الفصل الأول

رب وأرباب

كان اليونانيون القدماء هم أول من اهتم بدراسة الجنون؛ أي مرض الروح، لكن هل يعني هذا أنه قبل ذلك الوقت لم يتطرق أحد إلى هذا الموضوع؟ نحن لا نقصد بالتأكيد الجنون بمعناه النظري، حتى وإن كان غياب المصادر يجعلنا نتغاضى بعض الشيء عن مثل هذا القول. إنما نقصد المجانين بالطبع. هل هناك حضارات أو مجتمعات، حتى الأولى منها، دون مجانين؟ نراهن أن الإجابة ستكون بالنفي.

جنون وآلهة

في الحقيقة، وحتى لا نستعرض إلا الحضارات التي سبقت اليونان وأثرت فيها، لا بد من البحث عنهم والعثور عليهم؛ أولئك المجانين، الذين سبق أن ضُبطوا في أثناء تلقيهم للعلاج. ومع ذلك، نراهم هناك، ببساطة هناك. نجدهم في المعابد التي شُيدت لغرض طبي في الحضارة البابلية وفي مصر القديمة، كما في معبد ممفيس على سبيل المثال، والذي كان يُعد مدرسة للطب ومشفًى في الوقت نفسه. من بين أولئك الذين كانوا يتوافدون على هذه المعابد طلبًا للشفاء، نجد المجانين الذين كانوا ينتظرون دورهم لحدوث معجزة معهم من خلال ممارسة بعض الطقوس. وسط أجواء من الشعائر الدينية، كانت هناك ممارسات كالصوم والاغتسال والتطهر والدَّهن بالمسحة المقدسة تسبق الدخول إلى المعبد، أحيانًا ببضعة أيام، للمبيت فيه ليلة. في اليوم التالي ﻟ «نوم حضانة المرض»، والذي يمكن أن يصاحبه تناول بعض العقاقير، كان المريض يقص أحلامه على «الكهنة الأطباء»، الذين كانوا بدورهم يقومون بتفسيرها للحصول على وصفات العلاج والأدوية والأنظمة الغذائية، والتي كان الإله بنفسه هو من يمليها على المريض في بعض الأحيان عن طريق الأحلام. ويمكن الافتراض بأن الحالات المرضية للرجال والنساء التي لا أمل في شفائها لم يكن يُسمح لها بدخول المعبد؛ حيث كانت سمعة المكان والإله على المحك. على أي حال، كان هذا الطب الكهنوتي ملائمًا تمامًا للجنون.

أما المصريون، فقد كانوا يعتقدون أن مركز كل شيء هو «القلب»؛ فهو مقر «الهروب» و«النسيان»، وأن الجنون يصيب المرء حينما تسكن قلبه قوة إلهية (في إشارة إلى الشيطان) ولا يصبح بعدها مسئولًا عن أفعاله. وحينما يعثر الإنسان على «قلبه» فإنه يستعيد في الوقت نفسه عقله. وقد ظلت هذه الفكرة عن المجنون المُغيب سائدة لوقت طويل، ثم عاودت الظهور خاصة مع نشأة الطب النفسي، في أوائل القرن التاسع عشر، مع ظهور مفهوم الاغتراب (وهي كلمة مشتقة من الأصل alienare وتعني أن يكون الإنسان شخصًا آخر غريبًا)، ليس فقط غريبًا عن الآخرين وإنما أيضًا غريب عن نفسه.
في الطب البابلي، كان هناك اعتقاد بأن لكل مرض شيطانًا مسئولًا عنه؛ ومن ثم فإن الروح الشريرة التي تسبب مرض الجنون كانت تُدعى إيديتا. في النصوص المسمارية الطبية،1 جرى التمييز بين أنواع مختلفة من الجنون كما يلي: «بحسب ما إذا كان الشخص يعاني كثيرًا من نوبات حادة أو خفيفة من الصرع، أو بدأت تنتابه أفكار عن الاضطهاد وأن الآلهة غاضبة عليه، أو إذا كان يصاب بهلاوس، أو لديه شعور دائم بالرعب والفزع …» وبالطبع، فيما يتعلق بالجنون، وكما هي الحال بالنسبة إلى الأمراض الأخرى، كان الطب البابلي يلجأ إلى العراف أو الساحر Asipu مثلما يلجأ إلى الطبيب Asu، وأحيانًا، إذا كان المريض يستحق العناء، كان يجري استدعاء الاثنين معًا. كان الطبيب، وهو في الوقت نفسه الصيدلي، يمتلك بالفعل صيدلية (تحتوي على عقاقير ومراهم) لا يتورع العراف من جانبه، إضافةً إلى ما يتلوه من تعويذات وعزائم، عن استخدامها.

