الفصل التاسع

حزين وغاضب ومزعج

خرافات عن المرض العقلي

(١) الخرافة رقم ٣٧: تسبب المسميات النفسية ضررًا عن طريق وَصْم المرضى

بم كنت ستشعر إن رأى أصدقاؤك أنك مصاب بالفصام البارانويدي؟ طرح ديفيد روزنهان (١٩٧٣)، أستاذ علم النفس والقانون، ذلك السؤال كوسيلة للإشارة إلى أن التشخيصات النفسية، أو المسميات، تجعلنا ننظر إلى المرضى نظرة سلبية، ورأى أنه من الواضح أنها تَصِمُ المرضى بوصمة المرض العقلي، مما يتسبب في أن يتعامل معهم الناس بأساليب لا تخلو من التحامل الذي قد يصل إلى درجة الإيذاء. وللتخفيف من وطأة تلك الوصمة قال روزنهان إن أخصائيي الصحة العقلية يجب أن يتجنبوا المسميات التشخيصية العامة، مثل «الاكتئاب الشديد»، واللجوء بدلًا من ذلك إلى التوصيفات السلوكية الموضوعية، مثل: «يبدو حزينًا»، و«يبكي كثيرًا»، و«يتحدث ويسير ببطء».

وردًّا على ذلك تساءل طبيب الأمراض النفسية روبرت سبيتزر (١٩٧٦) عما إذا كانت هذه الطريقة ستؤثر حقًّا في مواقف الأفراد أو سلوكهم تجاه المرضى النفسيين. وقد أعاد سبيتزر صياغة سؤال روزنهان مستخدمًا مصطلحات سلوكية بدلًا من التصنيف التشخيصي: بم كنت ستشعر إن رأى أصدقاؤك أن لديك اعتقادًا راسخًا لكنه كاذبٌ تمامًا في أن المحيطين بك يحاولون إيذاءك؟ أكد سبيتزر أن وصمة المرض العقلي تنبع من ردود أفعال الأفراد تجاه الأفكار والسلوكيات غير السوية، مثل ضلالات جنون الشك (البارانويا)، وليس تجاه التشخيصات النفسية التي يستخدمها الأخصائيون لتصنيف الاضطرابات النفسية، فمن المحق؟

يرى كثيرون أن الإجابة عن ذلك التساؤل تكمن في تقرير شهير كتبه روزنهان (١٩٧٣أ) بعنوان «عقلاء في مستشفى المجانين». فقد عرض ثمانية أشخاص أصحاء — بمن فيهم روزنهان نفسه — أنفسهم على ١٢ من مستشفيات الأمراض العقلية، ووفقًا للخطة ادَّعوا جميعًا أنهم يعانون قلقًا بسيطًا، وطلبوا الإذن في الدخول بناءً على شكوى مزعومة من هلاوس سمعية غريبة؛ أي سماع أصوات تكررت فيها الكلمات «فارغ» و«أجوف» و«صوت مكتوم». والمثير أن جميع هؤلاء «المرضى الزائفين» أُدخِلوا المستشفى، إذ انتهى التشخيص إلى إصابة أحدهم بالاكتئاب الهوسي، والآخرين بالفصام. وما إن حُجزوا في المستشفى حتى توقفوا عن اصطناع أعراض المرض النفسي. وباستثناء عملية تدوين الملحوظات المطولة بغرض جمع البيانات، عمد هؤلاء المرضى المزعومون إلى العودة إلى سلوكهم الطبيعي، لكي يروا هل سيدرك الأطباء بالمستشفى ذهاب المرض ومن ثم يطلقون سراحهم. لكنَّ الغريب حقًّا أنهم قد احتُجزوا في المستشفى حوالي ١٩ يومًا، أعيد فيها فقط تشخيص حالاتهم الأصلية بنفس الطريقة لتصبح «مستقرة»، بمعنى «اختفاء أعراض المرض». فسر روزنهان هذه النتائج بأنها تعني أن أخصائيي الصحة النفسية لا يمكنهم التمييز بين الحالة السوية والحالة غير السوية، لأن جميع المرضى قد لازمتهم تشخيصاتهم الأصلية لدى خروجهم من المستشفى.

لاحظ المرضى الزائفون تعرض نزلاء المستشفى الآخرين للإهمال وتلقيهم معاملة تعسفية، أرجع روزنهان (١٩٧٣) الجزء الأكبر منها إلى الآثار الواصمة للمسميات التشخيصية. وادعى أن «التشخيصات النفسية … تحمل في طياتها وصمات شخصية واجتماعية وقانونية» (ص٢٥٢)، وتصيب المرضى بنوع من اليأس، لأن «المسميات تلتصق بهم وتخلع عليهم قناعًا من القصور إلى الأبد» (ص٢٥٧). وانتهى روزنهان إلى افتراض أنه «في بيئة أكثر اعتدالًا وأقل ارتباطًا بالتشخيصات العامة، قد تكون سلوكيات وآراء [أخصائيي الرعاية الطبية] أكثر اعتدالًا وفعالية» (ص٢٥٧).

أحدثت دراسة روزنهان ضجة علمية وإعلامية. وفي موجة عنيفة من التعليقات على هذه المقالة لاحظ العلماء أن روزنهان (١٩٧٣) قد استخدم منهجًا بحثيًّا معيبًا إلى حد بعيد، وتجاهل بيانات مهمة، وتوصل إلى نتائج غير سليمة. وفي أكثر الانتقادات حدة أكد سبيتزر (١٩٧٦) أن بيانات روزنهان ذاته تقدم — على نحو يدعو إلى السخرية — أفضل دليل على كذب ادعاءاته. على سبيل المثال: لنتذكر مثلًا أن كل تشخيصات خروج المرضى الزائفين عُدلت إلى «مستقرة». يعني هذا التغير أن السلوك غير السوي الذي لوحظ عند دخولهم المستشفى لم يعد موجودًا عند خروجهم منها. كما جمع سبيتزر بيانات تشير إلى أن تشخيص الحالات بأنها «مستقرة» كان أمرًا نادرًا للغاية، إن كان موجودًا من الأساس، داخل مستشفيات الأمراض النفسية. وحقيقة أن تشخيصات الحالات جميعًا قد تغيرت على النحو نفسه توضح مدى قدرة الأطباء على تمييز السلوك السوي عندما توقف المرضى الزائفون عن اصطناع الأعراض. وكما ذكر سبيتزر، تعارض هذه الحقيقة ادعاء روزنهان أن أخصائيي الصحة النفسية لا يمكنهم التمييز بين الحالات السوية والحالات غير السوية.

حتى في يومنا هذا، تخبر مصادر لا حصر لها القراء أن المسميات النفسية لها آثار واصمة وأضرار بالغة. ويؤكد أحد المواقع الإلكترونية، وهو موقع ترعاه «إدارة خدمات الصحة النفسية وتعاطي المواد المسببة للإدمان» (http://mentalhealth.samhsa.gov/publications/allpubs/SMA96-3118/default.asp) أن «المسميات تؤدي إلى الوصم»، وأن الكلمات «يمكن أن تكون قاتلة»، وأورد مسميات مثل «مصاب بالاكتئاب، ومصاب بالفصام، ومصاب بالهوس، ومصاب باضطراب فرط النشاط» كأمثلة على المسميات المؤلمة. وفي مناقشة عن أخطار المسميات التشخيصية أشار عالم الاجتماع آلان هورويتز والأخصائي الاجتماعي جيروم ويكفيلد (٢٠٠٧) إلى «الأدلة الكثيرة» على أن التشخيصات النفسية «تؤدي إلى وصمات مؤلمة» (ص٣٢). بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة، فلا يزال العديد من النصوص العلمية تقدم دراسة روزنهان (١٩٧٣) على نحو غير انتقادي. فهذه الدراسة تقع بين أكثر الدراسات المستشهد بها في كتب علم النفس التمهيدي (جورينفلو، وماكونيل، ١٩٩١)، وقد أعيد طبعها في العديد من أمهات الكتب في علم النفس (هاينر، ٢٠٠٨؛ هينسلين، ٢٠٠٣؛ كاولسكي، وليري، ٢٠٠٤)، واستشهد بها في أكثر من ١١٠٠ مقال صحفي (انظر أيضًا روشيو، ٢٠٠٤). على سبيل المثال: كتب رونالد كومر (٢٠٠٧) في كتابه الشهير والفريد في علم النفس أن دراسة روزنهان توضح أن «التسمية «مصاب بالفصام» يمكن أن تكون هي نفسها ذات تأثير سلبي، ليس فقط في الكيفية التي يُنظر بها إلى المرضى، لكن أيضًا في ماهية سلوكياتهم وشعورهم» (ص٤٣٢). وفي محاضرة في سلسلة الشرائط المسموعة «أفكار عظيمة عن علم النفس»، أخبر عالم النفس دانيال روبنسون (١٩٩٧) مستمعيه أن «ما أوضحته دراسة روزنهان هو أنه حالما تشخص حالة المرء بأنها «س»، يتعامل معه الجميع على أنه «س» … وذلك لأن المناخ العام قرر أنه «س»، وأنه سيظل «س» إلى الأبد.»

في السبعينيات، كان سبيتزر قد طلب من روزينهان أن يسمح له بالاطلاع على بياناته للتأكد من صحة استنتاجاته. ويحتم المعيار الأخلاقي رقم ٨-١٤ لجمعية علم النفس الأمريكية (٢٠٠٢) السماح للخبراء الأكفاء بالاطلاع على البيانات لإجراء مراجعة تقييم مستقلة عليها. أكد سبيتزر (١٩٧٦) أن روزنهان وافق على توفير البيانات حالما ينتهي من كتاب يعده عن الدراسة، لكن الكتاب لم ير النور قط، وكذلك بيانات روزنهان. وبعد ثلاثين عامًا من ذلك عرضت الكاتبة لورين سلاتر (٢٠٠٤) أبحاث روزنهان في فصل من كتابها «فتح صندوق سكنر: التجارب النفسية الكبرى في القرن العشرين»، ولم تكتف بمنح القراء الانطباع بأن استنتاجات روزنهان كانت صالحة، ولكنها كررتها أيضًا في دراسة متابعة قدمت فيها نفسها كمريضة زائفة في عدد من مستشفيات الصحة النفسية: «دعوني أخبركم بأنني قد نفذت هذه التجربة، لقد أجريتها فعلًا» (سلاتر، ٢٠٠٤، ص٨٩). وكثيرًا ما طلب سبيرتز وعديد من باحثي الصحة النفسية البارزين الآخرين من سلاتر أن تقدم لهم نسخًا من الدفاتر التي سجلت بها لقاءاتها داخل المستشفيات، لكنها لم تمتثل لطلبهم. وفقط بعد أن نشر سبيتزر وزملاؤه (سبيتزر، ليلينفيلد، وميلر، ٢٠٠٥) مقالة نقدية، كتبت سلاتر (٢٠٠٥) تقول: «لم أجر مثل هذه الدراسة قط؛ لذا لا وجود لها ببساطة شديدة» (ص٧٤٣). وإلى هذا اليوم لا يُعرف هل كررت سلاتر الدراسة كما ادعت أم لا.

وعلى الرغم من أن روزنهان وسلاتر لم يقدما قط البيانات لمراجعة علمية مستقلة، فالعديد من الدراسات المنشورة قد ضعفت تأثير التشخيصات النفسية والسلوكيات الشاذة في وصمة المرض النفسي. وقد أثبت بعض الباحثين خطأ هذه المصادر — فقد ناقش جون روشيو (٢٠٠٤) مواطن الخلل الخطيرة في الدراسات التي يُستشهد بها كثيرًا لإلين لانجر وروبرت أبيلسون (١٩٧٤) وموريس تيميلين (١٩٦٨) — لكنهم أجروا عددًا من التجارب التي أجريت بطريقة منهجية سليمة وعلى نحو أفضل. على سبيل المثال: يمكن أن يتضمن الوصف المكتوب لأحد الأفراد المقصودين تشخيصًا نفسيًّا (مثل الاضطراب ثنائي القطب) أو وصفًا سلوكيًّا (مثل فترات متقلبة من اعتدال الحالة المزاجية وتعكرها سريريًّا) أو كليهما، أو لا شيء منهما. حيث يستطيع الباحثون عن طريق تنويع المسميات والسلوكيات كل على حدة تحديد الطريقة التي يؤثر بها هذان العاملان في نظرة الناس إلى المرضى النفسيين. وقد أدت إحدى المراجعات النقدية المبكرة إلى أن يستنتج كاتبوها أنه «يحتمل أن يكون سبب استهجان المرضى النفسيين ونبذهم هو سلوكهم الشاذ لا التسمية التي أطلقت عليهم» (ليمان، جوي، كرايسمان، وسيمينز، ١٩٧٦، ص٣٣٢). وقد دعم عدد من الدراسات التي أجريت في وقت لاحق هذا الاستنتاج.

