الفصل الخامس

فكر الإصلاح

لم تبدأ الإدارة المَلَكية في التفكير في الإصلاح الكامل لنظام تقديم المساعدة في المملكة إلا مُتَأَخِّرًا، بعد أن تنبهت إلى إخفاق المشافي العامة وإلى أسلوب الإدارة غير المُرضِي لدور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول. كان لا بد من البدء من نقطة الصفر، واضعين في الاعتبار أن المختلين عقليًّا لا يشكلون إلا فئة من بين الفئات الأخرى من المُبْتَلين. فما العمل — على سبيل المثال — مع الأطفال اللقطاء، الذين يتزايد عددهم أكثر فأكثر؟ كيف يمكن تحسين تنظيم عملية إيداعهم في دور الحضانة في الريف؟ وكيف ينبغي التعامل مع المصابين بالأمراض التناسلية، بينما ينتشر بسرعة متنامية «مرض الزهري» [السِّفْلِس]؟

هذا الفكر الإصلاحي الذي ساد العقود الأخيرة من النظام القديم، كان يحركه الاتجاهُ القوي نحو المحبة الإنسانية ومساعدة الغير، الذي ازدهر في هذه الفترة، وفي الوقت نفسه الإنجازاتُ الهائلة التي حققتها المركزية المَلَكية، والتي أعطت دفعة ثانية لنظام الحكم المطلق الذي خفف منه فكر التنوير.

الإحسان والجنون

بدأ تيار العمل الخيري، الذي كان متأصلًا بالفعل في إنجلترا، يزدهر في فرنسا في نهاية حكم لويس الخامس عشر، وذلك في الفترة التي شهدت بزوغ نجم العلماء الموسوعيين. يتميز هذا التيار على وجه الخصوص ﺑ «النفور الفطري الذي يشعر به الإنسان إزاء رؤية معاناة نظيره» (روسو). هذه الشفقة نحو الآخر وهذا التطلع إلى مساعدة الغير، يتميزان عن تيار العمل الخيري التقليدي (الذي خمد بشكل كبير) بأن أهدافهما ليست إلا وقتية. فقد بدأت تنشأ عقيدة المساعدة على أساس أن الشقاء هو نتاج الوضع الاجتماعي. فالمجتمع ملزم بإصلاح الضرر الذي تسبب فيه. ويعد واجب تقديم المساعدة عند الحاجة أمرًا أقرته القوانين (ديدرو)، وهي فضيلة علمانية تمامًا تصبح الدولة بمقتضاها هي الكيان الأكثر قدرة على الوفاء بمتطلبات الإنسانية. وهذا هو المقصود بكلمة «المساعدة العامة».

في سياق هذا الفكر، أنشأ تورجو، الذي تولى منصب مراقب عام الشئون المالية في الفترة من يوليو ١٧٧٤ إلى مايو ١٧٧٦، لجنة تقصي حقائق بقيادة رئيس أساقفة تولوز لوميني دي بريان. وهو العمل الذي كان من شأنه أن يسفر فيما بعد عن وضع خطة شاملة لتنظيم المساعدة. وبالطبع، اقترح محبو العمل الخيري العام إصلاحات أخرى، خاصة في مجال التعليم والتربية، والصحة والقضاء، ولكن المساعدة شكلت الأولوية القصوى، ولا سيما وقد اشتعلت جذوة النقاش بعد حريق المشفى الرئيس بباريس في ٣٠ ديسمبر ١٧٧٢. خَلَفَ نيكر — واحد من أبرز الشخصيات في مجال العمل الخيري (وكذلك زوجته التي اتخذ نشاطها طابعًا شبه رسمي) — تورجو في عام ١٧٧٧، وأنشأ في العام نفسه لجنة مكلفة بالبحث عن الوسائل اللازمة لتطوير نظام المشافي.

في كل مكان سُلِّطَ الضوء على الوضع المؤسف للمشفى الرئيس والمشفى العام بباريس. أما عن المؤسسات الموجودة بالأقاليم، فكان يُنظَر إليها على أنها نماذج مصغرة عن بيستر؛ أي مشافي رئيسة صغيرة تخفي نفس الفظائع. «أنا مقتنع — كتب رئيس الدير دي فيري في دفتر يومياته — بأن المريض، المتروك لطبيعته وحدها ولتعاطف جاره، سيبرأ بالتأكيد، الأمر الذي ليس مضمونًا في حال تلقيه للرعاية المزعومة التي من المفترض أنها تُقدَّم له في المشافي الرئيسة بالمدن.» أما لوكلير دو مونلينو، فقد أطلق التصريح التالي: «فلنتوقف عن التصدق ولنهدم جميع المشافي!» المراد من هذا القول هو أنه، خلافًا للتجمعات المركزية الكبيرة، كان يجب تطوير فكرة الإعانات المنزلية والاهتمام ببناء مؤسسات صغيرة. قدم نيكر مثالًا يُحتذى، بإنشائه في عام ١٧٧٨ مشفًى نموذجيًّا مصغرًا، بشارع سيفر، وعهد إلى زوجته بإدارته. وتكمن الفكرة هنا أيضًا في إضفاء طابع التخصص على المشافي، وهي فكرة ليست بالجديدة بالنظر إلى أنه في أثناء إحدى المداولات التي أجريت بمكتب المشفى الرئيس في عام ١٥٢٥، أعرب المسئولون عن رغبتهم في الاقتداء بإيطاليا في «إلزام المشافي الكائنة في هذه المدينة بالتخصص في استقبال الحالات؛ بحيث يستقبل بعض المشافي النساء على حدة، وبعض آخر الجرحى، والباقي المختلين عقليًّا، بالإضافة إلى مشفًى للأطفال الصغار، وآخر للمصابين بالأمراض الجلدية والتناسلية، وهكذا يجري الفصل بين المرضى.»

