الفصل الأول

تاريخ الإنسانوية

تعود جذور الإنسانوية الحديثة إلى الماضي حتى العالَم القديم على الأقل؛ فنوعية «الأسئلة الكبرى» التي تتناولها الإنسانوية — على غرار: «هل الإله موجود؟» و«ما الذي يحقق حياةً ذات معنًى؟» و«ما الذي يجعل الأشياءَ صحيحةً أو خاطئةً أخلاقيًّا؟» — هي أسئلةٌ ما فتئت الإنسانية تطرحها لآلاف السنين. وفي كثيرٍ من الأزمنة والأمكنة، كان كلٌّ من المنهج المتَّبع في الإجابة عن تلك الأسئلة والإجابات اللادينية المعطاة مشابهَين للمنهج الذي يتَّبعه الإنسانويون اليوم والإجابات التي يقدمونها. وكما سيتضح من العرض التالي، فإن الإنسانوية الحديثة بإمكانها الاعتمادُ على إرثٍ فكريٍّ غنيٍّ وممتد.

(١) الفكر الهندي القديم

كان التشكُّك في التعاليم الدينية سمةً من سمات بعض الكتابات الهندية المبكرة، بل إن أحد نصوص الأوبانيشاد يشكِّك حتى في وجود الإله براهما. وفي وقت لاحق، لم تتشكَّك مدرسةٌ فكرية هندية ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد — منظومة كارفاكا — في وجود إلهٍ وحسب، بل أكَّدت على نحوٍ واضح على عدم وجوده. ومدرسة كارفاكا الفلسفية مدرسة إلحادية ومادية في الأساس، تصرُّ على أن العالم الطبيعيَّ الماديَّ يشكِّل كلَّ ما هو موجود، وأنه لا فائدة من الكهنة، وأن الدين بِدعة بشرية زائفة، وبدلًا من أن نعيش حياةً متقشفة، يجب علينا أن نستمتع بحياتنا إلى أقصى درجة، ونسعى خلف المتعة والسعادة. وتوضح مدرسة كارفاكا أنَّ تبنِّيَ موقفٍ تشكُّكيٍّ من جميع المعتقدات الدينية ليس ظاهرة حديثة، أو مقصورة على الغرب.

(٢) كونفوشيوس

يُعتبر كونفوشيوس (٥٥١–٤٧٩ قبل الميلاد) هو مؤسس الكونفوشيوسية؛ وهي منظومة فكرية هيمنت على الصين وأجزاء أخرى من آسيا لآلاف السنين. وعلى الرغم من أن كونفوشيوس سلَّم بوجود كلٍّ من الآلهة والقوى فوق الطبيعية، فإن منظومة الفلسفة الأخلاقية والسياسية التي وضعها استقلَّت على نحو كبير عن أي تقيُّد بالآلهة أو تلك القوى. وكونفوشيوس معروف على نحو خاصٍّ بما يسمَّى بالقاعدة الذهبية؛ إذ قال:

عَامِلِ الآخرين كما تحب أن يعاملوك. حسبك هذا القانون؛ فهو الأساس لغيره من القوانين.

لا يعتنق هذه القاعدةَ الذهبيةَ كثيرٌ من الدينيين وحسب (فهي بالطبع مرتبطة بشخصيات دينية لاحقة، مثل السيد المسيح)، ولكن كثير من الإنسانويين أيضًا.

(٣) اليونان القديمة

شهدت اليونان القديمة ازدهارًا استثنائيًّا للثقافة البشرية، وكذلك الاستخدام المنهجي للعقل في التعامل مع مختلف المسائل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية الجوهرية، وهذا الموقف التشككي الناقد أدَّى بالبعض إلى إنكار الإيمان بالآلهة.

ولليونان القديمة أيضًا أهمية عند الإنسانويين المعاصرين؛ لأنها تقدِّم تطورات سياسية مهمة للإنسانوية؛ ولا سيما شكل محدود من «الديمقراطية» (رغم أنَّ صورًا من الديمقراطية ربما تكون قد ظهرت قبل ذلك، على سبيل المثال، في الهند في القرن السادس قبل الميلاد). وكانت بعض المدن الإغريقية — خاصة أثينا — «منفتحة» نسبيًّا، واستوعبت على نحوٍ كبيرٍ التشككَ في المعتقدات التقليدية، وشجَّعت على نشأة مجموعة متنوعة من الآراء الفلسفية.

ويمثِّل ثلاثةُ فلاسفة إغريق أوائل — طاليس وأناكسيماندر وأنكسيمانس — أهمية خاصة؛ فالطريقة النقدية المستقلة التي فكَّر بها هؤلاء الفلاسفة الميليتوسيين — بطرح التفسيرات الميثولوجية والدينية جانبًا، ومحاولة تطوير أفكارهم ونظرياتهم اعتمادًا على الملاحظة والعقل — تجعلهم بوضوح في غاية الأهمية من وجهة النظر الإنسانوية؛ فهم يتبنَّوْن العديدَ من أفكارِ الإنسانوية الرئيسية وقِيَمِها. ويَعتبر الكثيرون أناكسيماندر أبا علم الفلك؛ فقد وضع نموذجًا آليًّا لعمل الأجرام السماوية، اختلف على نحوٍ كبير عن التفسيرات الميثولوجية التي قُدِّمت قبله. كما وضع أناكسيماندر نظريةً، مبنية في أكثرها على الحفريات، مفادها أن الإنسان تطوَّر من كائنات كانت تعيش في البحر.

ثمة فيلسوف مهم آخر من وجهة النظر الإنسانوية، وهو بروتاجوراس (٤٩٠–٤٢٠ قبل الميلاد). فقد تابع استدلاله بشأن الأخلاق والفضيلة دون أي اعتماد على مذهب أو معتقد ديني. وقد أعلن بروتاجوراس أنه لا أدري؛ إذ قال:

بخصوص مسألة الآلهة، لا سبيلَ لي إلى معرفة إن كانت موجودة أم لا، أو ما الشكل الذي قد تكون عليه، بسبب غموض الموضوع وقِصَر حياة الإنسان.

