الفصل الخامس

إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض العقلية

وُلِد جان إيتيان دومينيك إسكيرول في تولوز عام ١٧٧٢، وهو التاسع في أسرة مكونة من عشرة أطفال. وقد نذر نفسه في البداية للحياة الكنسية، ولكن الثورة قطعت دعوته، فشرع في دراسة الطب في عام ١٧٩٢. وعُيِّن مفتشًا للصحة إبَّان الحروب التي شنتها الثورة وحكومة الإدارة (الديركتوار)، واستأنف دراساته الطبية في مونبلييه، قبل أن يبدأ مسيرته المهنية في باريس عام ١٧٩٩، حيث انضم إلى العمل في خدمة كورفيزار في المشفى الخيري، كما عمل مع بينيل في مشفى سالبيتريير. وناقش في عام ١٨٠٥ أطروحته بعنوان: «الأهواء كأسباب وأعراض ووسائل علاجية للاختلال العقلي». ها هو يبلغ من العمر نحو ٣٤ عامًا ولم يعد مبتدئًا، بل أكثر من تلميذ، إنه معاون بينيل. حين توفي بوسان في عام ١٨١١، عُيِّن إسكيرول طبيبًا مشرفًا على قسم المريضات عقليًّا في سالبيتريير، ثم أصبح في العام التالي طبيبًا خاصًّا للقسم نفسه.

سنكتفي هنا بهذا القدر من سيرته الذاتية حتى نتعرف بشكل أفضل على المرحلة الهامة، في ميلاد الطب النفسي، التي تمثلها أطروحة إسكيرول. في كتاب «ممارسة العقل البشري»، يشدد كلٌّ من مارسيل جوشيه وجلاديس سواين1 بحق على أن: «إسكيرول كتب بعد تأسيس «المبادئ التي وضعها البحث حول الهوس»، ولكنه كتب أيضًا قبل التحول الحاسم لتمثيل سبل ووسائل العلاج المعنوي، الذي نجم تدريجيًّا وفرضته تجربة المشفى الكبير، والذي انتهي بحمله إلى سالبيتريير.» أي بعد تأسيس حقل طبي نفسي وفق تعريف بينيل وقبل إيجاد حل مؤسسي.

أهواء …

رفيق درب بينيل في تبنيه لمنظور قابلية الجنون للشفاء، وهو مَن أكمل الطبعة الأولى من بحثه عن العلاج المعنوي، إنه إسكيرول الذي كتب «بحوثًا عملية» ترتكز على الممارسة التطبيقية. لقد أراد تناول الاستلاب العقلي «بوصفه أحدَ مواضيع الطب السريري.» ومن الجدير بالذكر أن إسكيرول افتتح عام ١٨١٧ في سالبيتريير محاضرة سريرية في الطب العقلي، توافد على حضورها طلاب العلم. كان إسكيرول أيضًا قارئًا لكتابات القدماء وبخاصة الفلاسفة الرواقيون، وأراد أن يجعل من نظرية الأهواء «طريقة جديدة لوضع الجنون في قلب الموضوع البشري.»2 فالأهواء تشكل الحدث الأوليَّ للاستلاب العقلي. ولمعرفة الجنون، لا بد من الرجوع إلى أصول الخلل؛ «بحيث يصبح مضمون الهذيان الأكثر استحواذًا قابلًا، على الأقل جزئيًّا، لأنْ يفك شفرته ويحلل رموزه أولئك الذين يعرفون كيف يكشفون لعبة العلاقات والروابط وما يترتب عليها من آثار.»

كما هي الحال بالنسبة إلى بينيل، يُعد الهوس (الذي يمثل دومًا الجنون بامتياز) «حالة عصبية بحتة». فلا توجد أي آفة عضوية، ومن هنا تتجلى ملاءمة العلاج المعنوي. ومع ذلك، يُعد إسكيرول وبينيل «من أنصار النظرية العضوية»، على غرار عصرهما. «الأهواء تنتمي إلى الحياة العضوية، ويشعر الإنسان بانطباعاتها في المنطقة الشُّرْسوفِيَّة أسفل المعدة، وسواء أكان ذلك بشكل أساسي أم ثانوي، يكمن مستقرها هناك.» في الجدال الكبير حول الأصل التشريحي الباثولوجي للجنون، انتصر علماء التشريح (أو «مؤيدو النظرية العضوية»): فقد شكلت أعمال جال ركيزة أولية للمذهب التشريحي. فرانز جال (١٧٥٨–١٨٢٨) — طبيب من فيينا — هو مؤسس علم فراسة الدماغ، وهو علم جديد يقوم على أساس أن الدماغ يتألف من أجهزة خاصة بقدر ما يوجد من ميول ونزعات، ومشاعر ومَلَكات عند الفرد. وبناءً على ذلك، فإن أشكال الجمجمة، التي يفترض تطابقها بشكل وثيق مع محتواها، تتيحُ، من خلال إجراء قياسات معقدة ودقيقة (نطلق عليها عملية «تَنْظير القِحْف»)، «قراءةَ شخصية الفرد» (ومن هنا جاء تعبير «لديه نتوء …» بمعنى لديه موهبة). وهكذا عكف أطباء الأمراض العقلية على البحث عن نتوء الجنون (وهو ما جرى ربما فيما بعد بشأن البحث عن النتوء المسئول عن الجريمة، كما تجلَّى ذلك من خلال المجموعة المثيرة للاهتمام المحفوظة بكلية الصيدلة بكاين، التي تضم قوالب جماجم لأشخاص أُعدِموا بالمقصلة). ولقد عملت السلطات في فيينا، في مطلع القرن التاسع عشر، على الحيلولة دون انتشار «معتقد الدماغ» هذا؛ لأنها كانت ترى أن هذه النظرية قد تؤدي إلى «تقويض أسس الدين ونشر المادية.» ولكن، بمساعدة سبورزهايم (١٧٧٦–١٨٣٢)، تمكَّن جال، الذي استقر في باريس، من نشر أطروحته بشأن المراكز الدماغية المرتبطة بالوظائف المختلفة. وتَشارَك كلٌّ من جيوم فيريس، وفيليكس فوازن (١٧٩٤–١٨٧٢) — عضو مؤسس بجمعية فراسة الدماغ — وفرانسوا بروسيه (١٧٧٢–١٨٣٨)؛ الافتتانَ نفسه بهذا المذهب.

