الفصل الرابع

مرحلة مستودعات التسول

بعد انتهاء مرحلة دور الاحتجاز الجبري، ظهر بديل آخر للمشفى العام، في نهاية عهد لويس الخامس عشر؛ ألا وهو مستودعات التسول. في سياق مجتمع ما زال يميل إلى الإقصاء — ربما حتى أكثر من مجتمع القرن السابع عشر — أصبح الخطاب حول المتشردين والمتسولين أشد عنفًا وصرامة من أي وقت مضى: «إنهم قراصنة ينضمون إلى حلف الأصدقاء أو الأعداء، بحسب ما يرونه يشكل خطورة عليهم أكثر أو أقل […] إنهم دبابير، مجموعة من الزنابير القاسية التي لا تكتفي فقط بكونها عديمة النفع في الخلية، ولكنها تدمر أيضًا النظام القائم داخلها وسرعان ما تتلف إنتاجها من الشمع والعسل.»1 يرى جان جاك روسو أن المتسولين خرقوا المعاهدة الاجتماعية (الخاصة بالعقد الاجتماعي). كما كان سكان المناطق الريفية يتعاملون بمنتهى الجدية والحزم مع هذه المسألة، معربين عن رفضهم أكثر من أي وقت مضى للمشردين الذين بدأ عددهم يتزايد أكثر فأكثر، وعن إدانتهم للمزارعين الذين استمروا في استقبال هؤلاء المشردين.2 لا إحسان من قِبل النخبة، ولا إحسان من قِبل الشعب. ولا حتى العمل الخيري المتضارب الذي قدمه المشفى العام في بداياته، والذي تكشف الدروس المستفادة منه عن فشل واضح، وعن ضرورة التمييز بصورة جلية من الآن فصاعدًا بين القمع والمساعدة. وهكذا نجد تفرقة جديدة تفرض نفسها: يجب ألا تُستخدَم الأماكن ذاتها، المخصصة للاحتجاز، للقمع وفي الوقت نفسه للمساعدة. وهذه المرة، لا مجال للسماح للمتسولين الأصحاء بالفرار.

إنشاء المستودعات

في عهد لويس الخامس عشر، أصبح من الآن فصاعدًا بإمكان الإدارة المَلَكية الاعتماد على الشبكة القوية للمناطق الإدارية، بحكامها الذين كان يقال عنهم إن كل واحد منهم بمنزلة «الملك الحاضر في محافظته». وهكذا بدأ المسار الإداري يسود. في الثالث من أغسطس ١٧٦٤ نُشِرَ «الإعلان الملكي بشأن المُتَسَكِّعين والمتشردين». حيث تم الاعتراف بفشل عمليات الاحتجاز السابقة. واسْتُنَّ من جديد قانون بشأن إلقاء القبض على «المتشردين والمتسكعين، سواء أكانوا متسولين أم غير متسولين»، وعُهِدَ بهذه المهمة إلى كتائب المارشالية؛ مما بشر بقدوم مستقبل واعد. وغُلِّظَت العقوبات الخاصة بمعاودة الجرم. ولكن ظل الإعلان غامضًا فيما يتعلق بأماكن الحبس، مشيرًا إلى تلك الأماكن القائمة بالفعل.

إن القرار الصادر عن مجلس الدولة التابع للملك بتاريخ ٢١ أكتوبر ١٧٦٧، إذ يأخذ علمًا بأنه «في معظم الأقاليم، لا تملك المشافي دخلًا كافيًا وليست لديها أماكن احتجاز مُؤَمَّنة بشكل جيد»، يسد هذه الثغرة عن طريق القيام في كل منطقة إدارية بإنشاء «دور مغلقة بشكل كافٍ بحيث تكون مخصصة لاحتجاز المتشردين والمتسكعين المحكوم عليهم بالحبس». حيث سيتم إيواؤهم ورعايتهم «على نفقة صاحب الجلالة». يمثل هذا القرار إجراءً حاسمًا، لم يكن موجودًا من قبل في بيان ١٧٦٤ إلا بالنسبة إلى الذين تتكفل بهم المحافظة المجاورة. وهكذا نشأت مستودعات التسول. بشهادة السلطات نفسها، لم تصل التدابير يومًا قط إلى مثل هذا المدى البعيد.

ومن جديد كان من المنطقي ألا يرد أي ذِكر للحمقى، مثلهم مثل باقي العجزة. ومع ذلك، جاء في خطاب تفسيري أُرسِل إلى أساقفة المملكة «أن توقيع أشد العقوبات على المتسولين الأصحاء سيكون بلا جدوى، إذا لم نتنبه إلى ضرورة فتح مؤسسات للعجزة في الوقت نفسه وتقديم يد العون إلى جميع أولئك الذين تجعلهم السن أو الإعاقة غير قادرين على العمل لكسب رزقهم.» ومن ثم سيكون هناك على الأقل في كل منطقة إدارية «مشفًى عام يكون في الوقت نفسه مؤسسة للاحتجاز، بحيث يصبح مخصصًا لاستقبال الفقراء العاجزين الذين لا يمتلكون أي مأوًى آخر يلتجئون إليه، و«المختلين عقليًّا»، والذين سيصدر ضدهم حكم بالحبس». بدايةً، نلاحظ عودة غريبة إلى مفهوم المشفى الذي يفعل كل شيء. وتجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى أن تلك هي المرة الأولى التي يرد فيها ذِكر المختلين عقليًّا بصورة رسمية. في الواقع، في أثناء قيام اللجنة المجتمعة بمبادرة المراقب المالي العام لافيردي بإعداد إعلان ١٧٦٤، تم وضع خطة لتصنيف الفقراء؛ حيث ورد، بعيدًا عن التقسيم إلى أصحاء وعاجزين، «المجانين، والمختلون عقليًّا، ومرضى الصرع» جنبًا إلى جنب مع المكفوفين، والمقعدين و«ذوي السبعين عامًا» في مصاف «الإعاقات المعتادة».