وعلى الرغم من أن مجموعة كبيرة من الأدلة تشير إلى أن المسميات النفسية نفسها لا تسبب الأذى، فلا يزال الاعتقاد قائمًا بأن هذه التشخيصات هي السبب في الوصمة التي تصاحب المرض النفسي. فلأن الوصمة نفسها شيء واقعي لا يمكن إنكاره، تمثل التشخيصات النفسية نفسها هدفًا سهلًا لمشاعر الإحباط الطبيعية التي يشعر بها هؤلاء الذين يعانون المرض النفسي ومن يعتنون بهم. مع ذلك وفي المقام الأول، لم يكن القول إن التسميات نفسها، وليس ما يصاحبها من سلوكيات، هي ما يؤدي إلى هذه الوصمة قولًا مقبولًا قط. ولنفكر في البداية في أن وصمة المرض النفسي قد سبقت بكثير جميع مناهج التصنيف النفسي. فقد نُشر «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية»، الذي يستخدمه أخصائيو الصحة النفسية في أنحاء العالم، للمرة الأولى عام ١٩٥٢، ونُشرت أحدث نسخة منه عام ٢٠٠٠ (جمعية علم النفس الأمريكية، ٢٠٠٠). وبالرغم من وجود مسميات أقل رسمية قبل بضعة عقود من صدور النسخة الأولى من الدليل السابق، فإن وصمة المرض النفسي كانت موجودة لقرون من الزمان.

ومن المشكلات الأخرى التي تواجه القول إن المسميات نفسها تسبب الوصمة أن هذه المسميات تكون سرية، وأنه لا يلزم أن يشخص حالة الفرد أخصائي صحة نفسية حتى تلصق به الوصمة، فإذا لم يهتم الأفراد بكشف التشخيصات الرسمية لحالتهم فلن يعرف غيرهم من الأفراد حتى ماهية تلك التشخيصات. ومن أمثلة ذلك، حالما غادر المرضى الزائفون في دراسة روزنهان (١٩٧٣) المستشفيات النفسية، كان عليهم أن يخبروا الأفراد أن حالاتهم قد شخصت بأنها فصام، لكي يعلم الجميع هذه المعلومة. لكن ما الذي يدفع الأفراد الذين تقلقهم أن تلحق بهم وصمة إلى أن يخبروا غيرهم بتشخيصات حالاتهم؟ بالإضافة إلى الملاحظة المباشرة للسلوكيات الشاذة للمريض أو بدلًا منها، يعد العلم بأن هذا المريض قد زار طبيب صحة نفسية هو المصدر المنطقي الوحيد لوصمة المرض النفسي. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه يشيع بين الأفراد افتراض أن أي شخص يتردد على أحد المعالجين لا بد أنه يعاني اضطرابًا نفسيًّا. بالإضافة إلى ذلك، دائمًا يصف عموم الأفراد بعضهم بعضًا في أحاديثهم غير الرسمية بكلمات تحط من قدرهم مثل: «مجنون» أو «معتوه» أو «مخبول». وغالبًا يكون هذا «التوصيف غير الرسمي»، كما أطلق عليه البعض، كافيًا للتسبب في الوصمة المرتبطة بالمرض النفسي، وذلك سواء أكان المريض قد شخص حالته فعليًّا طبيبٌ نفسي أم كشف عنها للآخرين (جوف، ١٩٨٢).

وتقوم التشخيصات النفسية بأدوار مهمة قد يكون من الصعب تحقيقها إن أهملناها كلية. وترجع أهمية التشخيصات إلى أسباب عدة تشمل: التواصل بين أخصائيي الصحة النفسية، وتنسيق أنشطة البحث في كل أنحاء العالم، وتقديم خدمات الصحة النفسية، والحصول على التعويضات من شركات التأمين، وربط المرضى بأكثر طرق العلاج فعالية. وليس هناك، بلا شك، من يعتقد في مثالية الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية. لذلك ينبغي ألا ندخر جهدًا في تطوير نظام التصنيف الحالي في الطب النفسي، ولكن انتقاده بناءً على الحقيقة المزعومة القائلة إن المسميات واصمة في طبيعتها من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية.

لتفترض أن أفرادًا تتعامل معهم في حياتك لاحظوا أن لديك اعتقادًا راسخًا، لكنه خاطئ تمامًا، بأن كل من حولك يريد أن يلحق بك الأذى. أغلب الظن أن أي وصمة متعلقة بمرضك النفسي كانت ستوجد بصرف النظر عما إذا كان هناك من يعرف بأن حالتك قد شخصت على أنها فصام وجنون شك أم لا. وقد ناقش باتريك كوريجان وديفيد بين (١٩٩٩) عددًا من أكثر الطرق فائدة في التخفيف من وطأة الوصمة، وذلك بدلًا من إلقاء اللوم على المسميات النفسية باعتبارها المسئولة عن الوصمة. من هذه الطرق البرامج التعليمية المجتمعية التي تهدف إلى الاهتمام بالتواصل، وكذلك التلطف بإعطاء التشخيصات في سياق طرق العلاج الرقيقة الفعالة.

علاوة على ذلك، أوضحت دراسات عديدة أن المسميات التشخيصية يمكن أن تكون إيجابية التأثير في الوصمة، ربما لأنها تفسر للمراقبين السلوكيات المحيرة. ففي إحدى الدراسات، صنف الأطفال المقالات التي كتبها زملاؤهم ممن شخصت حالتهم بأنها «اضطراب نقص الانتباه المصحوب بفرط النشاط» على نحو أكثر إيجابية من تلك التي كتبها أطفال ممن لم يخضعوا لأي تشخيص (كورنيز-روز، وهيندريكس، ١٩٩٣). وفي دراسة أخرى، تلقى الأطفال المصابون بالتخلف العقلي — عندما أعطوا هذا التشخيص — تقييمًا أفضل من قبل البالغين مما تلقوه عندما لم يطلق عليهم هذا التشخيص (سيتز، وجيسكي، ١٩٧٦). بالمثل، وجدت ميشيل وود ومارتا فاليدز-مينتشاكا (١٩٩٦) تأثيرات إيجابية لتوسيم الأطفال باضطراب اللغة التعبيري، وأشارتا إلى أن التسمية التشخيصية «قد تتسبب في أن يتبع المعلمون سلوكًا أكثر دعمًا مع الطفل … فالتوسيم يمكن أن يوفر سياقًا أكثر إفادةً لتقييم نقاط القوة ونقاط الضعف النسبية لطفل صاحب إعاقات» (ص٥٨٧).

يوضح تاريخ علم النفس والطب النفسي السريريين أنه في الوقت الذي نقترب فيه من فهم الأمراض النفسية على نحو أفضل، وفي الوقت الذي يصبح فيه علاج هذه الأمراض أكثر فعالية، يُرْفَع الوصم عن المرضى النفسيين. وفي الوقت الحالي، عندما يمر هؤلاء المرضى بتجربة التعرض لهذه الوصمة، ينبغي لنا أن نحرص على ألا نلوم على ذلك ما لا يستحق اللوم؛ أي التشخيصات النفسية التي يمكن أن تساعد على تحديد مصدر معاناة هؤلاء المرضى.

(٢) الخرافة رقم ٣٨: لا يقبل على الانتحار إلا من يصابون بالاكتئاب الشديد فقط

قبل مواصلة القراءة أغمض عينيك واستحضر صورة شخص يرغب في الانتحار. ما الذي تراه؟

الأرجح أنك ستتخيل شخصًا مصابًا باكتئاب شديد، ربما كان يبكي بلا توقف ويتأمل في جدوى الحياة. لا شك أن هذا الوصف به شيء من الحقيقة؛ فالاكتئاب السريري — الذي يطلق عليه غالبًا «الاكتئاب الشديد» — فيه دلالة قوية على محاولات الانتحار والنجاح فيه (تشينج، تشين، تشين، وجنكينز، ٢٠٠٠؛ كوبين، ١٩٩٤؛ هارويتز، ورافيزا، ٢٠٠٠؛ موسيكي، ١٩٩٧). في الواقع، يصل احتمال وقوع الانتحار في حياة شخص مصاب باكتئاب شديد إلى ما يقرب من ٦٪ (إنسكيب، هاريس، وباراكوف، ١٩٩٨)، وهذه النسبة أقل بكثير من نسبة ١٥٪ التي كانت مقبولة وقتًا طويلًا في الماضي (جوز، وروبينز، ١٩٧٠)، لكنها لا تزال أعلى بكثير من احتمال إقدام شخص عادي على الانتحار الذي يبلغ ١٪. وعلى الرغم من أن الأصدقاء والأقارب والمقربين أحيانًا ينظرون إلى الاكتئاب على أنه ليس إلا «مرحلة عابرة»، فليس هناك شك في أنه كثيرًا ما يكون حالة تهدد حياة المصاب.

مع ذلك فالعديد من الأفراد الذين يعلمون بالارتباط القائم بين الاكتئاب والانتحار يفترضون أن المصابين بالاكتئاب فقط هم من يقبلون على الانتحار. فعلى سبيل المثال: قالت مديرة إحدى المؤسسات الحكومية لمكافحة الانتحار لصحفي: «لم أعرف أنه مصاب بالاكتئاب»، بعد أن علمت بانتحار زوجها المفاجئ (http://blog.cleveland.com/health/2008/03/boomers_suicide_tren_continue.html). وفي إحدى الدراسات التي أجريت على ٣٣١ من طلبة الجامعة المسجلين في كشوف دورات علم النفس التمهيدي، وافق ٤٣٪ منهم على البند القائل: «لو خضع كل من ينتحر إلى فحص الطبيب النفسي، لجاء تشخيص الحالة معلنًا أن الشخص المنتحر مصاب بالاكتئاب» (هابارد، وماكنتاش، ١٩٩٢). وقد أوضحت دراسة تالية أجريت على الطلبة الذين تخصصوا في التعليم أرقامًا أقل مما سبق، لكنها وجدت مع ذلك أن ٢٥٪ من الطلاب يوافقون على البند السابق (ماكدونالد، ٢٠٠٧).
لذلك يتعجب أناس كثيرون عندما يعلمون أن الأفراد غير المصابين بإحباط شديد أحيانًا يقتلون أنفسهم. والاعتقاد المتمثل في أن الأفراد المصابين باكتئاب سريري هم فقط من ينتحرون هو اعتقاد خطير على الأرجح، ذلك أن الأصدقاء والأقارب والمقربين ربما يفترضون خطأً «سلامة» شخصٍ لا تظهر عليه أعراض الاكتئاب الحادة، ومن ثم ينتهون إلى عدم احتياجه إلى عناية نفسية فورية. مع ذلك، تبيِّن الأبحاث أن ما يقرب من ١٣٪ و٤١٪ (بناءً على الفحص) من الأفراد الذين ينتحرون لا تنطبق عليهم المعايير التشخيصية للاكتئاب الشديد. وما يقرب من ١٠٪ قد شخصت حالاتهم إما بأنها فصام أو بأنها اضطرابات إدمان، كإدمان الكحوليات (ريمر، ٢٠٠٧) وبالإضافة إلى الاكتئاب والفصام واضطرابات الإدمان، ارتبطت التشخيصات الأخرى ارتباطًا واضحًا بمحاولات الانتحار والانتحار الفعلي أو كلاهما معًا:
  • «اضطراب الهلع» (فريدمان، جونز، تشيرنين، وبارلو، ١٩٩٢)، هي حالة تعرف بنوبات مفاجئة وغير متوقعة من الرعب الشديد.

  • «الرهاب الاجتماعي» (شناير، جونسون، هورنيش، ليبوفيتس، ووايسمان، ١٩٩٢)، هي حالة يصيب فيها المريض خوف شديد من المواقف التي قد تبعث على الإحراج أو القهر، كالتحدث أو إنجاز نشاط ما أمام الناس.

  • «اضطراب الشخصية الحدية» (سولوف، لاينتش، كيلي، مالون، ومان، ٢٠٠٠)، هي حالة تعرف بتقلب شديد في الحالة المزاجية والتعاملات الشخصية والتحكم في الاندفاع والهوية.

  • «اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع» (دوجلاس وآخرون، تحت الطبع)، هي حالة تعرف بتاريخ طويل من السلوك غير المسئول والمخالف للقانون في أغلب الأحيان (انظر الخرافة رقم ٣٥).

  • «اضطراب الهوية الجنسية» (دي شيلي، ٢٠٠٠)، وهي حالة يعتري المصاب فيها مشاعر غريبة بعدم الرضا عن نوعه قد تصل به أحيانًا إلى حد الشعور بأنه «حبيس» جسد خاطئ (الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ٢٠٠٠).

مع ذلك يدور بعض الجدل عن علاقات هذه الحالات بمحاولات الانتحار ومرات الانتحار الفعلية، لأن بعضها غالبًا «يتزامن» مع الاكتئاب الشديد، مما يشير إلى أنها تحدث في وقت واحد مع الاكتئاب الشديد داخل الأفراد. لذلك ربما يرجع قدر من الارتباط الظاهر لهذه الحالات بالسلوك الانتحاري إلى تداخلها مع الاكتئاب (كوكس، ديرينفيلد، سوينسون، ونورتون، ١٩٩٤؛ هورنيج وماكنالي، ١٩٩٥). مع ذلك وجد عدد من الباحثين أنه حتى بعد تفسير الأعراض المرتبطة بالاكتئاب، فلا يزال بعض هذه الحالات على الأقل ينبئ بسلوك انتحاري. ومن أمثلة ذلك أن المرضى المصابين باضطراب الشخصية الحدية، المصابين بالاكتئاب منهم وغير المصابين به على حد سواء، يزيد احتمال محاولتهم الانتحار عن المرضى المصابين بالاكتئاب فقط بمقدار الضعف تقريبًا (كيلي، سولوف، لينش، هاس، ومان، ٢٠٠٠). أما الدليل الخاص بإمكانية أن ينبئ اضطراب الهلع وحده — أي بدون أن يتزامن معه الاكتئاب — بالانتحار فهو أمر تختلف فيه الآراء اختلافًا أشد (فيكرز، وماكنالي، ٢٠٠٤؛ وايسمان وآخرون، ١٩٨٩).