في بلاد فارس القديمة، كان هناك اعتقاد بأن جميع الأمراض يتحكم بها شياطين، وأن المفهوم الثنائي للصراع الدائم بين الخير والشر يتجسد، ليس في العالم فحسب، حيث يتنازع إله الخير «أهورا-مازدا» مع إله الشر «أهريمان»، وإنما أيضًا في الجسم البشري حيث تتعارض الصحة مع المرض. وكان هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الطب كما يلي: «طب المِبضع أو الجراحة، طب العلاج بالأعشاب والنباتات، وطب الكلام»، ويقصد بهذا النوع الأخير التلاوات المقدسة التي «تجلب السَّكينة للروح». ويعد اليونانيون أول من قام فيما بعد بتعريف دقيق لماهية الروح.

في تلك العصور القديمة، نادرًا ما نجد حالات من الجنون لها أسباب مرضية أو طرق علاجية ملائمة، بعيدًا عن نطاق التداوي بالسحر والدين. وبالرغم من ذلك، قبل ألفي عام من ميلاد المسيح، عزا المصريون العديد من الاضطرابات النسائية، سواء أكانت جسدية أم نفسية، إلى هجرة الرحم إلى أعلى الجسم؛ مما ينتج عنه حدوث ضيق في التنفس و«اختناق رَحِمِيٍّ» (ما يُقصَد به «الإصابة بالهستيريا»). انطلاقًا من الفرضية القائلة بأن العضو المهاجر يهرب من الروائح الكريهة بينما تجذبه الروائح الطيبة، وساد اعتقاد بضرورة الجمع بين استنشاق روائح غير محببة وتطهير المهبل بالروائح العطرية لإجبار الرحم على العودة إلى موضعه الطبيعي. وهكذا نشأت الهستيريا، والتي أصبحت حقلًا واعدًا على الصعيدين الطبي والاجتماعي للباحثين بهذا المجال.

وقد اتبعت اليونان القديمة (وما بعدها من حقب) النهج الطبي نفسه القائم على الاستعانة بالسحر والدين، متأثرة في ذلك بالطب المصري القديم. كان الكهنة أيضًا هم القائمين على رعاية صحة البشر، ولا سيما في العديد من المعابد المخصصة للإله أسكليبيوس. ووفقًا للأسطورة الإغريقية، فإن أسكليبيوس هو ابن الإله أبوللو والحورية كورونيس والذي عُهِد به إلى القنطور شيرون لتربيته. وكان هذا القنطور يمتاز عن أقرانه، المتوحشين والجهلة، بالحكمة والطيبة. وقد قام القنطور شيرون، بتعليم أسكليبيوس الطب، حيث نقل إليه ما سبق أن تعلمه على أيدي أبوللو وأرطميس. وسرعان ما تفوق الطالب على أستاذه. ولم تقتصر قدرة أسكليبيوس على شفاء المرضى فحسب، وإنما امتدت لتشمل أيضًا إحياء الموتى. ولم يتحمل الإله زيوس ذلك، فغضب على أسكليبيوس وضربه بالبرق. وأصبح أسكليبيوس هو إله الطب (وهو الإله إسكولاب عند الرومان)، وصارت ابنته هيجيا أو هيجي (Hygie) إلهة الصحة (ومن اسمها اشتُق الأصل اللغوي لكلمة hygiène؛ أي النظافة الصحية).