ولقد نشر بروسيه في عام ١٨٢٨، قبل أن يصبح من أنصار علم فراسة الدماغ، كتابًا بعنوان «التَّهَيُّج والجنون»، يرتكز على مذهب فسيولوجي مفادُه أن الجنون ينشأ عن التهاب في الدماغ وفي أغشيته؛ تارة لأسباب معنوية، وتارة لأسباب «سمبثاوية (أو ودية)» منتشرة بفعل التواد والتأثر بإصابة عضو آخر؛ لأن «الدماغ لا يعاني أبدًا وحده»؛ مما يبرر نظرية الخثلة (في حالة «تهيج الجهاز الهضمي»). وقد حذا حذوه كلٌّ من سيبيون بينيل، وألكساندر بريير دي بواسمون (١٧٩٧–١٨٨١)، مؤلف أطروحة مهمة نُشِرت في عام ١٨٤٥ بعنوان «هلاوس».

بيد أن تفرد «الشلل العام»،3 ذلك التناذر المَرَضي الذي يدخل ضمن دائرة اختصاص الطب النفسي العصبي، هو ما أدي فيما بعد — على وجه الخصوص — إلى تأييد نظرية الأصل العضوي للأمراض العقلية. كُتِبت شهادة ميلاد الشلل العام في عام ١٨٢٢، تحت اسم «التهاب العنكبوتية المزمن»، في الأطروحة التي دافع عنها أنطوان لوران بايل (١٧٩٩–١٨٥٨)، تلميذ أنطوان أثاناز رواييه كولار، في شارنتون. «أكون قد حققت الهدف الذي أصبو إليه إذا استطعتُ أن أثبت في هذا الجزء من عملي أن التهاب العنكبوتية المزمن موجودٌ بالفعل، وأنه سبب الإصابة بالاختلال العقلي المترافق بأعراض.» في دراسة جديدة نشرها عام ١٨٢٦، اختزل بايل بشكل أساسي أعراض التهاب العنكبوتية المزمن في الإصابة بشلل عام غير مكتمل وخَرَف يتميز في المقام الأول بجنون العظمة. وبينما كان إسكيرول وإيتيان جان جورجيه لا يزالان يدافعان في سالبيتريير عن نظرية الثنائية (الشلل والخَرَف مقترنان ولكنهما يشكلان مرضين مختلفين)، أقر بايل وكالميل في شارنتون، وبارشاب في سان يون، تصورًا أحاديًّا (فالشلل والخرف ليسا سوى مرض واحد). وهكذا، أصبح «الخرف المصحوب بشلل» أو «الشلل العام» معزولًا. ولو لم يسارع أنصار النظرية العضوية إلى الاستحواذ عليه ليجعلوا منه النموذج المثالي للمرض العقلي العضوي، لأمكننا إضافته إلى قائمة توصيف الأمراض النفسية التي كانت آنذاك قيْدَ الإعداد. فلأول مرة، عُثِر على آفات محددة في الدماغ!
بعد مورو دي تور (١٨٠٤–١٨٨٤)، الذي كان يعد الجنون «آفة عصبية بحتة وبسيطة»، انتصر، ولمدة طويلة، مؤيدو النظرية القائلة بأن الإصابة بالجنون ترجع إلى سبب عضوي بالضرورة؛ مما يعني أن «الوظيفيين»، المعارضين للعقيدة القائمة على النظرية العضوية، هم قلة قليلة. نذكر من بينهم لوريه وآرشامبو. نشر هذا الأخير عام ١٨٤٠ — فيما كان يتردد على القسم الذي يعمل به إسكيرول — الترجمة الفرنسية للبحث الذي كتبه إيليس الإنجليزي.4 تكمن أهمية هذه الترجمة في أنها مزودة بهوامش عديدة لإسكيرول وآرشامبو. وقد انتهى إيليس أيضًا إلى أن الاستلاب العقلي مرجعه آفة تسبب التهابًا في المخ. وهكذا جلب عليه هذا التأييد الحاسم للنظرية العضوية عدَاءَ مترجمه.

في عام ١٨٢٠، نشر إيتيان جورجيه (١٧٩٥–١٨٢٨) — وهو تلميذ قديم لإسكيرول — مُؤَلَّفًا صنع شهرته بعنوان «الجنون: تأملات في هذا المرض، ومقره، وأعراضه …» حيث سعى أيضًا إلى «تحديد مقر» الجنون. اقترح جورجيه — محاولًا تجاوز الخلاف بين علماء التشريح (أنصار نظرية الأصل العضوي للمرض)، والوظيفيين (أنصار نظرية الأصل النفسي للمرض) — فصل الجنون إلى حقلين مختلفين: فمن جهةٍ، هناك الاضطرابات العقلية المصحوبة بأعراضٍ، والناشئة عن سبب عضوي معروف، والتي تُعَد نتيجةً «غير مباشرة وودية»؛ ومن جهة أخرى، هناك «اعتلال مجهول السبب يصيب الدماغ»، وهو ذو طبيعة غير معروفة ولكنها «مباشرة وجوهرية» [بمعنى أنها ليست عَرَضًا لعلة أخرى].

على أي حال، كما أوضح جوشيه وسواين، لا يمكن «القول إن أطباء الأمراض العقلية الأوائل توصلوا إلى تعريف «نفسي» بحت للاضطراب العقلي، بالمعنى الذي نفهمه اليوم.»5 ولم يبين إسكيرول، مثله مثل بينيل، «الخصوصية المطلقة للحدث الباثولوجي النفسي.»6 ومن ثم، سيكون بوسعنا الحديث عن «الطب النفسي المعنوي».

بيد أن إسكيرول ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه بينيل. «إننا لم نسعَ يومًا لمعرفة الوضع المعنوي والفكري للمريض عقليًّا: لقد افترضنا أنه؛ بما أن قواه العقلية متضررة، فليس بإمكانها أبدًا العمل بحرية. أفلا يوجد، في أشد الآلام قسوة، فتراتُ هدوء، بل ومتعة؟ […] إذا كانت الإصابات الجسدية تتخللها أوقات راحة، فلِم لا تتخلل الإصابات المعنوية فترات خمود؟»