والاعتقاد المعروف به بروتاجوراس بشدة الآن هو:

الإنسان هو مقياس كل شيء، هو مقياس وجودِ ما يوجَد من الأشياء، ومقياس عدمِ وجودِ ما لا يوجد منها.

فسَّر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون مغزى مقولة بروتاجوراس السابقة بأن ما هو صحيح وما هو خاطئ نسبيٌّ بالنسبة إلى الفرد وما يؤمن به. فعلى سبيل المثال، إذا كنتُ أعتقدُ أن باريس هي عاصمة فرنسا، فهذا «صحيح بالنسبة إليَّ»؛ وإذا كنتَ تعتقد أن برلين هي عاصمة فرنسا، فهذا «صحيح بالنسبة إليك». لا توجد حقيقة موضوعية في المسألة؛ لا توجد حقيقة مطلقة على هذا النحو تفصل أيُّنا على حق. ولاحظ أنه من خلال هذه الرؤية المجردة، النسبية للحقيقة، من الممكن جعْل شيءٍ صحيحًا بمجرد الإيمان به. (فإذا كنتَ تريد أن تتمكَّن من الطيران، فما عليك سوى أن تؤمن بقدرتك على الطيران.) ويُشتهر عن أفلاطون مهاجمته لهذا الشكل من النسبوية في محاورته «الثئيتتس»؛ حيث لَفَتَ الانتباهَ إلى أنه إن كانت النسبوية صحيحة، إذن فهي صحيحة فقط على نحو نسبي، ويمكن أن يجعلها أفلاطون خاطئة بمجرد الاعتقاد بأنها كذلك.

لم تكن رؤى بروتاجوراس النسبوية ذات أهمية تاريخية وحسب؛ فهذا الشكل من النسبوية شائع اليوم. وقد كتب ذات مرة الأستاذُ الأكاديمي الأمريكي آلن بلوم قائلًا:

ثمة أمر يمكن لأي أستاذ جامعي أن يتأكد منه تمام التأكد: تقريبًا كلُّ طالب يلتحق بالجامعة يعتقد، أو يقول إنه يعتقد، أن الحقيقة نسبية.

وفي الواقع، يُعتقد على نطاق واسع أن النسبوية شيء يشبه المرض الذي يصيب المجتمع المعاصر ويقوِّض منظومته الأخلاقية؛ فعلى سبيل المثال، عندما اكتُشف أن قوات الجيش الأمريكي قد عذَّبت مدنيين عراقيين في أبو غريب، قال ريتشارد لام، حاكم كولورادو:

هذا يعكس انهيارًا في المجتمع. لقد تعطَّلت البوصلة الأخلاقية لهؤلاء الأشخاص لسببٍ ما، وظنِّي أن ذلك بسبب أن النسبوية أصابتهم.

وقد عبَّر بابا الفاتيكان الحالي عن مخاوف مشابهة قائلًا:

إننا نمضي نحو ديكتاتورية النسبوية التي لا تَعتبر أيَّ أمر أكيدًا، والتي تهدف في المقام الأول إلى إرضاء غرور الذات ورغباتها.

كان لهذا القلق المعاصر بشأن النسبوية تأثير على السياسة التعليمية؛ فعلى سبيل المثال، قال نيك تيت، الرئيس التنفيذي لهيئة المؤهلات والمناهج بالمملكة المتحدة (فيما يتعلق بإدراج حصص المواطنة بالمنهج الوطني):

إذا كان هناك عدو يستحق الهزيمة، فإنه النسبوية.

وثمة خلاف على نطاق انتشار النسبوية الفعلي، إلا أنه من الجدير بالذكر أن النسبوية ليست ظاهرة حديثة، وأنها كانت محلَّ أخذ وردٍّ حتى في العصور القديمة.

وكثيرًا ما يتم تصوير الإنسانويين المعاصرين على نحو مبالغ فيه على يد معارضيهم على أنهم مؤيدون للنسبوية، ولا سيما النسبوية «الأخلاقية»؛ وهي الرؤية القائلة بأن الحقيقة بشأن الصحيح أو الخاطئ أخلاقيًّا هي ما يعتقده الفرد أو المجتمع. إلا أن الإنسانويين — كما سأشرح في الفصل الرابع — معارضون للنسبوية عامةً، وللنسبوية الأخلاقية خاصةً.

كما أن أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) ذو أهمية لدى الإنسانويين؛ خاصة لأنه كان يحاول وضع نظرية عقلانية أخلاقية قائمة على دراسة وثيقة لطبيعة البشر، ولأن تركيز منظومته الأخلاقية ينصبُّ على كيفية تحقيق نوع معين من السعادة أو الرفاهية في هذه الحياة (وليس في حياةٍ ما ستأتي لاحقًا). كان لأخلاق الفضيلة عند أرسطو — التي تركِّز على أهمية تكوين شخصية صالحة، لا على القواعد أو العواقب — تأثير بين الأخلاقيين المعاصرين، وفيهم بعض الأخلاقيين الإنسانويين.

لكن لعل أهم فيلسوف إغريقي من وجهة نظر الإنسانوية هو إبيقور (٣٤١–٢٧١ قبل الميلاد). كان إبيقور ماديًّا يعتقد، مثل الفيلسوف ديموقريطوس، أن المادة مكوَّنة من أجزاء أو ذرات غير مرئية توجد في الفراغ وتحكمها قوانين. والبشر أيضًا ماديون في الأساس، حسب اعتقاد إبيقور، لا يملكون روحًا غير مادية أو خالدة. وهو يرى أن العدل يتمثَّل في الْتِزامنا بالعقود والعهود التي نبرمها فيما بيننا، والتي مفادها ألا يؤذي أحدنا الآخر.

وللفلسفة عند إبيقور وظيفة علاجية في الأساس. كان هدفه هو وضعَ فلسفة للحياة من شأنها أن تتيح لنا التمتع بحياة سعيدة وهادئة خالية من الخوف.

fig2
شكل ١-١: إبيقور.
رغم أن إبيقور سلَّم بوجود آلهة، فقد افترض أنها قد لا تكون مهتمة بأمور البشر؛ فهي لا تكافئنا ولا تعاقبنا؛ ولذا ليست هناك حاجة للخوف منها. ورأى إبيقور أنه لا ينبغي الخوف كذلك من الموت؛ لأنه بمجرد أن نموت، ينقطع وجودنا بحيث لا نشعر بأي شيء. وحينذاك لا يوجد في الموت ما نخشاه؛ لا ألم ولا معاناة. يقول إبيقور في هذا الشأن:

سواء لم يكن لي وجود، أو كان لي وجود، أو ليس لي وجود الآن، فأنا لا أكترث!