يقع المعبد الرئيس للإله أسكليبيوس في مدينة إبيداوروس، في أرغوليس. وكان يتوافد عليه المرضى منذ القرن السادس قبل الميلاد. وكما هي الحال أمام مئات المعابد الأخرى المخصصة لإله الشفاء في جميع أنحاء اليونان، كان المرضى يصطفون بانتظار قضاء ليلة حضانة المرض الشهيرة. وكان المؤلف المسرحي أريستوفان يسخر من هذا المشهد في مسرحياته الكوميدية، قائلًا بأن الأمر لا يعدو أن يكون عمليات احتيال وخداع كبرى. ولكن لم يشاركه هذا الرأي أولئك المرضى الذين كانوا يحجون إلى هذه المعابد، مفعمين بالإيمان والاعتقاد في الشفاء، ولم لا وقد عزز من إيمانهم هذا منظر آيات الشكر والعرفان والوفاء بالنذور التي كانت تزين جدران المعابد. أما أولئك الكهنة الأطباء — الذين يدَّعون أنهم ينحدرون من سلالة أسكليبيوس ويمثلون رابطة قوية — فكان من بينهم مختصون في علم التغذية، وصيادلة، وجراحون، ومعالجون بالموسيقى، وكذلك — وقبل ظهور الكلمة نفسها — أطباء نفسيون. وكما هي الحال في مصر، لم يكن الكهنة الأطباء يكتفون بالبقاء في معابدهم بل كانوا يقومون بجولات واسعة لتفقد المرضى. وكان المجانين يمثلون الفئة المختارة لدى هذا النوع من الأطباء الذي يجمع بين السحر والدين.

كما حدث في مصر، أُنشئت مدارس تنافسية: في قوريني، ورودس، ولا سيما في كنيدوس، في آسيا الصغرى، وفي جزيرة كوسفي دوديكانيسيا. وتزايد الاهتمام بتسجيل العوارض الصحية وطرق معالجتها على ألواح، بحيث تكون في بعض الأحيان بمنزلة مرجع طبي متكامل، ونذكر على سبيل المثال في هذا الصدد كتاب «الحِكَم الكنيديسية». ومع ذلك، كان الكهنة الأطباء من سلالة أسكليبيوس يميلون إلى الاقتصار على معالجة الجروح والأمراض الحادة؛ ولهذا السبب هجر العديد من المرضى المصابين بأمراض مزمنة معابد أسكليبيوس وأخذوا يترددون على صالات الألعاب الرياضية، اعتبارًا من القرن الخامس قبل الميلاد. ذاع صيت الألعاب الرياضية في اليونان إلى حد أنها لم تكن تعد وسيلة للتمتع بصحة جيدة فحسب، بل أضحت طريقة لمعالجة الأمراض المزمنة، اعتمادًا على التمارين البدنية والسير لمسافات طويلة واتباع أنظمة غذائية.

أما فيما يتعلق بالجنون نفسه، فهو يحتل في الأسطورة اليونانية القديمة وقصائد هوميروس مكانة خاصة؛ فقد كان يُنظر إليه على أنه يمثل في أغلب الأحيان عقابًا يُبتَلى به البشر الذين يقعون ضحية الجموح والغطرسة. وهكذا، أصيب أوريستيس بالجنون بعد أن قتل والدته وعاقبته على فعلته إِلَهَات العذاب إيرينيس (المسماة فيوريس عند الرومان). كان الإغريق يخافون بشدة من جنيَّات الجحيم إيرينيس، لدرجة أنهم كانوا يطلقون عليها «الجنيَّات الطيبة» حتى لا يُغضبوها. وكانت مهمة هؤلاء الإلهات معاقبة القاتل والمتغطرس أيضًا.

لقد سلطت الآلهة الجنون على أوديسيوس، الذي كان يحرث الرمال بدلًا من الحقول، وأجاكس، وهو أشجع الرجال اليونانيين بعد أخيل. وعند موت هذا الأخير، طالب أجاكس بأسلحته ولكن القادة الآخرين اختاروا أوديسيوس. وهكذا أصابت أجاكس لوثة الجنون وطفق يذبح قطيعًا من الخراف ظنَّه جيشًا من الآخيين. وكتب سوفوكليس، في مسرحيته «أجاكس» (التي ألفها حوالي سنة ٤٤٠ قبل الميلاد)، مشهدًا تظهر فيه الإلهة أثينا، حامية الآخيين، وهي تشرح لأوديسيوس كيف أنها بددت غضب أجاكس؛ بأن ضربته ﺑ «غشاوة على عينيه»: «سأوقع على عينيه الوهم الثقيل لانتصار كريه […]، وسأضغط على الإنسان الواقع ضحية هذيانه، وأدفعه نحو عمق شبكة الموت.» وعندما أدرك أجاكس خطأه، لم يبقَ أمام هذا البائس إلا الانتحار.

