التطور في الإنسان

من السهل أن يرى الإنسان في تقاطيع وجهه وتقاسيم أعضائه، وفي قدِّه ومزاجه، شيئًا كثيرًا مما ورثه عن أبويه، ويرى أيضًا في شكل أعضائه صلة الاشتراك بينه وبين جدوده الأقربين، وإن كانت هذه الصلة أضعف مما هي بينه وبين أبويه.

ونظرية التطور تقول بأن الأحياء كلها تشترك في أصل واحد، هي الخلية الأولى التي ما زلنا نرى مثالًا لها في الآميبة، فإذا صحَّت هذه النظرية وجب علينا أن نرى آثار الأحياء القديمة التي مر فيها تطور الإنسان من الخلية الأولى حتى صار بحالته الراهنة.

وبدهي أننا لا ننتظر أن نرى هذه الآثار ظاهرة قوية؛ أي بقوة ما نرى من الآثار التي يتركها الأب للابن؛ فآثار الوراثة تضعف وتكاد تتلاشى بنسبة بُعد الفرد الذي نرث عنه شيئًا في جسمنا أو ذهننا، وعلة هذا الضعف ليست تقادم الزمن، وإنما طروء الأجيال جيلًا بعد جيل، وطَبْع كل جيل سماته في عقبه، بحيث تظهر هي وتستر سمات الأجيال السابقة.

فالإنسان باعتبار كفاياته الوراثية أشبه شيء بالبصلة؛ أظهر ما فيه من هذه الكفايات ما ورثه عن أبويه، ثم تستتر طبقة وراء أخرى، وتتضاءل هذه الطبقات، حتى تصل إلى عهد الخلية الأولى التي نشأت منها جميع أنواع الحيوان والنبات، ومنها الإنسان.

وعمر الإنسان الحقيقي لا يبتدئ من عهد خروجه من رحم الأم، بل من عهد ظهور الخلية الأولى في العالم؛ فكل منا قد عاش؛ أي قد بقي حيًّا في حياة متصلة إلى عهد ظهور الخلية الأولى؛ أي إن عمره لا يقدَّر بأقل من مئات الملايين من السنين.

وفي جسم الإنسان ما يدل على اتصال الحياة بيننا وبين الخلية الأولى؛ فبناء جسمنا — مثلًا — من خلايا لا يختلف في شيء من أصول الحياة عن خلايا الخمائر أو عن الميكروبات أو عن الأميبة، بل خلية أجسامنا لا تختلف من هذه الوجهة عن خلية أجسام النبات، ونحن ننمو كما تنمو خلايا جميع الأجسام الحية، وفي أجسامنا أعضاء أثرية لم تعد لها فائدة ما، وقد كانت مفيدة في وقت ما عندما كنا نعيش عيشة حيوانية.

فمن هذه الأعضاء، ذلك المِعَى القصير المسمَّى بالأعور أو الزائدة، فهذا العضو كبير مستطيل في الحيوانات التي ترعى الأعشاب، وهو يفيدها في إحالة المادة الخشبية في هذه الأعشاب إلى سكر تهضمه أمعاؤها، وقد كانت زائدتنا تؤدي لنا هذه الوظيفة عندما كنا نرعى الأعشاب مثل سائر البهائم، أما الآن فقد تغيَّر طعامنا، ولم يعد لها فائدة؛ ولذلك فقد ضمرت وضعفت عن مقاومة الأمراض، وكثيرًا ما تكون لذلك سببًا في التهابات مؤذية نحتاج معها إلى استئصالها، ولو كانت مفيدة لنا لكان استئصالها مضرًّا.
figure
(العمود الفقري للإنسان وفي نهايته السفلى ٥ فقرات مكتنزة للذنب؛ أي العجب أو العصعص)

وإذا اعتبرنا نظام جسمنا وتركيب أعضائنا، وجدناهما لا يختلفان عما هما عليه في الحيوان، مع اعتبار الأقرب في النسب الذي يكون على الدوام أقرب في المشابهة؛ فنحن نهضم الطعام كما يهضمه الحيوان، ولنا من الغرائز الأصلية مثل ما له، ومادة أعصابنا هي نفسها مادة أعصابه من حيث التركيب.

