الفصل الخامس

البوتقة النظرية في عصر اليقين

ربما نستطيع أن نفهم منذ الآن أن التفكير النظري — في فرنسا — أصبح في جميع الأحوال منفصلًا أكثر فأكثر عن المؤسسة العلاجية وعن ممارسة الطب العقلي. ففي فرنسا على وجه الخصوص — على عكس ألمانيا مثلًا — كان البحث الإكلينيكي متمركزًا في العاصمة بشكل كبير، بل وفي سانت آن على وجه التحديد حيث عُيِّن أفضل أطباء الأمراض العقلية، ولم يكن يتم الإبقاء إلا على «أفضل» المرضى (كان المرضى الميئوس من شفائهم يُنقلون إلى الأحياء المتاخمة أو إلى سجون الأقاليم).

واستطاع الطب النفسي، بعد أن تحرر من الفكرة التي كانت هي أساس تكوينه (كون المستشفى أداة للشفاء)، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ أن يستعيد قوته وأن يؤكد — بشكل ما — يقينيات جديدة عن طريق مضاعفة التصنيفات (التي هي عمليًّا واحدة) وتعميق المفاهيم القديمة مثل الصرع والهستيريا، وخلق كيانات جديدة: الشلل العام (الذي بدأ تمييزه منذ مطلع القرن التاسع عشر) والانحطاط العقلي، والعصاب، والذهان على وجه التحديد. وعن طريق وضع تشخيص، كان الطبيب النفسي «يزيل بضربة واحدة مصدرين للقلق: الطابع المجهول للجنون والعلاقة مع المريض؛ لأنه بمجرد تسميته، يصبح المرض شيئًا مألوفًا مستقلًّا بذاته يدخل معه الطبيب مباشرة في علاقة، دون الحاجة إلى المريض.»1

الشلل العام

سبق أن رأينا كيف جعل مؤيدو فكرة الأصل العضوي للأمراض العقلية — وهم أغلبية — من نظرية بايل حول «الشلل الجنوني» أو «الشلل العام» الحجةَ التي يرجعون إليها دائمًا. ومنذ ذلك الحين اتخذ الشلل العام «وضعًا ملحميًّا» (جي لانتري لورا) في تاريخ الأمراض العقلية، وأصبح هو «نقطة الانطلاق التاريخية لضم علم الأعصاب لمجال الجنون».2 يتفق الجميع على خصوصية الوهن العصبي المصاحب «للشلل العام التدريجي» الذي يملأ المشافي بالمرضى من الرجال بين خمسة وأربعين وستين عامًا. وتتميز المرحلة الأولى من المرض بأفكار الثراء والعظمة، وأيضًا بنوع من فوضى الأفعال يصاحبها نوبات غضب واضطراب في الكلام ومشاكل في الحركة وعدم تكافؤ في حدقة العين، والمرحلة الثانية بتفاقم التدهور البدني والفكري، يصاحبها عادة نوع من الخرف ونوبات صرع؛ مما يؤدي إلى الموت خلال شهور. فها هو على سبيل المثال رجل يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا محتجز عام ١٨٨٧: «المريض مصاب بالشلل العام، وأيضًا بهذيان مستمر وغير مترابط تدور أفكاره كلها حول البذخ والعظمة والثراء وملايين الأطفال … إلخ. تعاني حركته من خلل، وكلامه من نوع من التردد، فيختلج لسانه ولا يمكنه البقاء داخل فمه، وتظهر على عضلات الوجه الأعراض نفسها من الارتعاش كلما هم المريض بالتكلم. فقدت يداه مهارتهما، واتسمت خطواته بعدم الثبات. ويعاني من نوم قليل وحالات هياج مستمرة.» وهناك أيضًا هذا المريض ذو السبعة والثلاثين عامًا، والمحتجز في المستشفى منذ عام ١٩٠٩: «يعاني من جنون تام وخرف وعبارات مضطربة وعدم تساوي حدقتي العينين، كان يسير نصف عارٍ ويسقط منه بنطاله مفكوك الأزرار، كان قذرًا غير واعٍ بما يدور حوله.»
في المقابل، لم يكن التصنيف العلمي «للشلل العام» معلومًا في البداية. فطالما دافع مانيان عن فكرة التسمم بالكحول كسبب مباشر ورئيس للمرض. إلا أنه منذ عام ١٨٥٧، كان كلٌّ من إيسمارخ ويسين أول من أكد أن مرض الزهري هو سبب الإصابة بالشلل العام. وعلى الرغم من دعم الكثير من الباحثين لهذه النظرية في الأعوام التالية، لم تستطع أن تفرض وجودها، ثم جاءت نظرية «الشلل العام الخاطئ»، والذي لا يسببه الزهري، لتقضي عليها (أيضًا لازيج، عام ١٨٨٤). في عام ١٨٧٩، عكفت أعمال ألفريد فورنييه3 على تدمير هذا التمييز الخاطئ، عن طريق إثارة الشكوك طويلًا لدى أطباء النفس والأعصاب. وهكذا، وفي عام ١٨٨٨ بسانت آن، لم يرد أن يناظر إلا أربع حالات مؤكدة من الزهري وخمسًا مشكوكًا فيها من أصل مائة حالة إصابة بالشلل العام. وفي عام ١٩٠٥، وضع أحد أهم خصومه، أليكس جوفروا — التلميذ القديم لفورنييه — هذه الصيغة العجيبة: «أعرف جيدًا أن الشلل العام يصيب مرضى الزهري، ولكني لا أعترف بوجود شلل عام يسببه مرض الزهري.»4 ولكن، المادة الطفيلية المسببة للمرض كانت موجودة. وكان لا بد من الانتظار حتى عام ١٩٠٦ حين ظهر التحليل المَصْلي مع بورديه وفاسرمان، بل حتى عام ١٩١٣ مع اكتشاف طفيليات مرض الزهري في مخ المصابين بالشلل العام، حتى يتم إقرار الأصل المرتبط بالزهري للشلل العام. وأصبح بالفعل مرض التهاب السحايا المخية الذي يسببه الزهري الثلاثي.

نظرية الانحطاط العقلي

في منتصف القرن التاسع عشر، شهدت نظرية الانحطاط العقلي5 نجاحًا ساحقًا وممتدًا؛ لكونها تمثل أول محاولة لوضع تفسير عام للجنون. وكانت أعمال بنديكت أوجستين موريل6 (١٨٠٩–١٨٧٣) — كبير الأطباء بمشفى ماريفيل ثم مشفى سان يون — هي ما أعاد هذا المفهوم القديم إلى مجال الطب النفسي. ويقترح موريل تصنيفًا للأمراض العقلية يرتبط أكثر بالأسباب وليس بالأعراض، مشددًا على «العلاقات غير الطبيعية التي تقوم بين الذكاء وأداته المريضة؛ أي الجسد.» كان الأمر بالنسبة إليه عبارة عن تحول باثولوجي للإنسان الكامل كما خلقه الله، وتبدو الخطيئة الأولى هي السبب الأوَّلي للانحطاط العقلي. ما هي إذن أسباب «هذا الانحراف المرضي للنوع»؟ تكون هذه الأسباب تارة وراثية وتارة حتمية. تقود هذه الميول الأولية — البدنية أو المعنوية، الفردية أو العامة — عن طريق الوراثة إلى الجنون بمجرد ظهور سبب حتمي. ويضع موريل تصنيفًا للأمراض العقلية من فئتين: الأمراض العرضية ذات الطابع الإكلينيكي الحاسم، والأمراض البنيوية أو الوراثية. ويندرج تحت النوع الأول حالات الجنون بسبب التسمم: الجنون الهستيري، والصرع، وجنون الوسواس المرضي، والجنون السمبثاوي (المرتبط بهم)، والجنون مجهول السبب (الموجود بذاته دون أي أعراض أخرى). أما النوع الثاني — الأكثر عددًا وفقًا لتقسيم موريل — فيتكون من حالات الجنون الوراثي، الذي يقسمها إلى أربع مجموعات تبدأ من «المبالغة البسيطة في المزاج العصبي» وحتى الخرف التام.

