافية» — تتسم بالضعف. ففي الحقيقة أوضحت بضع دراسات أنه عندما يفحص الأطباء السريريون، الذين يمكنهم الوصول الفعلي إلى المعلومات المتعلقة بتاريخ الحياة أو الاستبيان، بيانات رورشاك، فإن دقتهم التَّنَبُّئِيَّة «تقل». وربما يرجع ذلك إلى أنهم يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على المعلومات المأخوذة من رورشاك، التي يغلب عليها أنها أقل مصداقيةً من البيانات المأخوذة من المصادر الأخرى (جارب، ١٩٩٨؛ ليلينفيلد وآخرون، ٢٠٠١، ٢٠٠٦).

لماذا إذن لا يزال اختبار رورشاك بالغ الشهرة على الرغم من ضعف الأدلة على فوائده العلاجية؟ ربما تسهم ظاهرة الارتباط الوهمي (راجع المقدمة) في غموض ذلك الاختبار. فعندما طلب الباحثون من المشاركين قراءة مجموعة قواعد الاستخدام الصحيح لاختبار رورشاك، لاحظ هؤلاء المشاركون على نحو مستمر ارتباط مؤشرات معينة في اختبار رورشاك بسمات معينة في الشخصية «حتى عندما جاء الجمع بين مؤشرات رورشاك وسمات الشخصية في قواعد الاستخدام الصحيح على نحو عشوائي تمامًا» (تشابمان وتشابمان، ١٩٦٩). وفي حالات عديدة يعتمد هؤلاء المشاركون اعتمادًا كبيرًا على «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل» (راجع المقدمة)، مما يؤدي بهم عن طريق الخطأ إلى الاستنتاج القائل إن مؤشرات معينة لاختبار رورشاك تصلح لرصد خصائص الشخصية. فعلى سبيل المثال: ربما يفترض هؤلاء المشاركون خطأً أن الاستجابات لبقع الحبر التي تضم محتوى باعثًا على الاكتئاب مثل الجماجم أو الأجساد الميتة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسمات معينة كالاكتئاب، لوجود تماثل ظاهري بينها. وتشير الدراسات إلى أن الأطباء السريريين عرضة للخرافات نفسها (تشابمان وتشابمان، ١٩٦٩).

ثانيًا: توضح الدراسات أن «النظام الشامل» يميل إلى إظهار الأفراد الطبيعيين في صورة المضطربين. فقد كشفت دراسة أجراها توماس شافر وزملاؤه عام ١٩٩٩ أن عينةً من الأفراد الطبيعيين تجمع بين طلبة جامعة ومتطوعين من بنك الدم قد حصلت على تقييمات مرضية فادحة في اختبار رورشاك. فعلى سبيل المثال: ١ من ٦ جاءوا ضمن النطاق المرضي في «مؤشر رورشاك للفصام»، الذي يزعم أنه قياس للفصام (شافر، إيردبيرج، هارويان، ١٩٩٩)، فمن المفارقات أن قابلية رورشاك للمبالغة في إسقاط المرض على الأفراد يمكن أن تقود الأطباء السريريين إلى الخطأ في استنتاج أن هذا الاختبار يتمتع بقدرات تشخيصية شديدة الحساسية لا تخطئها عين. فكثيرًا ما يجد أحد الأطباء النفسيين السريريين أن أحد المجاوبين تصدر عنه نتائج طبيعية في الاستبيانات، لكن نتائجه غير طبيعية في اختبار رورشاك، لذا قد يستنتج من هذا الاختلاف أن رورشاك اختبار «معقد» يكشف الاضطرابات النفسية الخفية التي لا يمكن للاختبارات الأكثر «سطحية» أن ترصدها. وأغلب الظن هنا أن الطبيب السريري ينخدع معتقدًا وجود اضطرابات نفسية في الوقت الذي لا يوجد فيه شيء من ذلك (وود، نيزورسكي، جارب، وليلينفيلد، ٢٠٠١).

