الفصل الرابع

أبحاث السرطان

(١) مقدمة

كما رأينا فيما سبق، لا تزال الدعامتان الرئيسيتان لعلاج السرطان هما الجراحة والعلاج الإشعاعي، وكلاهما يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، غير أنهما خضعا لعملية تطوير تقني مستمر لا يزال يواصل خطاه. وعلاج السرطان بالعقاقير أحدثُ عهدًا بكثير مقارنةً بهما. كان أول علاج ناجح للسرطان بالعقاقير هو استخدام الهرمونات الأنثوية التخليقية كعلاج لسرطان البروستاتا في الأربعينيات من القرن العشرين. أما العلاج الكيماوي الشافي الناجح، فيعود تاريخه في حقيقة الأمر إلى سبعينيات القرن الماضي مع ابتكار علاجات لمرضى اللوكيميا والليمفوما (سرطانَيْ نخاع العظام والجهاز اللمفاوي). واللافت للنظر أن هذا ما حدث مع أن الكيماويات التي تقوم عليها هذه العلاجات ابتُكِرت في الأصل لأغراض بشعة (كما رأينا، الموستين، وهو أحد العقاقير الأولى الناجحة في هذا المجال، يقوم على مكون فعال هو غاز الخردل). ومن الواضح أن ابتكار علاجات جديدة، وتطوير علاجات موجودة يحتاجان إلى عملية بحث علمي. سيتناول هذا الفصل بعض السبل التي تُجرَى بواسطتها الأبحاث، ويستعرض بوجه خاص الفروق بين القواعد المنظمة للعقاقير وتلك الخاصة بالأجهزة (مثل أجهزة العلاج الإشعاعي) أو التقنيات (الجراحة)، وسوف نبحث صور التباين هذه بشيء من التفصيل؛ فثمة فروق مهمة ينتج عنها انحرافات خطيرة. وسوف ينصب التركيز في هذا الفصل في الغالب على مصدر العلاجات الحديثة، ولكن هناك هياكل تجريبية مماثلة تنطبق على اختبار العلاجات الموجودة للمقارنة بينها أو من أجل الأبحاث التي تُجرَى على تقنيات السيطرة على الأعراض.

تختلف عملية ابتكار تقنيات جراحية أو علاجية إشعاعية جديدة اختلافًا بينًا عن تلك المطبقة على العقاقير، فيكون عادةً التطوير الجراحي تعديلًا تقنيًّا بسيطًا (على سبيل المثال، أسلوب أفضل للسيطرة على النزيف) لا يغير جذريًّا التقنية الأساسية من ناحية المفهوم، وكثيرًا ما تحصل هذه التطويرات أساسًا على ترخيص بناءً على «ملاءمتها للغرض» (أي هل تساعد حقًّا في السيطرة على النزيف؟) وتنطبق حجج مماثلة على التطويرات التقنية في مجال العلاج الإشعاعي (على سبيل المثال، أساليب جديدة لتوجيه الإشعاع بهدف المحافظة على الأنسجة السليمة). وبوجه عام، اعتُبِر من البديهي أن هذه الأنواع من التطويرات يجب أن تكون أفضل ومن ثم تُطبَّق عمليًّا بعد ذلك. وحقيقة الأمر أنها ربما تكون خادعة وما يدفع إلى تطبيقها قد يكون الضغوط التجارية، وليس أي دليل قوي. وسوف أوضح كيف ولماذا يمكن أن ينشأ هذا مستعينًا بتقنيات الجراحة باستخدام الروبوت والعلاج الإشعاعي متغير الشدة كأمثلة.

على الجانب الآخر، على العلاجات الدوائية أن تلبي معايير مختلفة اختلافًا جذريًّا. بوجه عام، تتطلب الجهات التنظيمية — مثل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية — تحسنًا في معدلات البقاء على قيد الحياة مقارنةً بالمعيار السابق للرعاية، ومعنى هذا أن العلاج بعقار جديد يتطلب اختباره في سلسلة من التجارب السريرية تشمل أعدادًا كبيرة من المرضى. وبوجه عام، يمكن تقسيم هذه التجارب إلى ثلاث فئات تُعرَف بالمراحل من الأولى إلى الثالثة.

تبرهن تجارب المرحلة الأولى على أمان العقار وآثاره الجانبية؛ في الأحوال العادية، تضم هذه التجارب أعدادًا قليلة من المرضى، الذين يكونون عادةً — في حالة عقاقير السرطان — ممن استنفدوا الخيارات التقليدية وخضعوا لعلاجات عديدة سابقة. وتُختبَر غالبًا في البداية العقاقير ذات الآثار الأقل خطورة، مثل عقاقير ضغط الدم، على متطوعين أصحاء. أما تجارب المرحلة الثانية، فتكون أكبر حجمًا وتتضمن في الغالب مرضى يمرون بمرحلة أسبق في «رحلة السرطان» مقارنة بمن يُختارون لدراسات المرحلة الأولى، وهي ترمي للتأكيد على أن للعقار نشاطًا مفيدًا في مواجهة نوع السرطان المستهدف. والعقار الذي يبدو واعدًا، تقارن تجارب المرحلة الثالثة والأخيرة بينه وبين أي شيء يُعَد من الرعاية التقليدية. تشمل تجارب المرحلة الثالثة عدة مئات — بل آلافًا — من المرضى، وهناك العديد من المشاكل المتأصلة في هذا التصميم، تتراوح ما بين الموافقة على المشاركة والتكلفة وصولًا إلى الأعباء التشريعية، إلى جانب أن تجارب المرحلة الثالثة الخاصة بترخيص العقاقير، صارت الآن في الغالب من الشئون الدولية ويجب أن تتوافق مع الأطر التشريعية في العديد من البلدان، وعلى الأخص الولايات المتحدة الأمريكية، وتكاليف هذه التجارب هائلة، ويفسر هذا التكلفة الباهظة للعقاقير الجديدة، التي تصل إلى نحو مليار دولار بدءًا من تخليق عقار جديد للسرطان حتى تسجيله. وعملية الترخيص — التي تمنح شركة ما الحق في تسويق عقار أو منتج بما يدر عليها ربحًا — تخضع لتنظيم صارم من هيئات وطنية أو متعددة الجنسيات، مثل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية. وسوف نستفيض أكثر في مناقشة هذه الفكرة الخاصة باللوائح التنظيمية في الفصل التالي؛ فهناك من يدفع بأن المستوى المرتفع من تنظيم إجراء التجارب — وإن كان يحمي الفرد المشارك في التجربة من الأضرار المحتملة — يكون على حساب المجتمع في جملته بإبطائه لإيقاع التطوير، ورفعه لتكلفة العقاقير الجديدة إلى الحد الذي يصبح معه الحصول على الدواء خاضعًا لقيود رهيبة، حتى في أكثر بلدان العالم ثراءً.

(٢) تطوير عقاقير جديدة لعلاج السرطان

(٢-١) الأساس العلمي

من الواضح أن قدرًا هائلًا من البحوث البيولوجية يقف وراء أبحاث السرطان، وقد حدثت تطورات هائلة خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، لا سيما الكشف عن تركيب الدي إن إيه، وما يسمى ﺑ «المبدأ المحوري» للبيولوجيا: وهو العلاقة بين الدي إن إيه والآر إن إيه والبروتين، التي شرحناها في الفصل الثاني بالتفصيل. يعود الفضل بقدر كبير في ابتكار الأجيال السابقة من عقاقير السرطان إلى ملاحظة آثار الكيماويات على الخلايا أثناء البحث عن عقاقير فعالة تحديدًا في قتل الخلايا السرطانية. وقد أسفر هذا البحث عن عقاقير العلاج الكيماوي التي ظهرت بأعداد كبيرة في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وبالرغم من الاستمرار في إنتاج مركبات جديدة للعلاج الكيماوي، فثمة شعور بتضاؤل العائدات من العقاقير الأحدث مقارنةً بالتطورات الهائلة التي شهدتها العقود السابقة.