وقد أرسل لافيردي كتابًا إلى حكام الأقاليم في السابع من أغسطس ١٧٦٤ للاستفسار عن الوضع، في كل منطقة إدارية على حدة. أجابه حاكم محافظة كاين قائلًا: «يجب أن يقوم الأمير أيضًا بحجز الحمقى، والمهتاجين، والمصابين بتشوهات كبيرة للغاية وجميع الذين نراهم يسقطون يوميًّا في نوبات الصرع؛ لأنه لا شيء يخل بالنظام إلا لقاء هؤلاء الضحايا البائسين الذين يجسدون الشقاء الإنساني.» من الواضح أن المؤسسات القائمة بالفعل لم تكن كافية في ذلك الوقت.

إن فكرة مستودع التسول ليست جديدة تمامًا، بالنظر إلى أن أحد الإعلانات المَلَكية الصادرة عام ١٧٥٠ نصَّ عبثًا — دون أن يستخدم التعبير نفسه — على تجهيز مكان مماثل (وقد أنشئت بالفعل بعض المستودعات بعد الإعلان الصادر في عام ١٧٢٤). ولكن هذه المرة، كانت المملكة بأكملها هي التي يتعين عليها تنفيذ ما وعدت به، تحت قيادة الحكام الذين تلقوا وعودًا بإعطائهم كل الوسائل والإمكانيات التي تعينهم على تحقيق ذلك. في كل منطقة إدارية، يجب أن يشكل مستودع التسول حلقة جوهرية في سلسلة الاحتجاز: بحيث يكون بمنزلة دار احتجاز مدنية «رخيصة» («دار احتجاز جبري بمصاريف قليلة»، كما كتب قائد الشرطة في عام ١٧٦٧) خاضع لإشراف الإدارة المَلَكية؛ مما سيكون من شأنه تخفيف العبء بشكل واضح عن بيستر وسالبيتريير، والنجاح بالإضافة إلى ذلك في حبس المتسولين الأصحاء. تستهدف هذه المستودعات في المقام الأول هؤلاء: «فلقد أضحى من الضروري وبشكل حتمي — وفقًا للكتاب المُرسَل من فرساي — أن يخشى هؤلاء الإقامة في المستودعات؛ لأنهم يخشون أن يتعرضوا لحالة تستدعي إيداعهم بها.»

انطلقت العملية بسرعة ونشاط. فقد مر أخيرًا قرن على صدور مرسوم ١٦٥٦، ولكن هذه المرة، مع وجود إمكانيات القرن الثامن عشر، نحن بحق في زمن فكر «الاحتجاز الكبير». حققت «الاعتقالات» (بما رافقها من صرف مكافأة لأفراد المارشالية عن كل رأس) المعجزات. ففي الفترة ما بين ١٧٦٤ و١٧٧٧، أُلقي القبض على ١١ ألف شخص. وسط هذا الجمع الضخم، نجد بالتأكيد مختلين عقليًّا، إما أحيانًا مُعترَفًا بحالتهم منذ «القبض» عليهم — كنا نتفادى بعناية استخدام كلمة توقيف — وإما غالبًا يظهر جنونهم بعد عدة أشهر من الحبس. نلاحظ على وجه الخصوص وجود العديد من حالات الصرع، ولكن نجد في كثير من الأحيان حالات أخرى مثل ذاك الأعور، أو تلك الكتعاء التي تَبَين أنها «معتوهة تمامًا». وفي بعض الأحيان، يُضاف إلى ما سبق هذه الملحوظة الأكثر شيوعًا بالنسبة للنساء: «إنها هنا بحالة أفضل عما هي عليه في أي مكان آخر»، والتي تكشف عن وجود الرحمة حيث لا نتوقع وجودها.