وهكذا، بالعودة إلى السؤال الذي طرح في بداية هذا القسم: نعيد صياغة إجابة سيجموند فرويد فنقول إنه أحيانًا «تكون» بقعة الحبر مجرد بقعة حبر.

(٦) الخرافة رقم ٣٦: يكشف خط يد كل منا عن سمات شخصيته

عبارة «ضع النقاط فوق الحروف» اللازمة العالمية المتكررة للمدرسين المنوط بهم مهمة تحويل النقوش الفوضوية لتلاميذهم إلى خطوط مقروءة. يعد تعلم كتابة الاسم بأحرف متصلة للعديد من الأطفال حدثًا مهمًّا للغاية. مع ذلك، ينتهي الأمر بخط يد التلاميذ، بطريقة ما، إلى أن يصبح مميزًا كبصمة أصابعهم وشحمة أذنهم. لذلك يبدو مقنعًا أن تحليل خط اليد — المعروف باسم «علم الخطوط» — يمكن أن يساعد في الكشف عن بنيتنا النفسية.

ليس علم الخطوط إلا فرعًا من مجموعة من ممارسات العلوم الزائفة يسمى «قراءة الأحرف». افترض قارئو الأحرف في أوقات مختلفة أن بإمكانهم النفاذ إلى التكوين النفسي للبشر عن طريق تفسير ملامح الوجه (علم الفراسة)، وتعرجات اليد (قراءة الكف)، ونتوءات الرأس (علم فراسة الدماغ)، وسمات السُّرَّة (تنجيم السُّرَّة)، وأنماط تجاعيد الجبهة (تنجيم الجبهة)، وعروق أوراق الشاي وبقايا البن (قراءة الفنجان)، واتجاهات أشعة الضوء المنعكسة من الأظافر (تنجيم الأظفار) أو مظهر كعك الشعير (كارول، ٢٠٠٣).

نجح خبراء الخطوط في جذب حشود من الأتباع وأقنعوا كثيرًا من العوام أن حرفتهم قائمة على العلم. وكانت «الجمعية الدولية لتحليل الشخصية عبر خط اليد» الموجودة في شيكاجو تتباهى بأعضائها الذين بلغ عددهم ما يقرب من ١٠٠٠٠ عضو، قبل أن تتعرض للإفلاس مؤخرًا. وقد وجد مئات من خبراء الخطوط عملًا مربحًا في جنوب كاليفورنيا، ووجد علم الخطوط مستقرًّا في المدارس الحكومية. ومن أمثلة ذلك أنه في فانكوفر بكندا ادعى أحد خبراء الخطوط أنه تمكن من تحديد المعتدين الجنسيين الفعليين والمحتملين بين كوادر المعلمين المحليين. وتستعين العديد من المنظمات، لا سيما في إسرائيل وبعض الدول الأوروبية، بمشورة خبراء الخطوط في المسائل ذات الصلة بالموظفين. وتوظف بعض المؤسسات المالية خبراء خطوط لتحديد ما إذا كان مقدمو طلبات القروض سيكونون أهلًا للثقة أم لا (بايرستاين وبايرستاين، ١٩٩٢).