انصبَّ تركيز الأبحاث الأحدث على المعرفة المتطورة بالتوقيعات الجزيئية للسرطان التي شرحناها في الفصل السابق، وعلاقتها بالجزيئات الصغيرة المستهدفة والأجسام المضادة وحيدة النسيلة. حُدد تسلسل الجينوم البشري في أواخر القرن العشرين. وكانت تقنية تحديد التسلسل الأولى شاقة وبطيئة، واستغرق الوصول إلى أول تسلسل كامل عدة سنوات. والآن وبعد أن تمت هذه المهمة، وصار التركيب العام للجينوم البشري معروفًا، أصبح من الممكن تعيين تسلسل وحدات الجينوم الخاصة بأنواع محددة من السرطان، ومقارنة الدي إن إيه للسرطان بالدي إن إيه الطبيعي لدى المريض الذي استُخلِص من خلايا دمه. وصار هذا الأمر الآن يستغرق بضعة أسابيع من فرق العمل في المعامل المتخصصة، إلى جانب أن تكلفته آخذة في الانخفاض سريعًا. ومن المرجح أن تتحسن التقنية، والزمن اللازم لها، وتكلفتها تحسنًا كبيرًا على مدى السنوات القليلة التالية ليصبح من الممكن بعد مدة قصيرة تعيين تسلسل الدي إن إيه لكل مريض بالسرطان باعتباره جزءًا من الإجراءات التشخيصية، ولا يزال هذا العمل في الوقت الحالي تجريبيًّا، وتظهر لهذا المجال البحثي الجديد نتائج مميزة.

تحتوي الخلية البشرية على ما يقرب من ٢١ ألف جين مرتبة في ٢٣ كروموسومًا. وقد أجريت حتى الآن على عدة أنواع من السرطان أبحاث قارنت بين تسلسل الدي إن إيه للجينات البالغ عددها ٢١ ألفًا بأكملها والدي إن إيه السليم للمرضى، وتوضح لنا النتائج كيف أن خيطًا رفيعًا يميز بين الخلية السليمة والخلية السرطانية. في المتوسط، تكشف التجارب من هذا النوع عن عيوب في حوالي ٤٠ إلى ٦٠ جينًا. بعبارة أخرى؛ إذا صورنا الجينوم البشري على أنه مكتبة بها ٢٣ كتابًا (وهي الكروموسومات)، كلٌّ منها مكون من حوالي ألف صفحة (وهي الجينات)، فسيكون هناك ما مجموعه من ٤٠ إلى ٦٠ خطأً مطبعيًّا في إجمالي النسخة السرطانية من الخلية التي تحتوي عليها «المكتبة». علاوةً على ذلك، فإن العديد من هذه «الأخطاء المطبعية» الجينية لن تغير فعليًّا من «منطق» الجين؛ إذ إن البروتين المُنتَج سيظل محتفظًا بوظائفه الطبيعية، وعدد الموجهات الرئيسية لعملية التسرطن ستُختصَر فيما يقرب من ١٢ مسارًا؛ فالجينات المصابة بطفرات تحولية أو انحرافات في أنواع السرطان التي خضعت للدراسة على هذا النحو جميعها تنتمي لواحد من هذه المسارات، ويبدو أنها موجودة في جميع أنواع السرطان التي دُرِست. هذا العمل يشير علينا بالطريق الذي علينا أن نسلكه نحو المرحلة المقبلة من تطوير عقاقير السرطان. وقد انصبَّ تركيز الجولة الحديثة التي تُستخدَم فيها الجزيئات ووحيدات النسيلة بقدر كبير (ولكن ليس بالكامل) على جزيئات معينة، مثل مستقبل عامل نمو البشرة البشري ٢ المستهدف بعقار «هيرسيبتين». ويلقي هذا البحث الحديث في مسألة الجينوم في مجمله الضوء على الحاجة إلى استهداف مسارات الجينات المتعددة بدلًا من الجينات المفردة. ومن المرجح أن تركز عمليات الفحص الدوائية في المستقبل على هذا الجانب من بيولوجيا السرطان، جنبًا إلى جنب مع عمليات الفحص الكاملة للجينوم بهدف تحديد الجينات الرئيسية المتحولة في أنواع معينة من السرطان. ويفتح هذا البحث الطريق أيضًا أمام احتمال أن تشتهر عقاقير المستقبل بأنها تعمل في وجود توقيعات جينية محددة. ومن ثم، فإن الربط بين تعيين تسلسل الجينوم بأكمله والتشخيص يشير علينا بالطريق نحو واحد من أهم الأهداف التي طالما سعى طب السرطان للتوصل إليها؛ ألا وهو الانتقاء المُخصص للعلاجات الدوائية.

(٢-٢) المرحلة قبل السريرية

الخطوة الأولى في عملية ابتكار عقاقير جديدة هي تحديد مركبات ملائمة لدراسة تأثيرها على البشر، وقد أخذ هذا الأمر ينشأ بشكل متزايد من ذلك النوع من الأبحاث التي تُجرَى على مسارات السرطان التي شرحناها آنفًا، وقد يتخذ هذا البحث في الوقت الحاضر عدة أشكال، بدءًا من فحص المركبات العشوائية حتى تخليق عقاقير موجهة للاضطرابات المحددة مسبقًا في الخلية السرطانية، وتأتي العقاقير المستخدمة حاليًّا في الطب السريري من مصادر متنوعة، وقد وصفنا بعضًا من هذه العقاقير في الفصل السابق. ويشمل الاختبار المبدئي لعقار مرشح إجراء تجارب على الخلايا السرطانية في المختبر، وتأتي هذه الخلايا السرطانية من مصادر متنوعة، تتراوح بين سرطانات بشرية إلى أورام اصطناعية مولدة داخل حيوانات المختبر، إلى جانب أن بعض سلالات الخلايا البشرية جرت زراعتها بأخذ أجزاء صغيرة من سرطان استؤصل جراحيًّا ووضعها في مُستنبَت خلوي في المختبر. وهذه العملية جذابة من الناحية النظرية؛ إذ يمكنك بواسطتها اختبار عقارك على سرطان «حقيقي».

هناك العديد من هذه السلالات الخلوية، لعل أشهرها السلالة الخلوية «هيلا». نمت هذه السلالة من جزء صغير من سرطان عنق رحم مستأصل من امرأة تُدعَى «هنريتا لاكس» (التي يشار إليها في بعض الأحيان باسم هيلين لين أو هيلين لارسون في محاولة مبكرة للمحافظة على خصوصيتها)، وتُستخدَم هذه الخلايا على نطاق واسع للغاية في مختبرات في جميع أنحاء العالم. وجدير بالذكر أن هنريتا وأسرتها لم يوافقوا أو يصرحوا بهذه العملية؛ ما نتج عنه إقامة دعوى قضائية شهيرة في كاليفورنيا عام ١٩٩٠ حُكِم فيها باعتبار هذه العملية — في الولايات المتحدة — قانونية، لكن الموقف مختلف في المملكة المتحدة وغيرها من البلدان؛ فموافقة المريض المستنيرة على أخذ أنسجة منه صارت الآن أمرًا تفرضه التشريعات. ووفق الحسابات، زُرِع عدد هائل من خلايا «هيلا» حتى فاق عددها عدة أضعاف عدد الخلايا «الطبيعية» التي أنتجها جسم لاكس طيلة حياتها، منحها هذا شكلًا غريبًا من الخلود. لكن المشكلة المتعلقة بالسلالات الخلوية هي أن معظم محاولات زراعة خلايا أورام من مرضى لا تنجح؛ ومن ثم، فإن السلالات الخلوية التي لدينا قد لا تكون معبرة بدقة عن السرطان النمطي مثلما عبرت خلايا «هيلا» عن شخص، وهو «هنريتا لاكس». ومع ذلك، وبالرغم من هذا العيب، فإن سلالات خلايا السرطان البشرية لا تزال تشكل مكونًا رئيسيًّا في أبحاث السرطان واختبارات العقاقير.

