العقل يهْدي ويهتدي

لم يكن الفتى الصغير قد تنبَّه، ولا تنبه أحد من ذويه بأن عينيه العليلتين تحتاجان إلى منظار، فما أكثر ما يغفل الإنسان عن حقيقة أمره، ويظل زمنًا — قد يطول مع أفراد، وقد يقصر مع آخرين — يظل زمنًا تتراكم له الخبرات فيه، قبل أن يدرك بأنه مختلف عن سواه في جانب هام من جوانب حياته، ولقد لبث فتانا أعوامًا لا أظنها تقل عن خمسة عشر عامًا، لكي يدرك بعدها، ويدرك معه ذووه، أن بصره ليس كأبصار الناس وأنه لا بدَّ له من منظار، فلما فحصت عيناه — وربما فُحصتا لأول مرة في حياته — وجد أن إحدى العينين سليمة، أو هي تقرب من السلامة، وأما الأخرى فعمياء أو هي تقرب من العمى، وأعد له منظاره الأول، فكانت العدستان متفاوتتين في السُّمك تفاوتًا بعيدًا، فإحداهما رقيقة والأخرى ذات حجم ملحوظ، فكان أن قويت رؤيته لما يراه، حتى لقد أخذته للوهلة الأولى دهشة ممزوجة بالهلع، إذ أصبحت دنياه التي تحيط به، وفي انتقالة خاطفة، ليست هي الدنيا التي كان قد ألفها قبل أن يضع منظاره على عينيه لأول مرة، إلا أنه إلى جانب ذلك الكسب العظيم في اقتراب الصلة ووضوحها بينه وبين الناس والأشياء من حوله، خسر خسارة عظيمة كذلك، وكان الفرق بين الحالتين أن الكسب كان في جانب العالم الخارجي وكائناته، وأما الخسارة فكانت في جانب العالم الباطني ومشاعره، فلقد كان التباين الشديد بين العدستين، لافتًا للأنظار، ومثيرًا لسخرية الأنداد الصغار وعبثهم، والصغار لا يرحمون صغارًا مثلهم ولا كبارًا.

ودارت الأيام بالفتى دورانًا يستحق التسجيل، فما قد حدث له بالنسبة لمنظاره من كسب في الرؤية الخارجية وخسارة في الرؤية الداخلية، أخذ يحدث له في تكرار عجيب، لا في مجال البصر ومنظاره، ولكن في مجال العقل وإدراكه، إلا أن الكسب والخسارة لم يكونا على اطراد واحد، بل كان الكسب مرة في جانب الرؤية الخارجية، ومرة ثانية في جانب الرؤية الداخلية، وعكس ذلك صحيح أيضًا بالنسبة إلى ما خسره الفتى في كل مرحلة.

لم يصطدم الفتى بقضية عقلية تتحداه وتلح عليه، بل إنه لم يكن ليدرك كيف يمكن أن يصطدم أيُّ إنسان بقضية فكرية تتحداه وتلح عليه، أليست هي دروسًا يذاكرها ويحفظها طالب العلم، ثم يمتحن فيما ذاكره وحفظه، فيصيب من النجاح أو الفشل ما يصيب؟ فمن أين إذن تأتي تلك القضايا التي تتحدى وتلح؟ وكان إلى جانب دروسه وحفظها والنجاح فيها متدينًا عميق التدين، إذا كان التدين معناه أن تُؤدَّى شعائر الدين كما ينبغي لها أن تؤدَّى، وكما خلت دروسه من القضايا التي تؤرق الجنوب عند من يتعرض لإلحاحها، كان تدينه كذلك لا تعترضه مشكلة مما قد يشغل الفكر، وهكذا سارت سفينة الحياة بالفتى في بحر ساكن لا موج فيه، علمًا ودينًا، عقلًا وقلبًا، حتى انتصف به الشباب، وأخذ يصعد نحو الرجولة ونضجها.