يبدأ التاريخ الحديث لعلم الخطوط بالطبيب الإيطالي كاميلو بالدي الذي عاش في القرن السابع عشر. ألهم بالدي مجموعة من رجال الدين الكاثوليك الذين كان من بينهم القس جان هيبوليت ميشون، الذي نحت مصطلح «علم الخطوط» عام ١٨٧٥. وميشون هو أبو المنهج «التحليلي»، الذي ينسب سمات الشخصية إلى الكاتبين بناء على «علامات» كتابية معينة، كأشكال الحروف وميلها. أما كريبيو جامين، تلميذ ميشون، فقد انشق عن معلمه ليؤسس المدرسة «الشمولية». وبدلًا من التعامل مع العناصر الفردية المتمثلة في الحروف والسطور، اتبع أنصار المذهب الشمولي منهجًا انطباعيًّا يكوِّن فيه المحلل عن طريق الحدس «شعورًا» عامًّا بشخصيات الأفراد وفقًا لخط يد كل منهم. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من خبراء الخطوط يتبنون المنهج التحليلي، فإن العديد من مدارس علم الخطوط لا يمكنها أن تتفق على دليل يجمع بين كل سمة والعلامة التي تشير إليها. ففي الوقت الذي يؤمن فيه أحد خبراء الخطوط المشهورين بأن ميل الفرد إلى وضع شرطة مائلة فوق حرف t تشبه شكل السوط إنما يشير إلى شخصية سادية، يقول محلل آخر على الدرجة نفسها من الشهرة إن هذا الأسلوب يفصح عن شخص عملي محب للفكاهة (وليس ثمة دليل علمي على أن أيًّا من الخبيرين على صواب).
يدعي أنصار المذهب التحليلي أنهم تمكنوا من تحديد مئات من مؤشرات معينة لخط اليد تدل على سمات الشخصية. من بين تلك المؤشرات الخطافات الصغيرة التي توجد في حرف S، إذ يدعي بعض خبراء الخطوط أنها تفصح عن استعداد لانتزاع ممتلكات الآخرين. أما المساحات الواسعة بين الكلمات فيزعمون أنها تشير إلى ميل للعزلة. وأما الكاتبون الذين تنحرف جملهم إلى أعلى فيتصفون بالتفاؤل، في حين يتصف من تذهب سطورهم إلى أسفل بالتشاؤم. والأفراد الذين يرسمون الأحرف بانحرافات مختلفة هم أفراد لا يمكن التكهن بسلوكهم. والكاتبون الذين يمعنون في تكبير حرف I لديهم إحساس هائل بالأنا. وقد ادعت مقالة نشرت في صحيفة لوس أنجلوس تايمز أن ميل جون ماكين، الذي ترشح للرئاسة في وقت لاحق، إلى توقيع اسمه الأول بأحرف مائلة في اتجاهات معاكسة بعضها لبعض يقيم الدليل على شخصيته «الجامحة المتمردة»، في الوقت الذي يميل منافسه باراك أوباما إلى رسم حروف اسمه في سلاسة مما يعد دليلًا على مرونته (إينيكويز، ٢٠٠٨). ولعل الادعاء المفضل لدينا هو الادعاء أن الحلقات الكبيرة الدائرية في حرفي g وy والأحرف المشابهة — تلك التي تتدلى أسفل السطور — تكشف عن انشغال دائم بالجنس. وقد يكون هذا صحيحًا، لكن ذلك الانشغال بالجنس ربما كان في عقل خبير الخطوط أكثر منه في عقل الكاتب (بايرستاين، ١٩٩٢).

بل إن البعض تبنى الادعاءات الغريبة «للمداوة بالخطوط»، وهو «عهد جديد» من العلاج النفسي يدعي محو السمات غير المرغوبة من شخصيات الأفراد عن طريق إزالة علامات الخطوط المزعجة التي تنطوي على مشكلات من خط اليد. وعلى ذلك، إن كنت متشائمًا على نحو ميئوس منه، فلست بحاجة إلى أي شيء سوى أن تبدأ في كتابة جملك بميل إلى أعلى كي تغير توجهك الذهني في الحياة.

يعرض خبراء الخطوط لمجموعة متنوعة من الأسباب المنطقية لعملهم؛ وسنفحص فيما يلي خمسة من أكثرها شيوعًا (بايرستاين وبايرستاين، ١٩٩٢).
  • «الكتابة شكل من أشكال الحركة التعبيرية، لذلك من المؤكد أنها تعكس شخصياتنا.» على الرغم من أن الأبحاث تربط بضعة جوانب شاملة للحالة المزاجية بإيماءات معينة، فأنواع الخصائص التي ترتبط ارتباطًا ضعيفًا بحركات الجسم التعبيرية أكثر عمومية بكثير من نطاق السمات الضيق، هذه السمات التي يدعي خبراء الخطوط أنهم يتوصلون إليها عن طريق الكتابة. فقد ترتبط نزعة عامة لدى الفرد إلى أن يكون حاد الطباع أو محبًّا للسيطرة ارتباطًا ضعيفًا بلغة جسده، لكن هذه الارتباطات تكون من الضعف الشديد بحيث لا تتيح لنا الحكم على شخصية ذلك الفرد.