وهكذا استطاع أنصار تيار العمل الخيري، في هذا السياق، اكتشاف الحمقى، بكل ما أحاط بهم من زنازين وقيود. لقد خُلقَ الجنون ومحبو العمل الخيري ليلتقيا، كما تكشف عن ذلك قصة إليونور التي حددت شكل حقبة ما قبل الرومانسية الناشئة. يتحدث إلينا طبيبها الذي قرر — بالاتفاق مع الأب — إخراج إليونور من أحد أديرة تور؛ حيث تم احتجازها لإصابتها ﺑ «الاهتياج الرحمي» [غُلْمَة]. «لن أستطيع أن أصف حجم الرعب الذي تملكني عند دخول هذا المنزل؛ حيث يسكن السخط والجريمة واليأس […] يا له من مشهد قبيح جدًّا ومخيف للغاية! يا لِهاتين العينين الزائغتين والغائرتين، وهذه البشرة الصفراء الشاحبة، وهاتين الوجنتين المترهلتين الباهتتين، وهذه الشفاه المتدلية ذات اللون البنفسجي، وذلك الفم المزبد الذي تنبعث منه رائحة نتنة، وهذه الأسنان السوداء المتخلخلة، وذلك القوام المحني والمشوه! في المجمل يا لتلك البشاعة! أيمكن أن أظن أنكِ كُنْتِ يومًا ما جميلة وتمتلكين مفاتن؟ […] حين أبلغت الرئيسة بأنني مُكَلَّف باصطحاب إليونور لإعادتها إلى منزلها، قالت لي إنني سأكون المسئول، ولكن الأمر يبدو لها مستحيلًا، ما لم تُقَيد بالسلاسل في عربة مسقوفة، وأنه على الرغم من هذه الترتيبات قد تتسبب إليونور بصرخاتها المخيفة في إحداث بلبلة واضطرابات وإثارة فضيحة شنيعة في الطريق. أجبتها بأنني أعددت العدة لكل شيء. أما بخصوص وسيلة تقييد إليونور، فلن أسمح بذلك.»1

فظاعة زنازين الحبس الانفرادي والقيود هما أكثر ما أثار شفقة محبي الخير، حتى عدالة النظام القديم تأثرت بهذا الأمر، كما ورد في نص ذلك القرار الصادر في عام ١٧٨١ عن محكمة برلمان روان: «بناءً على التنبيه الموجه إلى البلاط من قِبل النائب العام للملك، والذي أوضح أن الجنون يُعد أحد أكثر الأمراض إذلالًا وإيلامًا للبشرية، ومن ثم، فإن هذا المرض بقدر ما يحتاج إلى الرحمة، يتطلب اللجوء إلى أشد الوسائل عنفًا لوقف نوبات الهياج وفورات الغضب المصاحبة له. ومن هنا تأتي تلك الزنازين المليئة بالجنازير والقضبان الحديدية حيث يقاسي المجنون غالبًا [المقصود بالطبع المختلون عقليًّا]، العقوبات نفسها تقريبًا دون أن يكون مذنبًا في أيٍّ من الجرائم التي تستوجب التعذيب.»

لقد أتاحت عملية نقل المجموعة الأخيرة من المختلين عقليًّا، التي كانت موجودة في برج المجانين بكاين، إلى مستودع بوليو للتسول، في السابع والعشرين من أبريل ١٧٨٥؛ الفرصة لإعادة اكتشاف شناعة عالم السجون وويلاته التي يعانيها المختلون عقليًّا. ثم تقرر أخيرًا تدمير هذا البرج المَشْئُوم. بالطبع، كان الأمر يتعلق في البداية بإحدى عمليات التعمير العامة (حيث كان من المقرر إنشاء محاكم في هذا الموقع)، ولكن هذا البرج كان ينشر الرعب في قلوب الجميع، بدءًا بالحاكم الذي كتب في العام الفائت بشأن حبس مجنون قاتل قائلًا: «أرى أنه يجب سجن هذا المختل مدى الحياة، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك في برج شاتيموان؛ لأن ما سيلاقيه هناك من عذاب يبدو لي أسوأ من الموت.» وهذه المرة يجدر القول بأن ضباط المارشالية كانوا هم مَن روَوْا لنا في أحد تلك المحاضر الدقيقة والتفصيلية التي كانوا بالفعل على دراية كاملة بدوافعها الكامنة؛ وقائع استخراج المختلين عقليًّا، واحدًا تلو الآخر، من البرج. «في البداية، فُتِحَت لنا أكثر من حجرة خشبية في إحدى الشقق الموجودة في وسط البرج، ثم خرجت من إحدى هذه الحجرات المدعوة ماري جان جيدون […] لقد كانت عارية تمامًا، وكانت قد سقطت من أعلى البرج؛ ولذا لم يكن بإمكانها الوقوف. ألبسناها كيفما اتفق قدر استطاعتنا، ثم حملها الشيالون الذين حضروا خِصِّيصَى لهذا الغرض ووضعوها في عَرَبة نقل مفروشة بالقش ومُعَدة لاستقبالها.» ثم أُخرِجَت خمس سجينات أخريات من هذه الحجرات ووُضِعن في عربات النقل. «وفي ثنايا التجاويف الموجودة بزوايا جدران البرج السميكة، في الغرفة نفسها، وجدنا أولئك المدعوين وقمنا بإخراجهم.» كانوا ثلاثة مختلين عقليًّا، من بينهم «رجل طويل وقوي مسجون منذ عشرين عامًا. كان مجنونًا هائجًا، عاريًا وخطرًا، ولم يكن قد فُتِح له الباب منذ زمن طويل للغاية لدرجة أنه تعين كسر القفل والمزاليج […] ثم تسلقنا أسوار المدينة ووجدنا، داخل سُمْك الجدار المذكور، المدعو نيقولا ديشان — مجنونًا — راقدًا على القش مرتديًا قميصًا رثًّا وكان جزء من فخذه متآكلًا. في موضع آخر من الجدار عينه، وجدنا داخل وعاء حقيقي للعدوى والعفن والرعب المدعوين […] الذين جرى أيضًا حملهم ونقلهم إلى العربات. ثم نزلنا إلى عمق سحيق لا يتسلل إليه الضوء إلا عبر شباك مزود بقضبان حديدية على ارتفاع يزيد عن ثلاثين قدمًا، وأخرجنا من إحدى الزنازين المصممة داخل أسس هذا البرج المدعو فيليب، الذي كان قد جرى تقييد قدميه بسلاسل حديدية مربوطة إلى الجدار. كان ذلك الرجل مسجونًا في هذه الزنزانة منذ ثلاثة عشر عامًا، لم يكن يستطيع تحمل الضوء، ولم تكن ساقاه الضعيفتان تَقْوَيَان على حمله. وقد وُضِع كالباقين السالف ذكرهم في إحدى العربات …»