هذا هو ما يعيدنا إلى العلاج المعنوي، الذي يفتح لنا بالتأكيد بوابة سحرية تقودنا نحو طب نفسي في طور النشأة. نجد لدى إسكيرول، في سنة ١٨٠٥، علاجًا معنويًّا لا يزال ممكنًا بالمعنى الهيجلي (أو إذا أردنا القول: بالمعنى البينيلي؛ نظرًا لأن هيجل نسب كل شيء إلى بينيل)؛ لأن المريض عقليًّا يعقل الأمور بطريقة ما (يمكن أن يتصرف بعقلانية)، وهنا يأتي دور الطبيب. ومع ذلك، في نوع من الجدلية الذاتية التي تنطوي على شيء من التشويه، يرد إسكيرول على نفسه قائلًا: «إذا بدا لنا العلاج المعنوي عديم الفائدة ووهميًّا، فهذا يعني أننا لم نفهم جوهره الحقيقي. فهو لا يقتصر أبدًا على مواساة وتعزية المرضى عقليًّا، وزيادة شجاعتهم، وقمع هياجهم وغضبهم، والتفكير بعقلانية معهم، ومكافحة انحرافات مخيلتهم. ولم نَدَّعِ قطُّ شفاءهم عن طريق التحاجج معهم؛ إذ إن مثل هذا الادعاء أثبتت التجربة اليومية عدم صحته: فهل تخضع الأهواء للمنطق العقلاني؟» إنه لَتفكير رهيب، له عواقب وخيمة تتجلى في ذلك المسعى الذي ينطوي، مرة أخرى، على تلك المجازفة الخطيرة المتمثلة في الانتقال من المسلمات إلى التطبيق. إن المسيرة المهنية لإسكيرول هي التي صنعت هذه الهوة، فها هو يتحول من إسكيرول المدافع عن أطروحته حول «الأهواء» … إلى ذلك الإسكيرول صاحب الفكر المؤسسي، الذي نشر في عام ١٨٣٨ كتابًا من جزأين يضم مؤلفاته السابقة بعنوان «الأمراض العقلية وما يتعلق بها من روابط طبية، وصحية، وطبية شرعية»؛ حيث لم يَردْ بهذا المُؤَلَّف الجامع — على نحو ذي مغزًى — أيُّ ذكر لأطروحة ١٨٠٥.

المصحة: أداة للشفاء

لنترك إسكيرول في بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر (١٨١٠) في سالبيتريير، ولنذهب إلى عام ١٨١٧ تقريبًا، الذي بدأ فيه في استقبال بعض المريضات عقليًّا نظير دفع مبالغ مالية في مسكنه الكائن بشارع بوفون. ولقد تزايد عليه الطلب لدرجة أنه أنشأ في عام ١٨٢٧ مشفًى على قطعة أرض شاسعة في إيفري. في عام ١٨٢٥، شغل منصب كبير أطباء البيت الملكي في شارنتون إثر وفاة رواييه كولار، الذي كان يشغله طيلة ٢٠ عامًا (ويُذكَر أنه كان قد نذر نفسه أيضًا للحياة الكنسية). وكان رواييه كولار قد رُشِّح في عام ١٨١٩، لتولي كرسي الأستاذية في قسم الباثولوجيا النفسية، الذي كان قد أنشئ حديثًا في كلية الطب (محاضرات حول الأمراض العقلية من جهة علاجها الخاص، والطب الشرعي والصحة العامة). ثم خلفه إسكيرول، الذي كان عضوًا بأكاديمية الطب منذ ١٨٢٠. فقد كانت مكانته تؤهله لهذا المنصب. يُعَد مشفى شارنتون الجديد المكان الأمثل — أكثر من بيستر أو سالبيتريير — لتطبيق الطرق العلاجية المعنوية؛ حيث يتعين «على الطبيب المتخصص في فن المداواة الاستعانة بالفلسفة والتعامل بأكبر قدر من الإنسانية والحنو» (منشور الأول من نيفوز، العام السادس). لم يكن يُقبَل في شارنتون سوى المرضى عقليًّا القابلين للشفاء، مع تحديد مدة العلاج، على غرار المشفى الرئيس، بالنسبة إلى المعوزين (شهرين في المشفى الرئيس، وثلاثة إلى ستة أشهر في شارنتون) قبل نقلهم إلى بيوت الإيواء المخصصة للميئوس من شفائهم. أما المرضى عقليًّا الذين كانوا يدفعون نفقة إقامة فكان بإمكانهم البقاء.

قبل تعيينه في شارنتون، جذب إسكيرول انتباه السلطات العامة بتقريره — بشأن «المؤسسات المخصصة للمختلين عقليًّا في فرنسا وسبل تطويرها» — الذي قدمه إلى وزير الداخلية في عام ١٨١٨، والذي سرعان ما أصبح سببًا في شهرته بعد أن نُشِر، في العام نفسه، في «قاموس العلوم الطبية».7 وهذه المرة، ارتكز التقرير على البحث الميداني. «لقد جُبتُ جميع مدن فرنسا لزيارة المؤسسات المُحتجَز بها المرضى عقليًّا.» ها قد مر ثلاثون عامًا على بداية الثورة، وما زال محضر المعاينة سلبيًّا تمامًا. فعدد المؤسسات المخصصة حصريًّا للمرضى عقليًّا وحدهم قليل جدًّا. وكان المرضى يُترَكون داخل هذه المؤسسات بلا رعاية: «هؤلاء التعساء الذين يعانون أبشع أنواع الشقاء الإنساني، تُسَاء معاملتهم أكثر من المجرمين، ويُحَط من قدرهم حتى يصلوا إلى مرتبةٍ أسوأ من مرتبة الحيوانات. لقد رأيتهم عرايا، أو مغطَّيْن بالخرق، لا يحميهم من برد الأرضية الرطبة التي يرقدون عليها إلا غطاءٌ من القش. رأيتهم يُطعَمُونَ بمنتهى الغلظة والخشونة. رأيتهم محرومين من الهواء الذي يتنفسونه، ومن الماء الذي يروي عطشهم، ومن الأشياء التي لا غنى عنها للحياة. رأيتهم وقد سُلِّمُوا إلى سَجَّانين حقيقيين وتُرِكوا تحت رحمتهم يعانون من مراقبتهم الوحشية. رأيتهم في أكواخ ضيقة قذرة كريهة لا يدخلها الهواء أو الضوء، وقد قيدوا بالسلاسل في أوجار لا يمكن أن تُحتَجَز داخلها الوحوش الضارية التي تتكفل الحكومات المرفهة بدفع مصاريف كبيرة لرعايتها في العواصم. هذا ما رأيته تقريبًا في جميع أرجاء فرنسا، وتلك هي الطريقة التي يُعامَل بها المرضى عقليًّا تقريبًا في جميع أنحاء أوروبا.»