ولأسباب غامضة، لا يعاني ما يقرب من ٥ إلى ١٠٪ من الأشخاص الذين ينتحرون أي اضطراب نفسي يمكن تحديد ملامحه (سولومون، ٢٠٠١). ومن المحتمل أن يعاني بعض هؤلاء الأفراد أعراضًا «دون الحد» لواحد أو أكثر من الاضطرابات النفسية، الأمر الذي يشير إلى أنهم لا تكاد تنطبق عليهم المعايير التشخيصية الأساسية لهذه الحالات. لكن عددًا غير محدد منهم ربما يرتكب ما اصطلح البعض على تسميته «الانتحار العقلاني»، وهو قرار مدروس جيدًا يقضي بوضع الفرد حدًّا لحياته عند مرحلة معينة في مواجهة مرض دائم أو ألم قاس لا يمكن علاجه (كليسبيز، هيوز، وجالتشر، ٢٠٠٠؛ ويرث، وكوبيا، ١٩٩٥).

ثمة أسباب أخرى للاعتقاد في أن الاكتئاب ليس بالضرورة المؤشر الوحيد، أو حتى أكثر المؤشرات أهميةً، على الانتحار. أولًا: في بعض الدراسات كان اليأس أقوى من الاكتئاب نفسه في التنبؤ بالانتحار (بيك، براون، وستير، ١٩٨٩؛ بيك، كوفاكس، ووايسمان، ١٩٩٧؛ ويتزل، ١٩٧٦)، وربما يرجع ذلك إلى احتمال أن يقتل الناس أنفسهم عندما لا يرون أي وسيلة للهرب من العذاب النفسي. ثانيًا: على الرغم من أن الاكتئاب «يقل» في السن الكبيرة (انظر الخرافة رقم ٩)، فمعدلات الانتحار «ترتفع» ارتفاعًا حادًّا في هذه السن، خاصةً بين الرجال (جوينر، ٢٠٠٥). وأحد الأسباب المحتملة للفرق الشاسع بين معدلات الاكتئاب ومعدلات الانتحار فيما يخص السن هو ضعف المسنين من الأفراد من الناحية الطبية. ولذلك يقل احتمال نجاتهم من محاولات الانتحار، كالتسمم، عن الأفراد الأصغر عمرًا. مع ذلك هناك سبب آخر يكمن في أن محاولات الانتحار بين المسنين من الأفراد يغلب عليها أن تكون أكثر خطورةً (درابر، ١٩٩٦)، فعلى سبيل المثال: مقارنةً بالأفراد الأصغر سنًّا، تزيد احتمالات استخدام المسنين وسائل أكثر خطورةً عند محاولة الانتحار، كإطلاق النار على أنفسهم في الرأس (فريرسون، ١٩٩١).

تؤدي بنا هذه المناقشة إلى خرافة محتملة شديدة الارتباط بالخرافة الحالية. تتمثل هذه الخرافة في افتراض الأفراد أن إمكانية حدوث الانتحار تقل في الوقت الذي يأخذ فيه الاكتئاب الشديد في الاختفاء. ففي استطلاع لرأي طلاب علم النفس الجامعيين، أجاب ٥٣٪ منهم إجابة «خطأ» عن العبارة القائلة: «ترتفع إمكانية حدوث الانتحار في حالة الاكتئاب عندما يبدأ الشخص في التحسن» (هابارد، وماكنتاش، ١٩٩٢، ص١٦٤). مع ذلك هناك في الحقيقة أدلة على أن إمكانية وقوع الانتحار ربما تزيد أحيانًا في الوقت الذي يزول فيه الاكتئاب (إيزاكسون وريتش، ١٩٩٧؛ كيث-سبيجل، ١٩٦٧؛ ميهل، ١٩٧٣)، ربما لأن الأفراد الذين يعانون اكتئابًا شديدًا يبدءون في الشعور بعودة للطاقة في الوقت الذي يشعرون فيه بتحسن (شيا، ١٩٩٨). أثناء هذه الفترة، قد يكون هؤلاء الأفراد في منطقة خطر، إذ يظلون مصابين بالاكتئاب، لكنهم في هذا الوقت يمتلكون الطاقة الكافية لمحاولة الانتحار. غير أن هناك تضاربًا في تأييد الأبحاث لهذا الادعاء، الأمر الذي يرجع إلى أن المرضى المصابين بالاكتئاب الذين يبدءون في الشعور بتحسن في الحالة المزاجية وليس الشفاء الكامل ربما يكونون أكثر ميلًا إلى محاولة الانتحار في المقام الأول من غيرهم من المرضى المصابين بالاكتئاب (جوينر، بيتيت، ورود، ٢٠٠٤).

إذن ربما لا «يتسبب» تحسن الحالة المزاجية في تزايد إمكانية وقوع الانتحار، على الرغم من أن الأمر لم يحسم بعد. مع ذلك أيضًا لا بأس أن نقول إن المرء لا ينبغي له أن يفترض أن شخصًا مصابًا باكتئاب شديد «ليست لديه أي مشكلات» ما إن تبدأ الحالة المزاجية لذلك المصاب في التحسن.

(٣) الخرافة رقم ٣٩: الأشخاص المصابون بالفصام لهم شخصيات عديدة

«أشعر اليوم بأني مصاب بالفصام؛ أو قل إن شئت إن لي عقلين.»
«تتبنى الغالبية العظمى من الفلاسفة رأيًا فصاميًّا مزدوجًا في تاريخ العلم.»
«إننا نواجه منهجًا فصاميًّا على نحو خطير فيما يتعلق بتربية شبابنا.»
«هناك طبعًا تفسير سهل لهذا الفصام الأخلاقي الظاهر: الفارق الشاسع بين المبادئ والسياسة … بين الحرب على الإرهاب والحرب في العراق» (اقتباس من كلام صحفي انتقد الأسلوب الذي سلكه الرئيس جورج دابليو بوش فيما يتعلق بالحرب على العراق).

تعكس هذه الاقتباسات، المأخوذة من مواقع إلكترونية عديدة، فكرة خاطئة لكنها منتشرة، وهي أن الفصام و«ازدواج الشخصية» أو «اضطراب تعدد الشخصية» هما شيء واحد. ولا أدل على ذلك من أن الجمل المكتوبة على لاصقات مصدات الصدمات بالسيارات وسلاسل المفاتيح مثل: «كنت أعاني الفصام ذات مرة، لكنني الآن على ما يرام.» وهناك ملصق آخر يوضع على السيارات يقول: «كنت مصابًا بالفصام حتى عالجوني؛ وأنا الآن وحيد فحسب.»

أحد المراجع البارزة في علم النفس التمهيدي يصل إلى حد القول: «الأرجح أن الفصام هو المصطلح الذي يتعرض لأكبر قدر من إساءة الاستخدام في الوجود» (كارلسون، ١٩٩٠، ص٤٥٣). وكما جاء في ذلك الكتاب وغيره، يختلف الفصام اختلافًا شديدًا عما يطلق عليه «اضطراب الهوية الانشقاقي»، الذي كان فيما مضى يطلق عليه «اضطراب تعدد الشخصية» (الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ٢٠٠٠)، فعلى العكس من الأفراد المصابين بالفصام، يفترض أن يحتفظ الأفراد الذين يعانون «اضطراب الهوية الانشقاقي» باثنتين أو أكثر من «الشخصيات البديلة» المميزة — حالات الشخصية أو الشخصيات — داخلهم في الوقت نفسه على الرغم من أن هذا الادعاء يثير جدلًا علميًّا (ليلينفيلد، ولين، ٢٠٠٣). وأحد الأمثلة المألوفة على «اضطراب الهوية الانشقاقي» ما يسمى «ازدواج الشخصية»، الذي تتعايش فيه شخصيتان بديلتان في الوقت نفسه وغالبًا تناقض إحداهما الأخرى في السمات الشخصية. ففي «ازدواج الشخصية» قد تتسم إحدى الشخصيتين البديلتين بالخجل والحياء، وتتسم الأخرى بالانفتاح وحب الظهور. وربما تكون القصة الرائعة التي كتبها روبرت لويس ستيفنسون عام ١٨٨٦ بعنوان «الحالة الغريبة لدكتور جيكل والسيد هايد» أفضل قصة تناولت ازدواج الشخصية في الأدب الشعبي.

مع ذلك، يرى العديد من علماء النفس أن الجزم بأن مرضى «اضطراب الهوية الانشقاقي» لهم شخصيات متفردة وتامة التكوين محل شك (روس، ١٩٩٠؛ شبيجل، ١٩٩٣). والمرجح عن ذلك بكثير أن هؤلاء المرضى لديهم جوانب مختلفة — لكن مبالغ فيها — من شخصية واحدة (ليلينفيلد، ولين، ٢٠٠٣).

بل إن بعض المقالات التي تنشر في الدوريات العلمية تخلط بين الفصام واضطراب الهوية الانشقاقي. فقد جاءت إحدى المقالات الحديثة المنشورة في دورية طبية تحت عنوان فرعي هو «الموقف الفصامي لطبيب الأمراض الجلدية تجاه الحالات المرضية المصطبغة»، وذهبت المقالة إلى القول إنه على الرغم من أن أطباء الأمراض الجلدية قد تصدروا عملية توعية العوام بعوامل زيادة احتمالات الإصابة بسرطان الجلد، فالعديد منهم يتجاهل قلق المرضى من البقع الجلدية التي تصيبهم (دومر، ٢٠٠٣). وذكرت مقالة نشرت في دورية علمية مخصصة للهندسة الوراثية لاضطرابات العقل بعنوان «التطورات الحديثة في الهندسة الوراثية للفصام» أن «الفصام، الذي يطلق عليه أيضًا «ازدواج الشخصية»، هو اضطراب نفسي معقد ومتعدد العوامل وله أشكال سريرية متنوعة» (شاستري، ١٩٩٩، ص١٤٩).

ومن العجيب أن المفهوم الخاطئ الذي يساوي بين الفصام وتعدد الشخصية منتشر على نطاق واسع. ففي أحد استطلاعات الرأي، وافق ٧٧٪ من الطلاب الذين سجلوا أسماءهم في دورات علم النفس التمهيدي على وجهة النظر القائلة إن «الشخص المصاب بالفصام هو شخص مصاب بازدواج الشخصية» (فوجان، ١٩٧٧، ص١٣٩). وقد وجدت الدراسات التي أجريت في أوقات لاحقة أن هذا الرقم انخفض قليلًا؛ حوالي ٥٠٪ من بين طلاب الجامعة و٤٠٪ من بين ضباط الشرطة وما يقرب من ٥٠٪ من بين أفراد المجتمع (ستيوارت، وأربوليدا-فلوريز، ٢٠٠١؛ وال، ١٩٨٧).

وقد شق هذا المفهوم الخاطئ طريقه أيضًا إلى الثقافة الشعبية، فالفيلم الكوميدي الذي عرض عام ٢٠٠٠ بعنوان «أنا ونفسي وآيرين»، بطولة جيم كاري، يصور رجلًا يفترض أنه مصاب بالفصام. مع ذلك، يعاني ذلك الرجل في حقيقة الأمر ازدواج الشخصية؛ ذلك أن له شخصيتين إحداهما (تشارلي) رقيقة والأخرى (هانك) عدوانية. وفي الفيلم تتحول شخصية كاري على نحو لا يمكن التنبؤ به من الشخص «الرقيق» إلى الشخص «المصاب بمرض نفسي». كذلك، بعد أن عرضت شبكة إن بي سي مسلسل «ألد أعدائي»، بطولة كريستيان سلاتر، الذي جسد فيه دور جاسوس يعاني ازدواج الشخصية للمرة الأولى في أكتوبر (تشرين الأول) عام ٢٠٠٨، وصف عدد من النقاد خطأ شخصية سلاتر بمريض الفصام (بيريجارد، ٢٠٠٨). بالإضافة إلى ذلك، ساهمت صناعة لعب الأطفال بدور في هذا الخلط أيضًا؛ فها هو أحد أعداء لعبة «جي. أي جو» يتسمى باسم «زارتان» الذي يبعث على الخوف، والذي يصفه صانعو اللعب بأنه «مريض بفصام بارانويدي شديد» يجعله «ينتقل بين شخصيات عديدة متنوعة» (وال، ١٩٩٧). وللأسف الشديد تناقش بضع مقالات عن الفصام تنشر في مجلات معروفة الخلط بين الفصام واضطراب الهوية الانشقاقي (وال، بوروستوفيسكي، وريبي، ١٩٩٥) على نحو يجعل من الصعب على العوام فهم الفارق.