ويؤخذ الشكل الثاني من السلالات الخلوية المستخدمة في الأبحاث من الأورام التي تصيب الحيوانات، وهي في الغالب من الفئران، وكثير من هذه الأورام يخضع للهندسة الوراثية، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك سلالة خلوية مُعدَّلة وراثيًّا تُستخدَم في أبحاث سرطان البروستاتا. لا تصاب الفئران بسرطان البروستاتا مثلما يصاب البشر به، غير أنه من الممكن تحديد الجينات التي تظهر في بروستاتا الفئران واستخدام المناطق المحفزة (انظر الفصل الثاني) لهذه الجينات للحث على إنتاج بروتينات تسبب السرطان، وفي حالة الفئران، يُستخدَم جين له اسم غريب هو «لارج-تي» مأخوذ من فيروس مسبب للسرطان اسمه «إس في ٤٠». وجدير بالذكر أنه مع أن العديد من الجينات أسماؤها مؤلفة من سلاسل من حروف وأرقام يصعب تذكرها (هناك ٢١ ألف جين بشري، وهو عدد هائل لتسميته)، فإن هناك مجموعة فرعية لها أسماء تتراوح بين الغريب (لارج-تي) إلى الأغرب (هيدجهوج: القنفذ، ونوتشليس: عديم الثلم)، وصولًا إلى الأسماء الفكاهية؛ فزوج من الجينات التي تدخل في إشارات الخلايا اسمهما «ماد» و«ماكس»!

ولكي نجعل الفئران تصاب بأورام البروستاتا، يجب غرس الجين الهجين الذي يحتوي على محفز الجين النوعي للبروستاتا وجين «إس في ٤٠-تي» داخل بويضة فأرة مُخصَّبة، وإذا نجحت عملية الغرس، ينتج عنها فأر متحول جينيًّا وتُظهِر الفئران النامية بعد ذلك صفات الجين الأجنبي عليها في غدد البروستاتا لديها، وحسبما هو متوقع، تواصل هذه الفئران تكوين أورام بروستاتا متعددة، وقد استولد عدد من هذه الفئران المعرضة للإصابة بالسرطان، وتسمى هذه السلالة بنموذج السرطان الغددي المتحول جينيًّا لبروستاتا الفئران (المعروف اختصارًا ﺑ TRAMP). وأثبتت هذه الفئران فائدتها في عدة صور؛ فمع تكوين أجسام الفئران للأورام على نحو موثوق، يمكن استخدامها في اختبار استراتيجيات الوقاية من السرطان، مثل التدخلات الغذائية، وثانيًا: يمكن استخدام الأورام في اختبار العلاجات الدوائية لبيان مدى فعاليتها، وثالثًا: فإن خلايا الأورام الناشئة في فئران «نموذج السرطان الغددي المتحول جينيًّا لبروستاتا الفئران» قد زُرِعت بنجاح في المختبر، ومن الممكن استخدام هذه السلالات الخلوية في التجارب، سواءٌ وحدها أو بعد إعادة زرعها في حيوانات بالغة من نفس سلالة الفأر؛ فهذا أسرع وأغزر تكاثرًا من انتظار تكون الأورام في فئران «نموذج السرطان الغددي المتحول جينيًّا لبروستاتا الفئران» ذاتها. ومن الواضح مرة أخرى من المناقشات السابقة أن هذه النماذج صور فقط لجوانب المرض لدى البشر، وليست نسخًا مطابقة تمامًا له؛ ولذا، إذا كانت العقاقير مفيدة، فلا بد في النهاية من اختبارها على البشر.

قبل أن يصبح في الإمكان تقديم الدواء للمرضى من البشر، لا بد من مروره بمرحلة أخرى من الاختبار قبل السريري، ألا وهي اختبار السُّمِّية؛ فمع أن النماذج الحيوانية ومزارع الخلايا تقدم مؤشرات قيمة بشأن فعالية عقار ما مع البشر، فإنها في الوقت نفسه لا توضح ما إذا كان آمنًا أم لا. ونحن في حاجة أيضًا إلى معرفة هل من الممكن أن نصل إلى مستويات عالية بما فيه الكفاية من العقار في أجسام المرضى ليكون له تأثير فعلي على السرطان، والطريقة المعتادة للكشف عن ذلك هي أن نقدم جرعات دوائية متزايدة لمجموعات من الحيوانات إلى أن نبدأ في مشاهدة الحيوانات تموت نتيجة لآثار هذه الأدوية الجانبية. وهناك عدد من الإجراءات القياسية الأكثر بشاعة — مثل جرعة الدواء التي تقتل نسبة من الحيوانات الخاضعة للاختبار — يصطلح على تسميتها اختبار الجرعة القاتلة. وتُستخدَم على نطاق واسع تدابير مثل «الجرعة القاتلة ٥٠» (أي الجرعة التي تقتل ٥٠٪ من الحيوانات) و«الجرعة القاتلة ١٠» (نسبة الوفاة ١٠٪)، وتثير كثيرًا من الجدل من الجماعات المناهضة لتشريح الحيوانات الحية، ولا أقصد من هذا النقاش بحث أخلاقيات إجراء التجارب على الحيوانات في حد ذاتها؛ فهو أمر في رأيي متروك لك لتقرر صحته أو خطأه؛ فإذا كنت ممن ينتمون للفئة الأخيرة، فلن يثنيك عن رأيك شيء مهما حاولنا. وأنا أؤمن بشدة بأنه يجدر دراسة الأساس العلمي للاختبارات على الحيوانات لمحاولة التقليل قدر المستطاع من معاناة لا لزوم لها. وهناك العديد من المشاكل شديدة الوضوح في اختبارات الجرعة القاتلة ٥٠؛ على سبيل المثال: تتباين هذه الجرعة تباينًا كبيرًا من نوع لآخر فيما يتعلق بمركب معين، ومن ثم فهي لا تزال تعرض الأفراد من البشر للمخاطر. ومع ذلك، فإن المركبات التي يتبين أنها شديدة السمية في اختبارات الجرعة القاتلة ٥٠ عند مستويات أقل بكثير من المستويات العلاجية الضرورية من المستبعد أن تكون آمنة أو جديرة بتجربتها على البشر. ومهما تكن جوانب الصواب والخطأ والقيود المتعلقة باختبار السُّمِّية قبل السريري، فإن السلطات التنظيمية تشترط في الوقت الراهن إجراء الاختبارات على نوعين على الأقل من الحيوانات — أحدهما يجب أن يكون من غير القوارض كالكلاب مثلًا — قبل السماح ببدء إجراء أي اختبارات للعقار على البشر.

(٢-٣) تجارب المرحلة الأولى

بعد إنتاج العقار التجريبي واستكمال مجموعة الاختبارات قبل السريرية له، تكون الخطوة التالية هي اختباره على البشر. ومن المنطقي تمامًا أن نطلق على هذا النوع من التجارب تجارب المرحلة الأولى. على مستوى عقاقير كثيرة، مثل حبوب علاج ضغط الدم، يُجرَى هذا الاختبار على متطوعين «أصحاء»، في مقابل أجر عادةً. وبوجه عام، يكون هؤلاء من الرجال الشباب اللائقين طبيًّا (وليس النساء خوفًا من إلحاق ضرر غير مقصود بأي أجنة في بطونهن). وفيما يتعلق بعقاقير السرطان، التي تكون عادةً شديدة السمية وغالبًا مسرطنة، من الواضح أن هذا ليس هو السبيل الملائم، وتُجرَى عادةً تجارب المرحلة الأولى على مرضى استنفدوا بالفعل خيارات العلاج التقليدية. وتتمثل الصيغة التقليدية لتجارب المرحلة الأولى في معالجة ثلاثة مرضى في البداية بجرعة منخفضة يُتوخى فيها الحذر، ثم ملاحظة النتائج؛ وإذا لم يحدث تسمم غير مقبول، يُخضَع ثلاثة مرضى آخرون للعلاج بجرعة أعلى، وهكذا. ومن الواضح أنه فيما يتعلق بمعظم العقاقير، يتوصل الباحثون في النهاية إلى مستوى من الجرعة تحدث عنده آثار جانبية غير مقبولة (فيما يُطلَق عليه «السمية المحددة للجرعة»). وإذا عانى أحد المرضى السمية المحددة للجرعة، يُعالَج مرضى آخرون بنفس مستوى الجرعة. وإذا عانى اثنان أو أكثر من بين ستة مرضى السمية المحددة للجرعة، فإننا نصل بذلك إلى «أقصى جرعة يمكن تحملها» للعقار، وتنتهي التجارب بذلك، ويُستخدَم مستوى الجرعة الأقل من أقصى جرعة يمكن تحملها في الدراسات التالية.