في نهاية القرن العشرين، كان مانيان وتلاميذه يميزون — في تصنيفهم للأمراض العقلية — من ناحية بين الحالات المختلطة، مستخدمين في ذلك الطب النفسي وأيضًا الباثولوجي العام بسبب علاقاتهم العضوية، وبين الذهن من ناحية أخرى بدءًا من جنون المختلين. وإلى جانب البُله والمختلين عقليًّا التقليديين، ظهرت فئة جديدة من «المختلين» تتسم بالهذيان الفجائي (مفهوم «نوبة الهذيان» الجديد). أما بالنسبة إلى المرضى الذين لا تظهر عليهم علامات واضحة للانحطاط العقلي، فيجعلهم مرضهم الخفي أكثر استعدادًا للجنون المتقطع أو «للهذيان المزمن المنظم» (وهو هذيان منظم بعناية ذو نمط موحد).

كان لهذه النظريات أبلغ الأثر على الأفكار الجديدة حول العبقرية والجريمة وعلاقتهما بالجنون. رأينا أنه في القرن الخامس قبل الميلاد ميز أفلاطون وإمبيدوكليس بين نوعين من الجنون، أحدهما سيئ والآخر جيد مليء بالإلهام الإلهي. ولكن بالنسبة إلى مانيان ومن تبعوه، فإن العبقرية ليست سوى «نوع من الخلل الأسمى». ونجد هذا المفهوم في الأسطورة التي تأصلت بقوة في ذلك العصر واستمرت حتى قبيل الحرب العالمية الثانية، وتقول بوجود «زهري وراثي»7 يتسبب في تكوين أجنة مريضة (عاجزة عن التفكير)، وفي أحيان أخرى عباقرة. في نهاية القرن السادس عشر، اعتبر كتاب إسبان أن الزهري عدو الجسد، ولكنه في ذات الوقت صديق الروح. حتى إن ليون دوديه — الذي لا يعتقد في الطب ولا الأطباء، ويصف القرن التاسع عشر بالحماقة — أظهر حماسه للفكرة: «إن الميكروب المسبب للمرض الرهيب — الطفيلي — هو إذن المحرك للعبقرية والموهبة والبطولة والتعقل، مثلما يسبب في الناحية الأخرى الشلل العام والهزال وباقي أنواع الانحطاط العقلي تقريبًا. ولقد لعب هذا المرض الوراثي؛ الذي يكون أحيانًا مدعاة للنشاط والاستثارة، وأحيانًا أخرى سببًا للخمول والشلل، آكلًا ومستهلكًا خلايا النخاع والمخ، مسببًا الاحتقانات والهوس والنزيف والاكتشافات العظيمة وأيضًا التصلب؛ دورًا يشبه روح الموت في العصور القديمة، ولا سيما بسبب كثرة أنواع المرض، ولا يزال يلعبه وسيلعبه دائمًا. إنه تلك الشخصية الخفية الحاضرة التي تحرك الرومانتيكيين والمختلين ومضطربي الفكر ذوي الطابع الأسمى والثوريين وذوي السلوك الشجاع أو العنيف.»8 في الحقيقة، مع أفكار دوديه، يجب أيضًا أخذ عامل الاستفزاز في الاعتبار. ويعد زولا أهم «معتنقي» هذه النظرية، فنراه يعود إليها باستمرار خلال مجموعة روايته «عائلة الروجون ماكار» (الطبيب باسكال، ١٨٩٣). أما سيزار لمبروزو (١٨٣٦–١٩٠٩) — المسئول عن تدريس الباثولوجيا العقلية ببافي، والذي وضع إطارًا منظمًا لنظريات مانيان — فكتب: «إن عمالقة الفكر يدفعون بالأمراض العقلية والذهان ثمن قدراتهم الفكرية العظيمة.»9 ولقد اشتهر لمبروزو بسبب أعماله حول الإجرام وعلاقته بالانحطاط العقلي وحول مفهوم «الشخص المولود مجرمًا».10

أصبحت نظرية الانحطاط العقلي معتقدًا ثابتًا في فرنسا لمدة نصف قرن واستمرت في صورها المختلفة حتى قبل القرن العشرين. في ألمانيا، استُقبلت هذه النظرية بحماس (على يد جريزينجر وكرافت إبينج)، ولكن سرعان ما لاقت مقاومة شديدة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر (على يد كرابلين) بسبب شكليتها. ولم يمكنها إلا أن تشكل مصدرًا أكثر إلهامًا لعلم تحسين النسل في الولايات المتحدة، بقوانينه التي تحظر زواج مرضى الصرع ومدمني الخمور ومرضى الزهري. ولم تكن فرنسا بعيدة عن هذا الاتفاق الذي يهدف لحماية وتحسين «السلالة».

الصرع

منذ العصور القديمة، كان ولا يزال للصرع وضع خاص؛ فهو ليس مرضًا عقليًّا في حد ذاته (وإن كان هناك بعض الكتاب — وعلى رأسهم بينيل وكرابلين — يقولون العكس)، على الرغم من أن نوباته ترتبط كثيرًا باضطرابات نفسية مرضية خفية أو حادة، عرضية أو دائمة، ولا تزال طبيعة هذا التلازم موضع جدل.11 ويخضع مرض الصرع إلى عدة تصنيفات وظيفية أو مرضية، أساسية أو خاصة ببعض الأعراض، عرضية أو دائمة. في منتصف القرن التاسع عشر، اقترح لويس ديلاسيوف (١٨٠٤–١٨٩٣) تصنيفًا يقسم المرض إلى صرع مرضي (نتيجة إصابة في المخ)، أو صرع غير معلوم سببه أو أساسي (دون إصابات واضحة)، وصرع سمبثاوي (نتيجة أسباب خارجة عن المخ). بينما يؤيد ثيودور هيربين من جينيف (١٧٩٩–١٨٦٥) — حتى قبل ظهور مضادات التشنج (البوروم) في الستينيات من القرن التاسع عشر — أن الصرع يمكن شفاؤه في أغلب الحالات، بشرط أن يُعالج في بداياته عن طريق التعرف على «عوارضه الخفيفة».12

كان البريطاني هيولينجز جاكسون (١٨٣٥–١٩١١) — طبيب وليس متخصصًا في الطب النفسي، ورائد في علم الأعصاب — قد وضع في عام ١٨٦١ أساس علم علاج الصرع الحديث. وكان أول من وضع تفسيرًا ماديًّا لاضطرابات النشاط الكهربي التي تحدد ظهور وتطور نوبة الصرع (شحنة مفاجئة قوية وسريعة (تنشيط عنيف) للمادة الرمادية في بعض أجزاء المخ). ولقد ظل هذا المفهوم الخاص بالشحنة الموضعية معمولًا به، حتى بعد ظهور علم الأعصاب الفسيولوجي الإكلينيكي في نهاية القرن التاسع عشر، بعد انقضاء عصر التشريح الإكلينيكي. كان الاستكشاف المباشر لوظائف القشرة المخية قد أسفر في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين عن علاج جراحي لحالات الصرع الحادة التي استعصت على أي علاج. في عام ١٩٢٩، أجرى عالم الفسيولوجيا الألماني هانز برجير أول رسم مخ كهربائي (شهد تطورًا حقيقيًّا في خمسينيات القرن العشرين)، مؤكدًا فرضية جاكسون؛ مما أتاح تشخيص الصرع وأسباب تطوره وأيضًا متابعة علاجه.