في أقل من عشر سنوات، غمرت مستودعات التسول المملكة، بوجود مستودعَيْن أو ثلاثة في كل منطقة إدارية. في السنوات الأولى تم إحصاء ما لا يقل عن ٨٨ مستودعًا، ولكن سرعان ما أُغلِق العديد منها؛ نظرًا لعدم توافر أماكن كافية، لصالح مستودعات التسول الكائنة بعاصمة المنطقة الإدارية. في الواقع، تسبب تورجو في عرقلة العملية للمرة الأولى، حين أعرب عن رأيه بأن المساعدة (في الأبرشية) يجب أن تسبق القمع الذي لا بد من أن ينحصر تطبيقه على الأفراد «الخطرين وغير القابلين للإصلاح» فقط. أما نيكر، الذي خلف تورجو في تولي وزارة المالية في عام ١٧٧٧، فكان يود إنشاء مكتب للصدقة في كل أبرشية. مثلما كتب أحد قساوسة الأقاليم إلى الأسقف التابع له في عام ١٧٧٥ قائلًا: «يجب عدم التركيز على مضاعفة المشافي بقدر ما يجب العمل بالأحرى على ألا يحتاج المواطنون إليها أبدًا.» على الرغم من التردد الذي ساور السلطة الحاكمة، ظلت المستودعات قائمة. في جميع هذه المستودعات، كان هناك قسم خاص ومنفصل للمختلين عقليًّا؛ نظرًا لأنه، كما قيل عن مستودع رين، «لا يوجد أي مؤسسة أخرى لتخليص المجتمع من هؤلاء البؤساء». في مدينة رين ذاتها، يلخص مرسوم صادر عن الحاكم إلى قائد فيلق المارشالية الوضع جيدًا على النحو التالي: «لقد علمت للتو أن المدعو ماثورين لوفلور من مدينة إنبو قد أصابته منذ بضعة أشهر حالة جنون شديدة الخطورة على عامة الشعب. وبما أن عائلته — حسبما أكدوا لي — غير قادرة على دفع تكاليف معيشته في إحدى دور الاحتجاز الجبري، أطلب إليكم أن تتكرموا بإصدار أوامر إلى فرسانكم بضرورة نقله فورًا إلى مستودع التسول في رين.»

في مستودع التسول الكائن في مدينة بايون، تم في عام ١٧٧٤ إحصاء ٢١ مختلًّا من بين إجمالي ٩٧ رجلًا، و١١ مختلة من بين إجمالي ٦٦ امرأة. في مستودع سواسون، كان هناك في عام ١٧٨٦، ٢٣ مجنونًا و٢٤ مجنونة من بين إجمالي المحتجزين البالغ عددهم ٢٠٨. في مستودع روان، كان هناك في عام ١٧٨٩، «٢٢ مجنونًا و١٦ معتوهًا» من بين إجمالي ٢٣٦ شخصًا. في نهاية عهد النظام القديم، وصلت نسبة المختلين عقليًّا في المستودعات إلى ٢٠٪ تقريبًا (في الواقع، ١٥٪ بالأحرى في المتوسط) مقارنة بنسبتهم في سالبيتريير التي بلغت ١٠٪. يفسر هذه النسبةَ الكبيرة التناوبُ السريع للمُحتجَزين الأصحاء، بينما يبقى — مرة أخرى — المختلون عقليًّا (وكذلك المعاقون وذوو العاهات) ماكثين في أماكنهم. خلافًا للمشافي العامة، كانت مستودعات التسول تعد مراكز فرز؛ حيث يُجرى فيها الفرز بين الأصحاء والعاجزين، وبين المتسولين المحترفين والمتسولين بغير إرادتهم الذين نحاول إرسالهم إلى الأبرشيات التابعين لها، مما يعد حلمًا مستحيلًا بالنسبة إلى الإدارة؛ نظرًا لأن ثلاثة أرباع هذه الأبرشيات عاجزة عن تنظيم المعونات. وهكذا، في نهاية عهد النظام القديم، يجدر البحث بالأحرى في مستودعات التسول، وليس في المستشفيات العامة، عن المختلين عقليًّا المعوزين. يزيد عددهم على ألف بالتأكيد، ربما يبلغ ألفين. معظمهم يعيشون هناك «على خبز الملك»، ولكن هناك قطاع لا يستهان به ممن تم احتجازهم بناءً على طلب العائلات وفقًا للإجراءات التقليدية. كانت العائلات، حين يتم التعرف عليها، تُلزَم بالدفع إذا كانت تمتلك المقدرة المادية. كان الحد الأدنى لتكاليف الإقامة يبلغ مائة جنيه؛ أي ما يعادل أقل من نصف القيمة التي كان يتم دفعها للمشفى العام بباريس. يبقى أن نرى كيف تنعكس مثل هذه التكلفة المنخفضة على حياة المُحتجَزين.

يمثل كل مستودع، كما هو متبع في ظل النظام القديم، حالة خاصة على حدة. في بزنسون، كان هناك مستودع يعمل قبل اكتماله نهائيًّا، منذ صدور إعلان ١٧٢٤: وهو مشفى بيلفو، الذي قسم المشفى العام بالمدينة، ذلك أن المشفى العام كان يقوم بطرد المصابين بالأمراض المعدية، والميئوس من شفائهم وجميع «المجانين، ومدعي الرؤى والأشخاص المضطربين».3 ومن ثم، أصبح مشفى بيلفو هو مستودع التسول بالمدينة بعد إعلان ١٧٦٤، واستتبع ذلك زيادة عدد العاملين به بصورة جذرية، وبالمقابل زيادة عدد المختلين عقليًّا. وقد بُنِيَتْ بعض المستودعات الأخرى من العدم، أو بأقل القليل، على أثر الإعلان الصادر عام ١٧٦٤. كما هي حال مستودع بوليو في كاين.