إن خرافة الخلط بين الفصام واضطراب انفصال الهوية ينبع على نحو شبه مؤكد من الخلط الجزئي في المصطلحات. فقد نحت الطبيب السويسري يوجين بلولر مصطلح «فصام» عام ١٩١١ ليعني «عقلًا منقسمًا». وسرعان ما أخطأ العديد من الأشخاص العاديين وحتى بعض علماء النفس في تفسير التعريف الذي وضعه بلولر، فقد قصد بلولر بكلمة فصام أن الأفراد المبتلين بهذه الحالة الخطيرة يعانون «انقسامًا» داخل وظائفهم النفسية وفيما بينها، خاصةً بين عواطفهم وتفكيرهم. ففي حالة الغالبية العظمى منا، فإن ما نشعر به في لحظة ما عادةً يطابق ما نشعر به في اللحظة التالية، وما نفكر فيه في لحظة ما نفكر فيه في التالية، فإن شعرنا بالحزن في لحظة ما، يغلب علينا الشعور بالحزن بعد لحظة منها، وإذا جالت بخاطرنا أفكار سيئة في لحظة ما، غالبًا تجول بخاطرنا أفكار سيئة في اللحظة التالية، والعكس بالعكس. لكن في مرض الفصام، كثيرًا ما تتمزق كل هذه الصلات.

وكما لاحظ بلولر، فالأفراد المصابون بالفصام لا يحملون أكثر من شخصية واحدة داخلهم، فلهم شخصية واحدة تعرضت للتقسيم والتفتيت (آريتي، ١٩٦٨). وفي اللغة الحديثة المستخدمة في علم النفس والطب النفسي تشير كلمة فصام إلى اضطراب نفسي شديد يتسم بحالة من التمزق الشديد على أرض الواقع (الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ٢٠٠٠). والأفراد المصابون بتلك الحالة عهدت عنهم معاناتهم من تشوش التفكير وتقلبات مفاجئة في الأحوال المزاجية، وغالبًا تحاصرهم الأوهام (الاعتقادات الكاذبة الثابتة، كالاعتقاد في أنهم مراقبون مثلًا)، والهلاوس (تجارب حسية في غير وجود لأي منبهات حسية فعلية، كسماع أصوات مثلًا).

ومما يدعو إلى السخرية أن أول استخدام خاطئ للفصام في الإشارة إلى تعدد الشخصية، في الصحف المعروفة، ربما جاء على لسان أحد علماء النفس البارزين (ماكنالي، ٢٠٠٧)، ففي عام ١٩١٦ أجرى صحفي بجريدة «واشنطن بوست» لقاءً مع جي ستانلي هول، الذي صار فيما بعد عضوًا بهيئة التدريس بجامعة «جونز هوبكنز» وأول رئيس للجمعية الأمريكية لعلم النفس. في ذلك اللقاء أخبر الدكتور ستانلي الصحفي أن: «الفصام مصطلح يستخدمه علماء النفس لوصف ذات منقسمة، ويمثل نمط الشخصية الخاص بجيكل وهايد نوعًا منها» («أشار إليها بالفصام» ص٤٥). وما مضت إلا بضعة أعوام على ذلك حتى ذاع ذلك الخلط بين الفصام وتعدد الشخصية في الثقافة الشعبية، على الرغم من عدم وضوح درجة تأكيد كلام هول لهذا الخلط (هولزينجر، آنجرماير، وماتشنجر، ١٩٩٨؛ ماكنالي، ٢٠٠٧). وبحلول عام ١٩٣٣ وجد هذا الخلط طريقه إلى مقالة معجمية كتبها الأديب الشهير تي إس إيليوت قائلًا في ثناياها: «لكي يصبح الشاعر فيلسوفًا أيضًا عليه أن يكون رجلين في آن واحد؛ ولا يحضرني مثال على هذا الفصام الشامل» (تيرنر، ١٩٩٥، ص٣٥٠).

لكن هل ينبغي أن يشكل أي من ذلك أهمية؟ إذا أخطأ الأفراد في استخدامهم لكلمة فصام فهل ينبغي لنا أن نلقي بالًا لذلك؟ مما يؤسف له كثيرًا أن العديد من الأفراد في أغلب الأحوال لا يقدِّر أن الفصام غالبًا يكون حالة بالغة الضرر، يرتبط بها احتمال متزايد لحدوث انتحار واكتئاب سريري واضطراب قلق وتعاطي مخدرات وبطالة وتشرد، وغير ذلك من المضاعفات الخطيرة (الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ٢٠٠٠؛ جوتسمان، ١٩٩١). بالمثل، لا يقدِّر كثير من عوام الأشخاص الآثار المدمرة للفصام في أفراد الأسرة والأصدقاء والمقربين. والتهوين من هذه الحالة، كدأب الغالبية العظمى من أفلام هوليوود، يمكن أن يؤدي بنا إلى الاستخفاف بقسوتها والاستخفاف بالحاجة الملحة للمصابين بها إلى العلاج الفعَّال (وال، ١٩٩٧). وكما قال عالم النفس إرفينج جوتسمان (١٩٩١): «إن الاستخدام اليومي الخاطئ للكلمات «فصام» و«فصامي» للإشارة إلى سياسة الولايات المتحدة الخارجية، أو سوق الأوراق المالية، أو أي شكل آخر من أشكال دحض التوقعات، ليحكم حكمًا ظالمًا على «فداحة» مشكلات الصحة العامة والمعاناة الشديدة المرتبطة بهذا الاضطراب شديد الغموض الذي يصيب العقل البشري» (ص٨). للكلمات أهمية كبيرة.

(٤) الخرافة رقم ٤٠: تظهر على أبناء مدمني الكحوليات مجموعة مميزة من الأعراض

تخيل أنك زرت الآن أحد أخصائيي علم النفس لإجراء فحص مبدئي؛ فقد انتابتك حالة من تعكر المزاج، ولم تكن راضيًا عن علاقاتك وصداقاتك ووظيفتك. وكنت تسائل نفسك عن أسباب ذلك. وبعد أن يبقيك الأخصائي النفسي منتظرًا بضع دقائق من القلق داخل غرفة الانتظار، يدعوك إلى حجرة مكتبه ويطلب منك الجلوس. بعد ذلك يشرع في إخبارك بأن نتائج اختباراته توضح أنك تعاني المشكلات الآتية:
  • تدني تقدير الذات.

  • شعورًا بالخجل والذنب.

  • نزعة إلى تحمل قدر كبير من المسئولية عن الآخرين في أوقات معينة، وقليل منها في أوقات أخرى.

  • حاجة إلى استحسان الآخرين.

  • صعوبات في العلاقات الحميمة.

  • إفراطًا في الولاء للآخرين.

  • شعورًا بالعجز.

  • مشكلات في السيطرة على الدوافع.

بعد ذلك تبادر أنت في خضوع تام بسؤال الطبيب: «وما الذي يعنيه ذلك كله؟» فيؤكد لك أن هذه الأعراض تتطابق تمام التطابق مع شخص له تاريخك الأسري. ويشرع الطبيب في ثقة بالغة في إخبارك أنه نظرًا لكونك ابنًا لأحد الأفراد مدمني الكحوليات، فهذه الأعراض متوقعة تمامًا. عندئذ تتنفس الصعداء، بعد أن ترتاح إلى فهم أن العديد من الصعوبات العاطفية التي لم يكن لها تفسير فيما مضى إنما تنبع من إدمان والدك للكحوليات. بالإضافة إلى ذلك، إن كنت صادقًا للغاية مع نفسك، فستضطر إلى أن تقر أن هذا التحليل للشخصية ينطبق عليك تمامًا.

في الحقيقة أجاد الأخصائي النفسي في «تشخيصه» التزام قدر كبير من الأدب الشعبي، فالأعراض المدرجة بأعلى، مع بضعة أعراض أخرى، تشكل ما يشيع الاعتقاد في كونه «تحليلًا» خاصًّا للشخصية ظهر بين أبناء مدمني الكحوليات (لوج، شير، وفرينش، ١٩٩٢).

إن مجموعة أعراض أبناء مدمني الكحوليات هي واحدة من أكثر المفاهيم رسوخًا في علم النفس الشعبي. فما يزيد عن ٢٢٠٠٠٠ موقع إلكتروني يحتوي على عبارة «أبناء مدمني الكحوليات»، وتعلن مئات من تلك المواقع عن مجموعات مساعدة الذات، وبرامج العلاج التي تهدف إلى مساعدة الأفراد الذين يمتلكون ملامح شخصيات أبناء مدمني الكحوليات. ولعل الكتب المشهورة مثل كتاب واين كريستبيرج الصادر عام ١٩٨٦ بعنوان «متلازمة أبناء مدمني الكحوليات»، وكتاب جانيت ويتيتز الصادر عام ١٩٨٣ بعنوان «أبناء مدمني الكحوليات»، وكتاب روبرت أكرمان الصادر عام ٢٠٠٢ بعنوان «بنات مثاليات»، لتوجز الصفات المميزة لمتلازمة أبناء مدمني الكحوليات، وتصف طرق التخفيف من حدة هذه السمات المعقدة أو تعويضها. وقد سعت كتب عديدة ذائعة الانتشار إلى تفسير السلوكيات التي لا تفسير لها على ما يبدو لأشهر حالة أمريكية لمتلازمة أبناء مدمني الكحوليات، وهو الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، وذلك فيما يتعلق بأعراض أبناء مدمني الكحوليات (فيك، ١٩٩٨). على سبيل المثال: سعى ديفيد مارينيس في كتابه «لغز كلينتون» (١٩٩٨) إلى عزو مغامرات كلينتون الجنسية المشهورة إلى مشكلات السيطرة على التصرفات التي يتسم بها أبناء المدمنين، وكذلك إلى عزو طموحاته السياسية إلى الرغبة الطاغية عند أبناء المدمنين في حل مشكلات الآخرين.

مع ذلك، عندما أخضع الباحثون المادة البحثية المتوفرة عن الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات إلى الفحص الدقيق، ذهب التأييد العلمي لهذه الأعراض أدراج الرياح. فقد راجع كينيث شير (١٩٩١) الدراسات الأساسية المنشورة عن صفات شخصيات هؤلاء الأبناء وأدهشه ضعف الأدلة التي تدعم «متلازمة أبناء مدمني الكحوليات». في المتوسط، يظهر على هؤلاء الأبناء فعلًا بعض الفوارق في الشخصية عن أبناء غير مدمني الكحوليات من البالغين. فعلى سبيل المثال: يغلب على أبناء مدمني الكحوليات أن يكونوا أكثر توترًا وانفتاحًا على الآخرين، وميلًا إلى الإقبال على المخاطر عن غيرهم من الأفراد (تارتر، ألترمان، وإدواردز، ١٩٨٥). ومع ذلك، لا يمت أي من هذه الاختلافات على نحو مباشر بالتحليل القياسي لأبناء مدمني الكحوليات، والجزء الأكبر من الصفات الأخرى في التحليل لا تميزهم عن أبناء غير مدمني الكحوليات من البالغين.

بالإضافة إلى ذلك، تقل أو تنعدم الأدلة على أن أبناء مدمني الكحوليات يظهرون درجات أعلى من سمات شخصية «المساعد»؛ أي السمات التي ترتبط بنزعة مساعدة (أو «تمكين») الأفراد مدمني الكحوليات أو غيرها من المواد، أكثر من غير أبناء مدمني الكحوليات البالغين، وذلك على عكس ما ذكره البرنامج التليفزيوني الشهير «برنامج أوبرا وينفري» والعديد من البرامج التليفزيونية الأخرى. مع ذلك، يغلب على الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات الميل أكثر من غيرهم إلى «نعت» أنفسهم بمساعدي المدمنين، الأمر الذي ربما يكون السبب فيه أنهم قرءوا أو سمعوا في مصادر علم النفس الشعبي أن الأبناء البالغين لمدمني المخدرات يكونون غالبًا مساعدي مدمنين (جورج، لا مار، باريت، وماكينون، ١٩٩٩).

وتلقي دراسة أجراها شير واثنان من زملائه، هما ماري بيث لوج وبيتر فرينش، عام ١٩٩٢ مزيدًا من الضوء على متلازمة الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات. فقد أوضح هؤلاء الباحثون أن قائمة فحص معتمدة على الإفادة الذاتية، وتتكون من العبارات التي يفترض أن يستخدمها الأبناء البالغون لمدمني الكحوليات، والتي أُخِذَت من كتب في علم النفس الشعبي مثل عبارة: «في أوقات الأزمات تميل إلى الاعتناء بالآخرين»، أو عبارة «أنت حساس تجاه الصعوبات التي تواجه الغير»، لم تكن أفضل بأي حال من الحظ في تمييز الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات عن أبناء غير مدمني الكحوليات (لوج وآخرون، ١٩٩٢). ومن الطريف أن شير والمؤلفين المشاركين معه وجدوا أن الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات يدعمون قائمة فحص بها عبارات شديدة العموم والغموض (مثل، «ربما يضايقك التغير والتنوع في بعض الأحيان» و«تحتاج بشدة إلى أن تحظى بإعجاب الآخرين»)، كما يدعمون قائمة فحص العبارات الخاصة بأبناء البالغين أبناء مدمني الكحوليات. بالإضافة إلى ذلك، ما يقرب من ٧٠٪ من الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات والأبناء البالغين لغير مدمني الكحوليات قالوا إن كلتا القائمتين أحسنت وصفهم، أو كانت أفضل من غيرها في وصفهم.