هنا فاجأ نفسَه بسؤالٍ وجده مطروحًا في رأسه دون أن يُدبر له أمرًا، وكان السؤال يُسأل: ما الفرق عند الإنسان بين حالتين، هو في الحالة الأولى يعالج تمرينًا من تمرينات الهندسة، وفي الحالة الثانية يطالع قصيدة من الشعر؟ ألم تكن الحالتان كلتاهما — ذات يوم — درسين من الدروس التي تُحفظ ويُقضى فيها امتحان؟ لم يكن في أيام دراسته قد أحسَّ فرقًا بين الحالتين، وهل تحس الدابة طبيعة ما تحمله على ظهرها، أقمح هو أم حجر؟ وكذلك كان الفتى في دراسته لا يفرق بين نكبة ونكبة، فكلها نكبات، وعليه أن يكابدها حتى تبلغ به السفينة بر الأمان، لكنه الآن في نضج رجولته، يفاجئ نفسه بذلك السؤال العجيب: ما الفرق بين حالة يقول فيها الإنسان، افرض أن أ ب ﺟ مثلث، فكيف تقيم البرهان على أن زواياه تساوي زاويتين قائمتين، وحالة أخرى يقول فيها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل؟ ولم يجد الرجل لنفسه مفرًّا من أن يفكر في الجواب، فما الذي يلزمه إلزامًا لا مفر منه بأن يسأل وبأن يحاول الجواب؟ لا أدري، إلا أن شيئًا في منظاره العقلي قد تغير، فما قد كان واضحًا له وهو طالب علم، ولا يحتاج منه إلى سؤال، بات اليوم مشكلة تعترضه وتتحداه، فأخذ يُفكر ويفكر، إلى أن جاءته لحظة، قال فيها ما قاله أرشميدس وهو في حوض استحمامه يلحظ ماء الحوض كيف ارتفع سطحه بحلول جسمه فيه، فأوحى له ذلك بجواب كان يشغله البحث عنه، فصاح: وجدتها … وأصبحت بعد ذلك صيحة يصرخ بها كل من وجد جوابًا لسؤال كان يبحث عنه، وهكذا قالها صاحبنا عندما أدرك الفارق الذي كان يبحث عنه بين الحالتين: إيجاد البرهان في نظرية ما، والتأثر النفسي لقراءة شعر ما، ففي الحالة الأولى نبدأ بفرض هو أن أ ب ﺟ مثلث، وبفروض أخرى وضعناها أمامنا، بعضها «تعريفات» وبعضها «بديهيات» وبعضها الثالث هو ما يُسمونه «مصادرات» — وكان الأصوب أن يقال «مصدرات»؛ أي أنها حقائق نختارها لنضعها في الصدر مع غيرها من الفروض، ثم نستدل النتيجة أو النتائج التي تتولد من تلك الفروض، فالمسألة كلها عقلية صِرف، لا أثر فيها لحب أو كراهية أو فرح أو حزن، وأما في الحالة الثانية — حالة الشعر — فلسنا أمام فروض وما ينتج عنها استدلالًا، بل نحن أمام رجل مر وهو في طريقه، على بقايا منزل كان مسكنًا لحبيبته، والآن قد ذهب الحبيب وذهب المنزل إلا أطلالًا متداعية، ولا يملك الرجل من ذلك الماضي الجميل إلا «ذكراه» التي كلما وجدت ما يثيرها دمعت عيناه بالبكاء: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» فكما كان الموقف في نظرية الهندسة عقلًا صرفًا، نرى الموقف هنا شعورًا صرفًا، ففي حالة العقل كل الناس يشتركون في البرهان، وفي حالة الشعور الذي أثارته بقايا المنزل ومن كان يسكنه، فالأمر ينفرد به صاحب الذكرى، وليس هناك ما يُحتِّم على أحد آخر أن تدمع عيناه إذا مرَّ بتلك الأطلال، فلماذا إذن نقرأ عن مشاعر الآخرين التي لا نشارك فيها؟ إننا نقرؤها لعلنا نتعاطف مع الشاعر في شعوره، فإذا حدث ذلك التعاطف، حدثت معه تربية وجدانية لأنفسنا.