تتحلى تجربة المرحلة الأولى التقليدية بميزة البساطة، غير أنه من الواضح أن لها عيوبًا أيضًا؛ أولها: أن المرضى المختلفين يتباينون من ناحية حساسية كل منهم للآثار الجانبية المحتملة المحددة للجرعة؛ فإذا تضمنت التجربة عددًا كبيرًا من المرضى المعرضين للمعاناة من الآثار الجانبية، فإن أقصى جرعة مُقدرَة يمكن تحملها ستكون منخفضة للغاية، والعكس صحيح. ثانيًا: لا يُشترَط استخدام جميع العقاقير بأقصى جرعة يمكن تحملها؛ على سبيل المثال: العقار الذي يوقف عمل مستقبل الهرمون يجب عدم منحه للمرضى إلا بكمية تكفي لإيقاف عمل المستقبل المستهدف. وأي مقدار إضافي من العقار يفوق هذا المستوى لا يعني سوى إضافة مزيد من السمية دون جني أي منفعة؛ إذًا في حالة إجراء تجارب على عقاقير من هذا النوع، من المهم تحديد نقطة النهاية اللازمة لتفادي تعريض المشاركين في التجربة للآثار غير الضرورية للعقار.

تتعلق المشكلة الرئيسية في تجارب المرحلة الأولى باحتياجات المريض؛ ففي الغالب تُجرَى هذه الدراسات على مرضى استنفدوا جميع الخيارات العلاجية التقليدية، ومن الواضح أنهم بلغوا مرحلة اليأس من وجود أي علاجات ناجعة أخرى. وتجربة المرحلة الأولى بطبيعتها تقدم في الغالب عقارًا بمقدار يقل عن النطاق العلاجي الملائم، ومن ثم تكون الفرصة ضئيلة لتحقيق منفعة منه. وعلاوة على ذلك، فإن عددًا لا يقل عن مريضين من آخر ستة مرضى ستجرى عليهم الدراسة سوف يتلقون جرعة عالية جدًّا، ويتعرضون من ثم لمستوى عالٍ من الآثار الجانبية. وأخيرًا؛ فإن معظم العقاقير التي تدخل المرحلة الأولى من التجارب سيتبين في حقيقة الأمر أنها ذات قيمة علاجية ضئيلة نتيجة لظهور مشاكل لم تكن متوقعة تعوق تقديم جرعة كافية من العقار للمريض، أو لافتقار العقار للفعالية تجاه أنواع السرطان المستهدفة. إذًا على مستوى أغلب المرضى، يحتاج دخول تجارب المرحلة الأولى إلى أن ينظر إليه باعتباره عملًا إيثاريًّا، ويخوض الكثير من المرضى هذه التجارب بالفعل ولسان حالهم يقول عبارات من قبيل: «حسنًا، إذا كان هذا سيفيد أناسًا من بعدي، فهو يستحق العناء.» ومع ذلك، فإن على لجان الأخلاقيات والأطباء أن يحرصوا على وقاية المرضى سريعي التأثر واليائسين من أي ضرر يمكن أن يلحق بهم جراء هذه التجارب.

(٢-٤) المرحلة الثانية

إذا أبلى مركب ما بلاءً حسنًا في المرحلة الأولى، أو بعبارة أخرى، كانت آثاره الجانبية مقبولة ويمكن معالجتها، مع ظهور دليل ما على وجود تأثير إيجابي على السرطان، فسيلي ذلك تجربة المرحلة الثانية، والهدف من دراسات المرحلة الثانية هو بحث مسألة فعالية الدواء بمزيد من التفصيل. فيُختبَر العقار بالجرعة المثالية له التي حُدِّدت في المرحلة الأولى لدى مجموعة من المرضى الذين أوضح تقييمهم أنه من المحتمل أن يستفيدوا من العقار. ومن الواضح أن هذا يختلف عن المرحلة الأولى؛ فخطر تقديم جرعة أقل أو أعلى من اللازم يتضاءل كثيرًا، إلا أنه يظل موجودًا؛ نتيجة للعيوب التي تتصف بها آليات تحديد الجرعات في المرحلة الأولى التي شرحناها فيما سبق. علاوة على ذلك، نظرًا لاختيار المرضى على أساس المنفعة المحتملة، يكون معدل الخطر/الفائدة للمشاركين أفضل كثيرًا. وعادةً، يدخل عدد يصل إلى ٤٠ أو ٥٠ مريضًا تجارب المرحلة الثانية، وتكون نقاط النهاية هي الفعالية — وبالطبع الأمان — في نطاق أكثر تحديدًا من عدد المرضى، الذي يكون عادةً أكثر لياقة صحيًّا.

يمثل تعريف الفعالية مشكلة كبيرة. بوجه عام، تُعرَّف المركبات التي تتسبب في انكماش الورم بأنها مواد فعالة، وأدى ذلك إلى ابتكار أساليب موحدة لتحديد مقدار الانكماش الذي يشكل استجابة جديرة باعتبار الدواء فعالًا. وأكثر الطرق شيوعًا في الاستخدام نظام RECIST (حروف أولى لعبارة بالإنجليزية معناها «معايير تقييم الاستجابة في الأورام الصماء»)، وهو النظام الذي نُشِر لأول مرة عام ٢٠٠٠ وحُدِّث في يناير ٢٠٠٩. وتُصنَّف استجابات المرض تصنيفًا عامًّا على هذا النحو:
  • استجابة كاملة: اختفاء جميع علامات المرض القابلة للتقييم.

  • استجابة جزئية: انكماش المقدار المحدد سلفًا من أي علامات مرضية قابلة للتقييم.

  • المرض الثابت: تغير غير كافٍ لإدراجه ضمن فئة أخرى.

  • المرض المستفحل: ازدياد سوء الحالة المرضية بمقدار محدد سلفًا أو ظهور ترسبات سرطانية جديدة.

والمبدأ الأساسي لنظام التقييم هنا بسيط، أما التطبيق العملي فهو معقد. وكما هو الحال في أمور كثيرة، تكمن المشكلات في التفاصيل. وفيما يأتي قائمة بالمسائل الخادعة (على سبيل المثال لا الحصر) لتوضيح الصعوبات:
  • كم يبلغ الحجم الذي من المفترض أن ينمو إليه الورم حتى نحسبه استفحالًا؟

  • كم حجم الانكماش الذي يُعَد استجابة للعلاج؟

  • ماذا لو انكمشت بعض الكتل ولم تنكمش أخرى؟

  • متى ينبغي إجراء قياسات الاستجابة (مبكرًا جدًّا، وهنا قد يكون التقرير غير مكتمل، أم متأخرًا جدًّا، وهنا قد يكون المريض قد بدأ في الانتكاس)؟

  • كيف تُقيَّم ترسبات الأورام في أنسجة، مثل العظام أو غشاء الجَنْب (البطانة المحيطة بالرئة)، حيث لا توجد كتلة مستقلة بذاتها يمكن قياسها؟