  • «خط اليد هو خط المخ.» عبارة صحيحة بالفعل. فقد أظهرت الدراسات أن «خط القدم» عند بعض الأفراد يشبه خط اليد (إن كنت تشك في ذلك فجرب أن ترسم توقيعك على قطعة من الورق باستخدام قلم رصاص مثبت بين أكبر إصبعين من أصابع قدمك المهيمنة)، مما يوحي بأن نمط الكتابة هو شيء من اختصاص أمخاخنا أكثر من كونه عملًا لأطرافنا. مع ذلك فحقيقة أن الكتابة أو العطس أو التقيؤ كذلك هي أنشطة يتحكم بها المخ لا تعني أن تلك الأنشطة ترتبط بأي شيء آخر يتحكم به المخ، كالسمات الشخصية مثلًا.

  • «الكتابة صفة فردية والشخصية متفردة، لذا يجب أن تعكس كل منهما الأخرى.» لا يعد تفرد سمتين أساسًا للقول بوجود علاقة خاصة بينهما، فالأوجه يختلف بعضها عن بعض بقدر كافٍ يسمح باستخدامها كأداة لتحديد الهوية الشخصية في رخص القيادة، لكنها لا تقول أي شيء عن قدرة الشخص على القيادة.

  • «تستخدم الشرطة والمحاكم علم الخطوط، لذلك لا بد أنها ذات فائدة.» يشير ذلك الادعاء إلى ما يصطلح علماء المنطق على تسميته «مغالطة العربة»، وتعني أنه إذا كان معتقد ما منتشرًا، فلا بد أن يكون صحيحًا. ولا ريب أن العديد من المعتقدات التي تحملها أغلبية ساحقة من الأفراد في وقت ما من الزمن — مثل الاعتقاد بأن الكرة الأرضية مسطحة — قد بان أنها كانت على درجة كبيرة من الخطأ. بالإضافة إلى ذلك، ينبع الجزء الأكبر من الشهرة الواسعة غير المستحقة التي ينعم بها علم الخطوط من الخلط بين خبراء الخطوط وخبراء فحص الوثائق المشكوك فيها، لكن خبير فحص الوثائق المشكوك فيها يكون محقِّقًا مدربًا يفترض به أن يبين للمؤرخين أو جامعي المخطوطات أو المحاكم أصول الوثائق المكتوبة بخط اليد وأصالتها. ويقوم تقييم خبراء فحص الوثائق المشكوك فيها على احتمال أن يكون فرد معين قد كتب الوثيقة المعنية فقط، لا على شخصية ذلك الفرد.

  • «يثق مديرو شئون الموظفين ثقةً عمياء في فائدة خبراء الخطوط في اختيار الموظفين.» بعض هؤلاء المديرين يفعل ذلك، ولكن الأغلبية لا تفعل. بالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب عديدة لاحتمال أن يكون اقتناع المديرين بنفع علم الخطوط هو اقتناع زائف؛ أولًا: يهتم خبراء الخطوط غالبًا بالعديد من الأدلة غير ذات الصلة بعلم الخطوط التي يمكنها أن تحدد أفضل مترشح للوظيفة. فبعض تلك الأدلة (مثل التاريخ الوظيفي السابق أو صحيفة الحالة الجنائية) يمكن من خلاله التنبؤ بالأداء الوظيفي. ثانيًا: لأسباب تتعلق بالنفقات، نادرًا ما يعرض أصحاب الشركات خطوط يد جميع المتقدمين للوظائف على خبراء خطوط. لذلك في أغلب الأحيان يطلع خبراء الخطوط على خطوط يد المتقدمين الموجودين في القائمة المحدودة فقط، أي المتقدمين الذين وقع الاختيار عليهم وفق معايير توظيف مقبولة. ولعل الجزء الأكبر من الأفراد في تلك المجموعة من المتقدمين مؤهل فعلًا لشغل الوظيفة، ونادرًا ما تكون هناك فرصة لتحديد هل المرفوضون متساوون مع مَن قبلوا في الوظيفة أم أفضل منهم.