وكما أشرنا في الخرافة رقم ٣٦، يشير علماء النفس إلى هذه الأنواع الغامضة المفتقدة للدلالة من الكلمات الواصفة للشخصية باسم «عبارات بي تي بارنوم»، وإلى ميل الأفراد إلى رؤيتها دقيقة باسم «تأثير بارنوم» (ميهل، ١٩٥٦)، وربما يكون الأفراد الذين يعانون مشكلات نفسية معضلة عرضة على نحو خاص لهذا التأثير، نظرًا لأنهم يبحثون غالبًا عن تفسير بسيط ومرتب للصعوبات التي تكتنف حياتهم. ويطلق علماء النفس على هذه الظاهرة «بذل الجهد بحثًا عن المعنى». فالأفراد يرغبون في فهم الطريقة التي آلوا بها إلى ما هم عليه الآن، وتأثير بارنوم يستغل هذه النزعة المفهومة أفضل استغلال.

تأتي عبارات بارنوم في أشكال متعددة، فبعضها يكون «ثنائي الطبقة» لأنها تنطبق على الأفراد الذين إما يكونون فوق المتوسط أو تحت المتوسط في صفة ما، وهي بطبيعتها تنطبق بصفة أساسية على الجميع (هاينز، ٢٠٠٣). العبارة الثالثة في تحليل أبناء مدمني الكحوليات المذكورة في بداية هذا الجزء، التي تصف تحمُّل قدر كبير للغاية من المسئولية وقدر صغير للغاية منها عن الآخرين، هي أحد الأمثلة الرئيسية على هذا. أحد المواقع الإلكترونية يصف الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات بالقول إنهم يخافون من التقرب إلى الأفراد، ويبالغون في الوقت نفسه في الاعتماد على الناس. مع ذلك، تشير بنود أخرى لبارنوم إلى نقاط ضعف تافهة تشيع بين الناس على أنها عديمة المغزى تمامًا فيما يخص أغراض التقييم (مثل: «أجد في بعض الأحيان صعوبةً في اتخاذ القرارات.») وتشير كذلك إلى التأكيدات التي يستحيل دحضها (مثل: «إن لدي قدرًا كبيرًا من القدرات التي لم تكتشف بعد.») وأما العبارة الرابعة في تحليل الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات، التي تشير إلى الحاجة للاستحسان، فتنطبق على الجانبين؛ فمن الذي لا يحتاج إلى نيل الاستحسان في بعض الأحيان؟ وكيف يمكننا أن نبرهن أن شخصًا ما يبدو مستقلًّا على نحو صارخ وليس بحاجة ملحة ومختفية بعيدًا في أعماق شخصيته إلى نيل الاستحسان؟

ربما يفسر تأثير بارنوم كثيرًا من النجاح الذي حققه علماء الخطوط (انظر الخرافة رقم ٣٦) والمنجمون وقارئو الكرة البلورية وقارئو الكف وقارئو بطاقات التاروت والوسطاء الروحانيون؛ فجميعهم يستخدم على نطاق واسع عبارات بارنوم. وأغلب الظن أنك ستلاحظ أيضًا وجود تأثير بارنوم في العمل أثناء زياراتك القادمة لمطعم صيني. وحتى تفهم ما نعنيه، كل ما عليك أن تفتح كعك الحظ وتقرأ «حظك».

ربما تساعد النتائج التي توصل إليها شير وزملاؤه في تفسير السبب الذي من أجله رأيت أن تحليل الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات في بداية هذا الجزء ينطبق عليك تمامًا. فالنتائج التي توصلوا إليها تؤكد الاعتقاد الشعبي أن الصفات الشخصية لهذا التحليل تنطبق في الحقيقة على الأبناء البالغين لمدمني الكحوليات؛ لكن هناك خدعة صغيرة هي أنها تنطبق على الجميع تقريبًا.

(٥) الخرافة رقم ٤١: تفشى مرض التوحد الطفولي بصورة وبائية في الآونة الأخيرة

جرب البحث عن عبارة «وباء التوحد» على محرك البحث «جوجل» وستجد ما يقرب من ٨٥٠٠٠ نتيجة تشير جميعًا إلى ما يعتبره العديد من الأشخاص حقيقة بديهية، وهو أن الخمسة عشر عامًا الماضية شهدت زيادة مذهلة في نسبة الأطفال المصابين بالتوحد.

وطبقًا لآخر إصدار من «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية» (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية؛ الجمعية الأمريكية للطب النفسي، ٢٠٠٠)، يمثل التوحد اضطرابًا شديدًا يظهر للمرة الأولى في مرحلة الطفولة المبكرة. ويعاني ما يقرب من خمسة وسبعين بالمائة من الأفراد المصابين بالتوحد التخلف العقلي، وأغلبهم من الذكور. بالإضافة إلى ذلك يعاني المصابون بالتوحد جميعهم أنواعًا من القصور اللغوي الملحوظ الذي يصل في الحالات الشديدة إلى البكم التام، والعديد منهم لا يقيم روابط عاطفية قوية مع الآخرين، ويمارس الجزء الأكبر منهم أنشطة نمطية ومتكررة كتدوير الشعر والتصفيق بالأيدي وضرب الرأس، ويبدي كذلك ردود أفعال سلبية وحادة حتى تجاه التغيرات البسيطة التي تطرأ على البيئات المحيطة بهم.

التوحد الذي كان يفترض ذات يوم أنه حالة شديدة الندرة — إذ أشارت أفضل التقديرات، في فترة ما قبل التسعينيات، إلى أن التوحد ينتشر بنسبة تقرب من ١ من بين كل ٢٥٠٠ فرد (ديفرانشيسكو، ٢٠٠١) — صار يعتقد الآن أنه مرض يصيب ما يقرب من ١ من بين كل ١٥٠ شخصًا (كاري، ٢٠٠٧). وبين عامي ١٩٩٣ و٢٠٠٣ سجلت إحصاءات وزارة التربية والتعليم الأمريكية زيادة مذهلة تساوي ٦٥٧٪ في معدلات الإصابة بمرض التوحد في أرجاء الولايات المتحدة (ليلينفيلد، وأركوويتز، ٢٠٠٧). وعلى نحو متوقع، حاول العديد من الأفراد تحديد مصادر هذه الزيادة الكبيرة المحيرة. أما بعضهم، بما في ذلك روبرت إف كينيدي الصغير (٢٠٠٥)، المدافع عن حقوق المستهلك، ومعه مئات الآلاف من آباء الأطفال المصابين بالتوحد، فقد أشاروا بأصابع الاتهام الصريحة إلى اللقاحات التي تحتوي على مادة الثيمروزال الحافظة (المطهر الزئبقي)؛ وهي تلك اللقاحات التي يحقن العديد من الأطفال بها غالبًا قبل فترة قصيرة من ظهور أعراض التوحد عليهم (كيربي، ٢٠٠٥). ولعل الزئبق هو أحد المواد التي يتكون منها الثيمروزال، ويمكن لها أن تؤدي إلى تلف الخلايا العصبية عند تناول جرعات عالية (الشكل ٩-١). في إحدى الدراسات، وافق ٤٨٪ من طلبة الجامعة على أن «التوحد سببه جرعات التطعيم» (لينز وآخرون، ٢٠٠٩).
fig3
شكل ٩-١: تعبر الكلمات المكتوبة على هذا القميص (لسنا ضد اللقاح … وإنما ضد الزئبق) عن مشاعر معارضي اللقاحات التي تحتوي على مادة الثيمروزال؛ تلك اللقاحات التي يرى معظم هؤلاء المعارضين أنها تسببت في انتشار وباء التوحد مؤخرًا (الحرفان Hg يمثلان الرمز الكيميائي للزئبق، وهو أحد نواتج تحلل الثيمروزال). (المصدر: صورة مأخوذة من موقع Zazzle.com.)
وقد ذاع الادعاء بأن معدلات التوحد مستمرة في الزيادة عن طريق كثرة تردد ذلك على ألسنة المتحدثين الرسميين في وسائل الإعلام. ففي عام ٢٠٠٥ خصص برنامج «واجه الصحافة»، الذي تبثه شبكة إن بي سي، مجموعة من حلقاته لمناقشة وباء التوحد، وكذلك ادعاءات المؤلف صاحب الكتب الأكثر مبيعًا، ديفيد كيربي، أن اللقاحات التي يدخل الثيمروزال في تركيبها تتسبب في الإصابة به. وعام ٢٠٠٨، طالبت الممثلة والنجمة السابقة لمسابقة «بلاي بوي بلاي ميت»، جيني ماكارثي، وهي أم لطفل مصاب بالتوحد، باستقالة مدير «مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها»، جولي جيربيردنج، بسبب «افتقارها للكفاءة في التعامل مع انتشار وباء التوحد»، وطالبت بمدير «يدرك أننا نعاني من انتشار وباء التوحد» (http://adventuresinautism.blogspot.com/2008/03/jenny-mccarthy-calls-for-julie.html). على النحو نفسه أعلن النجم السابق للدوري الأمريكي لكرة القدم الأمريكية في مركز الظهير الربعي، «دوج فلوتي»، وهو أب لابن مصاب بالتوحد، على الملأ أن التوحد مستمر في الانتشار بمعدل مفزع (http://www.dougflutiejrfoundation.org/About-Autism-What-is-Autism-.asp).

بالإضافة إلى ذلك، تبنى مرشحَا الحزبين الرئيسيين في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام ٢٠٠٨ وجهة النظر القائلة إن معدل انتشار التوحد يزيد على نحو هائل. ففي رد لجون ماكين على سؤال وجه له في لقاء بمقر أحد المجالس المحلية عام ٢٠٠٨، قال: «لا جدال في أن «التوحد» في زيادة مستمرة بين الأطفال، لكن السؤال هو: ما الذي يتسبب فيه؟ … هناك أدلة قوية تشير إلى أن لذلك علاقة قوية بمادة حافظة في اللقاحات» (كرر ماكين الادعاء القائل إن التوحد مستمر في الزيادة أثناء المناظرة الرئاسية الثالثة في أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠٠٨). وبعد مرور أقل من شهرين، قال باراك أوباما لأنصاره في أحد التجمعات: «قد رأينا زيادة مذهلة في معدل الإصابة بالتوحد. ويخالط البعض الشك في أن لذلك صلةً باللقاحات، ولعلي واحد من هذا البعض.» ويبدو أن العديد من الأمريكيين يشاركون ماكين وأوباما هذا الرأي؛ فطبقًا لما جاء في استطلاع غير رسمي للآراء أجرته محطة سي بي إس الإخبارية على شبكة الإنترنت في برنامجها «٦٠ دقيقة»، اعتقد ٧٠٪ من المجيبين في انتشار وباء التوحد.

مع ذلك، ثمة سبب قوي للشك في أن التوحد مستمرٌ في الازدياد. أحد التفسيرات المحتملة لهذه الاستنتاجات هو التراخي الملحوظ للممارسات التشخيصية على مدار الوقت (جيرنزباتشر، دوسن، وجولدسميث، ٢٠٠٥؛ جرينكر، ٢٠٠٧). فقد اشترط إصدار عام ١٩٨٠ من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، ٣) توفر ٦ معايير من بين ٦ في الأفراد لكي يصح تشخيص حالتهم بأنها توحد. وعلى النقيض، اشترط إصدار عام ١٩٩٤ من الدليل نفسه (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، ٤)؛ وهو الإصدار الذي لا يزال معمولًا به بعد أن طرأت عليه تعديلات طفيفة، أن يتحقق في الأفراد ٨ معايير من ١٦ معيارًا لجواز تشخيص حالاتهم بأنها توحد. بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الذي احتوى فيه الإصدار الثالث من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية على وصفين فقط لهما صلة بالتوحد — «الاضطراب التوحدي» و«متلازمة أسبرجر»؛ التي تُعد بوجه عام واحدة من صور التوحد البسيطة — جاءت في الإصدار الرابع من الدليل خمسة من تلك الأوصاف كان العديد منها يصف حالات بسيطة نسبيًّا من التوحد، لذلك قَلَّتْ صرامة المعايير التشخيصية إلى حد بعيد من عام ١٩٨٠ إلى الوقت الحالي، ليؤدي ذلك إلى مزيد من تشخيص الأطفال بأنهم مصابون بتلك الحالة (جيرنزباتشر وآخرون، ٢٠٠٥).

وربما يكون لتأثيرات أخرى دور. فبسبب قوانين المعاقين التي وافق عليها الكونجرس الأمريكي في بداية التسعينيات، على المدارس الآن تقديم أرقام دقيقة عن أعداد الأطفال أصحاب الإعاقات، بما في ذلك التوحد. نتيجةً لذلك «تُبَلِّغ» المناطق التعليمية الآن عن حالات كثيرة من التوحد، على الرغم من أن هذه الزيادة لا يلزم أن تعكس أي تغيرات في الانتشار الفعلي للتوحد (جرنكر، ٢٠٠٧؛ ميرسر، ٢٠١٠). بالإضافة إلى ذلك، ربما تسببت «ظاهرة رجل المطر»، التي تشير إلى وعي الجماهير المتزايد بالتوحد عقب الفيلم الذي عرض عام ١٩٨٨ بالاسم نفسه (انظر «محو الخرافة: نظرة أكثر إمعانًا»)، في زيادة احتمال ملاحظة الآباء والأمهات لأعراض التوحد في أطفالهم (لوتون، ٢٠٠٥). فربما تؤدي «ظاهرة رجل المطر» إلى ما اصطلح الباحثون على تسميته «انحياز الكشف»، ويعني ذلك الإبلاغ المتزايد عن حالة ما نتيجة تغير درجة استعداد الملاحظين لكشفها (هيل، وكلاينبوم، ٢٠٠٥).