تمثل النقطة الأخيرة الموضحة فيما سبق مشكلة خاصة بأمراض بعينها مثل سرطان البروستاتا الذي يؤثر على العظام في الأساس. من ثم، ومع أن الاستجابة للعلاج تظل اختبارًا مهمًّا لنشاط العقار، فثمة مجموعة ثانية من الإجراءات المبنية على طول الفترة التي يستغرقها المريض لتبدأ حالته تسوء — ويُطلَق عليها «الوقت المُستغرَق للاستفحال» — بدأ استخدامها في الازدياد. وبرهنت هذه الإجراءات على أهميتها تحديدًا مع العلاجات الجديدة الجزيئية الموجهة في أمراض مثل سرطان الكلى. ففي هذا المرض، كثيرًا ما تنكمش الأورام الكبيرة ولكن بنسبة أقل من معايير «تقييم الاستجابة في الأورام الصماء» المعهودة. وعند استعراض الفحوصات التي أجريت على هؤلاء المرضى، اتضح أن مظهر الأورام قد تغير؛ إذ بدا مركز الورم أقل «نشاطًا» من ذي قبل، وتأكد ذلك عند فحص الأورام بعد استئصالها؛ فعُثِر على نسيج ميت في مركزها. وبالتوازي مع هذا، تحسنت في الغالب الأعراض المرتبطة بالورم. يصير إذًا المرض طويل المدى «المستقر» عند هؤلاء المرضى نتيجة تستحق بشدة السعي إليها؛ لذا يُستخدَم كثيرًا تحسن الفترة التي يستغرقها المرض ليستفحل كوسيلة لتقييم نشاط مركب ما. وأخيرًا، بالطبع، يمكن تقييم المركبات من ناحية تأثيرها على إجمالي فترات البقاء على قيد الحياة، وهذا الأسلوب لا يُستخدَم كثيرًا في المرحلة الثانية باعتباره النتيجة الرئيسية المرجوة، وذلك لأسباب متنوعة؛ أهمها الوقت. فالهدف في هذه التجارب هو أن نعرف في أسرع وقت ممكن المركبات التي سننتقل بها إلى المرحلة الثالثة المتمثلة في تجارب الحصول على التراخيص.

(٢-٥) تجارب المرحلة الثالثة

إذا أظهر مركب ما نشاطًا مشجعًا في المرحلة الثانية — بالإضافة إلى نسبة مقبولة من السمية — فإنه ينتقل بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة من التجارب التي يُقارَن فيها المركب بالمعيار الحالي للرعاية. وعندما يكون المركب عقارًا حديثًا، فيتضمن هذا بوجه عام مناقشة الشركة المنتجة له للتجربة مع السلطات المنظمة لهذا الشأن، مثل الوكالة التنظيمية للأدوية والرعاية الصحية بالمملكة المتحدة، والوكالة الأوروبية للأدوية، وهيئة الغذاء والدواء الأمريكية. ويكون لهذه الجهات رأي فيما يتعلق بالعلاج المُقارِن، وأيضًا النتيجة المطلوبة ليُمنَح العقار الترخيص. وقد يكون العلاج المُقارِن عقارًا أو مجموعة من العقاقير موجودة بالفعل، أو ربما يكون ما يمكن تسميته «أفضل رعاية داعمة». وهذا الخيار الأخير يُتبَع عندما لا يوجد علاج قياسي واضح تمامًا؛ فيتلقى المرضى أي علاجات مخففة للأعراض يراها الطبيب ملائمة.

إن السمة المميزة لتجارب المرحلة الثالثة هي أن المرضى يُوَزَّعون عشوائيًّا على الخيارات العلاجية، وهذا يضمن التوزيع المتساوي للمرضى على مختلف أفرع التجربة، ويقلل قدر المستطاع من خطر الاختلافات في النتائج بسبب تركيز أعداد من المرضى يُتنبَّأ لهم بتحسن حالتهم أو سوئها في أحد أفرع التجربة دون الأخرى. ومع أن لهذا التصميم منطقًا علميًّا جيدًا، ويعد الوسيلة المثلى للتقييم، فهو — كما هو الحال دومًا — لا يخلو من العيوب.

يتمثل أول هذه العيوب وأوضحها في أنه عندما يكون الفرع المرجعي بالتجربة «أفضل رعاية داعمة»، أو ما هو أسوأ — عقار وهمي — يُظهِر المرضى نفورًا غير مفهوم. ومن الواضح أن الأمر يحتاج إلى شرح ودعم متأنٍّ، وبخاصة لإيضاح مسألة أنه إذا لم يوجد بديل آخر مُبرهَن على فعاليته، فإن العلاج خارج التجربة لن يكون مختلفًا عن الفرع المرجعي. لكن في الغالب، لا تقارن تجارب المرحلة الثالثة بين العقار الجديد وعقار وهمي، وإنما تقارنه بالعلاج الراهن المُتعارَف عليه. وهذا بوجه عام أيسر كثيرًا في مناقشته في مجال الطب السريري، حيث يتلقى الجميع العلاج، وربما يكون العقار الجديد أقل جودة من القديم، وهو الأمر الذي لا نعلمه إلا بعد إجراء التجربة. وإن كان العلاج المرجعي عقارًا وهميًّا، فهذا ليس معناه بأي حال أن العقار الجديد سيكون من المؤكد هو الأفضل؛ فثمة أمثلة كثيرة على تجارب لم يكن فيها العقار الخاضع للتجربة أفضل من العقار الوهمي بأي شكل من الأشكال، بل كان في بعض الأحيان أسوأ؛ إذ جمع بين السمية وعدم الفعالية.

ثانيًا: إن معظم العقاقير الجديدة لا تكون أفضل من العقاقير القديمة إلا بقدر طفيف، ومن ثم فإن الفروق المحتملة بين فرعي التجربة تكون ضئيلة، ومن أجل اكتشاف هذه الفروق الطفيفة، يكون من الضروري استخدام عينات كبيرة الحجم من أجل ضمان الثقة الإحصائية في النتائج. والإحصاء علم يتعرض كثيرًا للسخرية والتشهير وسوء الفهم؛ لهذا من المفيد توضيح السبب الذي يجعل من الضروري استخدام عينة كبيرة الحجم، لنفرض مثلًا أننا نرغب في تقييم ما إذا كانت عملة ما مُستخدَمة في إجراء قرعة متوازنة أم أنها منحازة نحو أحد وجهيها. إذا ألقينا العملة مرة واحدة، فإننا نحصل إما على «صورة» أو «كتابة» (متجاهلين احتمال أن تقف العملة على حافتها!)، وإذا ألقينا بالعملة مرة أخرى وسقطت على نفس الوجه، فإن النسبة بذلك تكون (مثلًا) ١٠٠٪ للكتابة، و٠٪ للصورة. ومع ذلك، فلن يقول أحد إن هذه العملة منحازة في ظل هذا الحجم من العينة. لنفترض الآن أننا واصلنا تجربتنا وقذفنا بالعملة لإجراء القرعة عشر مرات متتالية — فجاءت النتيجة ٦ مرات كتابة و٤ مرات صورة، فهل نكون واثقين عندئذ من أن العملة منحازة؟ ربما لا. ولكن إذا أجرينا القرعة ١٠٠ مرة، فجاءت النتيجة ٦٠ مرة كتابة و٤٠ مرة صورة، أو ألف مرة، فجاءت النتيجة ٦٠٠ مرة كتابة و٤٠٠ مرة صورة، حينئذٍ، تتزايد ثقتنا في أن العملة منحازة. لكن العكس أكثر صعوبة: إذا جاءت النتيجة مثلًا ٥٠١ مقابل ٤٩٩، فهل يمكننا القول إن العملة منحازة؟ مرة أخرى نقول: ربما لا، ولكن ماذا لو جاءت النتيجة ٥١٠ مقابل ٤٩٠؟ أو ٥٢٠ مقابل ٤٨٠؟ فما مقدار التماثل بين الرقمين الذي يشير إلى أن الفارق جاء على الأرجح بالصدفة وليس نتيجة لعملة منحازة؟ الفارق الكبير نفسه — مثل ٦٠٠ مقابل ٤٠٠ — من الممكن أن يحدث بالصدفة باستخدام عملة غير منحازة، غير أن هذا الاحتمال مُستبعَد للغاية. إذًا؛ تمثل خطة الإحصائيات المُعدَّة لتجربة ما عنصرًا رئيسيًّا، وهي التي تحدد عدد المرضى الذين يتطلبهم الأمر من أجل الكشف على نحو موثوق فيه عن أقل فارق يمكن اعتباره مهمًّا من الناحية السريرية قبل بدء التجربة. وفي حالة الاختبار التجريبي لعقار جديد لعلاج سرطان في مرحلته المتقدمة، يكون المعيار هو التحسين المتوسط لفترة البقاء على قيد الحياة التي لا تقل عن ثلاثة شهور. وكما هو الحال مع القرعة باستخدام العملة، من الممكن أن يأتي هذا بالصدفة. لذا، على إخصائي الإحصاء بالتجربة أن يحسب عدد المرضى اللازم لبيان (أو استبعاد) هذا الفارق على نحو موثوق فيه؛ يُعرَف هذا عادةً (وهو تعريف جزافي إلى حد بعيد) بأنه نتيجة تصادفية تظهر بمعدل أقل من مرة واحدة كل عشرين مرة.