العُصاب والهستيريا

يميز العلماء اليوم بشكل واضح بيِّنٍ بين العصاب والذهان، فالعصاب — على عكس الذهان — لا يؤثر بعمق على الشخصية، ويكون مصحوبًا عادة بنوع من الإدراك المؤلم والمبالَغ فيه أحيانًا للوضع المرضي (فهو اضطراب مرضي قبل كل شيء). في قرن ازدهار طب الأمراض العقلية، كان مصطلح العصاب يشمل المعنى الأعم والشمولي: كافة الأمراض المسماة «العصابية» بما فيها فئات المرض العقلي المختلفة.13 وكان كولين — كما سبق أن رأينا — هو من ابتكر الكلمة عام ١٧٦٩، فقد كان حينها في كرسي الأستاذية للفسيولوجيا بجامعة جلاسجو، وكان يولي عناية كبيرة لدراسة دور الجهاز العصبي في تكوُّن وتطور الأمراض. في كتابه «التصنيف الفلسفي للأمراض» (١٧٩٨)، وضع بينيل — متأثرًا بكولين — جدولًا للأمراض العصابية وقسمها إلى أربعة أنواع؛ في البداية يأتي «الجنون»: وسواس المرض، والسوداوية، والهوس (ينقسم إلى أربعة أنواع: الهوس من دون هذيان، والهوس المصحوب بهذيان، والعته، والبلاهة)، والسرنمة، والخوف المرضي من الماء. ويضم القسم الثاني: «الاضطرابات العصبية الموضعية»، ولا يقل عددها عن سبعة أنواع (لن نذكر منها الآن إلا الألم العصبي و«العصاب المثير للشهوة الجنسية» الذي يشتمل بدوره على عدة أنواع: الشراهة الجنسية، وخلل النطاف، وأمراض العضو الذكري العصبية، والهوس الجنسي). وبعد القسم الثالث، يأتي الرابع والأخير الذي يضم إصابات الغيبوبة: السكتة وتخشب الجسم والخدر (منها السكْر) والاختناق.
ولقد أصبح هذا الإطار التصنيفي للمرض — على اتساعه وتكلفه وكثرة تذبذبه — «جامعًا للأشياء المتنافرة التي انتهت إليها الأبحاث الطبية في القرن التاسع عشر» (جي بوستيل). وفي الوقت الذي استقرت فيه منهجية التشريح الباثولوجي، لم يكن هناك الكثير ليبحث فيه. «فكافة تقسيمات العصاب بُنيت على تصور سلبي؛ فلقد ولدت في الوقت الذي وجد فيه التشريح الباثولوجي — المسئول عن تفسير أسباب الأمراض من واقع اضطرابات أعضاء الجسم — نفسه في مواجهة عديد من الحالات الصعبة عجز عن اكتشاف سببها.»14
في الواقع، بدأ مصطلح العصاب «الذي يجمع الكل» في اكتساب مزيد من التحديد بفضل أعمال بول بريكيه (١٧٩٦–١٨٨١) حول الهستيريا، مؤكدًا تمامًا على الطبيعة المخية للهيستريا التي تعد «نوعًا من العصاب يصيب الجزء المسئول عن استقبال الانطباعات العاطفية والأحاسيس في المخ.» «مع بريكيه، بدأت الهستيريا تظهر كمرض يصيب القدرة الانفعالية.»15 في عام ١٨٥٩، نشر مؤلَّفه «بحثٌ إكلينيكيٌّ وعلاجيٌّ عن الهستيريا»، وفيه وضع أساسًا واسعًا يقوم على علم الأعراض المرضية، ويضم ما لا يقل عن ثمانية أقسام: حالات الحساسية المفرطة وحالات الخدر وانحرافات الحساسية والتشنج العصبي اللاإرادي وحالات الشلل وخلل القدرة على التقلص وتغيرات حالات الاستثارة والإفرازات. وينتقد بريكيه دور الإحباطات الجنسية، واضعًا إياها إلى جانب حالات الحزن العنيف والعواطف الممتدة لدى الأشخاص الذين لديهم نزوع طبيعي يزيد من «قابليتهم للإصابة» أو بسبب عوامل وراثية. كما دحض الفكرة الثابتة القائلة بوجود هستيريا خاصة بالنساء، على الرغم من أن نسبة المصابين كانت رجلًا لكل عشرين امرأة. كانت الطريق مفتوحة أمام أعمال شاركو وبيرنهيم وفرويد …

كان جان مارتن شاركو (١٨٢٥–١٨٩٣) هو من اهتم — على وجه الخصوص — بتحديد الاضطرابات «الوظيفية» للهستيريا. عُيِّنَ عام ١٨٦٢ في مستشفى سالبيتريير، وهو — على حد قوله — «يشبه المتحف الباثولوجي الحي الضخم الموارد.» في عام ١٨٧٢، نال الأستاذية في التشريح الباثولوجي، قبل أن يجري استحداث أول كرسي أستاذية في العالم في الطب الإكلينيكي للأمراض العصبية عام ١٨٨٢، بناء على رغبته. واستطاع شاركو — بتطبيق طريقة التشريح الإكلينيكي للطبيب لايناك على إصابات الجهاز العصبي — أن يجمع ملاحظات دقيقة من سلسلة من المرضى، ووضع رسمًا مبدئيًّا (كان في الحقيقة رسامًا بارعًا) للتقسيمات دون استثناءات، محددًا أنماطًا مصحوبة بوصف لها وبأدلة تشريحية لدعمها. ويشهد هذا المتحف التشريحي والورشة الفوتوغرافية (حيث تطورت الصور الفوتوغرافية القيمة الخاصة بمشفى سالبيتريير) بالحس الابتكاري لشاركو، الذي كانت محاضراته الإكلينيكية تجذب الأطباء من فرنسا وخارجها، بل وأيضًا شخصيات من عالم السياسة والأدب والفن. كذلك كانت أمسياته كل ثلاثاء التي يقيمها في ٢١٧ شارع سان جيرمان (منزل أمريكا اللاتينية الحالي). وفيما يتعلق بالهستيريا، فلقد كان له العديد من المطبوعات في علم الأعصاب جعلت له شأنًا في هذا المجال. في عام ١٨٧٠، عهدت إليه إدارة المشفى بخدمة إضافية؛ وهي «رعاية مرضى حالات الصرع البسيطة»، والتي تتضمن مرضى الصرع غير المختلين ومرضى الهستيريا. وسرعان ما نما لدى شاركو — الذي كان قد قرأ ودرس أعمال بريكيه عن الهستيريا — ولعٌ بهذا المجال الجديد للبحث. «ترك المجال الذي يعرفه جيدًا — الإصابات العضوية للجهاز العصبي — ليغامر باستكشاف مجال خطير للغاية. وأدخل شاركو الهستيريا لنفس المجال، فكانت حتى ذلك الوقت تندرج تحت الحالات التي تصيب الإنسان فتجعله كائنًا مريضًا، غريبًا غير منظم، كائنًا غير مفهوم، له مظاهر متعددة وخادعة. فكيف نتناولها إذن لتقليل هذه الحالة من عدم الخضوع؟ وكيف نجبره على الانصياع لقواعد محددة وعلى الدخول في نظام مشدد والالتزام بالسلوك الجيد؟» (إي تريا).