وفي حقيقة الأمر، تشير العديد من الدراسات الحديثة إلى أن وباء التوحد ربما يكون مجرد وهم. ففي أحد الأبحاث، تتبع الباحثون انتشار تشخيصات التوحد في الفترة بين عامي ١٩٩٢ و١٩٩٨ في منطقة في إنجلترا باستخدام «المعايير التشخيصية نفسها» في كلتا النقطتين الزمنيتين (تشاكرابارتي، وفومبون، ٢٠٠٥)، وعلى عكس ما كنا سنتوقعه في حالة انتشار وباء التوحد، لم يجد المؤلفون أي زيادة من أي نوع في معدل انتشار التوحد على مدار الوقت. وقد وجدت دراسة أخرى أدلة على ظاهرة اسمها «البديل التشخيصي»، وتعني أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه معدلات تشخيصات التوحد في الولايات المتحدة بين عامي ١٩٩٤ و٢٠٠٣، انخفضت تشخيصات التأخر العقلي وإعاقات التعلم مجتمعتين بمعدل الانخفاض نفسه تقريبًا. تشير هذه النتيجة إلى أن تشخيصات التوحد ربما كانت «تتبادل المواقع» مع غيرها من التشخيصات الأقل مسايرة للموضة. وربما تتجلى النزعة نفسها في حالة تشخيصات اضطرابات اللغة، التي أصبحت أقل انتشارًا في الوقت الذي باتت فيه تشخيصات التوحد أكثر شهرة (بيشوب، وايتهاوس، وات، ولين، ٢٠٠٨).

لا تقدم هذه الدراسات جميعًا أي دعم لفكرة انتشار وباء التوحد، لكنها تشير إلى أن تشخيصات التوحد تشهد زيادة مذهلة في غياب أي زيادة حقيقية في انتشار التوحد. نتيجة لذلك، قد تكون الجهود الرامية إلى تفسير هذا الوباء بالإشارة إلى اللقاحات لا طائل من ورائها. وبطرح هذه المشكلة جانبًا، لا يكون هناك أي دليل قوي على وجود أي ارتباط بين التوحد وعمليات التطعيم؛ بما في ذلك عمليات الحقن التي تحتوي على الثيمروزال أو التي تكافح «الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية» (معهد الطب، ٢٠٠٤؛ أوفيت، ٢٠٠٨). وعلى سبيل المثال: توضح العديد من الدراسات الأمريكية والأوروبية واليابانية الكبرى أنه حتى في الوقت الذي ظلت فيه معدلات عمليات التطعيم على حالها أو انخفضت، زادت معدلات تشخيص التوحد (هربرت، شارب وجوديانو، ٢٠٠٢؛ هوندا، شيميزو، وروتر، ٢٠٠٥)، وحتى بعد أن أزالت الحكومة الأمريكية الثيمروزال من اللقاحات عام ٢٠٠١، استمرت معدلات التوحد في كاليفورنيا في الازدياد السريع حتى عام ٢٠٠٧ (شيشتر، وجريثر، ٢٠٠٨)، لتضاهي نتائج مشابهة في الدنمارك (مادسن وآخرون، ٢٠٠٢). بالمثل تمامًا ليست هناك أي أدلة على أن اللقاحات التي تحتوي على جرعات أعلى تركيزًا من الثيمروزال ترتبط بمعدلات أعلى من التوحد مقارنة باللقاحات التي تحتوي على جرعات أقل تركيزًا (فيد، ستيلفيلد، فولفارهت، وميلباي، ٢٠٠٣).

لم تستثن أي من تلك النتائج على نحو قاطع احتمال تسبب اللقاحات في زيادة احتمالات الإصابة بالتوحد في مجموعة فرعية قليلة العدد من الأطفال، إذ إنه من الصعب إثبات نتيجة سلبية في العلوم. لكنها من ناحية أخرى لا تقدم أي دليل على وجود ارتباط بين اللقاحات والتوحد (أوفيت، ٢٠٠٨)، وعلاوة على ذلك، تقضي هذه النتائج على الاحتمال القائل إن اللقاحات يمكن أن تفسر الانتشار المزعوم لوباء التوحد؛ لأن التأثير العام المحتمل للقاحات ضئيلٌ للغاية حتى إن الدراسات عجزت عن رصده.

مع ذلك لم يجد العلماء دائمًا سهولةً في نشر هذه الحقيقة. فقد أطلق المعارضون على بول أوفيت — وهو أحد العلماء الذين نشروا مقالات يرفضون فيها وجود ارتباط بين التوحد واللقاحات — لقب «إرهابي»، هذا بالإضافة إلى مئات الرسائل الإلكترونية العدائية، التي تضمن بعضها تهديدات بالقتل. وقد واجه علماء آخرون أنواعًا مشابهة من العداء (هيوز، ٢٠٠٧).

محو الخرافة: نظرةً أكثر إمعانًا

هل تمتلك الغالبية العظمى من الأفراد المصابين بالتوحد قدرات ذهنية فذة؟

الانتشار المزعوم لوباء التوحد ليس إلا واحدًا من معتقدات كثيرة لا أساس لها فيما يخص هذه الحالة (جيرنزباتشر، ٢٠٠٧). وتتمثل إحدى الخرافات المنتشرة الأخرى في القول إن أغلب الأفراد المصابين بالتوحد يكونون من الأفذاذ (أي من الحكماء)؛ أي أفراد يمتلكون بقعةً معزولةً أو أكثر تتكون من القدرات العقلية الفذة التي يطلق عليها غالبًا «المهارات المنشقة» (ميلر، ١٩٩٩؛ أوكونور، وهيرميلين، ١٩٨٨). ومن بين تلك المهارات «حساب التقويم»، أي القدرة على تحديد اسم اليوم بمعرفة تاريخه، سواء أكان في الماضي أو في المستقبل (مثل: ٨ مارس (آذار) ١٦٠٢ أو ١٩ نوفمبر (تشرين الثاني) ٢٣٠٧)، وكذلك الذاكرة المذهلة لحقائق معينة (مثل المتوسطات الدقيقة لعدد الأهداف التي سجلها كل لاعب من لاعبي الدوري الأمريكي للبيسبول على مدار القرن الماضي)، هذا بالإضافة إلى المواهب الموسيقية الفريدة (كالقدرة على عزف نوتة موسيقية معقدة على البيانو بعد الاستماع إليها مرةً واحدةً فقط). ويبدو الاعتقاد في امتلاك الأفراد المصابين بالتوحد لقدرات فذة ذائع الانتشار، على الأقل داخل مجتمع التوحد. ففي إحدى الدراسات، وافق الجزء الأكبر من آباء الأطفال المصابين بالتوحد وأمهاتهم (٤٫٢٤ نقطة على مقياس مكون من ٦ نقاط) ومعلموهم (٤٫١٥ على مقياس مكون من ٦ نقاط) على العبارة القائلة: «يمتلك معظم الأطفال المصابين بالتوحد مواهب أو قدرات خاصة» (ستون، وروزينبوم، ١٩٨٨، ص٤١٠).

ويكاد يكون من المؤكد أن ذلك الاعتقاد نشأ جزئيًّا نتيجة الأفلام، مثل فيلم «رجل المطر» الحاصل على جائزة الأوسكار والذي عرض عام ١٩٨٨ وقام ببطولته داستن هوفمان، والذي يصور الأفراد المصابين بالتوحد على أنهم نوابغ. استوحيت قصة ذلك الفيلم من قصة نابغة حقيقي اسمه كيم بيك، يحفظ ٩٠٠٠ كتاب تقريبًا عن ظهر قلب — حيث يستطيع أن يقرأ صفحةً كاملةً من كتاب فيما بين ٨ إلى ١٠ ثوان، ثم يتذكر تفاصيل منها بعد أشهر من ذلك — فضلًا عن قدرته على أن يعمل كجهاز جي بي إس بشري يقدم لأي شخص آخر الاتجاهات الدقيقة من أي مدينة أمريكية إلى أخرى (تريفرت، وكريستينسن، ٢٠٠٥).

مع ذلك توضح الدراسات أنه بين الأفراد المصابين بالتوحد يكون الأفذاذ هم الاستثناء لا القاعدة. فعلى الرغم من أن التقديرات تتفاوت فالغالبية العظمى من الدراسات تشير إلى أن نسبة الأفراد أصحاب القدرات الفذة تكاد لا تصل إلى ١٠٪، وربما أقل (هيتون، ووالاس، ٢٠٠٤؛ ريملاند، ١٩٧٨). وتقابل هذه النسبة نسبة قدرها ١٪ تقريبًا بين الأفراد غير المصابين بالتوحد. ولا يُعرف السبب في تحول أفراد معينين فقط من المصابين بالتوحد إلى عباقرة، إلا أن الأبحاث تشير إلى أن هؤلاء العباقرة ترتفع عندهم معدلات الذكاء بدرجة أكبر من غيرهم، مما يشير إلى أن القدرة العقلية الكلية ربما تلعب دورًا في ذلك كله (ميلر، ١٩٩٩).

ربما بدت الفكرة الخاطئة التي تقول إن معظم المتوحدين عباقرة لا غبار عليها، لكن هذه الفكرة ربما أسهمت في ظهور العلاج المضلل المسمى «التواصل الميسر»، الذي يقوم على المفهوم غير الثابت القائل إن التوحد في المقام الأول هو اضطراب في الحركة وليس اضطرابًا نفسيًّا. وطبقًا لأنصار «التواصل الميسر»، فالأفراد المصابون بالتوحد هم أفراد طبيعيون في المقام الأول لكنهم محاصرون داخل أجسام غير طبيعية. ويزيد هؤلاء الأنصار فيقولون إن الأفراد المصابين بالتوحد لا يقدرون على نطق الكلمات نطقًا صحيحًا بسبب معاناتهم قصورًا حركيًّا (بيكلين، ١٩٩٠). ومن الواضح أن وجود العباقرة يقدم مبررًا عقلانيًّا للتواصل الميسر؛ إذ إنه يعني ضمنًا أن الأفراد المصابين بالتوحد غالبًا تفوق قدرتهم العقلية ما قد يبدو عليهم ظاهريًّا (فرونتلاين، ١٩٩٣).

وباستخدام «التواصل الميسَّر»، يُزعم أن الأفراد المصابين بالبكم الكامل أو شبه الكامل يمكنهم طباعة كلمات أو جمل على لوحة مفاتيح بمساعدة «معاون» يوجه أيديهم، وبذلك يعوضهم عن عجزهم الحركي المفترض. في بداية التسعينيات، بعد فترة قصيرة من ظهور مفهوم «التواصل الميسر» في الولايات المتحدة، أبلغ عدد من المعاونين بسعادة كبيرة عن قصص نجاح مذهلة لأفراد مصابين بالتوحد لازموا الصمت سابقًا، وإذا بهم يكتبون باستخدام لوحة المفاتيح جملًا بليغةً يتحدثون فيها أحيانًا عن إحساسهم بالحرية، بعد تمكنهم أخيرًا من التعبير عن مشاعرهم الحبيسة. مع ذلك سرعان ما بين عدد كبير من الدراسات المنهجية أن «التواصل الميسَّر» كان نتاجًا كليًّا لتحكم فرضه «المعاون» دون قصد منه على حركات أيدي الأطفال المصابين بالتوحد. فقد كان المعاونون، دون دراية منهم، يوجهون أصابع الأطفال إلى المفاتيح (ديلمولينو، ورومانسيزك، ١٩٩٥؛ وجاكوبسون، موليك، وشوارتز، ١٩٩٥). وللأسف الشديد رفع «التواصل الميسَّر» سقف الآمال الزائفة لآلاف الآباء والأمهات التعساء ممن لهم أبناء مصابون بالتوحد. بالإضافة إلى ذلك، تسبب ذلك العلاج في عشرات الاتهامات غير المدعومة بالأدلة لآباء وأمهات الأطفال المصابين بالتوحد بارتكاب اعتداءات جنسية، واعتمدت الاتهامات كليًّا على عبارات التخاطب المكتوبة بلوحة المفاتيح التي كُتبت بمساعدة المعاونين (ليلينفيلد، ٢٠٠٥أ؛ مارجولين، ١٩٩٤).

في الواقع هناك أشياء كثيرة عرضة للخطر، لأن سوء فهم العامة للارتباط بين التوحد واللقاحات ربما يكون على قدر كبير من الخطورة. فبعد أن ادعت دراسة إنجليزية ذائعة الانتشار — لكنها فقدت مصداقيتها بعد ذلك — أجريت عام ١٩٨٨، وجود ارتباط بين التوحد ولقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية في إنجلترا، انخفضت معدلات التطعيم ضد هذه الأمراض في إنجلترا من ٩٢٪ إلى ٧٣٪ مما أدى إلى تفشي حالات الإصابة بالحصبة وإلى حالة وفاة واحدة على الأقل (سميث، إيلينبيرج، بيل، وروبن، ٢٠٠٨)، وإن كان هناك احتمال أن الانخفاض الواضح في معدل التطعيم هو مصادفة، فتجدر الإشارة إلى أنه حدث مباشرة بعد التغطية الإعلامية الواسعة للارتباط بين التوحد واللقاحات. وقد شهدت الأعوام العديدة الماضية زيادات مشابهة في حالات الحصبة في الولايات المتحدة وإيطاليا وسويسرا والنمسا، وكل ذلك في مناطق رفض فيها الآباء والأمهات تطعيم أطفالهم (نيويورك تايمز، ٢٠٠٨). فعلينا أن ننتبه إلى مدى تأثير المفاهيم المغلوطة.