دير بوليو

نشأ مستودع التسول بكاين في مارس ١٧٦٨ على موقع مشفى الجذام القديم، في الضواحي الغربية للمدينة. بقيت بالمكان كنيسة صغيرة متداعية، وهي كنيسة نوتردام دي بوليو. كان صحن الكنيسة يوفر جدرانًا ضخمة وسقفًا لغرفتين متطابقتين، إحداهما مخصصة لخمس وستين سيدة، والأخرى مخصصة لستين رجلًا. أما مذبح الكنيسة، فقد ظل مخصصًا لإقامة صلوات القداس التي سيتمكن المُحتجزون المستقبليون من «الاستماع إليها دون مغادرة غرفهم». في الأعوام التالية، شُيِّدَ مبنيان جديدان في فيِر وفالوني. وتضاعفت عمليات «الاعتقال» في منطقة كاين الإدارية، كما في المناطق الأخرى. في نهاية عام ١٧٦٩، تردد حديث أيضًا عن الإمساك بالمتسولين القاطنين في محل إقامة.

كان الاتجاه السائد، منذ السنوات الأولى، يقضي بالإفراج عن المتسولين الذين يتعهدون بعدم معاودة التسول على الإطلاق، مع عدم الإبقاء إلا على العائدين إلى الإجرام وكذلك العاجزين، والمختلين عقليًّا مثل تلك المتسولة، «المصابة بعجز بالغ والفاقدة تمامًا لرشدها [والتي] لم يطالب أحد بها. لا يمكن بأي حال من الأحوال إطلاق سراحها.» أما عن ذلك المصاب بالصرع ذي الأربعة والعشرين عامًا، الذي أُلقي القبض عليه في شهر يوليو ١٧٦٨، فلم يُفرَج عنه إلا بشرط أن يمكث عند والدته على أن تتم معاقبته بالحبس نهائيًّا في حالة معاودة الجرم. كان المشردون الذين «يصرعهم الداء الأعظم» — أي مرضى الصرع — كثيرين ومعظمهم من الشباب.

في أعقاب تصريحات تورجو التي تسببت في عام ١٧٧٥ في عرقلة هذا المشروع، أُغلِقَتْ مستودعات فيِر وفالوني (في عام ١٧٦٩، بلغ عدد الحمقى في مستودع فيِر أربعة من بين إجمالي ١٤ شخصًا)، ولكن واصل مستودع بوليو نموه وتطوره؛ حيث كان عدد المحتجزين يتراوح في الثمانينيات ما بين ٢٠٠ و٣٠٠ شخص. وكان يجري التذكير على الدوام بالغرض المزدوج من إنشاء المستودع، كما ورد في الخطاب الذي بعث به حاكم كاين إلى فرساي في عام ١٧٧٥: «طالما كان لدار الاحتجاز التابع لمشفى الجذام والواقع بالقرب من كاين هدف مزدوج؛ الأول: أن يكون بمنزلة مأوًى أو سجن للمتسولين والمتشردين والمتسكعين، والثاني: أن يحتوي المجانينَ والمنحلين والعناصر الفاسدة التي من مصلحة العائلات احتجازها حتى لا تلوث سمعتها […]» وهكذا، من وجهة النظر المؤسسية، كان يتم احتجاز المختلين عقليًّا على وجه التدقيق في دار احتجاز جبري (رسمي) وليس في مستودع للتسول في بوليو.

في عام ١٧٨٤، بلغ عدد المختلين عقليًّا ٤٣ (٢٧ رجلًا و١٩ امرأة) من بين إجمالي ٢٨٣ شخصًا. يضاف إلى الأشخاص الذين تم توقيفهم باعتبارهم مشردين، أولئك الذين تم إيداعهم الدار بموجب أمر ملكي وبناءً على طلب العائلات، وفي أحيانٍ كثيرة بشكل متزايد نزولًا عند رغبة المجتمعات المحلية. تم إعداد حجرات المختلين عقليًّا في جناح بعيد، على مستويين، على جانبي ممر مركزي. وكانت كل حجرة، بمساحة «ستة أقدام مربعة» [٣٫٨٠م٢]، تحتوي على نافذة صغيرة مرتفعة وباب قوي مزود بشباك صغير؛ «لتمرير حصة الطعام للمرضى من خلاله.» الجدران والبلاط قوامهما الأحجار التي تنتجها مدينة كاين. نصف الحجرات تقريبًا ذات مساحة مضاعفة؛ مما يدل على أن السبب وراء ذلك، إن لم يكن توفير قدر أفضل من الراحة والرفاهية بشكل استثنائي، يكمن في أنه كان يتم غالبًا وضع اثنين، بل وأحيانًا ثلاثة، من المختلين عقليًّا معًا. أما المصابون بالهياج، فكان يجري تسكينهم بالطبع في غرف منفردة. كان العدد في بوليو كثيرًا، وفقًا لتقارير سلوك كل واحد منهم. «إنه مجنون هائج، خطِر ويُخشى منه، إنه محبوس بشكل متواصل في غرفته.» أما عن المختل الذي يتشارك حجرته مع آخر والذي «تنتابه في بعض الأوقات نوبات هياج»، فيوضع مؤقتًا — ودون وجود أي اتجاه للخلط بين الفئتين — في إحدى زنازين الحبس الانفرادي التأديبية المخصصة للمسجونين.