وعلى هذه المشابهة، بل القرابة، أمكن التعالج بأعضاء الحيوان؛ فنحن نتعالج بالغدة الدرقية المستخرجة من الفرس إذا إيفَتْ غدتُنا، ونحن نتعالج بمفرزات غدد البنكرياس المستخرجة من العجول إذا أصبنا بالديابيطس؛ أي البول السكري، فلو لم نكن نحن والفرس والعجول من أصل واحد، تجري أجسامنا جميعًا على نظام واحد، لما أمكن التعالج بهذه الأشياء؛ أي لو كان الإنسان قد خلق على حِدَةٍ لكان له نظام آخر في وظائف أعضائه يختلف عن النظام الذي نراه في سائر الحيوان.

ثم اعتبِرِ اليد والقدم الإنسانيتين؛ ففي كل منهما ٥ أصابع، وفي طرف جناح الدجاجة وزعنفة القيطس، على الرغم من الاندغام، ٥ أصابع أيضًا، دع عنك أن جميع الزواحف واللبونات لها أيضًا ٥ أصابع في كل يد، فنحن نشترك وآلاف الأنواع من الحيوان في هذه السمة، وهذه وحدها كافية لأن تدل على أننا من أصل واحد.

وحياة الجنين في الرحم تمثل لنا تاريخ نوعنا وتدرُّجه من الخلية الأولى التي نشأت في العالم حتى صار إنسانًا، فهو يبدأ خلية واحدة تأخذ في الانقسام والزيادة على نحو ما تفعل الخمائر، ثم يتخذ هذا الجسم هيئة الحلقة، ثم يتخذ خياشيم كالسمك، ثم تظهر الأيدي والأرجل، ويكون له ذَنَب طويل، ثم يضمر الذَّنَب ويزول، ثم ينبت للجنين شعر يجعل جلد الجنين كجلد البهائم، ثم يزول أيضًا.
figure
(في اليمين جنين إنسان، وفي الوسط جنين كلب، وفي اليسار جنين سلحفاة، عمرهم جميعًا ٢٨ يومًا، والذنب واضح فيهم)

فالإنسان وهو في طور الجنين يمثل الأطوار التي مر عليها منذ نشوء الأحياء على الأرض؛ وذلك لأن في كل منا ذاكرة غير وجدانية لا نشعر بها، كتلك الذاكرة التي نهضم بها طعامنا، فليس يشك قارئ في أنه يدري، بل يتقن فن هضم الطعام، ولكنه لا يشعر بأنه يمارس هذا الفن بعد تناوله الطعام؛ فهو يفعل هذا بذاكرة غير وجدانية؛ وهي غير وجدانية لأنها قوية قد أتقنت ما بسبيله من العمل حتى صارت لا تشعر به.

وليس في هذا الكلام غموض كما يتوهم القارئ لأول وهلة، فإن كل شيء نذكره جيدًا لا نشعر بأننا نذكره، وإنما يأتي الوجدان عند ضعف الإتقان وعدم الإجادة، فإذا كان أحدنا يعزف على الكمان عزفًا غير متقن لأنه كان مبتدئًا — مثلًا — في تعلم هذا الفن، فإنه يحس ويشعر بحركة يده، ولا يمكنه أن يخاطبك وقت عزفه لئلا يرتبك، أما إذا كان قد قَدِم عهده بالعزف فأجاده، فإنه يعزف ولا يشعر بعزفه، فيمكنه أن يخاطبك، أو أن يستمع لحديثك، أو أن يفكر في أي موضوع دون أن يرتبك في عزفه.

فنحن نهضم طعامنا بذاكرة غير وجدانية، وكذلك نسير في الشارع ونعمل معظم أعمالنا المتكررة التي اعتدناها وتدربنا عليها بذاكرة غير وجدانية، وكذلك جسمنا، فإنه ينمو في الطرق التي اعتاد سلفه النمو فيها بذاكرة غير وجدانية أيضًا.

وقد سبق أن قلنا إن حياة الإنسان تمتد إلى بدء ظهور الحياة في العالم منذ الخلية الأولى إلى الآن؛ ذلك لأنه قبل أن يتكوَّن في الرحم كان بذرة حية في جسم الأبوين، وهكذا تتصل الحياة إلى الخلية الأولى، فإذا كان جسمنا ينمو على وتيرة خاصة فهو إنما يفعل ذلك بقوة ذاكرته، وهذه الذاكرة غير وجدانية؛ لأن هذا النمو كان بمثل العادة تتكرر في كل فرد.