كانت مؤسسة بيستر، كما هو متوقع ربما، الأكثر إثارة للخزي والعار. «قرحة مروعة في الجسم السياسي، قرحة كبيرة وعميقة ومتقيحة»، على حد تعبير لويس سباستيان مرسييه. وقد خصص لها ميرابو كُتيبًا. «لقد واتتنا الشجاعة للذهاب إلى بيستر، أقول الشجاعة […] كنت أعلم كالجميع أن بيستر مشفًى وسجن في الوقت نفسه، ولكنني كنت أجهل أن المشفى بُنِيَ لتوليد الأمراض والسجن أُنشِئ لإنتاج الجرائم.» انتهينا من المصابين بالأمراض التناسلية، وها هم المجانين: «هذا بالأحرى معرض للعقول المضطربة وليس مشفًى؛ حيث ثمة تفكير حقيقي في شفاء هؤلاء المختلين عقليًّا […] القادمون الجدد يُطلَقون بصورة عشوائية على هذا الحشد الصاخب من الحمقى: ومن وقت لآخر، يجري عرضهم كوحوش مثيرة للغرابة والدهشة على أول فظ مستعد لأنْ يدفع ستة قروش لرؤيتهم. إزاء معاملة مماثلة، أيتعين أن نندهش إذا تدهورت نوبات الاستلاب العقلي الطفيفة وتحولت إلى نوبات من الغضب الشديد بحيث تصل إلى ذروة الهياج؟ أيتعين أن نندهش إذا انتابنا سخط حيال المجنون؟ أن يتم السماح بمثل هذه التسلية المؤلمة في بلد متحضر، لهُو أمر يصعب تصديقه، ولكن أن يجري التغاضي عنها في أمة مقتنعة تمامًا بإنسانيتها وفخورة للغاية بها، كالأمة الفرنسية، فهو ما لا يمكن تصوره أبدًا.»2

التعليمات المتعلقة بطرق التحكم بالمختلين عقليًّا …

أصبح وجود عدد متزايد من المختلين عقليًّا داخل المشافي العامة ودور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول يطرح مشكلة، ليس على الصعيد الأيديولوجي، وإنما على الصعيد العملي المتعلق بوجودهم الجماعي وبالحاجة الملحة إلى قانون خاص ينظم عملية احتجازهم. إذا سلمنا بأن المختل عقليًّا مريض، فلِم يوضع في أماكن تأديبية؟

أَكَبَّ جيه إف دوفور — طبيب ذاع صيته عام ١٧٧٠ حين نشر بحثًا بعنوان «دراسة حول عمليات الإدراك البشري والأمراض التي تصيبها بالخلل» — على تقصي مسألة محددة؛ ألا وهي احتجاز «ضحايا الأهواء البشرية أو الحظ العاثر»،3 وذلك بتفكيره في حلول جديدة إثر حريق المشفى الرئيس بباريس. نادى دوفور بإنشاء مشفًى خاص، يحوي غرفًا واسعة، وأراضي مُسَيَّجَة حيث يمكنهم التنزه، وأماكن جيدة التهوية لاستنشاق الهواء النقي، وسريرًا لكل مريض مع ضرورة فصل مرضى طور النقاهة عن المرضى الذين ما زالوا يتلقون العلاج. وقد وافقته الرأي لجنة التحقيق حول المشافي، التي أُنشئت بقيادة رئيس أساقفة تولوز لوميني دي بريان: «بعض هؤلاء المعاقين تقتضي المصلحة العامة احتجازهم، مثل المجانين والمختلين عقليًّا، بل ومرضى الصرع في بعض الأحيان. فينبغي أن يتم إيداعهم في المشافي أو في الدور المخصصة لهذا الغرض.»

تأسست في عام ١٧٨١ هيئة للتفتيش العام والدائم على المشافي المدنية ودور الاحتجاز الجبري. وعُهِد بها إلى الدكتور كولومبييه، وعُيِّن له مساعدان هما الطبيبان دوبليه وتُوريه. وسرعان ما بادر كولومبييه إلى القيام بجولة حقيقية لتفقد الأوضاع في المشافي العامة ومستودعات التسول في أرجاء فرنسا. رأى كل شيء، واطَّلعَ على الرسوم التخطيطية، وندد بلا هوادة بالوضع المؤسف للمنشآت، ناظرًا بعين الرعاية إلى المختلين عقليًّا على وجه الخصوص. بدأ في كل مكان يوصي بإنشاء أبنية جديدة، وتحسين الظروف الصحية والمعيشية. ولكن، أين هي الإعانات المالية اللازمة للقيام بذلك؟ لا أحد، بدءًا بالدولة، يملك المال. كان مديرو المشفى العام بكليرمون فيران، في مذكرة أرسلوها إلى المراقب العام في يونيو ١٧٨٦، هم أول مَنْ أقروا أن «الحجرات الحالية تكشف عن منظر مُنفِّر لمكان مخصص لحيوانات قذرة.» وبينما لم يكن المكان يسع إلا عشرة من المختلين عقليًّا، ازدحم بالكثير من المختلين القادمين من مختلف الأقاليم و«لم يعد المشفى قادرًا على تقديم المساعدة لهؤلاء البؤساء وسط هذا الوضع المزري.» واختتم المديرون مذكرتهم بطلب إعانات مالية، حتى ولو كانت متواضعة، من أجل تشييد مبنًى جديد، وأرفقوا طي خطابهم المخطط الهندسي لهذا المبنى الذي سيشمل «٢٢ حجرة جديدة، وأفنية واسعة، وملاعب، وحمامات». في مستودع التسول بروان، لم يكلف أحد نفسه حتى عناء الرد على كولومبييه الذي تمت مقارنته «بمشروعاته الهائلة، بالذبابة». كان المفتش أحيانًا يجد المؤسسة مُدارة بصورة جيدة. كما هي حال المشفى العام بشارتر، «ولكن مبانيه كانت على وشك الانهيار».

كان احتجاز المختلين عقليًّا دائمًا ما يطرح مشكلة اتخذت قالبًا رسميًّا بصدور «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم» في عام ١٧٨٥ بناءً على أمر من الحكومة. تم نشر هذا المنشور المكون من ٤٤ صفحة، «على نطاق واسع» في الإدارات العامة (بالنسبة إلى تلك الحقبة)، وهو يعد شهادة ميلاد تكفل السلطات العامة بالجنون على نحو خاص. نقرأ في المقدمة بعض الكلمات المتعلقة بحب الخير ومساعدة الغير على النحو التالي: «يلتزم المجتمع بتوفير الحماية الكاملة وخدمات الرعاية للأفراد الأكثر ضعفًا والأشد بؤسًا.» وهُم — بالإضافة إلى الأطفال — المختلون عقليًّا. «إذا كانوا يثيرون الشفقة، إلا أننا — إذا جاز التعبير — نميل إلى الابتعاد عنهم لتجنب المنظر المؤلم للعلامات البشعة الموسومة على وجوههم وأجسادهم في غيبة عقلهم.» تضاعفت المصحات في فرنسا، ولكنها «لم تخفف إلا من الذعر العام، ولم تستطع إرضاء الإحساس بالشفقة […] إذ جرى حبس الآلاف من المختلين عقليًّا في دور الاحتجاز الجبري دون أن يفكر أحد أدنى تفكير في علاجهم. وكان يُخلَط بين نصف المجنون والمجنون الكامل، الفاقد تمامًا لرشده، وكذلك بين الغضوب الهائج والمجنون الهادئ […] وما لم تتدخل الطبيعة لنجدتهم بإبرائهم، فإن آلامهم ستنتهي بانتهاء حياتهم.»