في عودة قاسية ومباغتة إلى الخلف، تتلاقى صيحة الإنذار هذه مع غضب أنصار النزعة الإنسانية الخيرية؛ حيث نستعيد شناعة الأغلال التي لم تختفِ على الرغم من البادرة التي قام بها بينيل: «كانت السلاسل قيد الاستخدام تقريبًا في كل مكان»، ويرجع السبب في ذلك، من بين أمور أخرى، إلى «أن استخدام قميص التقييد كان مكلفًا.» «كان المرضى يُوثَقُونَ بأطواق حديدية، وأحزمة حديدية، وقيود حديدية حول القدمين واليدين. في إحدى المدن التي أخشى ذكر اسمها، قُيِّد المصابون بالهياج بطوق حديدي موصول بسلسلة طويلة طولها قدم ونصف، مثبتة بدورها إلى وسط الأرضية، وقد أكدوا لي أن تلك هي الوسيلة الأكثر أمانًا لتهدئة المهتاج. في تولوز، وفي قاعة مسقوفة تضم نحو عشرين سريرًا، عُلِّقت إلى الجدران وفوق كل سرير سلسلة تحمل حزامًا من حديد؛ حيث كان المرضى عقليًّا يُربطون في الحزام الحديدي، عند صعودهم إلى أسرَّتهم، فيتم تقييدهم أثناء الليل.» يتجسد بامتياز نموذج المريض عقليًّا المكبل بالأغلال في شخص نوريس، في بدلام، الذي انتشرت صوره في أماكن كثيرة في أوروبا، والذي وجدناه ماثلًا في تلك اللوحة التي نقشها تارديو، ووردت في «أطلس اللوحات» المرفق بكتاب «الأمراض العقلية …» يصف إسكيرولُ نوريسَ على النحو التالي: «تمت السيطرة على هذا البائس بوضع أطواق حول رقبته ورجليه، وقُيِّد جِذْعُه بحزام حديدي أوثِقَت إليه اليدان. وكان الطوق والحزام ينزلقان، بواسطة حلقة ملحومة بسلسلة طولها عشر بوصات، على طول قضيب حديدي مثبت عموديًّا إلى السقف والأرضية. لم يكن هذا المسكين يستطيع التمدد على سريره وعاش هكذا طيلة تسعة أعوام.»

قلة قليلة فقط من الدور لم ينصبَّ عليها غضب إسكيرول، باستثناء ثماني مؤسسات متخصصة؛ ذلك أنها كانت تستقبل حصريًّا مرضى عقليًّا (أرمنتيير، وأفينيون، وبوردو، وشارنتون، وليل، ومارسيليا، وماريفيل بالقرب من نانسي، وسان ميان بالقرب من رين)، وأيضًا لأن «تلك المؤسسات تُعَد، على حالتها هذه، أفضل من دور أخرى سأتحدث عنها فيما بعد» (ومع ذلك، أشار إسكيرول إلى المختلين عقليًّا والمصابين بالهياج في مؤسستي ماريفيل وأرمنتيير، الذين كان يجري احتجازهم في سراديب). في الطبعة الصادرة عام ١٨٣٨، حَدَّث إسكيرول البيان الصارم الذي أصدره قبل عشرين عامًا وأضاف إليه مزيدًا من التفاصيل. مما لا شك فيه أن الصورة باتت تبدو أقل قتامة، ولكن تظل هناك حاجة لإجراء تطويرٍ شبه شامل، ولا سيما في المصحة وفقًا لتصور إسكيرول: «مشفى المجانين هو أداة للشفاء، بين يدي طبيب ماهر، وهو يمثِّل العامل العلاجي الأشد تأثيرًا في مقاومة الأمراض العقلية.» بيْد أن هذا التصريح النظري، الذي تم الاستشهاد به مرارًا واعتباره بمنزلة بيان تأسيسي للطب النفسي المؤسسي، لا يُعد مُجدِّدًا إلى هذا الحد. فعلينا أن نتذكر في الواقع أن تونون قد عبر عن المعنى نفسه، منذ عام ١٧٨٨ (حين قال: إن مشافي المجانين «تقوم بذاتها بوظيفة العلاج»)، مرددًا من جانبه ما سبق أن ورد في «تعليمات» ١٧٨٥ بشأن «كيفية التحكم في المختلين عقليًّا».

كيف تصبح المصحة في حد ذاتها «أداة للشفاء»؟ وكيف يستعيد العلاج المعنوي مكانته في ظل هذه المسلَّمة المدهشة مبدئيًّا؟ يشدد إسكيرول دائمًا على مبدأ العزلة، وهو مبدأ مركزي في رأيه، بل لقد خصص له بحثًا قرأه في المعهد عام ١٨٣٢. «عزل المرضى عقليًّا [بمعنى حجزهم] يقوم على إنقاذ المختل عقليًّا من جميع عاداته وحمايته منها؛ بإبعاده عن الأماكن التي يسكن فيها، وبفصله عن عائلته وأصدقائه وخدامه، وبإحاطته بغرباء، وبتغيير نمط حياته بالكامل. يهدف العزل إلى تغيير الاتجاه المنحرف للذكاء ولعواطف المرضى عقليًّا: تلك هي الوسيلة الأكثر فعالية، وعادة الأكثر فائدة، لمكافحة الأمراض العقلية.» وللقيام بذلك، أين نجد مكانًا أفضل من المصحة، تلك المصحة المؤسسية الجديدة التي ستساهم — بمظاهرها اليومية — في تحقيق هذا الهدف العلاجي؟

سيترك المريض عقليًّا مجتمعًا مُمْرِضًا ليلتحق بمجتمع نموذجي، حكيم، منظم وقادر على محو الجنون. لقد أرادت الثورة تغيير الإنسان، أما المصحة فتغير المجنون. كما كتب جوشيه وسواين،8 «المريض عقليًّا يمثل الإنسان الذي ينبغي تغييره» ببراعة، وهكذا تصبح المصحة بمنزلة مختبر سياسي. يجري روبرت أوين — وهو مُصلِح اجتماعي واشتراكي بريطاني — هذه المقاربة قائلًا: يتعين أن نحكم المجتمع (المريض) بقوانينه غير الرشيدة، ونعالجه بالطريقة نفسها التي يعالج بها الطبيب المرضى عقليًّا ويحكمهم (في المشافي الأفضل من حيث التنظيم) («الثورة في عقل الجنس البشري وممارسته»، ١٨٤٩).9 كتب آرشامبو — رئيس أطباء مشفى ماريفيل — في عام ١٨٤٢: «لترتيب فِكَر المرضى عقليًّا، لا بد من زرع النظام والترتيب حولهم.»

العزلة والنظام … قاعدتان ارتكزت عليهما معالجة المريض عقليًّا حتى ظهور هذه الجملة التي كتبها بوشيه، تلميذ إسكيرول المقرب، في «الحَوْلِيَّة الطبية النفسية» الصادرة عام ١٨٤٩، بشأن «العمل المفروض على المرضى عقليًّا»: «يجب أن تختفي الفردية الاجتماعية لتذوب في الحياة المشتركة […] أي أنْ تُطَبَّق نفس مبادئ الشيوعية على النظام الذي يخضع له المرضى عقليًّا. ففي أغلب الأحيان، لا يكون المرض إلا نتيجة للفردانية المفرطة؛ ولذا يكمن علاجه في الاتجاه المعاكس.»