كثيرًا ما نُقشت تلك المقولة على شواهد قبور أتباعه، ولا سيما على مدار عهد الإمبراطورية الرومانية، وكثيرًا ما تُتلى بجنازات الإنسانويين اليوم.

أكد إبيقور تأكيدًا خاصًّا على الصداقة وجودة الحياة. كما اعتقد أن المتعة والألم هما المعياران الوحيدان لقياس الخير والشر؛ ونتيجة ذلك، كثيرًا ما أُسيء تفسير كلام إبيقور على أنه يوصي بحياة من اللذة المطلقة العِنان؛ حياة من الشَّرَهِ والعربدة. لكن في الحقيقة، حذَّر إبيقور من الإفراط في إشباع الرغبات والإسراف الشديد في كلِّ الأمور. ولإبيقور حيثية لدى الإنسانويين؛ لأنه وضع منهجًا لعيش حياة طيبة بمعزل تام عن أي شواغل بشأن الآلهة أو الكيانات فوق الطبيعية.

(٤) الإمبراطورية الرومانية

أنتجت الإمبراطورية الرومانية القديمة عددًا من المفكرين الذين عبَّروا، بدرجات متفاوتة، عن رؤية إنسانوية عامة.

على سبيل المثال، كان شيشرون (١٠٦–٤٣ قبل الميلاد) متشككًا، يرى أنه من المستحيل أن تتأتى معرفة عن الآلهة، واعتقد أن القِيَم الأخلاقية مستقلَّة عن الدين المؤسسي، وأنها تخضع للاستقصاء العقلاني الفلسفي.

كان الفيلسوف الروماني سنيكا (٢ قبل الميلاد–٦٥ ميلاديًّا) يرى أن:

الدين بالنسبة إلى البسطاء حقيقة، وإلى الحكماء كذب، وإلى الحكام وسيلة نافعة.

ومثل أغلب الإنسانويين اليوم، أصرَّ سنيكا على أن «الوقت المناسب للعيش هو الآن.»

(٥) ابن رشد

إبَّان العصور الوسطى، كان الفكرُ المسيحيُّ هو المسيطرَ على أوروبا على نحو كبير؛ فكانت جميع الأنشطة الفنية والفكرية تقريبًا لاهوتية التوجُّه، ونادرًا ما كان يتم التسامح مع التشكيك في المعتقد الديني التقليدي، وغالبًا ما كان يقابَل هذا بالعنف والتعذيب.

إلا أنه كانت توجد اتجاهات فكرية أكثر ليبراليةً في العالم العربي. وُلد المفكر العربي ابن رشد (١١٢٦–١١٩٨) في قرطبة بالأندلس، وهي بقعة اشتُهرت بحريتها الفكرية النسبية. كان لشروح ابن رشد الواضحة والميسَّرة لأرسطو تأثير مهم على المفكرين المسيحيين الأوروبيين الذين كانوا يُعيدون اكتشافَ أعمال أرسطو، التي غابت بصورة عامة عن أوروبا المسيحية منذ القرن السادس. وفي الواقع، أطلق المفكر المسيحي توما الإكويني (١٢٢٥–١٢٧٤) على أرسطو «الفيلسوف» وعلى ابن رشد «الشارح».

وقال ابن رشد إنه عندما يتعارض النص الديني مع ما قاله فلاسفة على غرار أرسطو، يجب إعادة تفسير النص الديني باعتبار أنه يعتمد في أسلوبه على المجاز. وهذا المنهج الراديكالي الليبرالي نسبيًّا في تناول النصوص الدينية، الذي يعطي في الواقعِ العلمَ والعقلَ سلطةَ الاعتراض على الفهم الحرفي للنص، انتهى من العالم العربي. إلا أن ابن رشد غرس بذرةً تحررية مهمة في الفكر الغربي؛ إذ زادت أهمية النقاشات حول إمكانية التقريب بين الدين والفلسفة.

(٦) عصر النهضة

يمتد عصر النهضة من القرن الرابع عشر حتى نهاية القرن السادس عشر أو بداية القرن السابع عشر، وكانت بدايته في فلورنسا بإيطاليا. تحقَّقت الحركة جزئيًّا نتيجةً لتجدد الاهتمام بالفكر الكلاسيكي؛ فقد أعاد أربابُ الحركة اكتشافَ أفكارِ وحججِ المفكرين الإغريق والرومان ودراستَها، تلك التي أعطت زخمًا عظيمًا للاستقصاء الفكري، الذي اتسع في تلك الفترة ليتخطى حدود اللاهوت المسيحي. واتسع أيضًا نطاق الفنون المرئية، التي كانت تركِّز على نحو أساسي على الأمور الدينية، وأصبحت تركِّز على المذهب الطبيعي على نحو أكبر، إضافةً إلى اعتمادها على الميثولوجيا الكلاسيكية إلى جانب الميثولوجيا اليهودية والمسيحية. ونشأ الرسم المنظوري. ودراسات ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩) لملامح الوجه البشري وما تخبرنا به عن شخصياتنا — التي ألهمتْ تصويرَه الفنيَّ للهيئة البشرية — توضح بدقةٍ النحوَ الذي زاد به التركيز على دراسة الإنسان وثقافته إبَّان عصر النهضة.

كما كانت هناك ثورات دينية مهمة أيضًا؛ فقد تصاعد النقد الموجَّه للكنيسة الكاثوليكية، التي تنامت النظرة إليها على أنها فاسدة، ولا سيما في مسألة بيع صكوك الغفران، التي وَهَبَتْ مشتريها، المفترض دخولهم الجنة، العتقَ من العذاب في المَطهَر. وفي عام ١٥١٧، نشر مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦) أطروحاته الخمس والتسعين عن قوة صكوك الغفران. وأتاح اختراع الطباعة انتشار مثل هذه الأفكار الجديدة والراديكالية على نطاق واسع. وأدَّت محاولات لوثر لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية في النهاية إلى ما يسمَّى بحركة الإصلاح الديني ونشوء البروتستانتية، وإنهاء الهيمنة الدينية للكنيسة الكاثوليكية على أوروبا.