وتدور عجلة الزمان مع صاحبنا، وإذا هو أمام قضية عقلية أعم من القضية الأولى وأشمل، وهي قضية خاصة بالرؤية العامة التي ينظر بها الإنسان إلى هذا العالم وطبيعته، وعلى الرؤية التي يختارها الإنسان لينظر إلى العالم على أساسها، تتوقف نتائج فرعية لا حصر لعددها، فماذا تكون تلك الرؤية التي يختارها؟ هنالك بدائل يمكن حصرها وعرضها ليجيء الاختيار مؤسسًا على مقارنة بين تلك البدائل: فهذا العالم إما أن يكون كله تشكيلات من مادة ما، وفي هذه الحالة يكون علينا أن نفسر الظواهر الروحية والعقلية تفسيرًا يوضح لنا كيف أنها تفريعات تفرَّعت عن أصل مادي، وإما أن نقول إن هذا العالم كله من روح وعقل، وفي هذه الحالة أيضًا، يكون علينا أن نفسر الظواهر المادية تفسيرًا يبيِّن لنا أن تلك الظواهر إن هي في حقيقتها إلا تفريعات تفرَّعت من أصل روحي أو عقلي، وإما أن نجده عسيرًا علينا أن نفسر الروح والعقل بما يبين أنهما من أساس مادي، كما هو عسير علينا كذلك أن نُفسر الظواهر المادية تفسيرًا يبين أن تلك التي ظاهرها مادة، إن هي في حقيقة الأمر إلا روح وعقل من حيث المصدر والأساس، فخروجًا من هذا العسر يجيء افتراض ثالث، هو أن يكون هذا العالم كله ثنائي الجوهر، فهو مادة في جانب منه، روح وعقل في جانبٍ ثانٍ، وهو جمع بين روح ومادة في الكائن الواحد، في جانب ثالث.

عرض صاحبنا أمامه تلك البدائل الثلاثة، ولكلِّ بديل منها أنصار ليرى أيها أصلح له ليكون أساسًا لوجهة نظره، وماذا يحدد الصلاحية هنا؟ تحددها القدرة على فهم كبريات المسائل التي لا بدَّ من قبولها في أيِّ ثقافة، ففي ثقافتنا الإسلامية العربية جوانب أساسية، لا نستغني عنها، ولكن نريد تفسيرًا لها، والتفسير لا يكون إلا برد ما نريد تفسيره إلى مبدأ عام، وباندراجه تحت ذلك المبدأ العام يتم التفسير، وقد رأى صاحبنا أن أقرب ما يمدنا بالرؤية الملائمة لنا، هو الافتراض الثالث الذي يرى — أن الروح والعقل ليسا أمورًا من مادة، وأن المادة الخالصة لا هي من روح ولا من عقل، وأن الإنسان قد اجتمع فيه الجانبان، الروح والعقل من جهة، والجسم من جهة أخرى.

لكن صاحبنا لم يلبث أن رأى ضرورة شيء من التعديل، لكي تتم له صلاحية الرؤية التي اختارها، إذ يلاحظ أن الذين قالوا إن العالم كله مادة في مادة، قد وحَّدوا الكون تحت طبيعة واحدة، وكذلك الذين قالوا إن العالم كله روح وعقل، قد وحَّدوا الكون تحت طبيعة واحدة، وأن الذين قالوا إن العالم قوامه العنصران معًا، فإما روح صِرف، وإما مادة صرف، وإما كائنات تجمع بين الجانبين، لا بدَّ أن يُضافَ إلى ما قالوه إيمان بوجود إله واحد هو خالق الكون بعنصريه، وبهذا وجد صاحبنا نفسه أمام إطار فكري يستريح له.

ثم تدور به الأيام دورتها، فتعترضه مسألة جديدة تلح عليه ليجد حلًّا لها، فقد كان منذ أول نضجه العقلي يرى أنه بينما الإنسان في وجوده الحضاري، لا غناء له عن جوانب كثيرة، كلها أساسي وجوهري لذلك الوجود، إلا أن جانبًا واحدًا منها هو الذي يتغير مع الزمن تغيرًا يصحح به أخطاء نفسه، وذلك هو جانب العلم، وأما سائر الجوانب، ففكرة الخطأ ووجوب تصحيحه غير واردة فيها، فالعقيدة الدينية لها عند المؤمن بها كمال منذ لحظتها الأولى؛ لأنها جاءت وحيًا، وبهذا يكون معيار القياس بعد ذلك، هو الأصل كما أوحى به، وعلى ذلك فلا يكون للزمن وامتداده قدرة على تكملة ما هو منذ أوله كاملًا، وأما مجالات الإبداع في الفن والأدب، فهي كذلك لا يسهل علينا أن نفاضل فيها بين قديم وجديد، مفاضلة نفترض فيها أن ما هو جديد يكون بحكم الضرورة أصح وأكمل مما هو قديم؛ وذلك لأن الأمر فيها مرهون بموهبة الفنان أو الأديب، وليس ثمة ما يمنع أن تكون أقدم موهبة أعظم من أحدثها، فماذا يمنع ألا يكون في شعراء العرب المعاصرين، من يرتفع إلى مستوى شعراء الجاهلية؟ وماذا يمنع ألا يكون بين أدباء المسرح اليوم من لا ينافس سوفوكليز أو شيكسبير، وكذلك قل في فن الموسيقى وفن النحت وفن التصوير وفن العمارة … واضح — إذن — أن هذه الجوانب كلها، التي هي من أيِّ حضارة بمثابة الروح في الجسد، لا تخضع «للتقدم» مع ما يتقدَّم من جوانب الحضارة، أما الذي يتقدَّم بحكم طبيعته، بحيث يكون اليوم أصح منه بالأمس، فهو العلم.