بيد أن آلهة الأساطير الإغريقية لم تكتفِ بلعب دور المنتقمين أو الحُماة. فقد كان لدى هذه الآلهة جميعها عيوب الفانين نفسها. وهكذا كان زيوس زير نساء بمعنى الكلمة وكانت هيرا زوجته (راعية الزواج وحامية النساء المتزوجات) غَيْرَى بشكل رهيب. ونظرًا لعدم قدرتها على الانتقام من زوجها الفاسق، والذي يعد في الوقت نفسه كبير الآلهة أو رب الأرباب؛ كانت هيرا تتجه نحو العديد من الفانيات اللائي نلن جانبًا من إحسانها. وهو ما حدث على سبيل المثال مع ألكمن، أميرة الميسينيين، التي أغواها زيوس بعد أن اتخذ شكل زوجها الغائب أمفيتريون، ثم حملت منه. فاستشاطت هيرا غضبًا وطلبت من ابنتها إيليثيا، إلهة الولادة، أن تطيل فترة حمل ألكمن. وبمجرد ميلاد ابن ألكمن، لم تكُف الإلهة الرهيبة هيرا عن وضعه في اختبارات كانت تبعث بها إليه، ولكنه كان دائم الانتصار فيها. ومن هنا جاء اسمه: هرقل، ومعناه «مجد هيرا». وعندما أدركت الإلهة أنه لا شيء يقدر على هزيمة هذا البطل، ضربته بلوثة جنون دفعته إلى قتل أبنائه (وأصبح لزامًا عليه فيما بعد القيام بالأعمال الاثني عشر الشهيرة للتكفير عن مثل هذه الجريمة). وقد قدم المؤلف المسرحي يوربيديس نسخة شائقة من جنون هرقل في صورة عمل مسرحي؛ حيث أدركت هيرا فجأة، في تجلٍّ مصحوب بإحساس شنيع بالابتهاج، أنه لا يوجد شيء أو شخص بإمكانه هزيمة هرقل. لا أحد، إلا نفسه! وبناءً عليه، فليعلن الآن الحرب على نفسه! وليصِرْ مخبولًا بحيث يكون، في جنونه، غير مدرك لأفعاله؛ وبذلك يكره نفسه!

ورغم أننا هنا في نطاق الأسطورة الإغريقية والشعر التراجيدي، فالجنون المشار إليه، بعيدًا عن أي مجاز، لا يقل عن الجنون بصورته الحقيقية؛ لأن الجنون في صورته الأكثر عنفًا والأكثر خطورة يتجلى في: هوس هرقل الإغريقي، وغضب هراقليس اللاتيني الهائج.

الإله والجنون

مع آلهة الأسطورة الإغريقية، على الرغم مما كانوا يبدونه من قسوة مع البشر، فقد كان من الممكن — في بعض الأحيان — تقديم تنازلات للوصول إلى اتفاق معهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الآلهة، التي تكون بشرية للغاية، في أحيان كثيرة، لا تتعامل بقسوة إلا بدافع العاطفة أو التسلية، فإن ذلك يخلق مساحة مشتركة من التفاهم والعلاقات المتبادلة. ولا يوجد مثل هذا مع الإله الأوحد لأول دين كتابي. مع عقيدة التوحيد بوجه عام، ليس هناك مجال للمزاح. إن إله العبرانيين والعهد القديم، والذي يُدعى يهوه، محب للانتقام وعنيف في أغلب الأحيان. ألم يطلب من إبراهيم التضحية بإسحاق، ابنه البكر؟ وسيجيب البعض قائلًا: إن يهوه لم يكن يريد إلا اختبار عبده إبراهيم بدليل وجود كبش الفداء الذي حل محل ولده في اللحظة الأخيرة. إذا سلمنا بذلك، فهذا لا يبرر أن الأب قد وافق، باسم الرب، على قتل ابنه؛ حيث كان إبراهيم قد قيد بالفعل ابنه على مذبح المحرقة. وبالفعل، مد يده ليمسك بالسكين. وهكذا ظهر إله جديد.