(٦) الخرافة رقم ٤٢: تزداد الجرائم وحالات دخول المستشفيات النفسية في أوقات اكتمال القمر

سنبدأ هذه الخرافة بلغز: كل ٢٩٫٥٣ يومًا في المتوسط، يقع حدث شديد التفاهة من الناحية الفلكية، لكن وفقًا لما يذهب إليه بعض الكتاب، فإنه حدث ذو أهمية كبرى من الناحية النفسية. ما هو ذلك الحدث؟

الإجابة هي: اكتمال البدر. فعلى مدار الأعوام ربط المؤلفون البدر بمجموعة من الظواهر مثل: السلوكيات الغريبة، وحالات دخول المستشفيات النفسية، وحالات الانتحار، وحوادث الطرق، والجرائم، والإفراط في تناول الكحوليات، وعضات الكلاب، وحالات الولادة، والاتصالات الهاتفية الطارئة بغرف الطوارئ ومراكز الشرطة، والعنف الزائد من لاعبي الهوكي … والقائمة طويلة للغاية (كارول، ٢٠٠٣؛ تشادلر، التاريخ غير متوفر؛ روتون، وكيلي، ١٩٨٥).

وليست هذه الفكرة حديثة العهد؛ فالكلمة الإنجليزية lunatic التي تعني «شخصًا مصابًا بالذهان» (والتي تسببت في ظهور كلمة looney العامية) مشتقة من الكلمة اللاتينية luna التي تعني القمر. ويرجع تاريخ أساطير البشر المستذئبين ومصاصي الدماء، تلك المخلوقات المرعبة التي يفترض أنها تظهر غالبًا في أوقات اكتمال القمر، إلى اليونانيين القدماء على أقل تقدير، ومنهم أبقراط وبلوتارك (تشادلر، التاريخ غير متوفر). كانت هذه الأساطير مشهورة للغاية في أوروبا أثناء الجزء الأكبر من العصور الوسطى والفترات التالية لذلك. فقد كتب شكسبير في مسرحيته الرائعة «عطيل» (الفصل الخامس، المشهد الثاني) يقول: «إنه خطأ القمر. إنه يقترب من الأرض أكثر مما هو معتاد عليه، ويذهب بعقول الرجال.» وفي إنجلترا، في القرن التاسع عشر استخدم بعض المحامين دفاع «غير مذنب بسبب اكتمال القمر» لتبرئة العملاء من الجرائم التي ارتكبت أثناء اكتمال القمر. وحتى في يومنا هذا، تحرم البوذية على أتباعها ممارسة الألعاب التي تمارس في الهواء الطلق أثناء فترات اكتمال القمر («اكتمال القمر يلغي اللعب»، ٢٠٠١).

والفكرة القائلة إن القمر المكتمل مرتبط بكثير من الظواهر الغريبة — التي كثيرًا ما يطلق عليها اسم «التأثير القمري» أو «تأثير ترانسلفانيا» — مغروسة بعمق في الثقافة الحديثة أيضًا. وقد أوضحت دراسة أجراها عام ١٩٩٥ باحثون بجامعة «نيو أورليانز» أن ما يصل إلى ٨١٪ من خبراء الصحة النفسية يعتقدون في التأثير القمري (أوينز، وماكجوان، ٢٠٠٦)، كذلك أوضحت دراسة أجريت عام ٢٠٠٥ على ممرضات الجراحة في بتسبيرج في بنسلفانيا أن ٦٩٪ منهن يعتقدن أن القمر المكتمل يرتبط بزيادة في معدل حالات دخول المستشفيات (فرانشيسكاني، وبيكون، ٢٠٠٨). وبالمثل، أوضحت دراسة أجريت على طلاب إحدى الجامعات الكندية أن ٤٥٪ منهم يؤمنون بفكرة «التأثير القمري» (راسيل، ودوا، ١٩٨٣). وربما كان لهذا الاعتقاد تأثيرات في عالم الواقع؛ ففي عام ٢٠٠٧ حدث بمدينة «برايتون» بإنجلترا أن وُضعت سياسة تقضي بتكليف مزيد من ضباط الشرطة بالعمل أثناء ليالي اكتمال البدر (بيو، ٢٠٠٧).

بالإضافة إلى ذلك، فالتأثير القمري أحد السمات الأساسية المألوفة في عدد هائل من أفلام هوليوود. على سبيل المثال: في فيلم مارتن سكورسيزي الكوميدي «بعد ساعات»، يغمغم أحد ضباط الشرطة قائلًا: «لا بد أن القمر مكتمل الآن» وذلك بعد أن تتصرف الشخصية الرئيسية تصرفات غريبة في آخر الليل. وفي الفيلم المنتج عام ٢٠٠٩، «العالم السفلي: صعود المستذئبين»، يحوِّل واحد من الشخصيات البشرية نفسه إلى مستذئب على نحو متكرر عند اكتمال القمر.

في العقود الأخيرة، أذاع الطبيب النفسي أرنولد ليبر (١٩٧٨، ١٩٩٦) فكرة وجود ارتباط بين القمر المكتمل والسلوك. يرى ليبر وأتباعه أن الجزء الأكبر من التأثير القمري ينشأ من حقيقة أن الماء يمثل أربعة أخماس الجسم البشري. وتزعم حجته أنه طالما أن القمر يؤثر في حركات المد والجزر على سطح الكرة الأرضية، فمن الطبيعي أن يؤثر القمر أيضًا في المخ، الذي يمثل، في النهاية، جزءًا من الجسم البشري. مع ذلك تدلنا نظرة أكثر تأنيًا أن هذه المعادلة ليست «محكمة». فكما ذكر عالم الفلك جورج أبيل (١٩٧٩) فإن البعوضة التي تقف على ذراعك تفرض قوة جاذبية أكثر شدةً من تلك التي يمارسها القمر. بالمثل، تساوي قوة الجاذبية لأم تحتضن طفلها ما يقرب من ١٢ مليون مرة قدر قوة الجاذبية التي يمارسها القمر على الطفل. بالإضافة إلى ذلك، لا تتأثر حركات المد والجزر التي يحدثها القمر بطوره — أي، بالمقدار المرئي لنا منه ونحن على سطح الأرض — لكنها تتأثر ببعده عن الأرض (كيلي، لافرتي، وساكلوفسك، ١٩٩٠). وفي الحقيقة، أثناء طور ميلاد الهلال، أي الطور الذي يكون فيه القمر غير مرئي لنا على سطح الأرض، يتساوى تأثير جاذبية القمر مع تأثيره أثناء طور البدر المكتمل.

وإن نحينا هذه التفسيرات القاصرة جانبًا، يمكننا أن نطرح سؤالًا آخر: هل يمارس القمر المكتمل أي تأثيرات ذات قيمة على السلوك؟ ولأن ما يزيد بكثير عن ١٠٠ دراسة منشورة بحثت هذه القضية، صار العلماء الآن يمتلكون إجابة شبه مؤكدة عن هذا التساؤل. عام ١٩٨٥ راجع عالما النفس، جيمس روتون وإيفان كيلي، كافة الأدلة البحثية المتوفرة عن التأثير القمري. وباستخدام تقنيات التحليل المقارن، لم يجدا أي أدلة على أن القمر المكتمل له صلة بأي شيء؛ كجرائم القتل وغيرها من الجرائم، وحالات الانتحار، والمشكلات النفسية، وحالات دخول المستشفيات، أو المكالمات الهاتفية لمراكز الطوارئ (روتون وكيلي، ١٩٨٥). وقد كشف روتون وكيلي النقاب عن بضعة استنتاجات إيجابية هنا وهناك، الأمر الذي قد لا يبدو عجيبًا بالنظر إلى مئات الدراسات التي فحصاها. مع ذلك، تعرضت هذه النتائج الإيجابية على نحو واضح لتفسيرات «غير قمرية». فعلى سبيل المثال: أعلن أحد فرق البحث أن حوادث الطرق كانت أكثر شيوعًا أثناء ليالي القمر المكتمل عن غيرها من الليالي (تيمبلر، فيليبر، وبرونر، ١٩٨٢). ومع ذلك، وكما أشار روتون وكيلي، تحتوي هذه النتيجة على خلل خطير. فأثناء الفترة الزمنية التي تناولها الباحثون بالدرس، تصادف أن كان القمر يكتمل غالبًا في عطلات نهاية الأسبوع — أي الفترة التي تزداد فيها كثافة الحركة المرورية — أكثر مما يكتمل في باقي أيام الأسبوع (هاينز، ٢٠٠٣). وعندما أعاد الباحثون فحص البيانات لوضع هذا التفنيد في الاعتبار، ذهبت نتائجهم الإيجابية أدراج الرياح (تيمبلر، برونر، وكورجيات، ١٩٨٣). وهكذا أنهى روتون وكيلي مقالتهما بأنه ليست هناك ضرورة لإجراء مزيد من الأبحاث على التأثيرات القمرية (ص٣٠٢)، ضاربين عرض الحائط بشجاعة تامة بالخاتمة التقليدية للمقالات النقدية في علم النفس التي تقول: «مطلوب إجراء المزيد من الأبحاث في هذا الجانب.»

وقد أسفرت التحليلات التي أجريت بعد ذلك على التأثير القمري عن نتائج على الدرجة نفسها من السلبية. فقد فحص الباحثون مدى ارتباط القمر المكتمل بعمليات الانتحار (جوتيريه-جارسيا، توسيل، ١٩٩٧)، وبحالات دخول المستشفيات النفسية (كونج، ومارازيك، ٢٠٠٥)، وعضات الكلاب (تشابمان، وموريل، ٢٠٠٠)، وحالات دخول غرف الطوارئ أو مرات ذهاب عربات الإسعاف لإنقاذ حالات طارئة (تومبسون، وآدامز، ١٩٩٦)، وحالات الولادة (كيلي، ومارتينز، ١٩٩٤)، والأزمات القلبية (ويك، فوكودا، يوشياما، شيمادا، ويوشيكاوا، ٢٠٠٧)، ولم تسفر تلك الأبحاث عن أي شيء تقريبًا. بالإضافة إلى ذلك، ليست هناك أدلة على أن المكالمات الهاتفية الطارئة إلى المشغلين أو أقسام الشرطة تزداد في أوقات اكتمال القمر (تشادلر، التاريخ غير متوفر) ولأنه من الصعب أو المستحيل غالبًا أن نثبت نتيجةً سلبيةً في العلم، فيمكن لمؤيدي فكرة التأثير القمري التأكيد على أن هذه الظاهرة ستأتي يومًا ما ببيانات أفضل. ومع ذلك، يمكننا أن نقول بثقة إنه إن كان هناك وجود للتأثير القمري فعلًا، فهو ضئيل للغاية لدرجة تجعله بلا أي معنى (كامبل، ١٩٨٢؛ تشادلر، التاريخ غير متوفر).

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يقتنع العديد من الأذكياء بهذا التأثير؟ يوجد سببان محتملان لذلك على الأقل. أولًا: اكتشف علماء النفس أننا عرضة لظاهرة أطلق عليها لورين وجين تشابمان (١٩٦٧، ١٩٦٩) «الارتباط الوهمي» (راجع المقدمة)، والارتباط الوهمي هو إدراك وجود ارتباط بين حدثين، في حين لا وجود فعليًّا لهذا الارتباط. إنه وهم إحصائي.

مع أن عوامل عديدة قد تتسبب في الارتباط الوهمي (ليلينفيلد، وود، وجارب، ٢٠٠٦) فإن أحد العوامل التي تستحق عناية خاصة هو مغالطة الحالات الموجبة. تشير هذه المغالطة إلى أنه عندما يؤكد أحد الأحداث فرضياتنا فإننا نميل إلى الاهتمام به على نحو خاص والحرص على تذكره (جيلوفيتش، ١٩٩١). وعلى النقيض، عندما يخالف حدث ما فرضياتنا فإننا نميل إلى تجاهله أو إعادة تفسيره في ضوء هذه الفرضيات. لذلك، عندما يكون القمر مكتملًا ويحدث شيء غير طبيعي، كزيادة كبيرة في حالات دخول المستشفيات النفسية المجاورة لنا، فالأرجح أننا نتذكرها ونخبر الآخرين بها. وعلى النقيض، عندما يكون القمر مكتملًا ولا يقع شيء غير طبيعي، نتجاهل الأمر برمته عادةً (تشادلر، التاريخ غير متوفر). وفي حالات أخرى، ربما نميل إلى إعادة تفسير غياب أي أحداث ملحوظة أثناء اكتمال القمر بحيث يكون متوافقًا مع الفرضية القمرية، كأن نقول مثلًا: «حقًّا، كان القمر مكتملًا الليلة ولم تكن هناك أي حالات دخول للمستشفيات النفسية، لكن ربما رجع ذلك إلى أن اليوم إجازة ومعظم الناس يتمتعون بمزاج جيد.»