الجزء الأول، «المتعلق بكيفية إيواء المختلين عقليًّا ورعايتهم وتوجيههم»، يرجع الفضل فيه إلى كولومبييه. (أما الجزء الثاني، الذي حرره دوبليه وتم تخصيصه للحديث عن المعالجة، فهو أقل ابتكارًا؛ إذ اكتفى فقط بتلخيص نظريات ذلك العصر التي سنتوقف عندها بالتأكيد لاحقًا.) إن الغني، الذي يتلقى العلاج في المنزل، قد يُشفى. فلمَ لا يشفى الفقير؟ «من الضروري وجود أماكن لائقة مخصصة لاستقبال هؤلاء الأشقياء، بحيث تنقسم هذه الأماكن إلى نوعين؛ أحدهما: مخصص للعلاج، والآخر: مخصص لاحتواء أولئك الذين لا يمتثلون للأوامر.» وفيما يتعلق بهؤلاء، تظل هناك دائمًا إمكانية لحدوث الشفاء «الطبيعي» وليس لأحد أن يعوق ذلك. بإيجاز، لا بد من توفير مساحات كافية، وهواء، وماء، ومبانٍ نظيفة وصحية، وأماكن للتنزه، مع مراعاة وضع نظام غذائي مناسب (أي لا يحتوي على كثير من اللحوم)، واتباع جدول مواعيد منظم بدقة، والسماح بالزيارات اليومية لمفتشي الصحة … وليتم تقسيم القطاع الخاص بالمختلين عقليًّا إلى عدة أقسام فرعية في الطابق الواحد، بحيث يكون كل قسم محاطًا بفناء ورواق للتنزه تابع له على هيئة مربع. وفي الزوايا تكون الغرف والمهاجع، وعلى الجانبين الغرفُ الشاسعة التي تبلغ مساحتها «ثمانية أقدام مربعة» (وهي أكبر بقليل من المساحة المعتادة). كما يتم إنشاء مراحيض في كل زنزانة، وتوفير حمامات مياه ساخنة وباردة. وأخيرًا، وهنا تكمن الفكرة الأكثر ابتكارًا، يتم وضع المختلين عقليًّا في مناطق بحسب التصنيف على النحو التالي: «لا يمكننا إغفال تخصيص قاعات للأنماط المختلفة من المجانين […] قسم للبُله، وآخر لذوي السلوك العنيف من المجانين، وثالث للمجانين ممن يتَّسمون بالهدوء، ورابع لأولئك الذين يتمتعون بفترات صحو تدوم لبعض الوقت ويسيرون في طريقهم نحو الشفاء.»

كانت مهمة الحكام تنفيذ «التعليمات» الصادرة في عام ١٧٨٥، بيد أن ردود الفعل كانت مُغرِقة في التشاؤم. كتب حاكم بريتاني شخصيًّا: «يجب ألا نأمل أن تُنفَّذ هذه التعليمات في مشافي بريتاني، ليس لأننا لا نستقبل بها تقريبًا أي مجانين فحسب؛ ولكن لأن هذه المؤسسات الاستشفائية جميعها غير قادرة على دفع المصاريف اللازمة لإيواء المختلين عقليًّا ورعايتهم.» وقال رؤساء مشفى لا ترينيتيه بإكس آن بروفانس الكلام نفسه، ولكن بأسلوب أكثر دبلوماسية: «نحن ملتزمون ببذل قصارى جهدنا والعمل بحماس ومثابرة؛ من أجل المساهمة في تحقيق المساعي الخيرية لجلالته في حدود ما يسمح به الوضع الحالي للمشفى، آملين في مستقبل أكثر إشراقًا كي يصبح في متناولنا تطبيق القواعد المقررة حرفيًّا وبمنتهى الدقة.»4 فنحن نأمل في الحصول على معونات لإنشاء حجرات جديدة (لم يكن يوجد إلا ١١٧ حجرة بينما بلغ عدد المختلين عقليًّا ١٦٠) وصيدلية، و«قاعة للحمامات؛ إذ ثَبَتَ أن الحَمَّام هو العلاج الأكثر فعالية ضد الجنون». في شيربور، ثمة مَنْ اعترض لأن التصنيف المنصوص عليه في التعليمات يستلزم وجود مؤسسات كبرى، على الأقل واحدة في كل منطقة إدارية. في سان لو، لوحظ أن الرواتب «متدنية للغاية لإلزام الطبيب بالتفرغ حصريًّا لعلاج المرضى المحبوسين في الدار». يأسف لذلك الوكيل الموفد الذي كتب هذه السطور: «فتور عام عند جميع الأطباء المتقدمين في العمر قليلًا وتراخٍ عن التعلم وتجربة علاجات مختلفة. لا بد لهم من مرضى جديرين بالاحترام لكي يتحفز هؤلاء الأطباء للاعتناء بهم على أكمل وجه ويُنحُّون جانبًا العلاج الروتيني الذي عاينوا بأنفسهم مئات المرات عدم فعاليته.» كانت هذه الفترة مختلفة بالتأكيد عن تلك الحقبة التي كان يختتم فيها أحد «كبار موظفي» الإدارة الملكية تقريرًا من تلك التقارير المخيبة للآمال؛ إذ يكتب السطور التالية: «سوف تظل الموارد المقدمة من الحكومة بلا أي تأثير على الإطلاق، هكذا كان وهكذا سيكون مصير غالبية الاكتشافات التي توصلت إليها الإنسانية وفلسفة القرن المستنيرة.»

مقابل خيبة الأمل هذه، أظهر رؤساء مشفى سان لازار بمارسيليا حماسًا غير اعتيادي: «معربين عن رغبتهم في الانخراط قدر الإمكان في خطط الحكومة»، وعينوا لمدة عام طبيبًا في خدمة الدار براتب ٣٠٠ جنيه. «وكانت الحمامات والعلاجات الأخرى توصف بشكل أكثر تكرارًا.» أخيرًا، أسفرت هذه الجهود عن انخفاض عدد وفيات المختلين عقليًّا في عام ١٧٨٧ بمقدار اثنتي عشرة حالة عما كان عليه في عام ١٧٨٦؛ مما يُعَد من وجهة نظر رؤساء المشافي إنجازًا عظيمًا. ففي السابق، مقابل كل حالتي خروج من المشفى، كانت هناك حالة وفاة.