وبعيدًا عن هذا الإله العنيد، لا سبيل للنجاة (كما ضاقت سبل الخلاص). «أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي. سَحَقْتُ، وَإِنِّي أَشْفِي، وَلَيْسَ مِنْ يَدِي مُخَلِّصٌ» (سفر التثنية، إصحاح ٣٢، آية ٣٩). الله يرسل المرض ليعاقب خلائقه. وماذا يكون العقاب الأمثل إلا الجنون؟ في هذا السياق، يكتسب الجنون طابعًا مبهمًا وباعثًا على التشاؤم بشكل جذري. وعليه، يكون المجنون هو بدايةً مَن يقع في الخطية — ثم يسقط في شِباك الخطيئة والعقاب. «فِكْرُ الْحَمَاقَةِ خَطِيَّةٌ» (سفر الأمثال، إصحاح ٢٤، آية ٩). «لأَنَّ شَعْبِي أَحْمَقُ. إِيَّايَ لَمْ يَعْرِفُوا. هُمْ بَنُونَ جَاهِلُونَ وَهُمْ غَيْرُ فَاهِمِينَ» (سفر أرميا، ٤، ٢٢). وترد في سفر الأمثال على وجه الخصوص، بشكل متكرر ومهيمن، الصورة الأكثر تشاؤمًا للأحمق المتعارض مع الحكيم: «الحُكَمَاءُ يَذْخَرُونَ مَعْرِفَةً، أَمَّا فَمُ الْغَبِيِّ فَهَلاكٌ قَرِيبٌ.» ومن يَهوَه يغضب المخبول ويكون جنونه غير قابل للشفاء: «إذا ما سحقت معتوهًا بالهاون بين الحبوب، فإن جنونه لا يحيد عنه.» ولذلك، لا بد من الابتعاد عن الأحمق: «لِيُصَادِفِ الإِنْسَانَ دُبَّةٌ ثَكُولٌ وَلَا جَاهِلٌ فِي حَمَاقَتِهِ» (سفر الأمثال، ١٧، ١٢).

عندما عرفتِ التعاليم اليهودية المجنون على أنه الإنسان الذي يفقد عطية مُنحت له، كان يقصد بذلك المريض عقليًّا وأيضًا الخاطئ الذي لم يستطع الحفاظ على إيمانه وفضيلته باعتبارهما عطيتين من الله. بالإضافة إلى ذلك، أليس المريض عقليًّا مسئولًا، في نهاية المطاف، عن السماح لنفسه بالانزلاق في هوة الجنون؛ وذلك بنسيان الله ومن ثم الاستهانة به؟

هذا الجمع بين المجنون والآثم لم يكفَّ على أي حال عن التأثير في التقليد اليهودي-المسيحي. وفي هذا الصدد، يمكن أن يأخذ الجنون طابعًا جماعيًّا. هكذا، كان موسى يحذر شعبه قائلًا إنهم إذا حادوا عن طريق الإيمان، فسيضربهم الرب بالجنون وﺑ «حيرة القلب» (سفر التثنية، ٢٨، ٢٨). وهكذا كان اليهود يدعون السامريين بأسلوب مهين «شعبًا مجنونًا»؛ وذلك بسبب انشقاقهم الديني (فهم لا يقبَلون في الكتاب المقدس إلا التوراة). مجنون، آثم، شرير، كلها مترادفات لشيء واحد.

ويبلغ التشاؤم ذروته حين يكون جنون الإنسان أمرًا مثيرًا للحزن أكثر من موته: «ابْكِ عَلَى الْمَيِّتِ لأنه فَقَد النُّورَ وابْكِ عَلَى الأَحْمَقِ لأنه فَقَد الْعَقْلَ. قَلِّلْ مِن الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ فَإنَّه فِي رَاحَةٍ أمَّا الأَحْمَق فَحَياتُهُ أشْقَى مِن مَوتِهِ» (سفر يشوع بن سيراخ، ٢٢، ١٠–١٢).