على الرغم من أن المختلين عقليًّا في بوليو كان لديهم مكان لإيوائهم ووضع مستقل، فإن حياتهم اليومية لم تكن تسير على ما يرام تحت سقف هذه الدار الفسيحة ذات الاستخدامات المتعددة؛ حيث لم يكن المتسولون الأصحاء هم الأكثر عددًا، إنما، مما يثير المفارقة، أيضًا العاجزون والمعوقون والمصابون بالأمراض التناسلية، والمصابون بالجَرَب … هل كان المختلون عقليًّا يتلقون معاملة جيدة في بوليو، بالمقارنة مع المشفى العام؟ حدد قصر فرساي، في عام ١٧٧٠، القواعد المنظمة على النحو التالي: «طالما فكرت الوزارة في أن المُحتجَزين في المستودعات، إذ يتعين دومًا إخضاعهم لنظام تأديبي بهدف إصلاحهم، من الضروري — لإشعارهم بثقل جرمهم وبغية تقويم سلوكهم في المستقبل — ألا تتم معاملتهم بصورة جيدة تمامًا، ونظن أنه لا بد من اتباع نهج وسطي نوعًا ما بين الطريقتين اللتين يتم بهما إطعامهم في السجون وفي المشافي.» في موضع آخر، نجد الحاكم يُذكِّر المهندس المعماري «أن دار الاحتجاز الجبري لا تتطلب إلا الصلابة والبساطة»، بعيدًا عن «التصاميم الزخرفية المعمارية التي تكلف دائمًا الكثير من المال». من البداية، كان حاكم كاين، المسئول المباشر عن بوليو، يجري وراء المال الذي يعطيه إياه قصر فرساي بالتقتير وببخل مفرط يتزايد مع تفاقم الأزمة المالية التي أصابت البلاد في عهد النظام القديم. أصبح مستودع بوليو، مثل العديد من المستودعات الأخرى، مؤسسةً تجارية. في عام ١٧٨١، كان هناك مائتا مُحتجز من بين مائتين وخمسين يغزلون القطن، بيد أن نتاج هذا العمل لم يكن كافيًا لموازنة الميزانية، فضلًا عن أن الحاكم ندد ﺑ «عمليات النصب والاحتيال» التي يمارسها المقاول.

كل تفاصيل الحياة اليومية جرى تنظيمها بشكل مستفيض وبمنتهى الدقة. القادم الجديد، كان يُجَرَّد من أسماله البالية (وتعاد إليه بعد نقعها في ماء مغلي وغسلها جيدًا بمساحيق التنظيف عند خروجه)، ويحلق شعره وذقنه (ويظل هكذا طوال مدة إقامته)، ويتم تنظيفه وإلباسه الزي الموحد للمستودع: سترة بنية مصنوعة من النسيج الصوفي الغليظ، وسروالًا أبيض اللون من قماش الشبيكة، وطاقية بنية اللون من الصوف الغليظ للرجال؛ أما النساء فكان زيهن الموحد يتكون من تنورة بنية مصنوعة من النسيج الصوفي الغليظ، ومِشَدٍّ نسائي أبيض اللون مصنوع من نسيج قطني مشبوك الحبك، وقبعة من القماش وقلنسوة من القطن أو الحرير المُضلَّع، بالإضافة إلى قميص أصفر اللون من القماش الفضفاض، وجوارب صوفية وأحذية لكلا الجنسين. ولكن، ماذا يتبقى من كل هذا فوق جسد الحمقى بعد بضعة أسابيع؟ من المؤكد على أي حال أنه لم يكن يُسمَح لهم بانتعال الأحذية، التي قد تصبح سلاحًا في أيديهم وكان يتم الاستعاضة عنها بالخِفاف. وفيما يتعلق بالأَسِرَّة، فقد كانت مكونة من هيكل خشبي وفراش من القش رقيق للغاية أشبه بحزمة من القش، يجرى تجديده بشكل مبدئي كل شهرين للمختلين عقليًّا الثائرين أو الذين يميلون إلى تمزيق الأشياء.