إبَّان عصر النهضة، ابتُكر المنهج العلمي الحديث، ربما على يد فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) بشكل خاص. وبالتأكيد شهد هذا العصرُ بعضَ محاولات التحدي العلمي للفكر الديني. كان جوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠) دومينيكيًّا موسوعيًّا، وهو الذي دافع عن نظرية كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس. استجوبت محكمة التفتيش برونو حول آرائه الكونية وكذلك آرائه الدينية غير التقليدية الأخرى؛ وفي النهاية حكمت بحرقه على الخازوق. وكان الفيزيائي وعالم الفلك جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢) طرفًا بأحد أكثر المواقف الدرامية التي تصوِّر التوتر المتنامي بين الفكر العلمي والفكر الديني؛ فقد حذَّرت الكنيسة الكاثوليكية جاليليو ألا يؤكِّد بقوة صحةَ نموذج كوبرنيكوس عن مركزية الشمس (حيث يمكن استخدامه كأداة تنبئية مفيدة). إلا أن جاليليو أقدم على ذلك، وعلى نحو مستفز إلى حدٍّ كبير؛ ونتيجة لذلك، أُلقي القبض عليه وهُدد بالتعذيب والإعدام على يد محكمة التفتيش العليا. وبعد أن تنصَّل جاليليو من أفكاره، سُجن فحسب، واستُبدل بهذا الحكم بعد ذلك الإقامة الجبرية.

ويُصِرُّ عدد من المعلِّقين الكاثوليك المُحْدَثين على أنه لن يكون من المنصف وصف الكنيسة الكاثوليكية بأنها كانت مناهضة للعلم في ذلك الحين. ويرى بعضهم أن آراء برونو اللاهوتية، وليست آراءه الكونية، هي التي أوقعته في المشاكل مع محكمة التفتيش. إلا أن وثائق الفاتيكان كشفت خطأ هذا الزعم؛ مما يشير بوضوح إلى أن التحقيق مع برونو جرى بسبب آرائه الكونية. كما يذهب بعض المعلِّقين إلى أن جاليليو أُلقي القبض عليه، لا لآرائه العلمية، وإنما لآرائه حول تفسير الكتاب المقدس. ولكن هذا غير صحيح؛ فلأن جاليليو ذهب إلى أن الأرضَ تدور حول الشمس، لم يكن أمامه خيار سوى أن يقول إما أن مزاعم الكتاب المقدس المخالفة لذلك كانت خاطئة فحسب (وهو الأمر الذي كان سيعد عملًا انتحاريًّا بالطبع)، وإما أن تلك الأجزاء من الكتاب المقدس — التي «يبدو» أنها تزعم أن الأرض لا تتحرك — تحتاج إلى إعادة تفسير.

وفي الواقع، اعترف بعض علماء اللاهوت الكاثوليك، مثل الكاردينال بلارمين الذي كان مسئولًا عن التحقيق مع جاليليو، أنه إن ثبت بالبرهان الحاسم أن الأرض تتحرك، فقد يحتاج الكتاب المقدس إلى إعادة تفسير. إلا أن المشكلة أن جاليليو لم يملك دليلًا حاسمًا.

وعليه، فإن وصف موقف الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الحين بأنه كان متحجرًا وغير مبالٍ «بالكامل» بالتطورات العلمية الحديثة سيكون مبالغًا فيه بعض الشيء. لكن يبدو أن الكنيسة كانت مؤيِّدة لتعذيب وقتل أيِّ عالم مستعد للمعارضة العلنية لأفكارها الكونية القائمة على مركزية الأرض دون أن يملك دليلًا علميًّا دامغًا.

وبطبيعة الحال، يتفق تمامًا الغالبيةُ العظمى من الدينيين اليوم على أن استخدام العلم والعقل في محاولة فهم الكيفية التي يسير بها الكون يجب ألَّا يخضع لأي رقابة أو توجيه ديني. في عام ٢٠٠٠، اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني علانية، من بين جملة أشياء أخرى، عن محاكمة الكنيسة لجاليليو. إلا أنه في عام ١٩٩٠، نقل الكاردينال راتسنجر، البابا بنديكت السادس عشر، البابا الحالي، عن الفيلسوف بول فايراباند فيما يبدو عن تأييد منه:

في زمن جاليليو، كانت الكنيسة تؤيِّد العقلَ أكثر بكثير من جاليليو نفسه. وكانت محاكمة جاليليو منطقية وعادلة.

والمعنى الدقيق الذي قصده راتسنجر بتلك الملاحظة محل خلاف، إلا أنه من الواضح أنه أثار دهشة بعض الإنسانويين.

(٧) عصر التنوير

يمتد عصر التنوير — المعروف أحيانًا ﺑ «عصر العقل» — من أواخر القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر. وقد شهد عصر التنوير نقدًا متزايدًا للمعتقدات والمؤسسات الدينية التقليدية من جانب جماعات دينية حديثة أكثر راديكالية، وقد أدَّى ذلك إلى انقسام الديانة المسيحية إلى مزيد من الطوائف. لكن رغم توجيه الانتقادات إلى الدين، كان ذلك عادةً من وجهة نظر معتقدات دينية بديلة؛ فحينها كان وجود المعتقدات الإلحادية ما زال نادرًا، وفي كثير من الأماكن كان اعتناق مثل هذه الأفكار ينطوي على المخاطرة بالوقوع تحت طائلة الاضطهاد.