ونتيجة لذلك، كان من الصعب معرفة مصير المجانين «الحقيقيين»؛ فقد كان ينتظرهم بالطبع مصير لا يُحسدون عليه، في إطار مناخ ديني متعصب إلى أبعد حد عن الحضارات المؤمنة بعدة آلهة، وفي سياق بيئة دينية ترفض، بل وتُحرِّم اللجوء إلى السحر. وهكذا، كان للعديد من هؤلاء المجانين — المنبوذين من مجتمعهم والمختبئين في الغابات حيث يعيشون حياة بدائية وهمجية — دور في مولد أسطورة الاستذآب (وهي كلمة مشتقة من الأصل اللغوي «الرجل الذئب»، الذي عُرِف فيما بعد بالمذءوب). ويعد نبوخذ نصر، ملك بابل، خير مثال على ما نقول؛ فلتوقيع العقاب على هذا الملك، الذي قام بغزو مملكة يهوذا ودمر معبد أورشليم (في مطلع القرن السادس قبل الميلاد)، على غروره، ضربه يهوه بالجنون؛ حيث اعتقد نبوخذ نصر أنه تحول ليس إلى ذئب ولكن إلى ثور، على غرار صور الثيران الكثيرة التي تزين جدران قصره. وقد انطلق ليعيش على نحو بدائي في حدائقه الشاسعة، معرضًا نفسه لسوء الأحوال الجوية، ولم يعد يأكل إلا الحشائش وأطال شعره وأظفاره. ولكن ملك بابل لم يتعرض للعقاب إلا لفترة مؤقتة («سبعة أزمنة»، كما ذكر الكتاب المقدس دون إعطاء مزيد من التوضيح). ثم صار بإمكانه أخيرًا «استعادة رشده» والتضرع في تذلل إلى الله الذي قبِل طِلبته ومنَّ عليه بالشفاء.

ولكن مَنْ يمكن أن يكون مجنونًا دون أن يكون خاطئًا؟ «إنه ذلك الذي يخرج بمفرده في الليل، ويبيت في المقابر، ويقذف الحجارة، ويمزق ملابسه، ويفقد ما يُعطى له» (تكملة التلمود). وإلى جانب هذا التعريف «الإكلينيكي» المبهم، أكد التلمودي ريش لاكيش، في القرن الثالث بعد الميلاد، أن الإنسان لا يخالف أحكام الدين إلا إذا دخلت إليه روح الجنون.

وقد ذكر الكتاب المقدس بعض حالات الجنون، بمفهوم المرض العقلي، أشهر هذه الحالات هو شاول، أول ملوك شعب بني إسرائيل، وقد حدث ذلك قبل الميلاد بألف عام (حسبما ذُكِر في سفر صموئيل الأول، من الإصحاح التاسع إلى الإصحاح الحادي والثلاثين). بعد أن شاخ شاول وأصبح معتل المزاج، لم يكن هناك إلا قيثارة داود، الذي كان لا يزال راعيًا للغنم، هي التي بإمكانها تهدئته. «فَكَانَ يَرْتَاحُ شَاوُلُ وَيَطِيبُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ الرُّوحُ الرَّدِيءُ» (سفر صموئيل الأول، ١٦، ٢٣). ومع ذلك، ها هو الحديث عن الأرواح الشريرة، حتى وإن كان سفر الملوك يقدم لنا الخلاصة في قوله: «وَذَهَبَ رُوحُ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ، وَبَغَتَهُ رُوح رَدِيءٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ.»

لقد صوَّر كلٌّ من رمبرانت ولوكاس دي ليدن في لوحاتهم، شاول مكتئبًا ومصابًا بالعين. كما كان الملك الشيخ مصابًا أيضًا بجنون العظمة، أو البارانويا، وبالغيرة من نجاح داود زوج ابنته التي كان شاول نفسه قد زَوَّجَه إياها بإرادته؛ هربًا من انتقام شاول الذي يُعد نموذجًا لثنائية المُضطهَد-المُضطهِد، وكان يتعين على داود الالتجاء إلى بلاط ملك مدينة جت. وهناك، خوفًا على حياته، تَصَنَّع هو نفسه الجنون حتى يبدو بمظهر المسالم، غير العدائي: «كان يضع علامات على مصراعي الباب ويترك لعابه يسيل على ذقنه.» لدى رؤيته، صرخ الملك قائلًا: «أنتم ترون جيدًا أن هذا الرجل مجنون، فلماذا إذن أحضرتموه إليَّ؟ أينقصني مجانين حتى أكون بحاجة لرؤية ذاك يفعل حماقاته؟» وهكذا، انتحر شاول بعدما عاش وحيدًا، ومهزومًا من قبل الفلسطينيين في جبل جِلْبُوعَ؛ مما يثبت أن روح الرب كان قد فارقه. وخَلَفَه داود وبلغت مملكة إسرائيل في عهده أوج قوتها.