السيطرة على دور الاحتجاز الجبري وفرض الرقابة عليها

على الرغم من عدم استمرار وظيفة حكام الأقاليم، خلال تلك السنوات التي شهدت أزمة مالية حادة، ظل الفكر السائد متجهًا نحو الإصلاح. حتى الإدارة الملكية سعت إلى تنظيم أكثر ما كان يُعد مُستهدَفًا في حملات الرأي العام: وهو الخطاب المختوم. في الواقع، تضاعفت الأوامر المَلَكية بشكل عجيب خلال القرن الثامن عشر، ولم يكن يهم النقاد كثيرًا كونها صادرة بشكل أساسي بناءً على طلب العائلات. كتب لنجيه — أحد سجناء الباستيل السابقين — في عام ١٧٨٣ قائلًا: «غريب أمر هذا الخطاب المختوم، إنه آفة هذه المملكة، تمامًا كالطاعون في مصر.»

بغية معالجة هذه المسألة التي أصبحت بالفعل بمنزلة ساحة حرب حقيقية بين المفكرين والبرلمانيين، والسيطرة على ظاهرة الحبس الخاص؛ أرسل بارون بروتوي — وزير الديوان الملكي — في مارس ١٧٨٤، إلى كلٍّ مِن حاكم المملكة والقائد العام للشرطة، «منشورًا بشأن المسجونين بموجب أوامر مَلَكية.» وفي الوقت نفسه، برزت من جديد مسألة المختلين عقليًّا. راجع الوزير قضايا الأشخاص الذين سُجنوا بناءً على أمر ملكي. «سترون أن بعض هذه الاعتقالات تعود إلى فترة بعيدة للغاية. ليس لدي أي شك في أنه قد حان الوقت لإطلاق سراح الكثيرين.» اقترح الوزير وضع بعض الضوابط، والتمييز بين ثلاثة أنواع من المحبوسين: «النوع الأول يضم المساجين المختلين عقليًّا، أولئك الذين حرمهم خللهم العقلي من ممارسة حياة طبيعية، أو أولئك الذين يشكل سخطهم وهياجهم خطرًا على غيرهم. فينبغي التأكد من أن حالتهم هي ذاتُها لم تتغير، وللأسف، في هذه الحالة سيستمر حبسهم طالما أن حريتهم قد تسبب أضرارًا للمجتمع، أو قد تُعَد إحسانًا لا فائدة منه بالنسبة إليهم.» يأتي بعد ذلك الجانحون، الذين ينقسمون بدورهم إلى فئتين وفقًا لما صدر من أحكام قضائية ضدهم. ومن الجديد الملاحظ أن المختلين عقليًّا ذُكِرُوا في البداية؛ مما يُعد دليلًا على الأهمية التي بدءوا يحظون بها من قِبل السلطات العامة. بالإضافة إلى ذلك، ألزم هذا المنشور الحكام والقائد العام للشرطة بتفتيش دُور الاحتجاز الجبري المختلفة شخصيًّا. وأصبح لزامًا من الآن فصاعدًا تحديدُ مدة حبس الجانحين. «بالنسبة إلى الأشخاص المُرشحين للحجر بسبب الاستلاب الذهني، يقتضي القانون والحذر ألا يُؤخَذ بالأوامر (أوامر الملك) إلا إذا كان هناك حكم قضائي بالحَجْر، إلا إذا كانت العائلات عاجزة تمامًا عن دفع مصاريف الإجراءات التي تسبق الحجر. ولكن في هذه الحالة يجب أن يكون الجنون معروفًا ومُثبتًا بالدلائل التي تؤكد ذلك.»

تُعَد هذه الخطوة على قدر كبير من الأهمية، حتى وإن لم تؤدِّ إلا إلى تعزيز إجراءات تتسم بالفعل بدرجة عالية من الحذر. يوطد الحكم بالحَجْر الوضع القانوني للجنون ويمنحه تعريفًا باعتباره «حالة شخص ضعيف العقل لدرجة تمنعه من التمييز بين الخطأ والصواب في أفعاله».5 بيد أن فقه القانون يفرق بين درجات الجنون؛ فهناك «الجنون العابر، والجنون الذي يأتي على فترات، والجنون المطلق». إن الحَجْر الذي يقر بثبوت حالة الجنون قانونيًّا لا يمكن أن يتم الحكم به بلا تروٍّ أو إقامة دعواه باندفاع. «ينبغي أن نتعامل بمنتهى التحفظ والحيطة حيال إقامة هذه الدعوى؛ نظرًا لأن الأمر يتعلق بإعادة إنسان ناضج إلى مرحلة الطفولة وما يستتبعها من ضوابط.»6 بالإضافة إلى أن دعوى الجنون «تعني ضعفًا في العقل يُطلَق عليه بَلَه يجعل الشخص عاجزًا عن التمييز بين الخير والشر».7 أما فيما يتعلق بالمجانين الذين يصيبهم الجنون على فترات، فيجب ألا يُحجَر عليهم خلال فترات الصحو. يبقى أن نتساءل: كيف سيتم تفعيل هذه الإجراءات الشاقة (ليس على الصعيد الإداري فحسب بل والمالي أيضًا) على أرض الواقع؟ في الحقيقة، سوف تظل دعاوى الحجر أمرًا نادرًا يكشف عن العديد من مواطن الضعف، أبرزها أن القاضي وليس الطبيب هو الذي يقوم بإقرار الجنون. وكان القضاة هم أول مَن اعترفوا بأن استجواباتهم للمُدَّعَى عليهم غير مجدية في حالة ما إذا كانوا كتومين أو «مجانين مجادلين» أو مصابين ﺑ «الهوس البارد».

أما فيما يتعلق بالشهادات الطبية، فقد نزعت إلى التضاعف خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولكنها لم تكن إجبارية، حتى ولو بدأت تُرفَق بشكل متزايد أكثر فأكثر بالعرائض التي تطالب بالاحتجاز أو بالنقل. ولقد كانت هذه الشهادات، من وجهة النظر الطبية، شديدة الإيجاز بالقياس إلى الإنجازات النظرية التي تم التوصل إليها في هذا العصر. «نشهد بأن المدعو برتراند بدا لنا في حالة من السوداوية جسدية أكثر منها معنوية، وقد كانت إجاباته عن أسئلتنا صحيحة إلى حد كبير، ولكنها ممزوجة بدهشة وحرج وارتباك مما ينم عن حالة من البَلَه» (١٧٨٦). «نقر بأن المدعوة رينيه رينيل — البالغة من العمر حوالي ٢٠ عامًا — مصابة بثورة دموية سببت لها الكثير من الأذى لشخصها لدرجة أثرت على أذهان الحيوانات» (١٧٨٦). وهكذا نجد أن الشهادة الطبية غالبًا ما تكون إثباتًا لحالة سلوكية مصحوبًا بعبارات على غرار «مصاب بالهوس» أو «مختل العقل تمامًا».