تتفق فرضية الارتباط الوهمي مع نتائج دراسة توضح أن ممرضات المستشفيات النفسية اللاتي يعتقدن في صحة التأثير القمري يسجلن عددًا من الملحوظات بخصوص السلوكيات الغريبة للمرضى أثناء فترة اكتمال القمر أكبر من العدد الذي تدونه الممرضات اللاتي لا تعتقدن في صحة التأثير القمري (آنجوس، ١٩٧٣). كان اهتمام الممرضات مسلطًا بشدة على الأحداث التي توافقت مع ظنونهن؛ تلك الأحداث التي ربما دعمت بدورها هذه الظنون.

ثمة تفسير آخر يعتمد على الحدس، لكنه ليس أقل إثارة. فقد افترض الطبيب النفسي، تشارلز ريزون، وزملاؤه (ريزون، كلاين، وستيكلر، ١٩٩٩) أن اعتقاد المجتمع الحديث في صحة التأثير القمري ربما نشأ من ارتباط كان قائمًا فيما مضى، وأساء المراقبون في ذلك الوقت تفسيره على أنه علاقة سببية (راجع المقدمة، حيث ستجد مناقشة للخلط بين علاقة الارتباط والعلاقة السببية). اقترح ريزون ومعاونوه أنه قبل ظهور الإضاءة الخارجية المعاصرة بالشوارع، كان القمر الساطع في طور البدر يحرم الأفراد الذين يعيشون في الشوارع، ومن بينهم المشردون الذين يعانون اضطرابات نفسية، من النوم. ولأن الحرمان من النوم يثير غالبًا سلوكًا متقلبًا في المرضى المصابين بحالات نفسية معينة، خاصةً مرضى الاضطراب ثنائي القطب (الذي كان يطلق عليه قديمًا «الاكتئاب الهوسي»)، ولدى المرضى الذين يعانون الصرع، لذا ارتبط قديمًا بارتفاع معدل السلوكيات الغريبة. ولا شك أنه لم يكن سببًا مباشرًا في تلك السلوكيات، لكنه أسهم في الحرمان من النوم الذي تسبب بدوره في السلوكيات الغريبة. وفي عصرنا الحالي، ووفقًا لما يقوله ريزون وزملاؤه، لم نعد نجد هذا الارتباط، على الأقل في المدن الكبيرة لأن الإضاءة الخارجية تلغي إلى حد بعيد آثار القمر المكتمل.

ربما يتبين فيما بعد خطأ هذا التفسير الذكي، لكنه يذكرنا بمبدأ أساسي هو أنه حتى الأفكار الزائفة ربما تنشأ مما كان في يوم من الأيام كبد الحقيقة (راجع المقدمة).

(٧) الفصل ٩: خرافات أخرى تستحق الدراسة

الخرافة الحقيقة
«لا يمكن الوثوق في التشخيصات النفسية.» مصداقية الغالبية العظمى من تشخيصات الاضطرابات النفسية الرئيسية (مثل الفصام والاكتئاب الشديد) مقاربة لمصداقية تشخيصات الاضطرابات الطبية الرئيسية.
«ينظر الناس في الثقافات غير الغربية إلى المصابين بالذهان على أنهم سحرة مشعوذون.» يميز الناس في المجتمعات غير الغربية بوضوح بين المشعوذين والمصابين بالفصام.
«تشير الهلاوس في الأغلب الأعم إلى الإصابة بمرض نفسي خطير.» عانى عشرة بالمائة أو أكثر من طلاب الجامعة أو القاطنين بدور المسنين هلاوس اليقظة على الرغم من أنهم لا يتناولون المخدرات.
«لا يمكن للغالبية العظمى من المصابين برهاب الأماكن المفتوحة مغادرة منازلهم.» تتسبب الحالات شديدة الخطورة فقط من رهاب الأماكن المفتوحة في لزوم المصابين بها منازلهم.
«يصاب معظم الأفراد الذين تعرضوا لصدمة شديدة، كصدمة القتال العسكري، باضطراب الكرب التالي للصدمة.» حتى في الحالات شديدة السوء من الإصابة بالصدمة، يصيب «اضطراب الكرب التالي للصدمة» فعليًّا ما بين ٢٥ إلى ٣٥٪ فقط من الأفراد.
«لوحظت أعراض اضطراب الكرب التالي للصدمة للمرة الأولى عقب حرب فيتنام.» يرجع تاريخ أوصاف اضطراب الكرب التالي للصدمة إلى الحرب الأهلية الأمريكية.
«يمكن إرجاع الغالبية العظمى من حالات الرهاب مباشرةً إلى تجارب سلبية مع الشيء الذي نخاف منه.» لا تبلِّغ الغالبية العظمى من الأفراد المصابين بحالات الرهاب عن أي تجارب صدمية مباشرة ذات صلة بالشيء الذي يخشون منه.
«الأشخاص الذين يعانون الفتشية يكونون مفتونين بأشياء معينة.» الأشخاص الذين يعانون الفتشية (وهي الاستثارة الجنسية بأشياء معينة أو أجزاء معينة من الجسم) يستثارون جنسيًّا بواسطة أشياء معينة، مثل الأحذية أو الجوارب.
«الاضطرابات النفسية الجسدية لا وجود لها إلا في «ذهن المريض».» الاضطرابات النفسية الجسدية، التي تُسمى الآن «الاضطرابات النفسية العضوية»، هي حالات مرضية جسدية حقيقية يسببها أو يتسبب في تفاقمها الضغط النفسي وغيره من العوامل النفسية؛ ومن ضمنها الربو والقولون العصبي وبعض حالات الصداع.
«لدى الأفراد المصابين بحالة «توهم المرض» قناعة فعلية بأنهم يعانون أمراضًا عديدة مختلفة.» لدى الأفراد المصابين بحالة «توهم المرض» قناعة فعلية بأنهم يعانون مرضًا واحدًا شديد الخطورة لا يمكن التعرف عليه، كالسرطان أو الإيدز.
«معظم الأفراد المصابين بحالة «فقدان الشهية العصبي» فقدوا الشهية للطعام.» لا يفقد معظم الأفراد المصابين بحالة «فقدان الشهية العصبي» شهيتهم إلا إذا وصلت حالتهم المرضية إلى درجة شديدة الخطورة.
«يصيب «فقدان الشهية العصبي» الإناث فقط.» ما يقرب من ١٠٪ من المصابين بحالة «فقدان الشهية العصبي» من الذكور.
«ترتبط اضطرابات الأكل، خاصةً «فقدان الشهية العصبي» و«النهام»، بتاريخ الاعتداء الجنسي الخاص بالطفل.» تشير الدراسات المنهجية إلى أن نِسب الاعتداء الجنسي على الأطفال قد لا تزيد بين المرضى المصابين باضطرابات الطعام عن المرضى المصابين بالاضطرابات الأخرى ذات الصلة بالأمراض النفسية الأخرى.
«جميع الأفراد الذين يعانون «متلازمة توريت» يسبون ويلعنون.» نسبة مرضى «متلازمة توريت» الذين يعانون «البذاءة» (التفوه غير المتحكم به بالكلمات البذيئة) تتراوح بين ٨٪ إلى ٦٠٪ في الدراسات المختلفة.
«مخاخ الأطفال الذين يعانون «اضطراب نقص الانتباه المصحوب بفرط النشاط» تتسم بفرط الاستثارة.» تشير الدراسات إلى أن مخاخ الأطفال الذين يعانون «اضطراب نقص الانتباه المصحوب بفرط النشاط» تتسم بنقص الاستثارة.
«لدى الأشخاص المصابين بالتوحد موهبة خاصة في إنشاء الأعداد الأولية.» ليس هناك أي دليل قوي على هذا الادعاء، الذي ينشأ من بضعة أمثلة ذائعة الانتشار.
«يعاني جميع المصابين بالاكتئاب السريري الحزن الشديد.» ما يصل إلى ثلث المصابين بالاكتئاب السريري لا يعانون الحزن الشديد، لكنهم على الأحرى يعانون «فقدان الشعور باللذة»، وهو عجز عن الإحساس بالسعادة.
«المصابون بالاكتئاب أقل واقعيةً من غير المصابين باكتئاب.» المصابون باكتئاب بسيط يغلب عليهم أن يكونوا أكثر دقةً من غيرهم ممن لا يعانون الاكتئاب، وذلك في العديد من المهام المعملية.
«تبين أن الاكتئاب يرجع إلى «عدم اتزان كيمائي» في المخ.» ليست هناك أدلة علمية على وجود «عدم اتزان» حقيقي في أي موصل عصبي عند مرضى الاكتئاب.
«لا يمكن أن يصل الأطفال إلى درجة خطيرة من الاكتئاب.» هناك أدلة قوية على أن الاكتئاب السريري يمكن أن يحدث في مرحلة الطفولة.
«تزيد معدلات الاكتئاب في النساء زيادة كبيرة أثناء فترة ما بعد الوضع.» لا تزيد معدلات الاكتئاب غير الذهاني فور وقت الولادة عن غيره من الأوقات، إلا أن معدلات الاكتئاب الذهاني تزيد فور وقت الولادة.
«جميع المصابين بالاضطراب ثنائي القطب، الذي كان يطلق عليه فيما سبق «الاكتئاب الهوسي»، يمرون بنوبات من الهوس والاكتئاب.» تكفي نوبات الهوس وحدها لتشخيص الحالة على أنها اضطراب ثنائي القطب.
«يحدث الانتحار في العادة دون سابق إنذار.» عبر ثلثا الأفراد الذين انتحروا أو ثلاثة أرباعهم عن نوايا الانتحار لآخرين قبل أن يقبلوا على الانتحار.
«معظم الذين ينتحرون يتركون رسالة انتحار.» تترك نسبة ضئيلة للغاية من الأفراد الذين ينتحرون — ما بين ١٥–٢٥٪ في معظم الدراسات — رسالة انتحار.
«الأشخاص الذين يتحدثون كثيرًا عن الانتحار من غير المحتمل أن يقبلوا عليه.» تكرار الحديث عن الانتحار هو أحد أفضل العلامات التي تنبئ عن احتمال قتل المرء نفسه.
«يزيد سؤال الأفراد عن الانتحار احتمالات إقبالهم عليه.» على الرغم من أنه لم تفحص أي تجربة منهجية هذا الادعاء مباشرةً، فليس هناك أي تأييد بحثي لصحته.
«يزيد احتمال وقوع حالات انتحار على نحو خاص أثناء عطلات عيد الميلاد.» تظل معدلات الانتحار ثابتةً أو حتى تقل بنسبة ضئيلة أثناء عطلات عيد الميلاد.
«يشيع وقوع الانتحار على نحو خاص أثناء أيام الشتاء المظلمة.» يكون الانتحار أكثر شيوعًا في أنحاء العالم أثناء أكثر الشهور دفئًا.
«المراهقون هم الفئة العمرية الأعلى من حيث احتمال وقوع الانتحار بين أفرادها.» الفئة العمرية الأعلى من حيث احتمال وقوع الانتحار بين أفرادها هي فئة المسنين، ولا سيما الطاعنين من الرجال.
«تزيد حالات الانتحار بين النساء عنها بين الرجال.» تزيد محاولات الانتحار بين النساء عنها بين الرجال، لكن ينجح عدد أكبر من الرجال في الانتحار الفعلي.
«تلعب الأسر دورًا مهمًّا في التسبب في الفصام أو إثارته.» على الرغم من أن الانتقادات والخلافات بين أفراد الأسرة قد تتسبب في الانتكاس في بعض حالات الفصام، فليست هناك أي أدلة على أنها تلعب دورًا حيويًّا في إثارة الاضطرابات أو بدئها.
«جميع المصابين بالفصام التخشبي يعانون حالة من الجمود، إذ يرقدون في وضع جنيني.» أحيانًا يشارك المصابون بالفصام التخشبي في بعض الأنشطة الحركية التي لا هدف من ورائها والتي تكون شديدة الاهتياج، هذا فضلًا عن أدائهم لبعض الحركات الغريبة.
«لا يتماثل المصابون بالفصام من الناحية العملية للشفاء.» تشير دراسات المتابعة إلى أن ما يتراوح بين نصف الأفراد المصابين بالفصام إلى ثلثيهم يتحسنون على نحو ملحوظ بمرور الوقت.
«جميع الأفراد الذين يتناولون الهيروين تقريبًا يدمنونه.» لا يتحول العديد من الأفراد الذين يتناولون الهيروين على نحو متكرر إلى مدمنين مطلقًا، وقد تخلص بعض المدمنين من إدمانهم عندما انتقلوا إلى بيئة جديدة.
«معظم من يحبون ارتداء ملابس الجنس الآخر شواذ جنسيًّا.» جميع من يحبون ارتداء ملابس الجنس الآخر ويشعرون بالإثارة الجنسية من ذلك هم ذكور يشتهون الجنس الآخر.

(٨) مصادر وقراءات مقترحة

للتعرف أكثر على هذه الخرافات وغيرها عن المرض النفسي، انظر: الجمعية الأمريكية للطب النفسي (٢٠٠٠)؛ فين وكامفيوس (١٩٩٥)؛ فورنهام (١٩٩٦)؛ هاردينج وزانيسر (١٩٩٤)؛ جوينر (٢٠٠٥)؛ هوبارد وماكلنتوش (١٩٩٢)؛ ماتارازو (١٩٨٣)؛ ميرفي (١٩٧٦)، رولين (٢٠٠٣)، روزين وليلينفيلد (٢٠٠٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