يعتبر العهد الجديد أقل تناولًا لموضوع الجنون كما أنه أقل تشاؤمًا بهذا الصدد من العهد القديم؛ فلم يعد يصور الجنون على أنه سلاح في يد إله يميل إلى الانتقام والقِصاص، بل نجد هناك إحياءً للتقليد القديم المتعلق بالأرواح والشياطين، والذي يعد مترسِّخًا في إيمان الحضارات المتعددة الآلهة. فها هو يسوع يشفي الصريع: «فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلامُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ» (متَّى، ١٧، ١٨). أيضًا، في كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ، أتى إلى يسوع رجل كان منذ زمان طويلٍ لَا يلبس ثوبًا، ولا يقيم في بيت، بل يعيش في القبور (في المغارات التي كانت منتشرة في هذه المنطقة). وكان يُربَط بسلاسل لمنعه من التحرك ولكنه كان دائمًا يكسر قيوده. وعندما سأله يسوع عن اسمه، أجاب الرجل قائلًا: «لَجِئُونُ»؛ لأن شياطين كثيرة دخلت فيه. ولأن الشياطين خافت أن يأمرها يسوع بالذهاب إلى الهاوية؛ طلبت إليه أن يأذن لها بالدخول في قطيع من الخنازير كان يمر في ذلك الوقت. وما إن دخلت الشياطين في الخنازير حتى اندفع القطيع إلى البحيرة وغرق. أما عن الإنسان الذي خرجت منه الشياطين، فقد كان «جَالِسًا عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، لابِسًا وَعَاقِلًا» (لوقا، ٨، ٢٦–٣٩).

وفيما يتعلق بالجنون المجازي، فله مكانة محدودة، ولكن مميزة، في العهد الجديد. بداية أليس هو جنون يسوع نفسه؟ فالشعب اليهودي الذي جاء المسيح ليعظه، ألم يقرن الكرازة بالجنون، بل واعتبرها جنونًا يعاقب عليه الدين التقليدي؟ وهكذا نجد الآية مقلوبة، فالمسيح مخلص البشرية، يُعد عمله الخلاصي على الصليب جنونًا بينما هو الحكمة في أجلى صورها، على العكس من ذلك، تعد حكمة العالم، وفطنته الكاذبة، هي الجنون بعينه: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ حَكِيمٌ بَيْنَكُمْ فِي هذَا الدَّهْرِ، فَلْيَصِرْ جَاهِلًا لِكَيْ يَصِيرَ حَكِيمًا! لأَنَّ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ اللهِ.» وفي موضع آخر: «فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ [بمعنى الخَطَأَة] جَهَالَةٌ [بمعنى جنون]، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ» (القديس بولس الرسول، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس).

ها نحن الآن في القرن الأول الميلادي وقد بلغنا بالفعل مرحلة متقدمة على طريق التصوف المسيحي. فلنعد إلى جنون العبرانيين كما كان يبدو لنا قبل عدة قرون من ميلاد المسيح وذلك حتى نوضح إلى أي مدًى كان مثل ذلك التَّصَوُّر الباعث على التشاؤم بخصوص الجنون يحبط سلفًا أي محاولة للتفكير النظري بشأنه. إننا أكثر قربًا من الناحية الجغرافية، ولكن على طرفي نقيض من الناحية الفكرية، من وضع البحث الفلسفي والطبي الذي كرس مفكرو اليونان الكلاسيكية، ومن بعدهم مفكرو روما القديمة، أنفسهم له، ابتداءً من ظهور المفهوم الأساسي لمرض الروح أو النفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