ومن ثم، أصبح المريض عقليًّا جزءًا من كلٍّ أكثر من كونه فردًا مستقلًّا بذاته. ومن هذا المنطلق، أصبح العلاج المعنوي كما يُعَرِّفه إسكيرول، من الآن فصاعدًا، مختلفًا عن ذلك العلاج الذي تصوره في أطروحته بعنوان «الأهواء» … وبشكل أقل من أي وقت مضى، لم تعد مسألة الحوار مع المختل قائمة: «لقد ظننا أن العلاج المعنوي المطبَّق على المصابين بالهوس يقتضي التفكير بعقلانية، والتحاجج معهم: هذا وهم؛ فالمهووسون لا يستطيعون السيطرة على انتباههم بما يكفي ليتمكنوا من الإصغاء ومتابعة الاستدلالات المنطقية التي نعرضها عليهم.» لقد رأينا من قبل أن هذا القيد كان قد بدأ بالفعل في أطروحة ١٨٠٥، ولكنه سيبلغ من الآن فصاعدًا ذروته: «لا بد من أن يمتلك المرء شيئًا من المهارة العقلية وخبرة كبيرة ليستطيع فهم الفروق الدقيقة اللانهائية التي يطرحها تطبيق العلاج المعنوي، وتحديد مدى ملاءمة هذا التطبيق. ففي بعض الأحيان، يتعين اللجوء إلى التضليل في مراحل الشفاء الأكثر استعصاءً من أجل التغلب عليها، وذلك من خلال الإيحاء إلى المرضى بعاطفة أشد من تلك التي تسيطر على عقلهم، واستبدال خوف حقيقي بخوف وهمي. وفي أحيان أخرى، ينبغي كسب ثقة المرضى، وتقوية شجاعتهم الواهنة، عن طريق بث الأمل في قلوبهم. لا بد من تطبيق الطريقة التي تُحدِث اضطرابًا، ومقاومة التشنج بالتشنج، وإحداث هزات معنوية من شأنها تبديد السُّحب التي تغطي الذكاء، وتمزيق الحجاب الذي يفصل بين العالم الخارجي والإنسان، وكسر السلسلة المفرغة للأفكار، ووضع حد لعادة التداعيات السيئة وتدمير ثباتها المحبط، وإبطال السحر الذي يُبقي كل القوى الفاعلة للمريض عقليًّا في حالة تعطل.» باختصار، «يدخل في نطاق العلاج المعنوي كل ما يمكن أن يؤثر على الدماغ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ويغير إنساننا المفكر، وكل ما من شأنه السيطرة على الأهواء وتوجيهها.»

في هذا الصدد، يشير إسكيرول، مثل بينيل، إلى الترهيب والتخويف، ولكن ذلك الخوف المعتدل الذي يخفِّف من شدته، إذا جاز التعبير، اللطفُ. «بالرغم من أن هؤلاء المرضى وقحون ومتهورون، فإنه يسهل ترويعهم. للخوف سلطان كبير عليهم، لدرجة أنهم يصبحون خجولين ومرتجفين وخاضعين أمام الأشخاص الذين يعرفون كيف يسيطرون عليهم […] ولكن يجب ألا يصلَ هذا الشعور إلى حد الرعب.» يتابع إسكيرول قائلًا إن قلةً قليلة شفيت. ينبغي استعمال الخوف، على أنه أيضًا «أداة للشفاء»، بحكمة ومهارة، ومن هنا تتجلى أهمية توافر «صفات معينة جسدية، وفكرية وأخلاقية» في مَن يقتربون من المرضى ويقومون برعايتهم وعلاجهم. وهكذا قد تُساهم «الهزات المعنوية والانفعالات القوية وغير المتوقعة» في شفاء المصابين بالهوس. «إذا كان القمع ضروريًّا، فلتمارسوه من دون احتداد، أو وحشية، وإلا فلن يرى مريض الهوس في سلوككم إلا الغضب.» ويضيف إسكيرول أن الطبيب يجب ألا يقوم بزرع الخوف مباشرة في نفس المريض، وإنما يتولى مساعدوه ذلك؛ إذ يجب أن يظل هو «مُوَاسيًا» بحيث يجمع بين الطيبة والحزم ويكون محط احترام وتقدير المرضى.

ها هي مريضة بالهوس (من جراء مآسي الثورة) متعجرفة للغاية ومستعدة دائمًا لضرب الآخرين. يكفي إلباسها مرتين قميصَ التقييد «لمدة ساعة واحدة فقط وإشعارها بما تنطوي عليه مثل هذه المعالجة من مهانة ومذلة.» وكما هي الحال عند بينيل، يُعد الماء البارد «عاملًا علاجيًّا فعالًا»؛ إذ إن له «مفعولًا جسديًّا» و«تأثيرًا معنويًّا» في الوقت ذاته «باعتباره وسيلة قمع». «معظم المرضى في طور النقاهة يقولون بشكل عام إنهم شهدوا تحسنًا بعد استعمال الماء البارد. بل إن بعض المصابين بالهوس يطلبونه، ولكن يجب عدم الإفراط في استخدامه.»