في أغلب التجارب الحديثة، توجد لجنة (تسمى عادةً اللجنة المستقلة لمراقبة البيانات، أو لجنة مراقبة الأمان والبيانات) يكون الهدف منها هو المراقبة المستقلة للنتائج أثناء ظهورها. وتتشكل هذه اللجنة في المقام الأول لحماية المرضى، ففي حال وجود مشكلات غير متوقعة تتعلق بالسمية — على سبيل المثال — قد تُوقَف التجربة مبكرًا. وفي مرحلة لاحقة من التجربة، يمكن للجنة المستقلة لمراقبة البيانات أن توقف الدراسة إذا تحققت نقاط النهاية المحددة سلفًا مبكرًا.

يسمح هذا بنشر البيانات مبكرًا، فضلًا عن تمكين المرضى الآخرين من الحصول على العقار في وقت مبكر. وعلى العكس، يمكن للجنة المستقلة لمراقبة البيانات أيضًا أن تقرر أن التجربة لا يمكن لها أبدًا أن توضح فروقًا كبيرة، وتوقف التجربة مبكرًا على أساس عدم جدواها.

نقاط النهاية في التجارب مثيرة للجدل؛ فالتجارب باهظة التكاليف، وتزيد غالبًا تكلفة التجربة الواحدة عن ١٠٠ مليون دولار. ومن ثم؛ فإن شركات الأدوية تريدها صغيرة وسريعة قدر الإمكان. وعلى النقيض من ذلك، يرغب منظمو هذه التجارب في الحصول على نتائج تتصف بأعظم مصداقية ممكنة؛ ومن ثم يشترطون فترات متابعة أطول أو أحجام عينات أكبر، والمجتمع بوجه عام يقع بين هذا وذاك؛ فجميعنا نرغب في أدوية أفضل، وإذا أصبنا بالسرطان، فإننا نريدها الآن، وبالقدر نفسه، نريدها أدوية آمنة. أيضًا، كلما كانت التجربة أكبر واستغرقت مدة أطول، زاد حجم ما ستتقاضاه شركة الأدوية مقابل العقار لتستعيد ما تكبدته من نفقات التطوير المرتفعة، انظر الفصل الخامس للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلًا لهذه المسألة. ومع ازدياد ميزانيات الصحة، تتزايد أيضًا الضغوط للحد من ارتفاع تكاليف العقاقير؛ ما يوفر العقاقير الجديدة التي تتزايد صعوبة الحصول عليها لدى مرضى السرطان في البلدان الأكثر فقرًا. وكمَخرج من هذه الضغوط المتضاربة، يتزايد سعي الباحثين يومًا بعد يوم للوصول إلى ما يسمى بنقاط النهاية «البديلة». والهدف هنا هو انتقاء نقطة نهاية مبكرة تتنبأ بدقة بالنتيجة النهائية للتجربة. ويعد معدل الاستجابة في تجارب المرحلة الثانية مثالًا لنقطة النهاية البديلة المستخدمة في انتقاء عقار لدراسة المرحلة الثالثة. والمشكلة هي أن الارتباط بين معدل الاستجابة ونوع نقاط النهاية الذي يشترطه المنظمون — مثل تحسن فترة البقاء على قيد الحياة — لا يكفي للسماح بمعدل استجابة مرتفع في المرحلة الثانية ليؤدي مباشرةً إلى الحصول على ترخيص، وينطبق الأمر ذاته بوجه عام على المقارنات بين معدلات الاستجابة في التجارب العشوائية.

للابتعاد عن الاستعانة بالمقارنات القائمة على طول فترة البقاء على قيد الحياة — التي من الواضح أنها تستغرق وقتًا طويلًا — ينبغي على الباحثين توضيح أن مقياسًا مبكرًا قليلًا يمكنه التنبؤ على نحو موثوق فيه بالنتيجة النهائية. ومن الأمثلة على هذه المقاييس «الوقت المُستغرَق للاستفحال» الذي ذكرناه من قبل. وهو الوقت الذي يستغرقه الورم حتى ينمو أو ينتشر بمقادير محددة سلفًا. ويُستخدَم عادةً كنقطة نهاية مسجلة للتجربة في سرطان الثدي في مرحلته المبكرة. وفي بعض الظروف المرضية — على سبيل المثال — اختبار المستضد البروستاتي النوعي في حالة سرطان البروستاتا، تكون الدلالة المرجحة للإصابة بالمرض غير جديرة بالثقة، وتظل العقاقير المستخدمة في علاج سرطان البروستاتا مكبلة بحاجتها إلى إظهار تحسن في طول فترة البقاء على قيد الحياة حتى تحصل على ترخيص. وفي سرطان البروستاتا، تعمل الدراسات حاليًّا على تقييم أسلوب جديد للاستجابة يحسب عدد خلايا الورم التي يحملها مجرى الدم، وتكون هذه الخلايا موجودة عادةً بأعداد ضئيلة؛ إذ يبلغ المستوى الرئيسي الأقصى في هذا الشأن نحو ٥ في كل ٧٫٥ ملليلتر من الدم، وهو عدد بالغ الصغر وأشبه بالبحث عن إبرة في كوم من القش مكون من ملايين من خلايا الدم. وإذا ثبتت صلاحية هذا الاختبار، فسيمكنه أن يعجل على نحو كبير من خطى تطوير عقاقير السرطان لأمراض كسرطان البروستاتا المتعثرة تجاربه حاليًّا بسبب نقاط النهاية المتمثلة في طول فترة البقاء على قيد الحياة بوجه عام. ولما كانت التجارب الأقصر مدى أقل تكلفة، ففي استطاعتها أيضًا أن تخفض سعر العقار عند حصوله على الترخيص.

(٣) مقارنات بين أنواع العلاج الحالية

يمكن بوجه عام مواءمة مخطط المراحل الثلاث الموضح فيما سبق مع أي تقنية أو تركيب دوائي جديد، غير أن اشتراطات ذلك تختلف من بلد لآخر. والتجارب التي تقارن بين الأدوية المتوفرة بالفعل في تراكيب جديدة تجريها غالبًا منظمات أكاديمية، مثل مؤسسة أبحاث السرطان بالمملكة المتحدة أو المعهد الأمريكي القومي للسرطان. واستخدام النموذج الذي شرحناه آنفًا يعطي نتائج ذات مصداقية يمكنها أن تؤثر على الممارسة العملية، وتمثل المعيار الأمثل لممارسة الطب المتقدم بوجه عام. لكن هذا النظام يصير أقل وضوحًا بكثير في حالة التقنيات الجراحية، وأجهزة العلاج الإشعاعي، وغيرها من الأجهزة الأخرى، والمؤشرات الحيوية؛ على سبيل المثال: التقنيات الحديثة — مثل الجراحة الروبوتية — تدخل كتحسينات إضافية، وتُعامَل هذه «التحسينات» على أنها بديهية، في حين أن الحقيقة خلاف ذلك؛ فمثلًا عند مقارنة الجراحة المفتوحة بالجراحة بمعاونة الروبوت: طرق الوصول داخل الجسم مختلفة في الحالتين، كما يختفي الاتصال باللمس بين يدي الجراح والأنسجة في الجراحة بمعاونة الروبوت، وقد تشكل السيطرة على النزيف أو المضاعفات — مثل ثقب الأمعاء — مخاطر متنوعة، وهذا قد يتطلب التحول من عملية بمعاونة الروبوت إلى جراحة مفتوحة تقليدية، والزمن المُستغرَق في غرفة العمليات قد يكون أطول عندما يكون الجراحون لا يزالون في مرحلة التدريب، وهكذا. من المفهوم تمامًا أن كلًّا من هذه العوامل قد يؤثر تأثيرًا جذريًّا على النتائج، وبالإضافة إلى ما سبق، هناك مسألة التكلفة الهائلة؛ فتكلفة الروبوت الجراحي تفوق المليون جنيه استرليني، فضلًا عن مبلغ آخر يتراوح ما بين ١٠٠ ألف و١٥٠ ألف جنيه هي تكاليف التشغيل السنوية، وحتى إذا كانت النتائج أفضل، فكم يساوي الخروج مبكرًا من المستشفى مثلًا؟