شرع شاركو في وضع قواعد الهجوم الكبير للهستيريا «يمكن تطبيقها في كل العصور وفي كل البلاد وعلى كافة الأجناس» بمراحلها الأربع المتتالية: الأورة، وهي الحالة السابقة للنوبة، وفيها يبدأ المريض في الاضطراب دون أن يشعر؛ ثم المرحلة الخاصة بالصرع نفسه ويصاحبها شحوب وصراخ وفقدانُ وعي؛ ثم مرحلة التشنجات — المعروفة ﺑ «المضحكة» — ويصاحبها حالات انفعالية؛ ثم المرحلة النهائية والتي تتميز بالبكاء والضحك، بل والهذيان. وفي ذات الوقت، صاغ شاركو قوانين «للتنويم المغناطيسي البسيط»، وهي حالة من التنويم تساهم في تسهيل التمييز بين الوعي واللاوعي، وأيضًا تلك الخاصة «بالتنويم الطويل»؛ وهي حالة أعمق من التنويم يمكن بها عن طريق الإيحاء إعادة تمثيل الأعراض الهستيرية. ابتداء من عام ١٨٧٨ أدخل شاركو التنويم المغناطيسي كوسيلة علاجية، وإن لم يكن يمارسه بنفسه، تاركًا تلك المهمة لمساعديه أو تلاميذه الذين يتمثل دورهم في أن يروُوا «للمدير» ما يريد أن يعرفه اعتمادًا على مجموعة من مريضات الهستيريا «النجمات» أو على بعض ممثلات العروض العامة. وبعد فترة، كانت الواحدة منهن تتفاخر: «لقد عملت مع شاركو.»

كان دوديه، الأب والابن، قد حضرا هذه الجلسات الواسعة الشهرة. ويصف لنا الأب دوديه جلسة داريت — إحدى مريضات الهستيريا اللاتي يعملن مع شاركو: «كانت فتاة طويلة في الثلاثينيات من عمرها، لها رأس صغير وشعر مموج، وكانت شاحبة ونحيفة […] كانت في مصحة سالبيتريير، مرتدية سترة المجانين ووشاحًا على رقبتها. ثم أمر الأستاذ: «قوموا بتنويمها!» فوضع المساعد الواقف وراءها يديه للحظة على عينيها […] وفجأة، نامت. كانت نائمة وهي واقفة بصلابة. كان جسدها التعس يتخذ كافة الأوضاع التي يؤمر بها، فإذا مددنا ذراعها تبقى ممددة، وكأن كل عضلة تُمس تحرك الواحدة تلو الأخرى، بما فيها أصابع اليد التي ظلت مفتوحة وساكنة. كانت تشبه تماثيل العرض في المحالِّ ولكنها الأكثر طوعًا ومرونة على الإطلاق. ويؤكد شاركو: «لا توجد وسيلة لخداعنا، فيجب أن تكون هي أيضًا على دراية بالتشريح مثلنا.» كانت تشبه الآلي البشري البائس واقفة في منتصف الدائرة التي رصت حولها مقاعدنا، وكانت خاضعة لأي أمر، وتتغير تعبيرات وجهها باختلاف الحركة التي نفرضها عليها! فتضع أصابعها على فمها وكأنها تقبِّل أحدًا، وتبتسم شفتاها ويضيء وجهها، ثم تغلق كفها بتشنج وكأنها تهدد أحدًا، فتقطب جبينها وينفث أنفها بغضب مرتعش. «يمكن أن نفعل هذا أيضًا …» يقول الأستاذ وهو يرفع قبضتها كمن يتهيأ للضرب ويربت في ذات الوقت على يدها اليمنى بحنان. وعندها يتحرك الجسد كله يهزه شعوران مختلفان؛ أحدهما غاضب والآخر رقيق، وكأنه قناع طفولي يضحك باكيًا […] ثم يقول شاركو: «يجب عدم إرهاقها، هيا أحضروا بالمان.» ولكن عاد المساعد بمفرده؛ لأن بالمان رفضت المجيء، بعد أن غضبت لاستدعاء داريت قبلها. فبين هاتين النجمتين المريضتين بالتصلب — اللتين كانتا أول من استخدمهما شاركو في مصحة سالبيتريير — تستقر غيرة شديدة، بل وأحيانًا شجارات ومشاحنات داخل غرفة الغسيل حيث كانتا تتبادلان بعض التعبيرات القاسية؛ متسببتين في حالة هياج عامة داخل المهجع.»16
أما ليون دوديه، فينتقد بقسوة الأستاذ ومساعديه. ويبدأ بالأستاذ: «كان وصول المدير كل صباح «حدثًا بسيطًا»، أمرًا يشبه — على أقل تقدير — دخول نابليون لصالونات البلاط في حفل مسائي: «أيها السادة! الإمبراطور!» وكان لشاركو بالفعل — بوجهه الرائع شديد الانتظام والحزم المخلوق لنيل الميداليات والتحلي بالنياشين — هذا النوعُ من المهابة التي تسمى النفوذ. فكان يمد إصبعين لمدير العيادة، وإصبعًا واحدة للأطباء المتدربين، ملقيًا نظراتِ ازدراء للمساعدين، محاولًا رسم ابتسامة غامضة أثناء حديثه مع زملائه الأتراك والأرمن والألمان والإنجليز واليابانيين الذين يقدمونهم إليه.»17 والآن ها هن مريضات الهستيريا — «مريضات شاركو»: «كانت النساء اللاتي يدخلن سالبيتريير، واللاتي يرسلهن إليه زملاؤه من باريس أو البروفانس ينتمين إلى فئة الخادمات العصبيات، والمحملات فوق الطاقة أو حارسات العقار أو قارئات أخبار الحوادث، أو فتيات أو شابات على نمط «مدام بوفاري» من الطبقة البرجوازية؛ يرغبن في أن يصبحن محور الأحاديث بعد أن سمعن عن المرض الشهير في الصحف المنتشرة التي يباع العدد منها بخمسة سنتيمات، ولم يكنَّ يعرفن أنه يجب «بالضرورة» أن يكنَّ مصابات بالمرض. وفور وصولهن يدركن من رفيقاتهن أنه لا يكفي السقوط والصراخ مع لَيِّ الذراعين، بل ويجب «التقوس» والارتماء على الأرض سائلاتِ اللعابِ ورءوسُهن ملقاة للخلف. كان ذلك هو مرض التخشب الجسدي، إلا أن مصابات التخشب (اللاتي يغفلن المرحلة الأولى عن جهل) كنَّ يدركن على الفور أنها — وهي المرحلة الخاملة — تسمح بالدخول إلى فئة الموضوعات المثيرة بالفعل، في حين أن المرحلة الثالثة — الخاصة بالسرنمة — تؤدي مباشرة — إذا أتممن هدفهن — إلى الكثير من الهدايا الصغيرة. كان من المعروف أنه بمجرد أن يضغط أحد الأطباء المتدربين على بطن المريضة بقبضتيه (أي على مبيضيها) كان من المفترض أن تهدأ تدريجيًّا وهي تبكي وتئنُّ. كان هذا الأمر يشبه الفن الطفولي، وكان المرضى ينجحون فيه ببراعة» (ليون دوديه).