في مستودعات التسول، كما هي الحال في جميع الأوساط الأخرى المتعلقة بعالم السجون، أكثر ما يهم المُحتجزين هو الطعام. ولقد كان النظام الغذائي الموحد المطبق بالنسبة إلى الحد الأدنى من نفقة الإقامة (١٢٠ جنيهًا) أكثر من مقتصد؛ إذ كانت وجبة الطعام البسيطة تتألف من: رطل ونصف من الخبز المكون من ثلثين من الشعير وثلث فقط من الحنطة (مع النخالة)، وأوقيتين (حوالي ٦٠ جرامًا) من الأرز في يوم، وأربع أوقيات من الخضراوات المجففة في اليوم التالي. هذا كل شيء، مع الماء. من الواضح أن هذا النظام أبعد ما يكون عن قوائم الطعام والنبيذ اللَّذَين تقدمهما دور الاحتجاز الجبري «الفاخرة». بالإضافة إلى أن الأرز، باعتباره مادة غذائية جديدة، لم يكن مقبولًا وكان يثير استياء النزلاء، بالرغم من أن قصر فرساي، الذي كان يتولى توزيع وصفات الطعام في جميع المستودعات، قد عمل على الترويج جيدًا لهذا المنتج. لقد كان الأرز بديلًا للقمح الذي يوشك مخزونه دائمًا على النفاد، وذلك في انتظار البطاطس، التي ستلقى أيضًا مقاومات شديدة. في بوليو، كان يتم طهي الأرز تارة بالدهون أو بالزيوت المستخرجة من المكسرات، وتارة بالحليب. ولكي يكون للنزيل الحق في تناول اللحوم أو حساء المرق الدسم (لسنا بعد في زمن حضارة الفواكه والخضراوات الطازجة)، يجب ألا تقل نفقة إقامته عن ٢٠٠ جنيه. لقاء هذا السعر، يمكن أن نشرب خمر التفاح «المخفف» (نصف الكمية ماء، والنصف الآخر «عصير التفاح المختمر»)، مع شيوع الاعتقاد بأنه «في البلدان المنتجة للنبيذ»، يتم إعطاؤه للمرضى كشراب؛ «ليتعافوا بسرعة أكبر». خمر التفاح «في هذا البلد، يُحدث الأثر نفسه [الذي يحدثه النبيذ] ولن يكون منصفًا حرمان هؤلاء التعساء من هذا العون». هذا ما كان يظنه حاكم كاين، ولكن قصر فرساي لم يوافقه الرأي وجاءه الرد كالتالي: «ذلك ترف غير ضروري لا مكان له في أيٍّ من مستودعات المملكة؛ حيث يجب ألا تحصل هذه النوعية من البشر إلا على الماء كشراب» (وهذا خطأ). لقاء ٣٠٠ جنيه، يحصل المرء على اللحم في الوجبتين — ناهيك عن غرفة خاصة (حيث تتولى العائلة تأثيثها) — ويختلف «خبز النزلاء» المصنوع بالكامل من الحنطة عن «خبز المتسولين». على أي حال، كان النزلاء الذين يدفعون تكلفة إقامة تتجاوز المائة والعشرين جنيهًا قليلي العدد للغاية (أربعة فقط في عام ١٧٧٠) وكان النظام الغذائي الموحد هو السائد بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة. فضلًا عن ذلك، كان هذا النظام الغذائي مرنًا وقابلًا للتغيير. فعندما يكون الشخص مريضًا، يتبع حِمْية غذائية — أي يتناول نصف الحصة المقررة — ويُقدَّم إليه أحيانًا «حساء بلا دهن» كمكمل غذائي. وقد ورد في البيانات المفصلة التي تؤرخ لنهاية القرن الثامن عشر، وصفًا تفصيليًّا للتمييز الذي تحظى به الفئات المميزة؛ مما يعد أمرًا جيدًا، حتى على هذا المستوى، وفقًا لفكر النظام القديم. كما هي حال «السَّقَّائين» أو «الأشخاص الشرهين»، وهي الفئة المؤلفة من العمال المشتغلين في الأعمال اليدوية أو المعاونين بمختلف أنواعهم، الذين كان يتم بحكم الأمر الواقع الاعتناء بتغذيتهم على نحو أفضل. علاوة على ذلك، كان «الأجر» الذي يحصل عليه المُحتجَزون يتيح لهم تحسين وضعهم الاعتيادي، بما في ذلك شراء النبيذ في الخفاء. كل ما سبق، لا يعني بأي حال الحمقى المعزولين في قسمهم.

خُفِّضت العمالة إلى الحد الأدنى؛ فانحصرت في وجود حاجب (أي ما يعادل رئيس حرس في العصر الحديث) مطلق السلطات كما في سائر الأماكن الأخرى وغير مُطالَب بتبرير أفعاله إلا أمام وكيل المدير الغائب دائمًا، وأربعة صَرَّافين، وعشرة حراس مسلحين. «الموظفون» الآخرون جميعهم عُينوا من بين المُحتجَزين، بما في ذلك أولئك الذين كانوا يتولون رعاية المختلين عقليًّا. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك قسيس، وطبيب وجراح. وكان هذان الأخيران يفعلان ما في وسعهما، ولكن لم يكن في استطاعتهما الكثير، خاصة حيال المختلين عقليًّا، الميئوس من شفائهم جميعًا. أما فيما يتعلق بالشكاوى النادرة المقدمة من الجانحين، والتي وصلت إلينا، فهي تضفي لونًا قاتمًا على اللوحة؛ إذ تزعم إظهار الوجه الخفي للوائح الداخلية: بواب لص يأخذ لنفسه إتاوة عن كل شيء، اختلاط غسيل الأصحاء بغسيل المصابين بالأمراض الجلدية كالجَرَب والقوباء والزهري، قش لا يتم تغييره مما يوفر مناخًا ملائمًا لتكاثر الحشرات الطفيلية القذرة وانتشارها، زنازين حبس انفرادي أو التقييد بأغلال في الفناء عند أول هفوة، ضرب بالعصي … أما الطعام، فقد كان يُهدَر بكميات هائلة لصالح موظفي الإعاشة والعاملين بالمستودع؛ كانوا يأخذون لأنفسهم أفضل القطع المنتقاة من لحوم الذبائح، ويدخرون لأنفسهم كمية من الملح لاستخدامهم الشخصي عند تناول الأطعمة المقددة (كان الملح باهظ الثمن في ظل النظام القديم؛ إذ كانت تُفرض عليه ضريبة). بالطبع، كان الجانحون هم الذين يشتكون مما قد يدفعنا للاعتقاد بأن المختلين عقليًّا — غير المذنبين ولكن المرضى — كانت تتم معاملتهم على نحو أفضل. كتب أحد الوكلاء الموفدين بخصوص إحدى الجانحات قائلًا: «لقد كانت قبلُ […] مقيمةً في جمعية خيرية، ولم تخرج منها إلا لأنها كانت تعتقد أنها ستكون أفضل حالًا في بوليو. يبدو أنها انجذبت لاسم المكان (حيث تعني بوليو بالفرنسية «المكان الجميل»). ولكن، لم يكد يتم حبسها داخله حتى رأت بنفسها أن هذا المنزل لا يمكن أو يجب ألا يُدعَى هكذا إلا من وحي خيال واهم.» بوليو، هذا الاسم الذي ليس على مسمًّى، لا يعدو أن يكون في الواقع سوى سجن من أشد السجون صرامة، ومنبع لحركات التمرد وعمليات الهروب. فهذا المكان، مثل غيره من المستودعات، ليس إلا مأوًى للهالكين الذين ينتظرون حتفهم.