كان هذا النوع من العلاج المعنوي الجماعي قد أصبح بالفعل ضرورة حتمية في المصحات الكبرى، التي جعلت من المستحيل «فعليًّا» تطبيق أي نوع من العلاج الفردي. وأصبح إسكيرول مؤيدًا لهذا الأسلوب العلاجي، ولا سيما بعد استقراره في شارنتون. فبينما كان يريد فيما مضى «تحديد الحجم الأمثل للمؤسسات على أساس إمكانية عيش الطبيب داخلها وسط المجانين وبقائه على مقربة منهم»، ها هو قد أصبح «نموذجًا أوليًّا للطبيب العقلي الذي يعرف ويوجِّه عن بعد، ولا يتعامل مع المرضى، في الحالة القصوى، إلا عبر أجهزة المؤسسة التي ينظمها ويديرها ويسيطر على كل شبر فيها.»10 وهكذا وُلِدَت مع إسكيرول شخصية طبيب الأمراض العقلية، الذي يضطلع في الوقت ذاته بدور المدير الإداري، والطبيب، وكبير المشرفين.
وهكذا بدأت تتضح معالم المؤسسة العلاجية، على الرغم من أنها لم تكن قد نشأت بعد؛ حيث سيتعلم المريض تدريجيًّا، بعد أن انتُزِع من دائرة الوحدة التي يفرضها عليه جنونه، كيف يندمج من جديد وسط الآخرين داخل المصحة. ولكن أيُّ آخرين؟ إن مجتمع المصحة ليس مثل المجتمع باختصار. أما عن قابلية الجنون للشفاء، فإن الآمال العريضة التي رسمها بينيل وإسكيرول في تصورهما المبدئي، قبل عام ١٨١٠، تبددت ليحل محلها صمتٌ حذِرٌ. وهنا تتجلَّى قمة التناقض بين «الانقسام البينيلي» و«تجسيده المؤسسي»؛11 حيث اصطدمت قابلية الشفاء النظرية بقابلية الشفاء الفعلية. في عام ١٨١٦، وفي أحد التقارير الختامية، أشار بينيل، الذي كان قد ذكر قبل عدة أعوام مضت أن هناك حالة شفاء واحدة من بين كل حالتي دخول إلى مشفى سالبيتريير، إلى «خطورة حالات الخلل العقلي وتواترها الفريد وعدم قابليتها للشفاء على الإطلاق.» أما إسكيرول، فلم يتطرق إلى هذا الموضوع إلا فيما يخص شارنتون، التي أقر بأن نِسب الشفاء فيها مقابل حالات الدخول بلغت ١ إلى ٣ في الفترة من ١٨٢٦ إلى ١٨٣٣. وإذا استبعدنا من حسابنا مرضى الشلل العام والبُلَهاء والمصابين بالصرع — أي الميئوس من شفائهم — سنجد أن النسبة تبلغ ١ إلى ٢٫٣٣، وفيما يتعلق بالإحصائيات الإطرائية المقدمة في صورة جداول لا تشوبها شائبة يُعد إسكيرول، هنا أيضًا، رائدًا. فضلًا عن ذلك، أَنَّبَ إسكيرول زملاءه الذين «يحتقرون الإحصاء؛ لأن الناس يسيئون استعماله» (بالفعل؟) أما عن أولئك الذين يتذرعون بعدم دقته — يضيف إسكيرول على نحو غامض — فهُم ينسَوْن أن طبيب الأمراض العقلية، الذي يُعتبَر بحكم التعريف فوق الشبهات، يتعين أن يكون أيضًا خبيرًا إحصائيًّا.

التحول النهائي للعلاج المعنوي

في عام ١٨٢٨، شرع بيتر سولومون تاونسند — طبيب من نيويورك — مثل العديد من زملائه في زيارة المشافي الباريسية، وخاصة مشافي المجانين. وفي هذا النصف الأول من القرن التاسع عشر، أصبحت باريس قِبلة الطب. وقد كتب تاونسند، وكان يبلغ من العمر آنذاك ٣٢ عامًا، تحقيقًا صحفيًّا مُفَصَّلًا للغاية ونابضًا بالحيوية عن هذا التحول.12 حين وصل إلى مدينة لُو هافر في الرابع والعشرين من ديسمبر ١٨٢٧، ذهب على الفور لزيارة المشفى الرئيس بالمدينة. لم يكن القسم الخاص بالمختلين عقليًّا يؤوي إلا اثنين من المصابين بالهوس. كانت غرفتاهما مريحتين ولكن أحدهما كان مقيدًا «قليلًا». في الواقع، لم يكن المجانين يُترَكون هناك إلا بصفة مؤقتة ريثما يُنقَلون إلى مشفى الأمراض العقلية بروان، التي زارها مسافرنا، وهو في طريقه إلى باريس. ولقد التقى أولًا بالطبيب فلوبير (والد جوستاف) — وهو طبيب مشهور كان يشغل منصب رئيس الجراحين بالمشفى الرئيس — قبل ذهابه إلى مشفى المجانين بسان يون، الذي كان يديره في ذلك الوقت الطبيب فوفيل، والذي كان يحتجز ٢٥٠ مختلًّا عقليًّا (ولكنه يمكن أن يسع حتى ٤٠٠). بدا كل شيء في نظر تاونسند مثاليًّا ربما باستثناء الغرف (الحجيرات) التي وجدها ضيقة للغاية. ولقد كانت الحمامات شائعة هناك أيضًا؛ حيث كان المرضى عقليًّا يستلقون لمدة ساعتين في الماء الساخن، بينما يظل كيس من الثلج زنة أربعة أرطال موضوعًا على رءوسهم باستمرار طوال فترة الحمام. ولقد صرح الدكتور تاونسند بأنه كان شاهدًا بنفسه على «التأثير المهدئ» لهذا الأسلوب العلاجي. وكانت وسيلة الردع المستخدمة في هذه المصحة عبارة عن أنبوبِ رَشٍّ قويٍّ يجري تسليطه على أي مريض عقليًّا معاند. وأبدى تاونسند ملحوظة مخيبة للآمال مفادها أن هذه الوسيلة تُعَد طريقة غريبة للغاية لضبط الأهواء والمشاعر، حتى ولو كانت متبعة أيضًا في إنجلترا وفي الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة.
ولكن ها هو طبيبنا الأمريكي في باريس يزور المشافي الكبرى، والسوربون والمسارح. ويتابع زيارات كلٍّ من دوبويتران إلى مشفى باريس الرئيس وبروسيه إلى فال دو جراس. في الخامس من مارس، ها هو في مشفى سالبيتريير منذ السابعة صباحًا. هدفه الأساسي مقابلة باريزيه، خليفة بينيل، الذي يتولى مسئولية ٨٠٠ مريض عقليًّا من بين الستة الآلاف مريض المقيمين بالمشفى. بدت له القطاعات المختلفة بالمشفى مُجهزة جيدًا، بيد أن التدفئة لم تكن كافية. وهنا أيضًا، بدا دُشُّ العقاب بالنسبة إليه موضع شك، ولكن لحسن الحظ كان يستعاض عن هذا الإجراء في بعض الأحيان بالاستخدام الحديث لسترة المجانين المصنوعة من القماش المتين، التي تقيد الذراعين من دون إعاقة حرية الحركة والتنقل. وفي الرابع والعشرين من شهر مارس، قام بزيارة جديدة إلى المشفى، وكان لا يزال برفقة باريزيه، الذي ربطته به علاقة صداقة؛ إذ كان هذا الأخير يصطحبه معه في حفلات العشاء الباريسية التي يحضرها. ونتيجة لذلك، أخذ تاونسند يجزل الثناء على الخدمة المقدمة للمرضى عقليًّا ويشيد بالطريقة التي استطاع بها باريزيه أن يحمل الشعلة التي أضاءها بينيل. فما من قيود، وهناك تغذية جيدة، وملبس جيد، وتدفئة جيدة (؟) أما عن وسائل الإخضاع، فلم يتبقَّ منها إلا «تلك السترة الرائعة المسماة قميص التقييد» (ولقد ذكر هذه الكلمة الأخيرة camisole باللغة الفرنسية في النص). ولم يشِر على الإطلاق إلى أي علاج معنوي.