في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر، نَشَرَ مُفَكِّرَا عصر التنوير دنيس ديدرو (١٧١٣–١٧٨٤) وجون دالمبير (١٧١٧–١٧٨٣) «الموسوعة»؛ وهي ملخَّص مُحرر للمعارف احتوى على العديد من الأفكار الليبرالية والخاصة بالمذهب الطبيعي والتشككية الراديكالية. كان ديدرو ملحدًا، وكان كلا الرجلين يوجهان انتقادات شديدة للدين المؤسسي. وقد حُظر هذا الكتاب قبل أن يكتمل. وعصر التنوير باعتباره حركةً فكريةً وُصف بمجموعة مختلفة من الطرق. وقد عَرَّف ديدرو ودالمبير المُفكِّرَ التنويريَّ بأنه الشخص الذي:

يطأ بقدميه التمييزَ والتقليدَ والإجماعَ العام والسلطةَ؛ أي كل ما يَستعبِد أغلب العقول، وهو الذي يجرؤ على التفكير بنفسه.

لكن لعل أشهر تعريف لعصر التنوير يأتي من الفيلسوف إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤)، الذي كتب في عام ١٧٨٤ مقالًا قصيرًا بمجلة حمل عنوان «ما التنوير؟» ووَصَف فيه عصر التنوير بأنه:

خروج المرء من إطار الطفولة الذي فرضه على نفسه. والطفولة هي غياب القدرة على استخدام المرء عقلَه دون توجيهٍ من شخص آخر، وهي إطار يفرضه المرء على نفسه، يعتمد على نقصٍ، لا في العقل، بل في العزيمة والشجاعة على استخدام العقل دون توجيهٍ خارجي. لذا، فإن شعار عصر التنوير هو «تجرَّأْ على المعرفة»؛ تمتَّع بالشجاعة لاستخدام عقلك!

يُتهم بعض مفكري عصر التنوير بأنهم من أنصار «اليوتوبية»؛ أي إنهم يفترضون على نحو ساذج أن عصر العقل سيجلب حتمًا عصر السلام والرخاء والرضا. كما أن فكر عصر التنوير متهم أيضًا ﺑ «العقلانية» المفرطة، بافتراض أن المجتمع ومنظومة الأخلاق يمكن أن يكون لهما أساس عقلاني «بالكامل». والآن ثمة اعتقاد واسع الانتشار بأن ذلك كان خطأً؛ فلا يمكن استدعاء مبادئ الأخلاق بالكامل من عباءة العقل. وسيضيف كثيرٌ من منتقدي عصر التنوير أن هذا كان خطأً خطيرًا؛ فنَبْذُ الركائز القديمة المتمثلة في التقليد والسلطة الدينية من شأنه أن يؤدي إلى ترك منظومة الأخلاق والمجتمع دون أي ركائز على الإطلاق؛ وهي وصفة للفشل ووقوع الكوارث.

ولكن، رغم أن بعض مفكري عصر التنوير كانوا يوتوبيين في الواقع، وبعضهم — مثل كانط — افترض أنه يمكن تأسيس الأخلاق على العقل وحده، لاحظْ أن توصيف كانط لعصر التنوير لا يقتضي أيًّا من هذين الاعتقادين؛ فالإيمان بأهمية تنشئة مواطنين متنورين بالمعنى الذي قصده كانط — مواطنين يجرءون على التفكير والشك، ويستخدمون قُوى عقلهم لأبعد حدٍّ ممكن بدلًا من مجرَّد القبول السلبي غير الناقد لما يُقال لهم من سلطةٍ دينيةٍ ما أو غيرها — لا يعني تأييد اليوتوبية أو افتراض أن الأخلاق والمجتمع يمكن أن تكون لهما ركائز عقلانية بالكامل. والإنسانوية الحديثة تنطوي بوضوح على التزام بالتنوير بحسب معنى كانط. وهذا لا يعني أن إنسانويي اليوم يوتوبيون، أو أنهم يبالغون في تقدير قدرات العقل (مع أن كلا الاتهامين يوجهان عادة إلى الإنسانوية المعاصرة).

ثمة نقد شهير آخر يوجَّه إلى كثير من مفكِّري عصر التنوير؛ وهو أنهم يفترضون خطأً أنه يمكن استخدام العقل دون الاحتكام إلى تقليد مشترك؛ فكما رأينا، عرَّف ديدرو ودالمبير المفكرَ التنويريَّ بأنه الذي «يطأ» بقدميه التقليدَ. ولكن ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن هذه الرؤية غير متماسكة؛ لأنه أيًّا كانت صور التفكير التي سنستخدمها، «فإنها نفسها ستنبع من تقليد مشترك وتعتمد عليه.» على سبيل المثال، يقول الفيلسوف المعاصر أليستر ماكنتير:

كافة صور التفكير تَحْدث في سياق شكلٍ تقليدي من أشكال الفكر.

فيزعم ماكنتير أنه لا يمكن «الخروج عن» التقليد بأسره والتفكير من منظورٍ تخلَّى تمامًا عن التقليد. لذا، من وجهة نظر ماكنتير، من المستحيل عمليًّا أن نقوم بما يحضنا ديدرو ودالمبير على القيام به: استخدام العقل على أساس فردي، بمعزل عن أي تقليد.

لكن حتى لو كان ماكنتير على حق، فلا يستتبع ذلك أنه لا يجب علينا التشكيك في الفكر التقليدي. وكان ماكنتير نفسه واضحًا في هذا الصدد، إذ أكد:

لا شيء يمكن أن يزعم أنه مستثنًى من النقد التأملي.

أن نقول — عند استخدام العقل — إنه لا يسعنا سوى أن نعتمد على التقليد، فهذا شيء؛ وأما القول بأنه يجب ألَّا نبالغ في النقد عند فحص المعتقدات التقليدية، فهذا شيء آخر. ودعوة كانط بأنه يجب علينا أن نتجرأ على التشكك والتفكير بأنفسنا، لا القبول المستسلِم بما يصرِّح به التقليد، تظلُّ متماسكةً. وإنها لَدعوة التنوير التي يعتنقها الإنسانويون اليوم.

يُعتبر ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦) مفكرًا تنويريًّا ذا أهمية خاصة من وجهة نظر الإنسانوية. كان هيوم مؤرخًا وفيلسوفًا اسكتلنديًّا عبقريًّا أخضع الكثير من المعتقدات المفترضة منطقيتها للاستقصاء الناقد، وفيها المعتقدات الدينية. كان متشككًا في المعجزات الدينية وغيرها من المعجزات. نُشر كتاب هيوم «محاورات في الدين الطبيعي» بعد موته، وضم بعضًا من أشد الانتقادات وأقواها التي وُجِّهت في أي وقت إلى ما يُعرف ﺑ «براهين التصميم» المؤيدة لوجود الإله. ولا يزال الخلاف دائرًا حول إن كان هيوم لا أدريًّا أم ملحدًا، إلا أنه لم يؤمن بالإله.