كانت لوحة بروييه الشهيرة — «درس إكلينيكي بسالبيتريير» — قد عُرضت في صالون عام ١٨٨٧ الفني، في الوقت الذي بلغ فيه شاركو أوْج مجده. وفي النصف الأيسر من اللوحة، نجد الأطباء والمساعدين الذين أتوا بأعداد كبيرة جالسين في جدية وانتباه، بينما يظهر شاركو واقفًا في النصف الأيمن من اللوحة وإلى جانبه خليفته بابينسكي. كانا يمسكان بإحدى مريضات الهستيريا الشهيرات — بلانش وايتمان — وهي ضحية نوبة عنيفة. وفي أقصى اليمين — بالقرب من النقالة — كانت تقف الآنسة بوتار — المشرفة العامة — وهي تمد يدها خفية نحو هذا الجسد المغشي عليه وهذا الصدر نصف العاري وقد سُلط عليه الضوء واستسلم بالكامل لكل هؤلاء الرجال الذين يدرسونه. وبعد عامين، اكتشف فرويد — بفضل مرضى شاركو — الطبيعة الجنسية للعصاب.

ويشرح ليون دوديه أن هناك احتمالًا كبيرًا أن يكون شاركو أول من انخدع بهذه الأكذوبة التي وردت في مئات الكتب والقواميس. ولكن كيف؟ وبين السذاجة والعناد المغرور، لا يتردد دوديه في وصف شاركو بأنه «كان شديد الغرور وعلى قناعة شديدة بأنه مدهش.» في مذكراته، يذكر الطبيب السويدي آكسل مونت — أحد تلاميذه القدامى — الأمر نفسه فيقول: «لم يكن شاركو يعترف أبدًا بأي خطأ، وويل لمن كان يجرؤ على التلميح بأنه أخطأ.» وينتقد مونت أيضًا «تلك الخدعة السخيفة» عن العروض التي كان ينظمها في سالبيتريير. وسنلاحظ أن الشخصية الوحيدة في سالبيتريير التي راقت لليون دوديه (الذي كان قد رسب في مسابقة اختيار الأطباء المتدربين) هي الآنسة بوتار، التي شبهها «بقديسة علمانية، لها تفانٍ مطلق يستحق إعجابي. كانت متعلقة بهؤلاء البائسات اللاتي يمثلن وهُنَّ ضحايا، كانت تشعر إزاءهن بصبر واهتمام غير عاديَّين. يمكن القول بأنها هي الوحيدة التي ذاقت النعيم على الأرض!»

بالنسبة إلى شاركو، فإن الهستيريا هي الشرط اللازم للقيام بالتنويم المغناطيسي، ومن ثم فلا يمكن الفصل بين دراستهما ولا نقدهما. ولقد ازداد ثبوت الفكرة في عام ١٨٨٢، حينما قدم بيانًا لأكاديمية العلوم صاغ فيه قوانين الهستيريا الصغرى والكبرى، وأيضًا قوانين التنويم المغناطيسي البسيط والعميق. وكان ذلك هو بداية اندلاع أحد أعنف الخلافات التي هزت عالم الطب: المعركة الشرسة بين مدرسة سالبيتريير ومدرسة نانسي. ولقد نشأت الأخيرة على يد أوجست ليبو (١٨٢٣–١٩٠٤) — الطبيب المعالج بالتنويم المغناطيسي — والذي لم يسْلم من اتهامه بالشعوذة. كان قد جاء في عام ١٨٨٢ ليستقر في مدينة نانسي. ثم جاء إيبوليت بيرنهيم (١٨٤٠–١٩١٩) — وقد أثاره نجاح «عيادة الطبيب ليبو» — ليكشف لديه لإصابته — كما يقال — بعرق النسا. وسرعان ما أصبح بيرنهيم صاحب نظرية «مدرسة نانسي» الرافضة لكل الطرق التي تستخدم السوائل والمغناطيس، مؤكدًا أن النوم المغناطيسي أو المفتعل إنما هو حالة فسيولوجية يمكن تطبيقها على أي فرد اعتمادًا على آلية الإيحاء. كان ذلك هو النفي التام لنظرية شاركو. أما عن الجلسات الشهيرة التي كانت تُعقد في سالبيتريير، فيشكو طبيب أمراض عقلية بلجيكي: «هناك الكثيرون مثلي لم يستطيعوا محاكاتها في ظروف عادية.»18 وفي النهاية يقول بيرنهيم: «إن التنويم المغناطيسي في سالبيتريير إنما كان عملًا مصطنعًا، نتيجة للتدريب.» أما المسكنات المهدئة للحواس، فهي «اختراع بحت لهدف الاستكشاف الطبي.»

واستمر الجدل حتى بداية القرن العشرين، محيطًا أعمال شاركو جميعها بنوع من التشكك حتى قبل وفاته عام ١٨٩٣. ويبدو أنه — قبيل وفاته — اعترف شاركو — على حد قول سكرتيره جورج جينون — بأن «مفهومه عن الهستيريا أصبح قديمًا، وأنه من الأفضل تجاوز هذا الفصل من تاريخ الطب العصبي الباثولوجي». وأصبح على من تبعوه إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فِكَره، فالإرث الذي تركه كان عظيمًا حتى وإن كان يعيبه «تفكيكه للهستيريا»، على حد تعبير جوزيف بابينسكي (١٨٥٧–١٩٣٢) — الابن الروحي لشاركو والخصم اللدود لبيرنهيم، على الرغم من أنه يبدو أنه اقترب إلى أفكاره في النهاية. ألم يطرح بنفسه في عام ١٩٠١ فكرة اعتماد الاقتراح الذي يهدف إلى «استبدال» مفهوم خلل المظاهر الوظيفية المصاحب للمرض العصبي بلفظ الهستيريا؟ إلا أن الهجوم المضاد الواسع الذي شنه زملاؤه في مشفى سالبيتريير انتهى برفض الاقتراح وعزل بابينسكي (وإن عاد مفهوم «خلل المظاهر الوظيفية المصاحب للمرض العصبي» بقوة أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى كنوع من التلطيف للاسم). بينما اتجه فيلجينس ريموند (١٨٤٤–١٩١٠) — الذي خلف شاركو — وبيير جانيه (١٨٥٩–١٩٤٧) نحو نظرية ترجع العصاب إلى أصل وأعراض باثولوجية نفسية.

كان جانيه — الفيلسوف والمتخصص في علم النفس — قد دخل مبكرًا عالم أطباء الأمراض العقلية، عندما ناقش في عام ١٨٨٩ رسالته حول «الحركة التلقائية اللاإرادية النفسية» (بمعنى أنها نابعة من اللاوعي)؛ «بحْث عن الأشكال البسيطة للنشاط الإنساني». وبدأ بعدها في دراسة الطب، وانتهى عام ١٨٩٣ من رسالته: «إسهامات في دراسة الإصابات العقلية لمرضى الهستيريا». وقبل هذا التاريخ كان قد بدأ يتردد بكثرة على شاركو، الذي أنشأ من أجله معملًا لعلم النفس التجريبي بسالبيتريير. «وبعيدًا عن المدارس الصاخبة لشاركو أو بيرنهيم»، فتح جانيه طريقًا ثالثًا، مؤكدًا على الطبيعة النفسية للهستيريا وعلى ضرورة وجود طريقة لملاحظتها نفسيًّا. كان يحلم دائمًا بمشروع توحيد الطب العقلي وعلم النفس، منتقدًا أطباء الأمراض العقلية لأنهم «لم يتطرقوا للبعد النفسي للمرض العقلي إلا لخفض الانفعال النفسي» (كلود بريفو). ومنذ عام ١٩٠١، وضع تعريفًا للنوع الآخر من العصاب الحاد: الوهن النفساني (الفزع والوسواس والشك والكبت والهوس العقلي و«غياب القرار والإرادة واليقين والتيقظ»)، وهو مصطلح من اختراعه يستبدل به لفظ الوهن العصبي. وفي تصنيفه الكامل لأمراض العصاب (١٩٠٩) — الذي يعرفه بكونه «اضطراباتٍ أو توقفًا في تطور الوظائف» — يضع الوهن النفسي إلى جوار «الحالة العقلية لمرضى الهستيريا»، إلا أن هذين النوعين من العصاب يمكن وجودهما لدى المريض نفسه.