وهكذا لم يبقَ على خلفاء إسكيرول المباشرين إلا توجيهُ الضربة القاضية لهذا العلاج المعنوي المتلون الشبيه بالحرباء، والذي كان في النزع الأخير. أوضح جورجيه أن العلاج المعنوي ينحصر في اتجاهين هما: الاتجاه السلبي الجماعي عبر العَزل في المصحة، والاتجاه النشط الفردي (المتمثل في «التعليم الطبي» المباشر للمريض)، وهو الاتجاه الذي يفضله. بيد أن جورجيه يشدد، بعد إسكيرول، على ضرورة وجود سلطة طبية مطلقة، لكونها تشكل مبدأ أساسيًّا في العلاج المعنوي. «يجب أن يكون التحكم بالمجانين مطلقًا. ويجب أن يرجع القرار النهائي في جميع المسائل إلى الطبيب […] فإذا كانت هناك أكثر من جهة تتنافس على السلطة وتتنازع على النفوذ، فلن يحدث توافق إلا نادرًا؛ مما سيجعل المناخ مُهيَّأً لاندلاع عصيان من جانب طرف أو آخر.»

ولكن فرانسوا لوريه (١٧٩٧–١٨٥١) — وهو أيضًا تلميذ لإسكيرول، وكان يشغل منصب كبير الأطباء بمشفى بيستر منذ عام ١٨٣٦ — هو الذي دفع العلاج المعنوي إلى أقصى حدود المنطق. يفسر لوريه ذلك في كتابه «العلاج المعنوي للجنون» (١٨٤٠) قائلًا: «أقصد بالعلاج المعنوي للجنون، الاستخدام المعتدل لجميع الوسائل التي تؤثر مباشرة على عقل وعواطف المرضى عقليًّا […] لقد دأبت على جعل الفِكَر غير العقلانية شاقة ومضنية، لكي يبذل المريض جهدًا فيطردها، وحرصت دائمًا على طرح فِكَر أخرى، متوافقة مع المنطق والتفكير السليم، وعملت على إضفاء طابع من الجاذبية والمتعة عليها.» يجب أن يكون العلاج المعنوي «بالغ التأثير؛ لأن المرضى عقليًّا معرضون للوقوع في الخطأ.» ولكن، ما المقصود ﺑ «بالغ التأثير»؟ في عام ١٨٣٧، لم يكن عمر الدكتور بليني إيرل — وهو طبيب أمراض عقلية من نيويورك — يتجاوز الثامنة والعشرين حين شرع في القيام بجولة تثقيفية في أوروبا لزيارة مشافي المجانين الرئيسة. في ربيع ١٨٣٨، ذهب إلى باريس وزار مشفى بيستر تحت قيادة الطبيب لوريه. «لقد أراني القاعة المخصصة للحمامات، وشرح لي كيف تُستَخدَم لفرض نظام عقلي وأخلاقي وجدته مضرًّا [مؤذيًا].» حيث كان يُوضَع المرضى عقليًّا في مغاطس يغطيها لوح لا يظهر منه إلا الرأس. وعند صدور الأمر من الطبيب، يندفع تيار قوي من الماء المثلج ليتدفق على رأس المريض. يَدَّعي أحد هؤلاء المرضى أنه زوج دوقة بيري. في اليوم السابق، أَذِنَّا له بالكتابة، بشرط ألا يأتي على ذكر «سخافاته المعتادة»، وهو ما فعله على أي حال. أمسك دكتور لوريه بالخطاب موضوع الخلاف في يده وسأل المريض عقليًّا عما إذا كان لا يزال يصدق هذه الترهات. «نعم، سيدي» (وردَ هذا الردُّ باللغة الفرنسية في النص). «أعطوه إذن حمامًا»، هكذا أمر الطبيب. «أخذ المريض يصرخ ويتلوى متوسلًا لكي نتوقف، وبالفعل توقفنا، وسألناه عما إذا كان لا يزال يصدق أنه الصديق الحميم لشارل العاشر، «نعم، أنا هو بالفعل»، إذن «أعطوه حمامًا».» وأخذ المشهد يتكرر بحذافيره لمدة نصف ساعة، حتى اقتنع المريض عقليًّا بأن الإجابة الصحيحة هي «كلَّا»، بالتأكيد، فهو ليس زوج دوقة بيري كما أنه لا يعرف شارل العاشر. واتُّبِعَ النهج نفسه مع مريض عقليًّا آخر لم يكن يريد أن يعمل. وهذه المرة، دش واحد كان كافيًا، بعده صاح المريض قائلًا: «أريد أن أعمل! أريد أن أعمل!» صُدِم الطبيب الأمريكي من هذه الطريقة المتبعة، التي وجد أنها ليست أفضل من استخدام القيود، التي حرر منها بينيل المرضى عقليًّا.13

لقد سبق أن رأينا إسكيرول وبينيل يستخدمان الدش كوسيلة عقابية، ولكن لوريه هو الذي سينصب عليه غضب المجتمع الطبي. فسيؤخذ عليه قسوته إزاء المرضى عقليًّا، و«أسلوب الترهيب الذي يتبعه في التعامل معهم […] والذي ينتزع به من المريض — إذا جاز التعبير — طاقة وقوة جبارة، وإنكارًا قسريًّا لأفكاره» (لجنة الأكاديمية المَلَكية للطب، ١٨٣٨). وسيستاء الناس على وجه الخصوص من قيامه بسرد تجاربه بصراحة ممزوجة بتهكم لاذع وبسخرية مؤلمة. «مَن لا يعلم ما هو الدش؟ كل مَن يستحم في البحر لا بد من أن يكون قد اغتسل بالرشاش ومرر الدش فوق رأسه. إنه لَأمر بالغ التأثير، ومن الصعب تحمله. ولكن، إذا كنا لا نخشى التعرض له عند الاستحمام في البحر، حيث نذهب عادة للشفاء من مرض أقل خطورة، فلِم لا نقبل التعرض له إذا كان الأمر يتعلق باستعادة العقل؟ لقد كان الدش بالكاد مؤلمًا قبل أن يدخل في نطاق العلاج المعنوي، ولم يتحول إلى وسيلة تعذيب وحشية إلا مؤخرًا، وفي الكتابات التي نُشِرت ضدي. ولقد سبق أن استخدمه بنجاح كلٌّ من بينيل وإسكيرول — حتى لا نتحدث إلا عن الموتى — ونجده في جميع مؤسسات المرضى عقليًّا سواء العامة أو الخاصة التي أنشئت وفقًا لأفكار هذين العالمين الاختصاصيين في الطب النفسي. وهكذا فإن ما استعنتُ به، سبق أن استعان به أسلافي.» علاوة على ذلك، أراد لوريه «تقييم الآثار المترتبة على استخدام الدش»، فجرَّبَه على نفسه وكذلك على مساعديه. «إن الدش يجمد الدماغ ويعيق التنفس. ومع ذلك، استطعنا جميعًا تحمله لعدة ثوانٍ.»