طرح هيوم بعض الأسئلة المهمة حول «حدود العقل». وقال إن المعتقدات الأخلاقية غير قابلة أساسًا للتبرير بالاحتكام إلى العقل أو الخبرة، مؤكدًا على ما يلي:

لا ينافي العقلَ أني أُفضِّل تدميرَ العالَم بأسره على أن تُخدش إصبعي.

كذلك قال هيوم إن التفكير الاستقرائي — المؤسسة عليه معتقداتنا كلها حول المستقبل — والعلوم التجريبية لا يمكن تبريرهما عقلانيًّا. وباعتبار أننا نرى الشمس تشرق كلَّ يوم، فإننا نعتقد أنها ستشرق صباح غد، وفي الحقيقة، لا يسعنا سوى اعتقاد ذلك. مع ذلك، يقول هيوم إن افتراضنا أن الشمس ستشرق صباح غدٍ ليس أكثر تبريرًا من افتراضنا، على سبيل المثال، أن قرصًا ضخمًا من أزهار التيوليب يبلغ عرضه مليون ميل سيعتلي الأفق بدلًا من قرص الشمس.

ويتفق أغلب الإنسانويين المعاصرين مع هيوم في أن للعقل — رغم أنه يجب علينا استخدامه أينما نستطيع وبأفضل ما يمكننا — حدودَه (رغم الخلاف حول إن كانت تلك الحدود تقع حيث افترض هيوم أم لا).

(٨) القرن التاسع عشر

في عام ١٨٥٩، نشر تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢) كتابه «أصل الأنواع»، الذي شرح كيف تطورت الأنواع الجديدة على مدار ملايين السنين. قبْل داروين، كان الناس يفترضون أن الأنواع لا يمكن خلقها إلا بواسطة الإله. في الواقع، لم يمتلك مفكِّرو التنوير تفسيرًا بديلًا للطريقة التي ربما خُلقت بها الأنواع. شَرَح داروين كيف أن آليات طبيعية بالكامل وخاضعة للبحث العلمي قادرةٌ على إنتاج أنواع جديدة، وهو ما يعد تطورًا مثيرًا جدًّا. في الواقع، كان تطور الأنواع على هذا النحو مدعومًا بقوة بالأدلة، وهو ما تعارض بالطبع تعارضًا صريحًا مع الكتاب المقدس.

شهد أيضًا القرن التاسع عشر تطورات مهمة على صعيد نقد الكتاب المقدس، ولا سيما في ألمانيا. كان الباحثون الألمان مثل ديفيد شتراوس (١٨٠٨–١٨٧٤) ويوليوس فلهاوسن (١٨٤٤–١٩١٨) بصدد الكشف عن الطبيعة الخرافية لقسم كبير من الكتاب المقدس. وفي ألمانيا أيضًا، أنكر عالِم اللاهوت والفيلسوف لودفيج فويرباخ (١٨٠٤–١٨٧٢) الأفكارَ الدينية التقليدية، وأكَّد على أن رب الدين التقليدي هو الإسقاط الوهمي الخارجي لطبيعة البشر الكامنة داخلهم، وانتقد فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠) بشدة منظومة الأخلاق المسيحية، واتهمها بأنها معوِّقة للحياة، ومحمَّلة بمشاعر الكراهية والسخط. وبالطبع قال كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣) إن الدين «أفيون الشعوب».

وفي بريطانيا، وضع الفيلسوفان جريمي بنثام (١٧٤٨–١٨٣٢) وجون ستيوارت ميل (١٨٠٦–١٨٧٣) نظريةً أخلاقية ثورية تُعرف باسم النفعية، وهي التي حددت الخير الأخلاقي من منطلق السعادة. وحسب بنثام، فإن «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس هو أساس الأخلاق والتشريع.» وإحدى سمات النفعية الراديكالية هي الطريقة التي تَستغني بها عن الحاجة إلى طرح أي كيان فوق طبيعي من أجل تعزيز أو تبرير منظومة الأخلاق. ويرى المؤمن بالنفعية أنه من أجل تقييم مدى صحة شيء أو خطئه أخلاقيًّا، يجب ألا نركز على أي شيء آخر غير ما يحدث في «هذا» العالم «الطبيعي». وبالنسبة إلى كثير من الدينيين، هذه الرؤى كانت — ولا تزال — غيرَ مقبولة مطلقًا. والكثير من العادات والقوانين والمؤسسات في زمان بنثام سبَّبتِ الشقاء للعديدين. وتشير النفعية إلى أن تخفيف المعاناة حيث يمكننا ذلك ليس أمرًا مرغوبًا وحسب، وإنما هو في الواقع متطلب أخلاقي؛ ومن ثَمَّ قادت النفعية — ولا تزال تقود — كثيرًا من النفعيين إلى الإصلاح القانوني والاجتماعي. وقد أدَّت نفعية بنثام إلى اعتقاده أن علينا التزامات أخلاقية تجاه المخلوقات الأخرى؛ لأنها تعاني أيضًا مثلنا، فقد قال بنثام عن الحيوانات الأخرى:

سيحل اليوم الذي قد تكتسب فيه الحيوانات كافةَ تلك الحقوق التي لا يمكن أن تُسلب منها إلا بالطغيان.

وبالتأكيد ليس جميع الإنسانويين نفعيين. إلا أن نشوء النفعية كان مهمًّا بوضوح لنشوء الإنسانوية الحديثة، ولا سيما لأنها توضِّح مجددًا كيف أنه يمكن التعبير والدفاع عن رؤية مميزة ومحكمة فكريًّا لمنظومة الأخلاق بمعزل تام عن أي معتقد ديني.