فشل

بعد انقضاء خمسة عشر عامًا على إنشاء مستودعات التسول، بدا فشلها جليًّا. بالطبع، عانى ٢٣٠ ألف شخص من هذا الفشل، ولكن في حقيقة الأمر، كانت الفئة المستهدفة أساسًا من هذا المشروع، وهي الأصحاء، الأكثرَ تضررًا؛ فقد كانت تكلفة العملية باهظة: تتراوح ما بين ٩٠٠٠٠٠ و١٥٠٠٠٠٠ جنيه سنويًّا. وكانت الظروف المعيشية بغيضة. وعلى عكس المشافي العامة، كان نظام التأديب قاسيًا والمستودعات محكمة الغلق بشكل صارم وخاضعة لإشراف الجند. كانت العقوبات والضربات تنهال كالمطر، وكان يُكلف بالحفاظ على الانضباط داخل كل غرفة مراقبٌ يُعين من بين المُحتجَزين، ويُفَضَّل أن يكون رجلًا عسكريًّا سابقًا. ومن ثم، كانت حركات التمرد وعمليات الفرار كثيرة، وغالبًا ما كانت تنتهي بوقوع قتلى. فعلى سبيل المثال، هرب حوالي ستين مُحتجزًا (نصفهم من النساء) من بوليو في الرابع عشر من يوليو ١٧٨٣، على أثر اندلاع حركة تمرد أسفرت عن مصرع شخصين. في روان، استُدعِي فوج (وحدة عسكرية) من المدينة، في عام ١٧٧٥، للمساعدة على إخماد تمرد. وقد وجد الضابط المسئول نفسه، «بعد أن أطلق أعيرة نارية» [خراطيش فارغة]، مضطرًّا «للجوء الحتمي إلى إطلاق الرصاص»؛ مما أسفر عن سقوط العديد من القتلى.

بالإضافة إلى ذلك، كانت الأوضاع المادية سيئة؛ فقد عبر قصر فرساي عن استيائه من الأوضاع في مستودع روان، حيث يتم وضع المجانين دون سواهم في الحجرات، وهذا يعني أنه كان يتم أحيانًا إيداع الجانحين الذين يقضون فترة عقوبة في الحجرات الخاصة بالمختلين عقليًّا، والأسوأ أنه لم يكن هناك تمييز فعلي بين الفئتين. تلقى مستودع بايون انتقادًا عنيفًا موجهًا من أحد قساوسة المدينة على النحو التالي: «يا سيدي [الخطاب مُرسَل إلى الحاكم]، هؤلاء البؤساء عراة، لا ينتعلون أحذية، ولا يرتدون جوارب، بل إن بعضهم لا يلبسون سترة ولا سروالًا […] حين تصيبهم الأمراض، يتعرضون لسوء المعاملة، ولا يتم إعطاؤهم الأدوية اللازمة» (١٧٧٤). لم يقل الوكيل الموفد، وهو في الوقت ذاته مدير المستودع، شيئًا مختلفًا: «خلال زيارتي الأخيرة، لفت هؤلاء البؤساء المساكين نظري إلى العري البشع الذي يعاني منه معظمهم، وأرَوْني الأفرشة القش والأسِرَّة التي ينامون عليها وإذا هي ممزقة ورثَّة […] كان يتم تجديد القش على الأقل من وقت لآخر للمجرمين العتاة.» في مستودع التسول الكائن بمنطقة الألزاس الإدارية (إينسيسهايم)، الكائن في مقر مدرسة ثانوية قديمة تابعة لليسوعيين (الذين طُردوا من المملكة في عام ١٧٦٤)، تبدو الأوضاع أقل ترديًا؛ إذ كانت «حجرات المجانين مبنية من الخشب، وجيدة التهوية، وكانت كل حجرة تمتلك مراحيض خاصة متصلة مباشرة بالقناة المائية، مما لا يترك مجالًا لانبعاث الروائح.» جاء هذا الكلام على لسان أحد المفتشين في أثناء قيامه بجولة. بدا له أن الطعام كافٍ وأثنى على عدد المواقد الكبير وأشاد به باعتباره «ترفًا واضحًا». ولكن ها هو مفتشنا في المستوصف. بطبيعة الحال، يقوم كلٌّ من الطبيب والجراح الذي يساعده بزيارات يومية وينهمكان في عملهما بنشاط بلا كلل، فيُضمِّدَان عددًا لا يُحصَى من الجروح، ويُجرِيَان عملية تطهير هنا، وعملية فصد هناك، بيد أن المرضى يرقدون على الأسِرَّة اثنين اثنين. كانت وحدة التمريض الخاصة بالرجال قذرة بشكل يثير التقزز، ومكتظة، ونتنة. وقد اختلط الحمقى المرضى مع الآخرين. «وسط المرضى يوجد شخص مصاب بالهوس، وقد امتلأ سريره بالقمامة [الفضلات]؛ مما قد ينجم عنه، ليس انتقال العدوى إلى جميع مَنْ في الغرفة فحسب، وإنما غالبًا ما يقوم المختل، حين ينهض في منتصف الليل، بتلويث الأسِرَّة المجاورة له بالقذارة التي كان غارقًا فيها.»