أراد منشور بروتوي وضع الأمر الملكي فوق الشبهات (ولكن دون جدوى في ظل المناخ السياسي الذي كان سائدًا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.) بيد أن عمليات التفتيش سلطت بالأحرى الضوء على العدد الكبير للمختلين عقليًّا (والجانحين) المحبوسين في دور الاحتجاز الجبري من دون أمر ملكي أو قرار قضائي، لدرجة أن قصر فرساي أصدر في عام ١٧٨٦ أوامر إلى الحكام «بالتحقق في الدور الدينية المختلفة والمشافي ودور الاحتجاز الجبري من حالات الأشخاص المُحتجَزين من دون أمر ملكي أو قرار قضائي.» بالطبع، كان على الحكام القلق بالفعل حيال حالات الاحتجاز التي تتم بناءً على اتفاقات بين العائلات ودور الاحتجاز الجبري، ولكن ها هم وقد وجدوا أنفسهم مُكلَّفين «من قِبل الملك». خلال زيارات التفتيش الحقيقية، اكتشف الحكام ونوابهم (الأكثر صرامة وتشددًا أيضًا) الوجه الخفي لدور الاحتجاز الجبري. مما لا شك فيه أنه كان هناك فراغ قانوني فيما يتعلق بالجانحين الذين كان يُنظر إليهم في دور الاحتجاز الدينية باعتبارهم «متطوعين»، ولم يكن أصحاب الشأن (نساء إجمالًا) يقولون شيئًا مختلفًا حين يستجوبهم الوكيل الموفد عن الحاكم. «لقد أتت طواعية إلى هذه الدار لتقويم بعض السلوكيات الخاطئة وللتكفير عن الآثام التي ارتكبتها في العالم.» كثيرات دخلن تلك الدور طاعةً للوالد أو الأخ، ولكنهن يَتُقْنَ الآن إلى استعادة حريتهن. ليس جميعهن بالطبع. نحن هنا إزاء وضع أشبه بوضع الجانح المُحتجَز في إصلاحية. ومع ذلك، فإن شرط «الطواعية»، الذي كان يُعَد بالفعل موضع شك في نظر الإدارة الملكية، لم يكن يتم التطرق إليه عندما يتعلق الأمر بالمختلين عقليًّا، وهم كثر في حقيقة الأمر.

اكتشف الوكيل الموفد لبلدية أفرانش خلال زيارته التفتيشية للجمعية الخيرية ببونتورسون في عام ١٧٦٨ (قبل صدور منشور بروتوي) ثمانية من المختلين مُحتجَزين بالدار وقد أُودعوا مباشرة بناءً على طلب العائلات. وقد بعث الوكيل الموفد إلى الحاكم بمذكرة على النحو التالي: «على سيادتكم والوزير تقرير ما إذا كان يمكنهم البقاء في دار الاحتجاز الجبري دون أمر ملكي.» بحلول تاريخ صدور المنشور، لم يكن الوضع أفضل حالًا في منطقة كاين الإدارية. لقد سبق أن رأينا كيف احتدم الخلاف بين الحاكم ورئيسة دار بون سوفور بكاين. في عام ١٧٨٥، من بين إجمالي النزلاء البالغ عددهم ٢٤ شخصًا، بلغ عدد أولئك الذين جرى احتجازهم من دون أمر ملكي ولا حكم قضائي ١٢ نزيلة، جميعهن مختلات عقليًّا. وعندما تيقَّنَ الحاكم بنفسه من أن هؤلاء المخبولاتِ مجنوناتٌ بالفعل (ثلاث منهن كن محتجزات منذ خمسة عشر عامًا)، سأل الرئيسة لماذا لا يوجد أي أمر ملكي بخصوص هؤلاء. وأجابت رئيسة الدار، بأسلوب لا يخلو من الوقاحة، قائلة: «ليس من المعتاد تلقي أوامر من أي جهة غير العائلات فيما يتعلق بهذه النوعية من الأشخاص.»

في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر ١٧٨٤، في تمام الساعة الثامنة صباحًا، حضر نائب حاكم جرانفيل بشكل مفاجئ إلى دير مينيل جارنييه. وطلب من الأب رئيس الدير أن يحضر إليه السجلات. كان هناك ١٤ نزيلًا، من ضمنهم ١٢ مختلًّا: ثمانية كان قد تم إيداعهم في الدير بموجب أوامر ملكية، أما الستة الآخرون — جميعهم من المختلين عقليًّا — فقد وُضعوا هنا «باتفاق العائلة وترتيبها». أراد الوكيل الموفد الالتقاء بهم جميعًا. طلب أن يتم إرشاده إلى غرفتهم واستجوبهم واحدًا واحدًا. تبين أن المجانين مجانين بالفعل؛ فهذا تعذبه الأرواح في الليل، وذاك يتحدث إلى الملائكة، وثالث «عاري الجذع، يمشي على يديه ورجليه كالحيوانات ولا يتحلى بِذرَّة عقل واحدة». استمرت الزيارة على هذا النحو من يقظة الضمير والأمانة والدقة، وسعى الوكيل الموفد جاهدًا للكشف عن بصيص من المنطق قد يكون مدعاة للتشكيك في جدوى عملية الاحتجاز، كما هي الحال أحيانًا في بعض الأماكن الأخرى.