وعلى هذا نقول إن الجنين يتحوَّل من خلية مفردة، إلى حلقة، إلى هيئة السمكة، إلى حيوان مشعر ذي أربع، إلى إنسان؛ لأن هذه الأطوار مرت عليه فهو يذكرها، وهذه الأطوار التي يتطور فيها الجنين في بطن أمه تتفق ونظرية التطور، وليس فيها اختلاط أو تشوُّش؛ فهو يكون — مثلًا — في تركيب السمكة، له خياشيمها دون الرئة، ثم حيوانًا مذنبًا مشعرًا، وهذا وفق نظرية التطور القائلة بأن الحيوانات كانت مائية أولًا، تستنشق الهواء من الماء بخياشم، ثم صارت إلى اليابسة فنشأت لها رئات، ولا نرى عكس ذلك في الجنين.

ثم ما معنى أن يكون له ذَنَب، أو أن يكون جسمه كاسيًا بالشعر، لو أنه لم يكن بهيمًا يعيش كسائر البهائم قبل أن يتطور إلى نوع الإنسان؟

فحياة الجنين هي صورة مصغرة لحياة الأنواع التي سبقت ظهور الإنسان، وحياة الطفل تبصِّرنا بشيء كثير من حياتنا في العصور الماضية قبل أن نبلغ مرتبة الإنسانية؛ فهو يُولد ويبقى مطروحًا بهيئة السمك مدة طويلة، ثم يزحف ويتسلَّق كالحيوان ذي الأربع، وأخيرًا ينتصب وافقًا.

وفي فلتات الطبيعة ما يظهرنا على أصلنا، فكثيرًا ما يولد إنسان وهو كاس بالشعر كالحيوان، وكثيرًا ما يولد برأس صغير كرأس الحيوان، فيبقى أبله له عقل الحيوان، وأحيانًا يولد بذَنَب.
figure
(كان للإنسان في الازمنة القديمة ذنب، لم يبق منه إلا العجب أو العصعص، ولكن كثيرًا ما يرد الإنسان إلى أصله فيظهر طفل مذنب كما في صورة هذا الطفل الهندي)

وقد أثبتت عملية الترسيب قرابة الإنسان من الحيوان؛ وخاصة تلك القردة العليا؛ مثل الشمبنزي أو الغوريلا، فإذا نحن حقنَّا أرنبًا بدم إنساني ثم تركناها مدة، وأخذنا بعد ذلك دمها ووضعناه في كوب، وتركناه حتى يصير مصلًا وراسبًا، وجدنا أن هذا الراسب يماثل في تفاعله راسب القردة دون راسب سائر الحيوان، كما أن راسب البقرة يماثل راسب الجاموسة دون راسب سائر الحيوان، وهذا يدل على القرابة النوعية بين الحيوانات؛ فالقرد والإنسان من أصل واحد، كما أن الجاموس والبقر يرجعان أيضًا إلى سلف مشترك.

وليس معنى ما تقدم أن كل ما فينا قد ورثناه عن جدودنا من الحيوان؛ لأنه لو كان الابن ينشأ على غرار أبويه تمامًا لما حدث تطور مطلقًا؛ فإن طبيعة الحي أن يخرج عن قيد الوراثة، وكأنه يجدُّ في تحقيق ذلك ويريد أن تكون له شخصية مستقلة.

فنحن قد ورثنا عدة غرائز من الحيوان؛ بعضها نافع وبعضها مضر، وكل من حاول منا أن يربِّي نفسه ويسيطر على أهوائه ويكبحها يعرف مبلغ ضرر هذه الغرائز أحيانًا وقوتها؛ فحين ونحن نحاول تأديب أنفسنا إنما نجاهد ذلك القرد الذي لا يزال حيًّا في عروقنا، ومعظم المجرمين والبُله قد انتصرت فيهم عناصر القرد على عناصر الإنسان، ومعظم الأنبياء والفلاسفة والحكماء قد انتصرت فيهم عناصر السُبَرمان (أي الإنسان الأعلى) على عناصر الإنسان.

وليس فينا قرد خالص أو إنسان خالص أو سُبَرمان خالص، وإنما كل فرد منا مزيج من الثلاثة، وعلى مقدار كل عنصر من هؤلاء الثلاثة تتوقف رفعتنا أو انحطاطنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