رأى صاحبنا هذه الحقيقة منذ أول نضجه، لكنها حقيقة تترتب عليها نتيجة تدعو إلى بعض الحيرة، وهي أن العلم، الذي عليه وحده يتوقف الحكم على شعب بالتقدم أو بالجمود (لأن بقية الجوانب الحضارية لا يتوقف كمالها على مستحدثات التاريخ) أقول: إن العلم الذي تنصب فاعليته على «الظواهر» ليستخرج لكل ظاهرة منها قوانينها، تتعدد عنده مادة تلك الظواهر بتعدد العناصر، وليس لعنصر منها أفضلية على عنصر آخر، وإذن فلا بدَّ من افتراض رؤية رابعة، تضاف إلى الواحدية المادية، والواحدية الروحية، وثنائية التكوين بين روح ومادة (يهيمن عليها إله واحد)، والرؤية الرابعة هي تعددية العناصر الكونية مع وحدانية الله — سبحانه وتعالى، وأصحاب التعددية في مكونات الطبيعة لا يقفون بها عند كثرة العناصر فحسب، بل إنهم ليستطردون في طريقهم، حتى يصلوا إلى الوحدات الذرية التي منها يتكوَّن كل شيء، والتي كل ذرة منها مستقلة بكيانها عن سائر أخواتها، ولنا أن نضيف إلى تلك الكثرة في مفردات الكون، أفراد الإنسان، لاستقلال كل واحد منهم بفرديته المستقلة المسئولة.

أحسَّ صاحبنا بشيءٍ من الحيرة: كيف يحتفظ بهذه الكثرة من الأفراد والمفردات، لنحتفظ للعلم بقاعدته الراسخة، التي هي أن يذهب في التحليل إلى أقصى مداه، ثم يبني من الجزئيات ما يبنيه من جسيمات وأجسام وأنواع وأجناس، وأن يحتفظ في الوقت نفسه بوحدانية الكون، إذ أحس إحساسًا بأن إيمانه بوحدانية الله تقتضي أن يكون العالم الذي خلقه موحدًا كذلك على وجه من الوجوه، إن مثل هذا الإحساس بضرورة أن يتجلَّى الخالق في خلقه، موجود معنا حتى بالنسبة إلى أعمال البشر الإبداعية، كما هي الحال في الأدب والفن، فللشاعر أبي الطيب المتنبي — مثلًا — عددٌ من القصائد في ديوانه، لكننا بالرغم من اختلافها موضوعًا ووزنًا وقافية، إلَّا أننا نتوقع أن يكون بينهما روح واحدة تسري فيها جميعًا، ويستطيع نُقَّاد الفن أن يحكموا إذا كان عمل فني معين هو من أعمال الفنان الفلاني أو لم يكن حكمًا بما عرفوه عن أسلوبه الفني، فكيف بنا مع الخالق — جلَّ وعلا — وما خلق؟