ظلَّت الرقابة على غير المؤمنين واضطهادهم في أوروبا قائمة، وشهد عام ١٨٢٦ آخِر ضحية لمحكمة التفتيش العليا، أُعدم في إسبانيا (أُعدم المدرس كايتانو ريبول خنقًا لمزاعم تدريسه أفكارًا رُبوبية). وفي عام ١٨٤٢، كان جي جيه هوليوك (١٨١٧–١٩٠٦) (أول مَن صك مصطلح «العلمانية») آخرَ شخص (وربما أول شخص) يُسجن في بريطانيا بتهمة الإلحاد. إلا أن أعدادًا متزايدة من الشخصيات العامة كانت مستعدةً علنًا للتشكيك في مزاعم الدين. ففي بريطانيا، جهر الكُتَّاب بيرسي بيش شيلي (١٧٩٢–١٨٢٢) وجورج إليوت (١٨١٩–١٨٨٠) وتوماس هاردي (١٨٤٠–١٩٢٨) بإلحادهم. وفي عام ١٨٨٠، أصبح تشارلز برادلو (١٨٣٣–١٨٩١)، المؤسسُ المشاركُ للجمعية الوطنية العلمانية التي ظهرت في عام ١٨٦٦، أولَ عضو برلماني منتخب في بريطانيا يجهر بإلحاده (إلا أن إلحاده كان يعني أنه لن يستطيع أن يقسم قسم الولاء؛ ولذا حُرم من مقعده لعدة سنوات).

fig3
شكل ١-٢: مبنى كونواي هول، ميدان ريد لايون، مقر جمعية ساوث بليس الأخلاقية.

شهد القرن التاسع عشر نشأة جمعيات أخلاقية، وهي التي ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة. وفَّرت تلك الجمعيات إطارًا يمكن للناس من خلاله مناقشةُ المسائل الأخلاقية والاشتراك في نشاط أخلاقي، مثل العمل الخيري والبرامج الاجتماعية والتعليمية. كان أعضاء تلك الجمعيات مفكرين أحرارًا، يشجِّعون على النقاش المفتوح حول المسائل الأخلاقية والدينية. ورغم أن كثيرًا من تلك الجمعيات وَصفت نفسها بأنها «دينية»، فإنها لم تكن دينية غالبًا إلا من منطلق أنها أخذت على عاتقها التزاماتها الأخلاقية بجِدية، وكان الإيمان بوجود إلهٍ اختياريًّا. وقد قال فيلكس أدلر (١٨٥١–١٩٣٣)، مؤسس جمعية نيويورك للثقافة الأخلاقية في عام ١٨٧٦: «إن الثقافة الأخلاقية دينية لأصحاب العقلية الدينية، وهي أخلاقية فحسب لمن لا يمتلكون تلك العقلية.» وأول جمعية أخلاقية بريطانية — جمعية ساوث بليس الأخلاقية، الموجودة حتى يومنا هذا — تأسست رسميًّا في عام ١٨٨٨، بعد أن خرجت من رحم كنيسة توحيدية. وسرعان ما تبعتها جمعيات أخلاقية بريطانية أخرى عديدة.

تحوَّلت مختلف الجمعيات الأخلاقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر إلى إحدى الركائز الأساسية للحركة الإنسانوية الحديثة. في عام ١٨٩٦، تجمَّعت الجمعيات الأخلاقية البريطانية معًا لتشكِّل اتحادَ الجمعيات الأخلاقية، الذي أُعيدت تسميته في عام ١٩٦٧ ليكون الرابطة الإنسانوية البريطانية. وفي عام ١٩٥٢، أصبح الاتحادُ الأخلاقيُّ الأمريكيُّ، وهو منظمة جامعة لمختلف الجمعيات الأخلاقية بالولايات المتحدة، عضوًا مؤسِّسًا في الاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، وهو الجهة التي تمثِّل الآن الحركة الإنسانية العالمية.

(٩) القرن العشرون

في كثير من الدول إبَّان النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الإنسانوية جزءًا من الاتجاه السائد. ففي أوروبا، تراجَع الدِّين على نحو كبير؛ فعلى سبيل المثال، تشير استطلاعات الرأي أنه في نهاية القرن العشرين، تبنَّى حوالي ٣٦٪ من البريطانيين معتقدات وقيم الإنسانوية والرابطة الإنسانوية البريطانية. وعلى مستوى أغلب أوروبا، أمكن التعبير عن المعتقدات الإلحادية أو الإنسانوية دون كبيرِ خوفٍ من التبعات.

كان كثيرٌ من مفكري القرن العشرين البارزين من الإنسانويين؛ وفيهم برتراند راسل، الذي كان لكتابه «لماذا لست مسيحيًّا؟» تأثير بالغ. وفي نهاية القرن العشرين، زعم عدد قليل نسبيًّا من الفلاسفة أن الأخلاق تتطلب أساسًا إلهيًّا من نوعٍ ما (في الواقع، أشارت نتيجةُ استطلاعٍ حديث أن ١٤٫٦٪ فحسب من الفلاسفة مُؤلِّهون). وأبرز الأخلاقيين اليوم وأبلغهم تأثيرًا، وهو بيتر سنجر، إنسانويٌّ.

إبَّان القرن العشرين، زادت صعوبة تمييز الدين الذي يمثِّله كثير من علماء اللاهوت وغيرهم من المفكرين الدينيين؛ إذ إنه من الأسهل بكثير توصيفُ تديُّنهم من منطلقِ ما ليس عليه لا من منطلق ما هو عليه. وفي الواقع، يصعب تمييز معتقدات بعض علماء اللاهوت المتطورين عن معتقدات بعض الإنسانويين.

لكن على مستوى الدينيين في العالم، تلك الأفكار اللاهوتية المتطورة هي الاستثناء لا القاعدة؛ إذِ الأصوليةُ الدينية هي السائدة. ففي الولايات المتحدة، تشير استطلاعات الرأي باستمرار إلى أن حوالي ثلث المواطنين يؤمنون بصحة كلِّ ما جاء في الكتاب المقدس؛ ومن ثَمَّ بأن عمر الكون بضعة آلاف من السنوات فقط. والملحدون من أقل الأقليات المؤتمنة بالولايات المتحدة؛ إذ أشارت دراسة وطنية إلى أن الملحدين هم أبعدُ أقليةٍ يَسمح الأمريكيون لأبنائهم بالزواج منها. وقالت دوروثي إدجيل، قائدة فريق الدراسة السابقة التي أجرتها جامعة مينيسوتا: «يبدو أن نتائجنا تقوم على نظرة للملحدين مفادها أنهم أفراد لا يهتمون إلا بذواتهم ولا يكترثون بالصالح العام.» فينبغي تناول المفاهيم الخاطئة حول ماهية معتقدات الإنسانويين والتمييز الذي يعانون منه نتيجةً لتلك المفاهيم، حتى داخل أكبر الديمقراطيات الليبرالية في العالم.