ربما يتوقع البعض أن إدخال تقنية كهذه — على سبيل المثال لاستئصال البروستاتا — يتطلب نوعًا من التجارب كالتي يشترط إجراؤها لعقار جديد لعلاج سرطان البروستاتا، مع تحقيق نتائج إما مكافئة أو أفضل، لكن مثل هذه التجارب لم تجر مطلقًا، وإن كانت الروبوتات الجراحية تعمل في أكبر المراكز الجراحية في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في الولايات المتحدة، فلماذا إذًا هذه التفرقة الهائلة؟ جوهر الأمر أن الأجهزة الجديدة ليس عليها سوى أن تظهر الأمان والملاءمة لأداء الغرض الذي صُمِّمت من أجله. وحينما تكون التغيرات ضئيلة وتراكمية بحق، فمن الواضح أن إجراء تجربة ضخمة لبيان تفوق مبضع جديد بدرجة طفيفة على ما سبقه يكون على الأرجح غير عملي وربما بلا معنى. وعند مرحلة ما، تتوقف التغيرات عن كونها تراكمية، وتبدو لي الروبوتات الجراحية مثالًا جيدًا على ذلك، ومع ذلك فهي لا تزال تُعامَل كما لو كانت مبضعًا أفضل قليلًا فحسب. في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، صار شراء روبوت جراحي جزءًا أساسيًّا من تسويق مستشفى ما — فهو قطعة مميزة من تجهيزاتها — فما من مؤسسة تتطلع للتفوق يمكنها الاستغناء عن امتلاك واحد من هذه الروبوتات. من المحتمل أن يصير الصراع بشأن هذه المسألة أكثر أهمية يومًا بعد يوم في ظل نضال نظم الرعاية الصحية مع النفقات الآخذة في الارتفاع، فمن المفهوم بالطبع أن التقنيات الحديثة يمكنها بالفعل توفير النفقات. ومع التمسك بالروبوتات، ليس من المستبعد أن تؤتي منحنيات التعلم الأقصَر المزعومة، ومدة الإقامة الأقصَر بالمستشفيات، ومعدلات المضاعفات المنخفضة، بثمارها، وتعيد سداد رأس المال ونفقات التشغيل، غير أنه في الوقت الحالي نحن ببساطة لا نعلم مدى صحة ذلك.

ينطبق جدل مشابه على اختبارات مثل التصوير بالأشعة وغيرها من الفحوصات التشخيصية. ومرة أخرى، لا توجد حاجة لإجراء أبحاث تسعى لإثبات ما هو جلي، فمن المؤكد أن الأشعة التي تعطينا صورة أوضح أفضل من تلك التي تعطينا صورة مشوشة! لكن عندما ننظر للأمر عن كَثَب، تصبح الأمور أكثر خداعًا؛ فعلى سبيل المثال: من بين الموجهات الرئيسية لعملية اتخاذ القرار معرفة هل السرطان انتشر إلى عضو معين أم لا، وبوجه عام إذا بدت أشعة ما غير طبيعية في منطقة معينة معروف أنها عرضة للخطر، فمن المحتمل أن يعبر هذا عن وجود مرض ما. لكن العكس ليس صحيحًا؛ فالأشعة السلبية قد تعني أن النتيجة سلبية أو أن المرض أدنى من الحد اللازم لاكتشافه. ويوضح هذا الأمر مثال الأشعة الافتراضي على الكبد الذي قدمناه في الفصل الثالث. ومثال جيد على هذا النوع من المشاكل هو اكتشاف سرطان بالعقد اللمفاوية. لمَّا كانت العقد اللمفاوية بِنى طبيعية والسرطان بها له كثافة مماثلة للنسيج السليم (ومن ثم يظهر في الأشعة أيضًا)، فإن الأشعة لن يمكنها أن تخبرنا إلا بأن أبعاد العقد طبيعية أو غير طبيعية، ويكون عادةً أقصى حجم للعقدة حوالي ٥ ملليمترات؛ ومن ثم إذا حل ترسب سرطاني حجمه ٤ ملليمترات محل كتلة العقدة فستبدو «طبيعية».
fig22
شكل ٤-١: أمثلة على استجابات الأورام لعمليات المسح الإشعاعي.1

لنفترض أن اختبارًا تصويريًّا قد ابتُكِر ويمكنه أن يحقق نتيجة أفضل في الكشف عن وجود مرض بالعقد، فكيف يجب تقييمه؟ إن اختبارًا كهذا يقع ضمن نفس فئة المسارات التنظيمية التي تندرج تحتها الأجهزة الجراحية؛ فنحن في حاجة لبيان درجة أمانه وملاءمته للغرض. والأمان عنصر صريح ومباشر — فمسار المرحلة ١ / ٢ يؤدي مهمته على ما يرام، ولكن كيف نثبت «ملاءمته للغرض»؟ الإجابة هنا تكمن في شكل ما من أشكال التجارب السريرية، غير أن مسألة نقاط النهاية مخادعة للغاية، فكم عدد العقد اللمفاوية السليمة التي بها أورام صغيرة الحجم ونحتاج لاكتشافها حتى تكون التقنية جديرة بالتطبيق؟ وكم عدد العقد المسموح بعدم اكتشافها؟ وكيف نقيم المعدلات الموجبة والسالبة «الصحيحة»؟ وهل علينا أن ننتقل إلى نتائج سريرية أوسع نطاقًا بدلًا من حساب عدد العقد اللمفاوية؟ على سبيل المثال: هل تطبيق الاختبار سيؤدي إلى نتائج سريرية أفضل، مثل إطالة فترات البقاء على قيد الحياة، مقارنة بالأسلوب المعهود للتعامل مع حالة المريض؟

كل هذه قضايا بالغة الصعوبة عند تطبيقها على تقنية التصوير بالأشعة عندما تكون تكاليف شراء أجهزة تصوير حديثة باهظة للغاية، حتى في حالة التقنيات التي تحسن قدرات أجهزة التصوير الحالية — مثل عقاقير وسط التباين الحديثة — تكون هذه المسائل في صميم الموضوع، ولا يوجد مسار واحد متبع في جميع أرجاء العالم.