أما فيما يتعلق بمنطقة كاين الإدارية، فقد أرسل الوكيل الموفد بسان لو إلى الحاكم، في عام ١٧٨٦، محضر «فحص الجنون أو العته لدى الأشخاص المُحتجَزين في دار بون سوفور [وهو منزل مختلف عن مثيله في كاين] وفي المشفى الرئيس بالمدينة.» من بين المختلات الأربع المُحتجَزات بالمشفى، أشار الوكيل الموفد إلى الآنسة دي مونترابو. بادئ ذي بدء، لم يكن هناك خطاب مختوم يحمل أمرًا ملكيًّا ولا حكمًا قضائيًّا بشأنها. ثم إنها أجابت بعقلانية شديدة على الأسئلة التي وجهها إليها الوكيل الموفد. وأخيرًا تبين أن الاختلال العقلي الذي أدى إلى إيداعها دار الاحتجاز «ليس شديدًا بما فيه الكفاية لحرمان هذه الفتاة الشابة من حريتها». وكان لا بد من أن يتقدم شقيقها، الذي وضعها هناك، لاستعادتها أو أن يتم إيداعها في نُزُل حر. في المقابل، أشاد الوكيل الموفد بدار سان لو وأُعجِب بها إعجابًا شديدًا. «لقد انبهرتُ بالطريقة التي ترعى بها راهبات بون سوفور الفتيات الست المجنونات اللواتي عُهِد بهن إليهن وكيف تقمن بالاعتناء بهن ومعالجتهن. تشكل الدور المماثلة موردًا ثريًّا في الإقليم. ويجب أن تعمل الإدارة على تشجيع هذه النوعية من دور الاحتجاز، وتوفير كافة الإمكانات اللازمة لزيادة مواردها حتى يتسنى لها قبول أبناء العائلات المحترمة الذين يعانون من أمراض مشابهة. أظن أن هؤلاء الراهبات لا يرغبن في استقبال المزيد من المرضى؛ نظرًا لأنه ليس لديهن ما يكفي من المساكن لإيواء المزيد، ولأن رعاية أولئك المرضى تكلف أكثر من رعاية الأشخاص الأصحاء.» وفي ٢١ ديسمبر ١٧٨٥، كتب الوكيل الموفد بشيربور تقريرًا إلى الحاكم بشأن الوجود غير القانوني لاثنتين من المخبولات في المستشفى العام الذي «استقبل هاتين المرأتين إرضاءً لعائلتيهما اللتين لم تكونا تدريان، وما زالتا لا تدريان، أين يجب وضعهما.» وأحال الحاكم التقرير إلى قصر فرساي الذي أعرب عن قلقه وأبدى اهتمامًا وأرسل يطلب مزيدًا من التوضيح. في ذلك العصر، كانت الإدارة ترد على المراسلات بسرعة، على الرغم من أننا كنا في زمن الكتابة بالريشة وامتطاء الخيل كوسيلة ركوب، بدليل أننا لم نكن إلا في اليوم الثاني من شهر يناير. منذ متى وهاتان المرأتان هناك؟ «أوليس من الممكن توقع نتائج جيدة من اتباع إحدى الطرق العلاجية التي ربما لم تُستَخدَم بعد؟» فسواء أكان مقررًا إطالة فترة العلاج أم لم يكن هناك أمل في الشفاء، فلا بد من تقنين وضع المريض داخل المشفى أو الدار.

ينطبق الأمر عينه على جميع المناطق الإدارية الأخرى. «المريض يجب ألا يخضع لأي عقوبة»، كما يقول أحد حكام الأقاليم. وحين يكون الجنون مشكوكًا فيه، على الرغم من تأكيدات الرهبان، يطالب الحكام والوكلاء الموفدون بعقد لقاءات فردية مع النزلاء في غير وجودهم. وفيما يتعلق بالراهبات اللواتي كن يقمن بالخدمة في الدور الصغيرة، كان المحافظ قد بدأ يفقد صبره إزاء «استحالة كشف هالة الغموض التي أحاطت بها الراهبات تفاصيل إدارتهن». فها هي الأخت بروبيون متهمة بإساءة معاملة المختلين عقليًّا «بلا داعٍ»، وكذلك الأخت أنياس التي ضربت إحدى المخبولات بعصا المكنسة.

وكان يُسمح بخروج المرضى فور «تحسن حالتهم العقلية». كانت الآنسة دو لافريير — ٢٤ عامًا — مُحتجَزة لإصابتها بضعف ذهني، ولكن «هل عقلها ضعيف لدرجة تمنعها من إدراك وضعها البائس؟» أمَّا عن طلبات الاعتقال الجديدة، فقد بدأ يتم التصريح بها مع توخي مزيد من الحذر عن ذي قبل (حتى ولو بدا أن الحكم بالحجر كان يظل غالبًا حبرًا على ورق). في بعض الأحيان — وهذا أمر مستحدث كليًّا — كان يُمنح الخطاب المختوم الذي يحمل أمرًا ملكيًّا لمدة عام واحد فقط، وهو الوقت الكافي للتأكد من استمرارية الجنون. وفي كل مكان، أصبح لزامًا توفير «إمكانية التتبع». فأصبح توثيق حالة المريض، في السجلات والكشوف السنوية المطبوعة التي تحدد بدقة تاريخ صدور الأوامر الملكية وأسماء الوزراء الذين وقَّعوا الأوامر المذكورة، أمرًا إلزاميًّا أكثر من أي وقت مضى. وأصبح يتعين، من الآن فصاعدًا، تحديد الدافع وراء صدور الأمر الملكي. في نهاية عهد النظام القديم (ولكن أحدًا لم يكن يعلم أنها النهاية)، صار الأمر الملكي، بعكس الأسطورة السوداء التي ارتبطت به، أكثر من أي وقت مضى هو أفضل ضمانة للحماية من الاعتقالات التعسفية.

«مشافٍ تقوم بذاتها بوظيفة العلاج»

في أواخر عهد النظام القديم في فرنسا، كان المختلون عقليًّا محتجزين تقريبًا في كل مكان، في انتظار تقنين وضعهم وتحديد مكان احتجاز خاص بهم (وفقًا لما ورد في منشور «التعليمات» الصادر في عام ١٧٨٥). بدأت مظاهر الإصلاح تلوح في الأفق وكان شبح الإفلاس الذي يهدد المملكة هو الذي يحول دون تفعيلها.

برزت على الساحة بعض دور الاحتجاز الجبري «المتخصصة» بالفعل كمنازل مرشحة للتحول إلى «دار للمجانين». كما هي حال بلدية سان ميان، التي أَعَدَّت في عام ١٧٨٦ «مشروعًا لإنشاء دار للمجانين في مقاطعة بريتاني»؛ بحيث تكون هذه الدار بمنزلة مأوًى علماني مخصص لاحتجاز المختلين عقليًّا، سواء الفقراء أو أبناء العائلات القادرة على دفع نفقة إقامة، والتي كانت تدفع بالفعل تكاليف إقامة ذويها في الدور الخاصة الكائنة خارج المقاطعة؛ «حيث كان هؤلاء يعانون غالبًا؛ لأنه لم يكن يتم قبولهم في تلك الدور الخاصة إلا بإغراء دفع النفقة المرتفعة». نشير في هذا الصدد أيضًا إلى مستودع التسول الكائن في ليون، والذي كان يُطلَق عليه اسمٌ مُعَبِّرٌ؛ وهو «لاكارنتين» (الحجر الصحي)، أو اسمٌ تقليديٌّ بالأكثر؛ وهو «بيستر». في اللائحة التأسيسية لعام ١٧٨٣، كرست المنشأة فصلًا كاملًا للعاجزين والمختلين عقليًّا. وجرى التأكيد على الاتجاه العلاجي للمؤسسة (إذا كان المرض في مراحله الأولى)، وهو ما انتقده المشفى الرئيس بالمدينة الذي أراد أن يجعل من هذه المؤسسة مجرد ملجأ للمرضى الميئوس من شفائهم بالإضافة إلى دار احتجاز جبري للهائجين في الوقت نفسه. بعيدًا عن هذه الصراعات الإدارية، فإن مشروع إنشاء ملجأ مخصص حصريًّا للمختلين عقليًّا رأى النور في عام ١٧٨٧.8