وأخيرًا، أَأَلقينا باللوم على لوريه لقيامه بالوشاية؟ ألم يحسب أن المريض عقليًّا بإمكانه الاجتماع برئيس الأطباء لمدة تتراوح، تبعًا لحجم المؤسسة، ما بين ١٨ و٣٧ دقيقة سنويًّا؟ فكيف يمكن إذن، في ظل هذه الظروف، ادعاء تطبيق علاج معنوي فردي؟ لقد اتهمناه على أي حال بأنه يريد «تجريد بينيل من واحد من أعظم إنجازاته العلمية» (د. بلانش، «خطورة القسوة البدنية في معالجة الجنون»، ١٨٣٩). بيد أن لوريه يدافع عن نفسه قائلًا: «لقد اعتقد الناس، أو تظاهروا بالاعتقاد بأن العلاج المعنوي يتمثل بالنسبة إليَّ في التعامل بقسوة وهمجية، وشن هجوم عنيف على مشاعر وأهواء المختلين عقليًّا، وإخضاع هؤلاء المرضى لنُظُم جسدية صارمة؛ أي باختصار اتباع أسلوب الترهيب والترويع.» كلا، يجيب لوريه. يشكل الألم، في حقيقة الأمر، جزءًا من المعالجة، ولكن ليس دائمًا وليس مع جميع المرضى. «تكمن فائدة الألم بالنسبة إلى المرضى عقليًّا، كما في المسار الطبيعي للحياة، في التعليم.» «فبين الأطفال والمرضى عقليًّا، هناك العديد من أوجه التشابه.»

قبل ذلك بستة أعوام، كتب لوريه في مُؤَلَّفه «شظايا سيكولوجية حول الجنون» (١٨٣٤) ما يلي: «لا تستخدموا أساليب المواساة والتعزية؛ لأنها غير مجدية. لا تلجَئوا إلى الاستدلالات المنطقية؛ لأنها غير مقنعة. لا تُظهروا حزنًا عند التعامل مع المصابين بالسوداوية؛ لأن حزنكم سيؤجج حزنهم. ولا تشِيعوا جوًّا من المرح والسعادة؛ لأن ذلك سيجرحهم. وتحلُّوا بقدر كبير من الثبات ورباطة الجأش، بل والصرامة، عند الضرورة. ولْتكنْ حكمتكم نموذجًا لهم في السلوك. ما زال هناك وتر واحد يهتز لديهم، وهو وتَر الألم، فليكن لديكم ما يكفي من الشجاعة للمسه.»

أيتعلق الأمر بانحراف العلاج المعنوي أم ببلوغه أقصى حدود المنطق؟ كما يوضح جاك بوستيل،14 إن زوال التَّكَيُّف الاسْتِفْزازي الذي مارسه لوريه جعل منه رائدًا معترفًا به في مجال أساليب المعالجة السلوكية الأنجلوساكسونية (العلاج السلوكي). ولكن، ما جلب عليه في الواقع العداء الصريح الذي أعلنه أطباء الأمراض العقلية في عصره، بقيادة مورو دي تور، زميله في بيستر، «هو أن، العلاج المعنوي الذي نادى به لوريه، كان يندرج، على الرغم من تجاوزاته، في إطار علاقة سببية نفسية مرتبطة بالمرض العقلي، ويتعارض بالتالي مع خطاب طِبِّ النَّفْسِ والأَعْصاب المتعلق بالنظرية العضوية، والذي كان بصدد غزو مجال الطب النفسي. ولم يكن بإمكانه أن يفعل ذلك، للأسف، إلا من خلال إعادة تجسيد علاقة العنف المتطرف، بصورة صريحة وواضحة بين الطبيب النفسي والمجنون، والتي سيحاول الخطاب الرسمي الجديد إخفاءها بعناية تحت ستار الحيادية «العلمية» الظاهرية للموقف التشريحي-الإكلينيكي. بطريقة ما، حجة «النزعة الإنسانية الخيرية» أخلت الساحة لحجة «النزعة العلمية الطبية»، وبقي لوريه وحيدًا بين هاتين الحجتين.»15
وهكذا لن يتبقى على الساحة إلا شارل لازيج (١٨١٦–١٨٨٣) — فيلسوف ثم طبيب — لمعارضة النظرية العضوية النفسية والإبقاء على مسار العلاج المعنوي. ولقد أقر بالفعالية المحدودة للعلاج الجماعي (الذي أطلق عليه اسمًا جذابًا وهو العلاج «الإداري»)، واعتزم أن يعيد إلى «العلاج الفردي» النشط قيمته ومكانته العلاجية. فيجب عدم «إزالة الداء مثلما يفعل مبضع الجراح» (وفي هذا إشارة إلى لوريه)، بل ينبغي العثور داخل المريض نفسه على «مبدأ الشفاء».16 على طرفي نقيض من الحمى التصنيفية التي اجتاحت عصره (وهي التي سنتوقف عندها لاحقًا)، يرى لازيج أن ما يُعد بالأحرى أكثر أهمية الآن، بدلًا من التنويع اللانهائي للجنون، هو الانشغال ﺑ «درجة العقل» لدى المرضى عقليًّا من خلال تصنيفهم «بحسب نسبة العقل الإجمالية الثابتة.» ولقد طرح للمناقشة أيضًا مسألة شخصية الطبيب نفسه، التي يثير تنوعها، في رأيه، مشاكل متعددة باختلاف المرضى. أهي معرفة مسبقة بنقلة عكسية انفلت زمامها لدى لوريه؟ «من المؤكد أنه كان على الطريق الصحيح»، هكذا يختتم جاك بوستيل كلامه مذكرًا بأن لازيج — بتوجيه مسيرته المهنية نحو الطب الشرعي (سيشغل لمدة ٢٣ عامًا منصب «طبيب الأمراض العقلية بقسم الشرطة»، «المشفى الخاص» المستقبلي) — لم تكن أمامه فرصة كبيرة لانتهاج سبيل المعالجة النفسية، الذي كان قد تنبأ به جيدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