خلف جول دوجورين (١٨٤٩–١٩١٧) ريموند عام ١٩١١. وهو العام الذي نشر فيه «المظاهر الوظيفية لمرضى الذهان العصابي وشفاؤهم بالعلاج النفسي». انتهى عصر الهستيريا في الغرف المغلقة. ويقول دوجورين لاحقًا: إن «الأعراض التي تميز الهستيريا الكبرى لم تستمر على الإطلاق لأكثر من أسبوع خلال خدمتي.» فمن الآن فصاعدًا، أصبح التركيز ينصبُّ كله على الأصل النفسي للعصاب؛ مما يفسر الاسم الجديد «الذهان العصابي»، الذي ينتزع الهستيريا من مجال علم الأعصاب ليجعل منها عصابًا نفسيًّا بالكامل. ومن جانبه، كان بول ديبوا (١٧٩٩–١٨٧٣) — المعروف بديبوا من بيرن — قد نشر عام ١٩٠٤ «الأمراض الذهانية العصابية وعلاجها النفسي.» كانت تلك عودة غير متوقعة إلى العلاج النفسي المعنوي، الذي يقوم على مبدأ أن العلاج النفسي المعقول يعتمد على إقناع المريض ذي الطبع غير العقلاني بالآلام التي يشكو منها. لم يقصد دوجورين هذه الطريقة، مفضلًا تعزيز ثقة ويقين المريض في طبيبه. «كل شيء يحدث على مستوى العاطفة» (تريا)، خاصة في العلاج كما في حدوث الذهان العصابي الذي يندرج تحته الهستيريا والوهن العصبي (الذي يفصله عن الوهن النفسي كما ذكر جانيه والذي يقوم على الوساوس، بينما ينتج الوهن العصبي بناء على اضطرابات وظيفية)، وأيضًا مرض فقدان الشهية العقلي.

ماذا كانت حال مدرسة نانسي — التي يسميها بابينسكي «الجامعة القروية» — في مواجهة مدرسة سالبيتريير؟ كانت نانسي محل جذب لكثير من الأطباء — خاصة الأجانب — الذين اهتموا بالطرق العلاجية هناك، والتي قامت نجاحاتها على فكرة الإيحاء، بعيدًا عن أي «ضعف» في الجهاز العصبي أو أي هستيريا. ويتيح الإيحاء تركيز انتباه المريض على أي جزء من جسده المريض. ويذهب بيرنهيم إلى مدًى أبعد من ذلك، مؤكدًا في النهاية أن التنويم المغناطيسي ليس سوى تلاعب بالإيحاء عن طريق النوم المصطنع أو من دونه؛ أي من دون تنويم — الذي أصبح لاحقًا إحدى الطرق العلاجية. ومن بين الأطباء الذين كانوا يترددون على مصحة نانسي، نذكر على وجه التحديد سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩) الذي قضى هناك عدة أسابيع أثناء صيف عام ١٨٨٩؛ «بهدف إتمام دراسة تقنية التنويم»، وفقًا لما ذكره بنفسه في مذكراته.19

كان فرويد قد التحق أيضًا بالخدمة التابعة لشاركو في الفترة من أكتوبر ١٨٨٥ وحتى فبراير ١٨٨٦. ولقد انبهر بالأستاذ و«سحره» — على حد قوله. وبعد شهرين من هذا التدريب، افتتح عيادته الخاصة بفيينا. وكانت أعماله الأولى تتناول الهستيريا. وفي الخامس عشر من أكتوبر ١٨٨٦، عقد مؤتمرًا حول الهستيريا الذكورية. ولقد فتح اكتشاف الهستيريا أمامه أبواب علم النفس الباثولوجي. «إن نظرية التحليل النفسي برمتها هي وليدة الهستيريا» (تريا). في فيينا، توطدت العلاقة بين فرويد وعالم الفسيولوجيا جوزيف بروير (١٨٤٢–١٩٢٥). ونَشَرَا معًا كتاب «دراسات حول الهستيريا» عام ١٨٩٥، الذي يبدأ بقصة آنا و… (برتا بابينهايم) التي تولَّى بروير علاج الأعراض الهستيرية لديها دون اللجوء للإيحاء، مستخدمًا حالات من «التنويم التلقائي»، والتي تسميها المريضة ذاتها ﺑ «العلاج بالكلام» أو ما يشبه «تسليك المدخنة». وسرعان ما تلاشت الأعراض الهيستيرية شيئًا فشيئًا كلما سُلِّط الضوء على الظروف التي صاحبت ظهورها لأول مرة. من هنا اختُرعت طريقة «التفريغ» (نتذكر فكرة التنفيس لدى أرسطو). ويبقى استنتاج الأُطر النظرية، مثل معرفة العامل المحدد للحالة العقلية والعصبية للمريض لحظة وقوع الصدمة النفسية والطريقة التي استُقبلت بها الصدمة. وبينما يتمسك بروير بفكرة لحظة وقوع الصدمة، يهتم فرويد بطريقة تلقي الصدمة. فما يهم لدى فرويد هو القيمة التي يمثلها الحدث بالنسبة إلى المريض.

في سبيل معرفة معلومات من المريض، لا يعرفها الطبيب ولا المريض نفسه،20 تخلى فرويد عن طريقة الإيحاء تحت التنويم، التي هي — على حد قوله عام ١٩٠٤ — «طريقة غير أكيدة، ولها طابع غامض»، وأيضًا لكونها تتم مباشرة دون «مقاومة» تتعارض مع إعادة اندماج الذكرى في مجال الإدراك، وتعيق استحضارها. ولذلك، كان يفضل طريقة التفريغ أو ما يسميها ﺑ «طريقة التداعي الحر» عن التنويم المغناطيسي. (كان فرويد يعتقد بالتالي «أن تاريخ التحليل النفسي يبدأ في اليوم الذي ظهرت فيه طريقة مبتكرة تتخلى عن التنويم المغناطيسي».)21 ويستخدم فرويد مصطلح «الهستيريا الدفاعية» (التحويل) عندما يتسبب الصراع النفسي للمريض «الذي يدافع عن نفسه» (عن طريق استبعاد الصورة غير المقبولة من الوعي) في إنتاج ظواهر بدنية ثابتة (خدر أو شلل أو تقلصات). ولقد أكد بروير وفرويد عام ١٨٩٥ في كتابهما على الطبيعة الجنسية لهذا «الدفاع» أو هذا «الكبح»: «تلعب المشاعر الجنسية دورًا حاسمًا — وفقًا لطب الهستيريا الباثولوجي — فهي مصدر الصدمات النفسية والعامل المحرك لرفض وكبح بعض الصور خارج نطاق الوعي.» واستكمالًا للفكرة ذاتها، ميز فرويد المشاعر الجنسية الطفولية، باحثًا عن الصدمة النفسية الأصلية. «كانت نظرية التحليل النفسي بأكملها في طور التكوين خلال هذه الفترة الخصبة، وكانت الهستيريا هي التربة التي نمت فيها» (تريا). وسرعان ما تخلى فرويد عن فكرة حقيقة الصدمة الجنسية، وإن ظل مقتنعًا «بحقيقتها النفسية». «كون الوهم — الذي يعطيه المريض هيئة الواقع — يتسبب في أعراض حقيقية؛ يثبت مدى قوى وثقل وقدرة «الحقيقة النفسية»» (تريا).
يجب ألا نستنتج من هذا أن فرويد — متقدمًا بعمق فيما سيصبح التحليل النفسي — لم يكن يهتم بالعصاب ككلٍّ. وانطلاقًا من مفهوم «الدفاع» في الذهان العصابي وصولًا إلى دراسة لأعراض المرض (التي كانت على العكس نقطة انطلاق الأطباء الإكلينيكيين لدراسة الهستيريا)، يميز فرويد بين ثلاث مجموعات: الهستيريا، والخوف المرضي والوساوس، والذهان. وفي الذهان، «تُنتزع الأنا من الصورة غير المتوافقة، وإن ظلت الأخيرة مرتبطة بشدة بجزء من الواقع، ولا سيما أن الأنا — أثناء القيام بهذا الأمر — تنفصل أيضًا كليًّا أو جزئيًّا عن الواقع.»22 وفي عام ١٨٩٥، شرع فرويد في دراسة إكلينيكية تهدف إلى فصل مجموعة أمراض العصاب التي يسميها «عصاب الفزع»23 عن الوهن العصبي.