لعل الاختبارات العلمية التي أجريت على قدرة خبراء الخطوط على تمييز المرشحين الأكفاء لمختلف الوظائف تتفق إلى حد شبه تام في نتائجها. ففي الاختبارات جيدة التنظيم يُطلب من المشاركين كافةً كتابة الجمل نفسها، ويطلب من خبراء الخطوط أن يقدموا آراءهم في الشخصية أو تنبؤاتهم بالسلوك بناءً على هذه الكتابة. ولما كان يطلب من المشاركين جميعًا أن يكتبوا الجمل نفسها، فإن الباحثين بذلك يتخلصون من الاختلافات الموجودة في مضمون العبارات التي قد يكون بها إشارات تدل على الشخصية. وفي مقالة نقدية دقيقة اكتشف ريتشارد كليموسكي (١٩٩٢) أن خبراء الخطوط ليسوا أفضل من الصدفة في التنبؤ بالأداء الوظيفي. وقد أجرى جيفري دين (١٩٩٢) أفضل مراجعة نقدية على الإطلاق للاختبارات العلمية الخاصة بعلم الخطوط. وبعد إجراء تحليل مقارن لأكثر من ٢٠٠ دراسة، اكتشف دين فشلًا واضحًا من جانب خبراء الخطوط في رصد سمات الشخصية أو توقع الأداء الوظيفي.

لماذا إذن تلك القناعة من جانب كثير من الناس بتميز علم الخطوط؟ أولًا: يبدو علم الخطوط علمًا مقبولًا لأنه يستغل «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل» (راجع المقدمة)، وقد واجهنا فعلًا ادعاءات بأن الأفراد الذين تميل جملهم إلى أعلى تغلب عليهم صفة «البهجة» أو التفاؤل. ولعل أحد الأمثلة القوية هو تأكيد بعض خبراء الخطوط على أن الأفراد الذين يرسمون الشرطة الأفقية لحرف t فوق العصا الرأسية للحرف بمسافة كبيرة يغلب عليهم الاستغراق في أحلام اليقظة. فعلى أي حال، يبدو أن أصحاب أحلام اليقظة يحلقون بأحلامهم فوق السحاب.

ثانيًا: قد تبدو تأكيدات خبراء الخطوط محددة للغاية حتى عندما تكون شديدة الغموض. فالإحساس الخاطئ بأن شيئًا ما شديد الخصوصية كشفه قارئ للأحرف ينشأ مما سماه بول ميهل (١٩٥٦) «ظاهرة بي تي بارنوم» على اسم متعهد السيرك الساخر الذي قال مازحًا إنه كان يحب أن «يمنح شيئًا صغيرًا لكل فرد من الجماهير» في عروضه. وقد كشفت الأبحاث أن الغالبية العظمى منا يقعون فريسة لهذه الظاهرة، وهي ميل الأفراد لاعتبار الجمل التي تنطبق على الجميع تقريبًا تنطبق عليهم هم بالأخص (ديكسون، وكيلي، ١٩٨٥؛ فورنهام وشوفيلد، ١٩٨٧). وتحقق «ظاهرة بارنوم» نجاحًا كبيرًا لأننا نجيد إيجاد المعنى حتى في المعلومات التي ليس لها تقريبًا أي معنى. ففي إحدى الدراسات، رأى المشاركون أن الأوصاف التي قالها أحد خبراء الخطوط المعتمدين عن «أشخاص آخرين» تنطبق عليهم هم أنفسهم بشدة، وتمامًا كما نُحتت عبارات بارنوم لتنطبق على الجميع.

فهل ستكون الأبحاث المستقبلية التي تجرى بأسلوب منهجي سليم أكثر رأفة بعلم الخطوط؟ لا شك أنه يمكن أن تظهر بعض الأدلة الإيجابية يومًا ما. لكن إن كان في سجل الإنجازات العلمية السيئ لعلم الخطوط أي إشارة إلى شيء ما، فنأمل أن يسامحنا مؤيدو علم الخطوط إن قلنا إنه من الواضح أن علم الخطوط يبدو في محنة شديدة.