في عام ١٧٨٥، طلب الملك إلى أكاديمية العلوم إبداء رأيها فيما يتعلق بإصلاح المشافي. وكان جاك رينيه تونون (١٧٢٤–١٨١٦) أحد أعضاء اللجنة. كُلِّفَ تونون — الجراح الأول في سالبيتريير، وعضو بأكاديمية الطب ثم بأكاديمية العلوم، الذي كان يناضل من أجل التلقيح ضد الجُدَرِيِّ — من قِبل الملك بالذهاب لزيارة مشافي إنجلترا التي كان يُنظَر إليها في جميع أرجاء أوروبا على أنها نموذج يُحتَذَى به. في عام ١٧٨٨، تمت طباعة «خمسة أبحاث حول مشافي باريس» تحوي الملاحظات التي سجلها تونون، بأمر من الملك. أحصى تونون، استنادًا إلى المعلومات المحددة التي نقلها إليه القائد العام للشرطة، وجود ١٣٣١ مختلًّا عقليًّا مُحتجَزًا في باريس (من بين إجمالي نزلاء المشافي البالغ عددهم ٢٨٧٩٩ شخصًا) في نهاية شهر يناير ١٧٨٧. بيد أن تونون لم يقم للأسف بحساب إجمالي العدد في المملكة بأكملها؛ مما شكَّل بالتأكيد تحديًا بالنسبة إلينا، ولكننا نقبل بخوضه، مع توخي الحذر والحيطة إلى أقصى درجة. ربما كان عدد المختلين عقليًّا يبلغ ١٥٠٠ شخص في مستودعات التسول، وربما ٢٥٠٠ في دور الاحتجاز الجبري في الأقاليم، وفقًا لتقدير أكثر عشوائية إذا ما نظرنا إلى المختلين عقليًّا — وهم في نهاية المطاف كثر — الذين اكتشفت الإدارة الملكية مؤخرًا عدم وجود محل ثابت مخصص لهم. بل لعله من الأصعب أيضًا إحصاؤهم في المشافي العامة، باستثناء بيستر وسالبيتريير. وبالطبع، كان عدد المختلين عقليًّا داخل هاتين المؤسستين قليلًا، على الأرجح أقل من ٥٠٠ شخص؛ نظرًا لأن المختلين المعوزين التحقوا بمستودعات التسول الكائنة في الأقاليم التابعين لها. تشير هذه الإحصاءات، إضافة إلى التعداد الذي قام به تونون بالنسبة إلى باريس، إلى ترجيح فرضية تقول بأن: العدد الإجمالي للمختلين عقليًّا المُحتجَزين في فرنسا في عام ١٧٨٩ كان يبلغ ٥٨٠٠ شخص (أو ٥٠٠٠ شخص على أقل تقدير). وهذا هو ما أدى إلى «الاحتجاز الكبير» للمختلين عقليًّا من وسط إجمالي ٢٦ مليون فرنسي في ذلك الوقت؛ أي إن نسبة المختلين عقليًّا كانت تبلغ ١ إلى ٤٥٠٠، بل ٤٧٠٠، وكان ذلك في أواخر القرن الثامن عشر. في أواخر القرن السابع عشر، بلغ إجمالي عدد السكان ٢٠ مليون فرنسي، ولم تكن نسبة المختلين عقليًّا تتجاوز بالطبع ١ إلى ٢٥٠٠٠. ينبغي أن نذكر مباشرة، على سبيل المقارنة، أن هذه النسبة، التي يجري حسابها دائمًا بالقياس إلى عدد السكان، سوف تبلغ ١ إلى ١٠٠٠ في نهاية الإمبراطورية الفرنسية الثانية و١ إلى ٥٠٠ في نهاية الجمهورية الثالثة.

يستأنف تونون، في سياق «تعليمات» ١٧٨٥، خطابه الإنساني حول الجنون: «إن الوضع المُحزن للمجانين المصابين بالهياج وَجَّه أنظار الحكومة إلى حالتهم التي يُرثَى لها وجعلها تنظر إليهم بعين الرعاية. فقد كانت هناك مخاوف من أن يسيء هؤلاء المجانين، في ظل حرمانهم من عقلهم وتمتعهم في بعض الأوقات بقوة خارقة، استغلال قدرتهم وقوتهم؛ ولذا كان ينبغي الحرص على ألا يؤذوا أنفسهم بأي شكل من الأشكال، ومن ثم لم يكن هناك مفر من احتجازهم، ولقد أخذنا على عاتقنا أداء هذا الواجب الاجتماعي. ولكن قبل أن نقتطع المجانين من المجتمع، كان لزامًا على هذا الأخير التأكد مما إذا كان مرضهم قابلًا للشفاء أم لا. وبعد أن استنفدنا كل الوسائل الممكنة، اضطررنا إلى السماح بالموافقة على الحل المؤسف الذي يقتضي حرمان أحد المواطنين من حريته.» هذا الخطاب الذي تلا صدور «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم»، لا يمكن اعتباره جديدًا إذا لم يكن تونون قد أضاف إليه رؤية جوهرية وعميقة للمستقبل القريب. كتب قائلًا: خلافًا لمباني المشافي التي لا تمثل بالنسبة إلى المرضى الآخرين إلا «وسائل مساعدة»، فإن المشافي بالنسبة إلى المجانين «تمثل هي نفسها وسيلة للعلاج […] إذ يجب ألا تتم مضايقة المجنون خلال فترة العلاج، وينبغي أن يكون بإمكانه، في الأوقات التي يكون فيها خاضعًا للمراقبة والإشراف، الخروج من حجرته والتجول في الرواق، والذهاب إلى الْمُتَنَزَّه، والتريض وممارسة التمارين التي تسري عنه والمناسبة له تبعًا لحالته.»

مشافٍ تقوم بذاتها بوظيفة العلاج … سنرى كيف سينقل إسكيرول كل كلمة من هذا الاقتراح وينسبها إلى نفسه، ولكن دون إشارة إلى أي مرجع سابق. خلال السنوات الأخيرة من عهد النظام القديم، كان الطب النفسي المؤَسَّسي بالفعل في طور النشأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