وحتى في كثير من الدول الليبرالية، تحظى المعتقدات الدينية بوضعية متميزة ترعاها الدولة، ولا تزال المعركة تدور من أجل إتاحة تكافؤ فرص بين الدينيين واللادينيين. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تموِّل الدولةُ المدارسَ الدينيةَ التي بمقدورها التمييز بين كلٍّ من هيئة التدريس والطلاب على أساس معتقداتهم الدينية. ويُلزم القانونُ كلَّ مدرسة تموِّلها الدولة في إنجلترا وويلز بأن تبدأ كلَّ يوم بشعيرة من شعائر العبادة الجماعية، ويجب أن تكون «ذات محتوًى مسيحيِّ الطابع على نحوٍ كليٍّ أو رئيسيٍّ.»

وفي كثير من البلدان حول العالم، أن يخرج أحدُهم عن الدين الذي وُلد عليه فإنه يخاطر بِنَبْذِه اجتماعيًّا أو ما هو أسوأ. المسلمون المرتدُّون يُعدمون في السعودية وإيران والصومال وقطر واليمن وموريتانيا. وفي مالاوي ونيجيريا، يُدين القساوسةُ المسيحيون الأطفالَ لممارستهم السحر، ويعاقبونهم بالضرب والتعذيب، وأحيانًا القتل في مراسم طرد الأرواح الشريرة. ونتيجةً لممارسات جماعاتِ الضغطِ الدينية، تنظر أوغندا في إنزال عقوبة السجن مدى الحياة لتكون الحدَّ الأدنى لعقوبة ممارسة الجنس المثلي. وفي بقاع كثيرة من العالم، ينتشر التعصب الديني ولا تزال المعركة من أجل الحقوق والحريات الأساسية دائرة.

وعلى كلا الصعيدين المحلي والعالمي، ثمة عدد ضخم من القضايا المهمة، وأحيانًا البالغة الأهمية بالنسبة إلى الإنسانويين؛ قضايا تُواصِل المنظماتُ الإنسانويةُ — مثل الرابطة البريطانية الإنسانية، ومركز البحث، والجمعية الإنسانوية الأمريكية، والاتحاد الإنسانوي الأوروبي، والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي — تنظيمَ الحملات من أجلها.

عادة ما يكون الإنسانويون إصلاحيين. وكثيرًا ما تضعهم آراؤهم في موقف المواجهة مع الدينيين — ولا سيما المتحفظين منهم — حول قضايا مثل تحديد النسل وحقوق المثليين من الجنسين، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحرية التعبير، ووضع نهاية لحظوة الدين. ويرجع ذلك إلى أن ما يعارضه الإنسانويون في كثير من الأحيان (لكن ليس دائمًا) متجذر في التقاليد والمؤسسات الدينية ويحظى بتبرير ديني.

إلا أنه ثمة عدد كبير من الدينيين الذين يتفقون مع كثير مما يقوله الإنسانويون، بل مع كل ما يقولونه حول تلك القضايا — الذين يرون أن التبريرات الدينية التقليدية لمثل هذا التمييز والظلم والحظوة لا يمكن الدفاع عنها — ومن ثَمَّ يمكن للإنسانويين التعاون، وأحيانًا ما يحدث ذلك، مع الدينيين أفرادًا ومنظماتٍ لتحقيق الأهداف المشتركة.

ليس «العداء للدين» هو الذي يوجِّه مطامحَ الإنسانويين الإصلاحية كما يَفترض بعض الدينيين، وإنما «التزام إيجابي بتناول القضايا الأخلاقية والسياسية بأسلوب رشيد ومحايد.» وبالطبع هذا الالتزام يضع الإنسانويين حتمًا في صراع مع كثير من الدينيين حول كثير من تلك القضايا، ولكن بالتأكيد ليس معهم كلهم.

والجدير بالذِّكر أيضًا أن الإنسانويين لا يَقِلُّون في معارضتهم للقمع والتمييز بغير وجه حق عندما يكون على يد أنظمة «ملحدة»، مثل نظامَي ماو تسي تونج وستالين الديكتاتوريَّيْن اللذين ظهرا في القرن العشرين (حيث أقدم كلاهما على اجتثاث أصحاب الفكر الحر التنويريين بالقسوة نفسها التي أقدما بها على اجتثاث الفكر الديني).

(١٠) نظرة سريعة على تاريخ مصطلح «الإنسانوية»

لعل أول استخدام لكلمة «إنسانوي» كان لوصف فرع من المناهج التعليمية: العلوم الإنسانية؛ التي تضم النحو والشعر والبلاغة والفلسفة الأخلاقية. وخلال عصر النهضة، كان هناك إعادة اهتمام، كما أشرنا آنفًا، بالثقافة الكلاسيكية، وتركيز متزايد على الإنسان. وأطلق المعلقون على القرن التاسع عشر فيما بعدُ على الحركة الثقافية والفكرية هذه «إنسانوية عصر النهضة».

أما اليومَ، فالاستخدام الرئيسي لمصطلح «الإنسانوية»، في كلٍّ من المملكة المتحدة والعالم، هو لوصف الاتجاه الذي عرضتُ ملامحه في مقدمة كتابي هذا. وكان هذا المعنى الرئيسي للمصطلح للأعوام السبعين الماضية على الأقل؛ المعنى الذي بدأ يكتسبه خلال القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة، يضع البعض كلمة «العلمانية» قبل كلمة «الإنسانوية»؛ كي يؤكدوا على أن معتقداتهم منفصلة عن أي معتقد ديني. وفي المملكة المتحدة، تُعتبر إضافة كلمة «العلمانية» إطنابًا لا داعي له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