فأصبح السؤال الذي طرحه صاحبنا على نفسه، محاولًا أن يجدَ لنفسه جوابًا يقنعه، هو هذا: كيف نسلك العالم المتعدد في عناصره ومفرداته وأفراده، في وحدة توحده ليصبح وكأنه — رغم ذلك التعدد في مقوماته — كائن واحد؟ وبعد تفكير طال أمده، لجأ إلى فكرة «النظام»، لكن هذه الكلمة مضللة ببساطتها وكثرة دورانها على ألسن الناس، إذ هي في حقيقة أمرها بحاجة إلى تدبر طويل قبل تعريفها تعريفًا دقيقًا ومقنعًا، فمتى نقول عن مجموعة من الأشياء إنها في «نظام»؟ افرض أنك نثرت على منضدة عددًا من الحصى، فجاءت كما اتفق، فما الذي ينقصها لتصبح في نظام؟ أليس كل وضع لها هو أحد أوضاعها الممكنة؟ فماذا يكون الفرق بين وضع ووضع؟ الإجابة التي نقدمها هي أبسط من البساطة، وهي: كلما قلت الكلمات المطلوبة لوصف الوضع الذي أخذته أفراد المجموعة، كان فيها من النظام بقدر ما فيها من سهولة الوصف، فلو أنك أردت أن تصف بالكلمات، تلك الحصويات التي نثرتها فوق المنضدة كما اتفق، لاحتجت إلى جهد كبير، وإلى عبارة بالغة في طولها حدًّا بعيدًا؛ لأنك مضطر أن تقيس المسافة بين حصاة وحصاة على نحوٍ يُبين حقيقة أوضاعها، لكن ضع هذه الحصويات نفسها في شكل دائرة أو مربع أو مثلث، فعندئذٍ يمكنك وصفها بكلمة واحدة، هي أنها دائرية، أو مربعة، أو مثلثة، وتستطيع أن تضرب لنفسك أيَّ عدد شئت من الأمثلة، وستجد أن «النظام» في كلِّ حالاته، هو أن الأفراد اتخذت وضعًا يمكن وصفه في عبارة قصيرة، أو ربما في كلمة واحدة، فمثلًا مجموعة الطلاب وهم مفرقون في فناء المدرسة، ثم حين يصطفون في صفوف، فهذه الحالة الثانية هي النظام؛ لأن وصفها يسهل ويقل عدد كلماته، فما عليك إلا أن تذكر عدد الصفوف، وعدد الطلبة في كلِّ صف.

ونعود إلى الكثرة الهائلة التي هي قوام الكون، ما الذي جعلها توصف بالنظام، وهو وصف كفيل وحده بأن يُقيم من تلك الكثرة وحدة موحدة؟ نقول: إن دليل النظام فيه، هو اندراج مجموعاته تحت قوانين العلم، فالقانون العلمي الذي يطوي تحت جناحيه أيَّة مجموعة من الكائنات، إنما هو بمثابة وصف لسلوكها في صيغة قصيرة مركزة في عدد قليل من رموز الرياضة، أو عدد قليل من الكلمات، إذا كان ذلك القانون العلمي مسوقًا في كلمات اللغة المألوفة، كما هي الحال في العلوم الإنسانية، فهذا النظام الشامل لأجزاء الكون على تعددها، والذي تدل عليه القوانين العلمية التي تضم ذلك التعدد مجموعات مجموعات، وكأنها حشود الجند قد اصطفَّت في صفوف، هو الذي أشبع في صاحبنا رغبته في أن يرى توحدًا في خلق الله، تنعكس فيه واحدية الله وأحديته، جلَّت قدرته.

كان الفتى حين وضع منظاره أمام عينيه الضعيفتين لأول مرة، قد رأى الدنيا من حوله وكأنها ليست دنيا الناس والأشياء كما ألفها، إذ رأى من دقائق المرئي وتفصيلاته ما لم يكن قد رآه، فلو أنه عاش ومات وليس في صحبته إلا ذلك البصر المحدود، لذهب عن الدنيا واهمًا أنها كما رأتها عيناه، فإذا كان منظاره غير المتوازن في عدستيه، قد أثار سخرية الصغار، فذلك ثم قليل بالقياس إلى كسبه الضخم فيما عرفه عن دنياه، ولما دارت بالفتى أيامه وأعوامه، وخرج منه الرجل الناضج بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، جاء ذلك الرجل بمنظار آخر أضيف إلى منظار البصر، هو منظار العقل، فهو لم يترك عقله لفطرته، بل اقتضاه أن يتكئ في كل خطوة يخطوها، على منطق الفكر الذي يؤدي به إلى نتائج صحيحة فيما يستدله من المعطيات التي بين يديه، إن العقل البشري هو الذي استخلص من عمليات التفكير مبادئ الاستدلال الصحيح وقواعده، استخلصها ليهدي بها من لا تسعفه فطرته، لكن ذلك العقل إذ يهدي إلى سواء السبيل، فهو في الوقت نفسه يهتدي بما هدى.