في عام ١٩٠٤ — بعد صدور كتاب «تفسير الأحلام» عام ١٩٠٠ — «أصبحت الأعراض الهستيرية بالنسبة إلى فرويد بقايا أو رموزًا لبعض الأحداث؛ أي رموزًا تذكارية […] ولا يدري المريض — الذي يرسل رسائل مشفرة (أي الأعراض) — معناها؛ ولذلك يستطيع إنتاجها لأنه يجهل مغزاها. فإذا عرف معناها، وقبلت الأنا هذا المعنى، فلن يكون في حاجة للأعراض. ويكون على المعالج ممارسة دور الوسيط أو المترجم في محاولةٍ لجعل الأنا تتقبل المعنى المختفي وراء الأعراض؛ التي تختفي بمجرد انتفاء سببها. ولا يكون مريض الهستيريا بعدُ في أرض عدوة، وإنما يتصالح مع الأنا. وبالوصول لهذه النقطة، لا نعلم ماذا يخص مريض الهستيريا وماذا يخص نظرية التحليل النفسي. «فالمرض» يختفي في النظرية وفي الطريقة التحليلية، وتصبح الهستيريا هي التحليل النفسي» (تريا).

الذهان

في البداية كان لمصطلح «الذهان» — الذي اخترعه إرنست فوشتيرسلبين عام ١٨٤٥، وقبل أن يُعمم استخدامه في القرن التاسع عشر — معنًى أوسعُ يقصد به — على «عكس العصاب» — الاضطراب العقلي الدائم، والذي يؤثر على شخصية المريض بشكل عام (الهذيان). ومن هذا الكيان متعددِ الأشكال شديد الشمول، خرجت فئات محددة، لن نذكر في هذا الباب إلا أهمها.24

ولنبدأ بتصنيف الأمراض الذي وضعه إسكيرول، والذي يقسم الأمراض العقلية إلى أربع مجموعات أساسية: البله والخبل والهوس والهوس الأحادي. وتعد المجموعة الأخيرة — الخاصة بالهوس بفكرة واحدة الناتج عن خلل اكتئابي كما قال بينيل — إضافة نظرية جديدة. ويتميز هذا النوع من الهوس بهذيان جزئي مزمن — مرح أو حزين — ولكنه قاصر على موضوع واحد (ولهذا السبب سمي الهوس الأحادي). ويقسمه إسكيرول إلى هوس أحادي فكري (ومن صوره «الكآبة المرضية المزمنة» أو الكآبة المصحوبة «بهذيان جزئي مزمن تسببه عاطفة حزينة منهكة ومضنية»)، وهوس أحادي عاطفي أو عقلي، وهوس أحادي غريزي (يضم الانحرافات المستقبلية). وفي ذات الوقت، يعطي إسكيرول للخيالات تعريفًا لا ينتقص من قيمتها: «الشخص الذي يعتقد يقينًا بوجود أحاسيس ملحوظة بداخله، لا يستطيع أي عامل خارجي آخر أن يثيرها فيه هو في حالة من الهلوسة» (أي إنها إدراك لشيء غير موجود). وعلى مدار القرن التاسع عشر، نشب جدل حاد حول مفهوم الهلوسة، اعتراضًا على تشبيهها بالوهم.

ظل جميع أطباء الأمراض العقلية في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، يفكرون ويكتبون حول مفهوم «الهلوسة المنظمة». وفي عام ١٨٥٢، فَصَل لازيج هلوسة الاضطهاد عن باقي الأنواع. ولقد أصبحت هذه النظرية أحد محاور تصنيف الأمراض لمانيان: «الهذيان المزمن ذو التطور المنتظم.» في عام ١٨٩٠، اقترح بول سيريو (١٨٦٤–١٩٤٧) — تلميذ مانيان — تقسيمًا ظل معمولًا به حتى القرن العشرين: ذهان المُضطهَدين والمُضطهِدين (دون خيالات)، وهلوسة الاضطهاد المنظمة المصحوبة بالخيالات، وهلوسة الاضطهاد المنظمة غير المصحوبة بخيالات بناء على تفسيرات هلاوسية، وجنون العظمة المصحوب بخيالات أو لا. ويعد «الذهان المشترك» (أو «الجنون المتبادل») — الذي أوضحه بايارجيه عام ١٨٦٠ — نوعًا خاصًّا من هلوسة الاضطهاد المزمنة، ولقد قدم شارل لازيج وجول فالريه (ابن جان بيير فالريه) وصفًا لهذا المرض عام ١٨٧٧.

وأثناء عملهما حول دراسة الهذيان المنتظم عام ١٩١١، وضع كلٌّ من جول سيجلا (١٨٥٦–١٩٣٩) وجيلبير باليه (١٨٥٣–١٩١٦) وصفًا للذهان المزمن المصحوب بخيالات. وفي عام ١٩٢٠، طَوَّر جاتيان دي كليرامبو (١٨٧٢–١٩٣٤) — تحت تأثير أعمال باليه (ولكن دون أن يأتي على ذكره) — نظرية الحركة اللاإرادية التلقائية العقلية (ذهان قائم على حركات لاإرادية تلقائية)؛ حيث ميز بين الحركات اللاإرادية الصغرى — التي هي «توقف التفكير والتفكك الصامت للذكريات التي تُفرض» على المريض — والحركات اللاإرادية الكبرى — وفيها يكون لدى المريض انطباع بأن هناك من «يعلق» على أفعاله، وكأن هناك من يستبق أفكاره. وفي الهلاوس التي تتوالى، لا يكون الهذيان إلا نتيجة. ولقد رفض جاتيان دي كليرامبو أي تفسير نفسي للذهان، بل وجعله قائمًا على عملية عضوية تتسبب في ألم متقطع في الخلايا العصبية.