ثمة حجج مماثلة تنطبق على الاختبارات التشخيصية. ومرة أخرى، للوهلة الأولى قد تبدو المشكلة بسيطة؛ فإذا أجرينا اختبار دم مرتبطًا بالسرطان، يجب علينا استخدامه كجزء من الأساس الذي تقوم عليه قراراتنا الطبية. لكن إذا تفحصنا المراجع، لوجدنا العديد من الأمثلة على اختبارات ترتبط بوجود المرض أو غيابه، غير أن القليل منها للغاية يستخدم بالفعل سريريًّا، فلماذا يحدث ذلك؟ الإجابة الرئيسية على هذا السؤال هي أن الاختبار عليه أن يقدم معلومات إضافية تزيد على ما نعلمه بالفعل؛ على سبيل المثال: توجد مجموعة كبيرة من اختبارات تحليل البول التي ترتبط بوجود سرطان المثانة، غير أنه لا يُستخدم أي منها في المملكة المتحدة، والمرضى المشتبه في إصابتهم بسرطان المثانة يضطرون إلى إجراء عملية فحص بالمنظار للمثانة لتأكيد التشخيص. وتحاليل البول المتوفرة لا يُعتمد عليها بقدر كافٍ لإعفاء المرضى من اللجوء إلى منظار المثانة. وعندما تُفحَص المثانة، إذا شوهد ورم، فسيحتاج الأمر للاختزاع. ومرة أخرى، لا تكفي الاختبارات لتفادي الحاجة لأخذ خزعة، علاوة على ذلك تمثل الخزعة الاستئصالية جزءًا من العلاج، ومن ثم مهما كانت جودة الاختبار، فإن المريض سيظل بحاجة إلى هذه العملية. فماذا عن التكهن بالمستقبل المرضيِّ؟ مرة أخرى نقول إن اختبار البول جيد، لكنه ليس بجودة الدراسة المرضيَّة للورم المستأصل؛ إذًا هذه الاختبارات لن تضيف شيئًا. مع كل ما تقدم، فإن الاختبار الصحيح للإجراء التشخيصي هو تأثيره على النتائج؛ أي هل في استطاعة الاختبار أن يعفي المريض من إجراءات باضعة أو أن يتنبأ بأفضل خيار من مجموعة الخيارات العلاجية؟ يتطلب هذا تجارب على نطاق واسع مشابهة لتلك التي يشترط إجراؤها على العقار ليحصل على ترخيص، وهذا هو السبب وراء ندرة الاختبارات الراسخة أو المؤشرات المستخدمة في الطب السريري للمساعدة في اتخاذ القرارات.

توجد أمثلة على مؤشرات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمرض، ويمكن استخدامها في التنبؤ بالأحداث المرضيَّة قبل ظهور أعراض سريرية أو تغيرات واضحة في صور الأشعة. من الأمثلة على هذه المؤشرات «المستضد البروستاتي النوعي» في حالة سرطان البروستاتا، و«مستضد السرطان ١٢٥» في سرطان المبيض، و«ألفا فيتو بروتين» و«هرمون موجهة الغدد التناسلية المشيمائية البشرية» في سرطان الخصية. بل عند وجود مؤشرات قوية أيضًا، فإنها لا تحل بالضرورة محل وسائل التقييم السريرية الأخرى؛ على سبيل المثال: مع أن التغيرات في المستضد البروستاتي النوعي تعكس بقدر كبير التغيرات في حالة المرض، فإن بعض العلاجات التي تؤثر على النتائج السريرية (من الأمثلة الجيدة على ذلك العقاقير التي تزيد من صلابة العظام المسماة البايفوسفونيت) لها تأثير بسيط للغاية على مستويات المستضد البروستاتي النوعي بالرغم من معاونتها في الوقاية من تلف العظام بفعل السرطان. بل إن ما يدهشنا أكثر أن دراسة كبيرة أجريت حديثًا على سرطان المبيض واستخدام المؤشرات خرجت بنتائج منافية تمامًا للبديهة. فارتفاع مستوى مستضد السرطان ١٢٥ في الدم يتنبأ بدقة بالانتكاس السريري. ويمكن للمرء أن يتوقع أن علاج الانتكاسة مبكرًا سيكون أفضل من الانتظار إلى أن تظهر الأعراض. وقارنت الدراسة بين سياسة العلاج القائمة على المؤشرات (أي علاج الانتكاسة الذي يبدأ بارتفاع مستويات المؤشرات) والعلاج القائم على الأعراض السريرية. وشارك في الدراسة عدد مجمله ١٥٠٠ سيدة، ولم يؤدِّ تقديم العلاج المبكر لمن خضعن لرقابة أكثر تركيزًا إلى أي تأثير على فترات البقاء على قيد الحياة. والأمر الأكثر إثارة للدهشة أن جودة الحياة ومستويات القلق كانت أفضل لدى السيدات اللاتي قُدِّم لهن العلاج بعد ظهور الأعراض السريرية؛ فالرقابة المشددة وتقديم العلاج المبكر إذًا نتيجتهما متدنية في واقع الأمر.

ثمة تركيز هائل في الوقت الراهن ينصبُّ على العلاج المُخصَّص؛ أي تحديد مؤشرات معينة تتيح تهيئة العلاج لكل فرد على حدة، وتوجد طرق عديدة يمكن بها تحديد سمات الأورام؛ إما من خلال طفرات الدي إن إيه بها، أو أنماطها في التعبير عن البروتين، أو معرفة أنشطة الإنزيمات المختلفة. غير أنه مع السهولة النسبية للتعرف على الأنماط التي ترتبط بالنتائج المختلفة، من الواضح من واقع المناقشة السابقة أن هذا لن يكون كافيًا للسماح بتعديل العلاج، وسيتطلب إثبات القيمة السريرية له إجراء تجارب سريرية تعقد مقارنةً بين السياسة القائمة على المؤشرات المرشحة والرعاية التقليدية. ومثلما يوضح مثال سرطان المبيض السابق، فإن وجود مؤشر جيد لا يضمن تحقيق النتيجة المرجوة، وربما تبرز مشكلة أخرى؛ ألا وهي أعداد المؤشرات المرشحة التي تظهر؛ إذ إنها قد تتجاوز قدرة فرق الأبحاث في إجراء التجارب، ربما بعدة أضعاف. هذا فضلًا عن أن المؤشرات تحول المرض فعليًّا من كيان متجانس إلى عدة كيانات فرعية متفرقة. ولما كانت التجارب الجيدة تحتاج إلى أعداد كبيرة، فإن هذا يزيد من صعوبة إجراء التجارب، فالمرض يصبح أكثر ندرة فعليًّا، يتضح ذلك في التغيرات التي طرأت حديثًا على سرطان الكلى؛ فقد وُصِفت عدة أنواع مرضيَّة منه منذ فترة، لكن هذا لم يُحدِث أي اختلاف في خيارات العلاج إلى أن ابْتُكِر أسلوب الجزيئات الصغيرة الموجهة. وكما ناقشنا من قبل، فإن الاضطرابات في سرطان الكلى ذي الخلايا الصافية (حوالي ٧٠٪ من إجمالي الحالات) تؤدي إلى اتباع علاجات جديدة، ماذا إذًا عن باقي الحالات البالغة نسبتها ٣٠٪؟ توجد أنواع أخرى فرعية مختلفة تشكل هذه النسبة البالغة ٣٠٪، ومن ثم فإن التجارب صارت الآن صعبة؛ إذ إن كلًّا منها صار في حقيقة الأمر غير شائع. ونتيجة لذلك، لا نعلم حقيقةً كيفية التعامل مع هذه المجموعات الفرعية. هذه الأمراض المسماة بالأمراض «اليتيمة» ستصبح يومًا بعد يوم أكثر شيوعًا وإثارةً للجدل؛ لأن القليل فقط من البيانات المستقاة من التجارب سيمكن استخدامها للتوصل إلى علاجات، وسيكون من الصعب إجراء التجارب نتيجة للافتقار للأعداد الكافية من المرضى.

(٤) النتائج

ستشهد السنوات المقبلة العديد من التطورات المثيرة في عقاقير السرطان الحديثة، والمؤشرات الحيوية الجديدة، والتكنولوجيا المستقبلية المثيرة مثل الروبوتات الجراحية. وكيفية تضمين هذه التطورات في تطبيقاتنا العملية تتوقف بقدر كبير على الأبحاث السريرية التي تشكل أساس استخدامها. غير أن الاتجاه عند تقديم التقنيات الحديثة تحديدًا سيكون من خلال التسويق لا عن طريق التجارب. ويومًا بعد يوم، سيصبح أسلوب منح التراخيص لهذه الأجهزة وتنظيمها وتمويلها مشكلة تتفاقم مع تعرض ميزانيات الرعاية الصحية للضغوط بتزايد أعداد كبار السن في المجتمع ونحن على مشارف مواجهة ديون هائلة جراء أزمة الائتمان.

هوامش

(1) © Khan and Protheroe/PMJ 2007.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