وما المنطق الذي نُشير إليه في سياق حديثنا هذا عن الهداية والاهتداء؟ إنه في اختصارٍ شديدٍ تفريغ ما فكر فيه أولو السداد، تفريغه من مضموناته، لتبقى منه هياكله العظمية التي ليس فيها إلا الصور الخالية وركائزها وقوائمها، كأنها سقالات البناء بغير بناء، وعندئذٍ نرى في وضوح ماذا يجوز استدلاله وماذا لا يجوز؛ لأن مضمونات المعاني إذا وجدت، فهي قد تضلل الناس بسبب مشاعرهم الخاصة إزاء تلك المعاني، فمنهم من يحب هذا ومنهم من يكره ذاك، فضلًا عما قد يكتنف تلك المعاني من سحاب الغموض وضبابه، ولقد شاءت المقادير لصاحبنا الذي بدأ بالمنطق التزامًا منه بسلامة التفكير، ثم انتهى به أن يكون موضوع دراسته وتدريسه، يُحاضر فيه ويُؤلِّف الكتب.

ولقد رأيناه عندما اصطدم بأول قضية فكرية، وهي الفرق بين حالتين: موقف دارس الرياضة من موضوعه، وموقف قارئ الشعر وناقده، فكأنما جاءت تلك القضية في مجرى حياته بمثابة العتبة التي خطا فوقها ليصل إلى ما قد أصبح رؤية عامة لحياته الفكرية كلها؛ وذلك لأنه بعد دراسات ومقارنات بين وجهات النظر المختلفة، انتهى آخر الأمر إلى اتجاه اختاره مطمئنًا بأنه اتجاه يخدم ثقافة قومه الموروثة والمجلوبة معًا، فهي تصون واحدية الله — سبحانه وتعالى — وأحديته، وتقر وجود الروح ووجود المادة جوهرين مختلفين، وهي تضمن استقلالية أفراد البشر، ليكون كل فرد قائمًا برأسه، مسئولًا عما يفعل، وأخيرًا ليترك عناصر الطبيعة وظواهرها ومفرداتها وجزئياتها لتترك كل هذا في تعدده الذي هو عليه حتى يتناوله البحث العلمي بمناهجه التحليلية منتهيًا إلى مجموعات القوانين التي تحكمها.

ولماذا قلنا إن التفرقة بين موقف الرياضي وهو يُقيم البرهان على نظرية هندسية، تختلف عن قارئ: «قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل»، أقول: لماذا قلنا إن تلك التفرقة كانت لصاحبنا بمثابة العتبة التي أدخلته إلى حيث أصبحت له رؤية خاصة يطمئن لها؟ كان ذلك لأنها فرَّقت له تفرقة واضحة بين نظرتين: نظرة العالم، ونظرة الواجد قلبه، في الحالة الأولى منطق يطرح كل عاطفة من حسابه، وفي الحالة الثانية عطف وتعاطف يطرحان منطق العقل من قائمة الحساب، في الحالة الأولى تلتقي البشرية العاقلة جميعًا، الحاضرون منها والسابقون واللاحقون، على التفرقة بين ما هو صواب وما هو خطأ، وفي الحالة الثانية قد ينفرد فرد واحد دون سائر الناس بعاطفة معينة نحو شيء معين، لا يشاركه في ذلك أحد سواه، ومع ذلك فلا يحق لأحد أن يقول له: لقد أخطأت، في أحكام العقل يكون الصواب والخطأ أمرين واردين، بل إن قابلية الجملة لأن تكون صحيحة أو خاطئة هو العلامة الأولى على أنها جملة تملك جواز المرور إلى رحاب العلم، وأما في حالة الوجد، والعطف، والشعور، والانفعال، وسائر صنوف البضاعة التي يحيا بها الإنسان من داخل، فهذه كلها لا خطأ فيها، ما دام صاحبها قد كان صادقًا مع نفسه، فإذا قال — صادقًا — إنه مؤمن، إنه خائف، إنه عاشق، إنه كاره … لم يَعُد في وسْع أحد أن يكذبه.

ومنذ عرف صاحبنا كيف يفرق بين عقله، مستندًا إلى منطق الفكر في استدلاله الأحكام من الشواهد والمقدمات، من جهة، ونبض القلب بالإيمان وبالحب وبنشوة الفن، من جهة أخرى، أقول: إن صاحبنا منذ عرف ذلك، بات يأخذه العجب الذي لا ينقضي، ممن يخلطون — عامدين متعمدين — بين ما هو علم، وما هو دين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