(٧) الفصل ٨: خرافات أخرى تستحق الدراسة

الخرافة الحقيقة
«علم التنجيم أفضل في التنبؤ بسمات شخصيات الأفراد من الحظ.» علم التنجيم عديم الجدوى في التنبؤ بسمات شخصيات الأفراد.
«يمكن أن تدلنا الرسومات التي يخطها الأفراد على قدر كبير من المعلومات عن شخصياتهم.» اختبارات رسم الأشخاص ذات درجة دقة ضئيلة في رصد معظم سمات الشخصية السوية وغير السوية.
«التأكيدات الذاتية الإيجابية (مثل: «أحب نفسي») طريقة جيدة لتقوية الشعور بتقدير الذات.» تشير الأبحاث إلى أن التأكيدات الإيجابية ليست مفيدة على نحو خاص، لا سيما للأفراد الذين يقل تقديرهم لذواتهم.
«تتحول الغالبية العظمى من الأفراد الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي في الطفولة إلى ارتكاب جرائم الاعتداء الجنسي بدورهم («دورة العنف»).» لا تتحول الغالبية العظمى من الأفراد الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي في الطفولة إلى ارتكاب جرائم الاعتداء الجنسي بدورهم عند البلوغ.
«ثمة أدلة قوية على فكرة «الشخصية القومية».» تتضارب الأدلة على القوالب النمطية «للشخصية القومية» (مثل القول بغطرسة الفرنسيين وصرامة الألمان) ولم يحسم الأمر بعد.
«البدناء أكثر شعورًا بالبهجة («أكثر مرحًا») من غير البدناء.» هناك علاقة ضعيفة بين البدانة والإحساس بالبهجة، ويشير أغلب الأبحاث في الحقيقة إلى علاقة طردية طفيفة بين البدانة والاكتئاب.
«المقابلات الشخصية المفتوحة هي أفضل وسيلة لتقييم الشخصية.» المقابلات الشخصية المفتوحة («غير المنظمة») تصلح بنسبة ضئيلة أو متوسطة على أحسن الأحوال لتقييم الشخصية، وغالبًا تكون أقل جدوى من المقابلات المنظمة.
«ينبئ عدد سنوات خبرة الطبيب السريري في استخدام أحد اختبارات الشخصية بمدى دقة الطبيب في أحكامه التي يصل إليها من ذلك الاختبار.» في معظم اختبارات الشخصية لا علاقة لعدد سنوات الخبرة في استخدام أحد اختبارات الشخصية بالدقة.
«يفضل توفر مزيد من المعلومات دائمًا عند اتخاذ القرارات التشخيصية عن توفر قدر ضئيل منها.» في بعض الحالات يؤدي توفر كم أكبر من اللازم من معلومات تقييم الحالة إلى قرارات تشخيصية أقل دقةً، لأن معلومات التقييم غير المفيدة يمكن أن تقلل من تأثير المعلومات ذات الفائدة.
««الدمى السليمة تشريحيًّا» طريقة جيدة للتعرف على تعرض الطفل للاعتداء الجنسي من عدمه.» «الدمى السليمة تشريحيًّا» تفشل في حالات كثيرة في تمييز من لم يتعرضوا للاعتداء الجنسي وتعتبرهم تعرضوا له، وذلك لأن كثيرًا ممن لم يتعرضوا للاعتداء يلعبون بالدمى لعبًا ذا طابع جنسي.

(٨) مصادر وقراءات مقترحة

للتعرف أكثر على هذه الخرافات وغيرها عن الشخصية، انظر: دين (١٩٨٧)؛ فورنهام (١٩٩٦)؛ جارب (١٩٩٨)؛ هاينز (٢٠٠٣)؛ وجانسن، هافرمانز، نيدركورن، وروفز (٢٠٠٨)؛ ليلينفيلد، وود، وجارب (٢٠٠٠)؛ ماكراي، وتيراشيانو (٢٠٠٦)؛ روشيو (٢٠٠٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