في كل مكان، ونظرًا لعدم الكفاية المالية المزمن، كانت المباني متداعية، وغير صحية ومكتظة. يقضي هذا الازدحام، باعتراف الحكام أنفسهم، على أي أمل في إعادة تأهيل المتسولين الأصحاء، على الرغم من أن ذلك كان الهدف الأول من إنشاء هذه المستودعات. ومن جديد، كما هي الحال في المشافي العامة، سرعان ما أصبح العاجزون والمعوقون والمختلون عقليًّا النزلاءَ الدائمين للمستودعات، من دون أن تكون لديهم أي إمكانية للخروج منها (نظرًا لأنهم لن ينالوا الشفاء أبدًا ولن تطالب بهم أي عائلة). في هذه الأثناء، أُخلِي سبيل ثلاثة أرباع المتسولين قبل انقضاء عام. وتسبب الاكتظاظ، وسوء التغذية، وقلة النظافة في ارتفاع معدل الوفيات بشكل مخيف: ففي الفترة ما بين ١٧٦٨ و١٧٨٩، من ٢٠٪ إلى ٣٠٪ من الأصحاء، و٤٠٪ من العاجزين، وأكثر من ٥٠٪ من الحمقى لقوا حتفهم في المستودعات.

تلك المؤسسات، التي كان يُنظر إليها باعتبارها مأوًى للهالكين، هوجمت في نهاية عهد النظام القديم من قِبل من كانوا أنفسهم يتمنَّون تحويلها من حلم إلى حقيقة. استنكر لويس سباستيان مرسييه وجود هذا العدد الكبير من الفقراء المنافقين، والمخادعين والكسالى، ولكنه أدان بشكل خاص المستودعات. «إننا ندفنهم [أي المتسولين] بمنتهى الوحشية في منازل نتنة ومظلمة، حيث يُترَكون لحالهم. ثم سرعان ما تجعلهم عوامل مثل البطالة، وسوء التغذية، والإهمال، وتكدس رفقائهم في البؤس والشقاء؛ يختفون واحدًا تلو الآخر.»4
في عام ١٧٨٠ نُشِرَ ملخص لعدد من الأبحاث التي تنافست على بحث مشكلة التسول.5 كانت هذه الأبحاث تشير دائمًا إلى التسول باعتباره فعلًا مذمومًا ومهينًا، وقد اقترحت حلولًا جذرية لهذه المشكلة بالرغم من أن العنوان الفرعي لهذا العمل يوحي بالحنو والعطف (من دون إتعاسهم). وفقًا لما ورد في هذا الكتاب، يجب أن يعمل المتسولون المعاقون أيضًا: «مَنْ لديه ساق واحدة فقط سيتم تكليفه بعمل يدوي، مَنْ لديه ذراع واحدة فقط سيكون قادرًا على قيادة السيارات […] حتى المكفوفون يمكننا الانتفاع بهم في شيء ما (تدوير عجلة على سبيل المثال). المعاتيه أنفسهم والمجانين، حينما لا يكونون في حالة هياج، يجب ألا يظلوا عاطلين.» لقد كانت المشافي العامة موضع شجب واستنكار. فهي تعد مكلفة للغاية، بالإضافة إلى أنها توفر مناخًا يساعد على التسول بدلًا من أن يقضي عليه. ولكن، ماذا نقول إذنْ عن مستودعات التسول؟ «في هذه المقابر البشعة، دَفَنَّا الآلاف من البشر أحياء؛ إذ إننا أمَتْنَاهم بهذه الوسيلة من أجل المجتمع […] العديد من مستودعات الفقر لدينا هي صورة للجحيم.»

إن الصراع بين التسول والتشرد ليس على وشك الانتهاء وسوف تتوحد دفاتر التظلمات للتنديد ﺑ «حقارتهما» وللمطالبة بقمعهما. كما لم تُحَلَّ بعدُ مسألةُ مساعدة العاجزين والمختلين عقليًّا المعوزين، التي برزت في إثرهما. النقطة الوحيدة التي يتفق عليها الجميع هي أن مَنْ يتناولون هذه المسألة ليسوا في محل هؤلاء الأشخاص، سواء في المشافي العامة أو في مستودعات التسول. في الواقع، وحتى لا يتبقى لنا سوى المختلين عقليًّا (ولكن المشكلة ما زالت قائمة أيضًا بالنسبة إلى المكفوفين على سبيل المثال)، فربما بدأت تتبلور فكرة تخصيص مآوٍ لهذه الفئات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