لاحظ القدماء وجود نوع من الجنون يقوم على حالات هوس وكآبة متناوبة. وفي منتصف القرن التاسع عشر، تصارع جان بيير فالريه وجول بايارجيه (١٨٠٩–١٨٩٠) على أحقية كل منهما بالمفهوم الذي أطلق عليه الأول اسم «الجنون الدوري»، بينما أسماه الثاني «الجنون ثنائي الشكل». ويبدو أن الاثنين نسيا أن جريزينجر — منذ عدة أعوام مضت، تحديدًا عام ١٨٤٥ — كتب: «إن حالات الهوس والكآبة المتناوبة أمر شائع للغاية. فكثيرًا ما نرى المرض يقوم على دورة من شكلين يتناوبان عادة بصورة متنظمة.»25 وأخيرًا، كان إيميل كرابلين (١٨٥٦–١٩٢٦) هو الذي قدم — عام ١٨٩٩ في «بحث في الطب النفسي» — مصطلح «ذهان الهوس الاكتئابي».

لم يكن جنون العظمة ليستقر من أول وهلة. ولأكثر من قرن، ظل المصطلح — الذي وضعه الألماني فوجيل عام ١٧٧٢ — مرادفًا للجنون المصحوب بهذيان في ألمانيا، قبل أن يوضع تعريف للهذيان المنظم غير المصحوب بخيالات (مندل ١٨٨١). كان كرابلين أول من وضع تعريفًا لجنون العظمة (بارانويا) أكثر تحديدًا وقدرة على الاستمرار: «نظام هذيان محدد ومستمر يستحيل زعزعته، يتكون مع الاحتفاظ الكامل بوضوح الذهن وترتيب الفكر والإرادة والفعل.» في بداية القرن العشرين بفرنسا، انبثق منه مفهوم «الشخصية المريضة بجنون العظمة» الأقل تنظيمًا وحدَّة، والتي تتميز بتضخم الذات وعدم الثقة بالآخرين وعدم صحة الأحكام التي تصدرها. ومن جانبه، يصف إرنست كريتشمير (١٨٨٨–١٩٦٤) شكلًا محددًا من جنون العظمة، وهو «جنون العظمة الحسي»، يظهر لدى الأشخاص الضعاف الذين يميلون إلى الخجل والشك، ويؤدي إلى الإصابة بهلاوس الاضطهاد (المُضطهَد-المُضطهِد). ويؤسس كريتشمير علاقة ترابط كاملة بين الشكل البنيوي للفرد وأنواع الذهان الكبرى «الداخلية» (التي تحدث بدافع من الشخص نفسه المصاب بها، بغض النظر عن البيئة المحيطة به). كما نشر عام ١٩٢٩ كتاب «العباقرة»؛ حيث يشدد فيه على الدور الإيجابي لاختلاط الأجناس. ولرفضه أي ضغط خارجي، استقال كريتشمير من منصبه كرئيس للجمعية الألمانية للطب النفسي الباثولوجي عام ١٩٣٣ بمجرد وصول النازيين إلى السلطة. ووافق كارل يونج — الذي سنتحدث عنه لاحقًا — على تولي المنصب من بعده.

يتبقى أهم أنواع الذهان: الذهان الذي يتطور من الخبل المبكر ليؤدي إلى الفصام. ولقد جاء متأخرًا لقائمة تصنيف الأمراض، ولكنه سرعان ما انضم إليها. منذ عام ١٨٣٢، لاحظ بنيديكت أوجستين موريل أن مشفاه يضم «عددًا ضخمًا من الشباب من الجنسين مصابين بالخبل المبكر، وأن الشائع بين المرضى هو هذا الخبل الشبابي الذي أصبح يستخدم مثله مثل الخبل الذي يصيب المتقدمين في العمر.» وفي «بحث حول الأمراض العقلية» (١٨٦٠)، قرر استخدام مصطلح «الخبل المبكر». وتمامًا مثل ذهان الهوس الاكتئابي، فهذا النوع أيضًا يعد من الذهان الداخلي، الذي يمكن تعريفه بكونه «حالات مرضية مختلفة تطرأ بعد إصابة قوية للحياة العاطفية أو للإرادة، تتطور تدريجيًّا حتى تصل إلى التفكك التام للشخصية التي تأخذ شكلًا أكثر عجزًا» (بوستيل).

في ألمانيا، نشر كارل كاهلبوم (١٨٢٨–١٨٩٩) عام ١٨٦٣ «تصنيف الأمراض العقلية»؛ حيث وصف مرضًا عقليًّا جديدًا ينتهي سريعًا بالخبل، ويبدأ في الظهور في مرحلة البلوغ؛ ولذلك أسماه «العجز العصبي» (جنون الشباب). وبعد عدة أعوام، وصف كاهلبوم حالة من «الذهول» تصاحبها أعراض حركية، أسماها «جنون التوتر» أو «زيادة توتر العضلات». وبعد عشرين عامًا، وضع كاهلبوم استنتاجًا واسعًا يستند إلى فكرة أن الطابع التطوري «للحالة النهائية» هو الذي يجب أن يحدد التصنيفات النفسية. في عام ١٨٩٨، جمع تحت اسم «الخبل المبكر» العجز العصبي وزيادة توتر العضلات والخبل المصحوب بجنون العظمة. في البداية، لم يكن لهذه الأعمال صدًى كبير في فرنسا؛ حيث سرى نوع من معاداة كل ما هو ألماني في الوسط العلمي الرافض بشدة للاعتراف بأسبقية موريل في الوصول إلى هذا المفهوم. ونجد في سجلات جريدة الطب وعلم النفس لعام ١٩١٥: «تَنبَّهنا أن ألمانيا قبل أن تغزو أراضينا، منذ وقت طويل قد أدركت أهمية غزو عالم الأفكار، لتخضعه لما يسمى ثقافتها […] لأنه يوجد بالفعل طب نفسي ألماني وطب نفسي فرنسي […] لقد بنى الألمان معتقداتهم الجديدة من لا شيء […] ولكنهم ظلوا كطبعهم جامعين لا يكلون لإنجازات الغير.»26
في عام ١٩١١، استبدل السويسري يوجين بلولير (١٨٥٧–١٩٣٩) — حين كان يرأس البيرجولزي بزيورخ منذ عام ١٨٩٨ — بفكرة الخبل المبكر (ذي المعيار التطوري) فكرةً أكثر ديناميكية وهي التفكك، مقترحًا لها اسم الفصام (من اللغة اليونانية وتعني الفصل والذوبان). «أطلق على الخبل المبكر اسم الفصام؛ لأن أهم صفاته — كما أريد أن أثبت — هو تفكك الوظائف النفسية المختلفة.» ويميز بلولير بين الأعراض الدائمة والأعراض الثانوية: «لا تخلو أي حالة من اضطرابات العلاقات والمشاعر — بما فيها التوحد — وكأنها جزء لا يتجزأ من المرض؛ ولذلك تسمى أعراضًا رئيسة. وإلى جانب هذه الأعراض، توجد أعراض ثانوية قد تظهر أو لا تظهر: الضلالات والهلاوس وأعراض توتر العضلات والإغماء التخشبي والذهول وفرط النشاط الحركي والرتابة والتصنع والسلبية (المقاومة المرضية النشطة أو السلبية لأي طلب داخلي أو خارجي).» لقد كتب يوجين مينكويسكي تلميذ بلولير (١٨٨٥–١٩٧٢): «إن مريض الفصام — وهو يعلم تمامًا أين هو — لا يشعر بوجوده في المكان الذي يشغله، بل لا يشعر بوجوده داخل جسده […] فعبارة «أنا موجود» لا تعني شيئًا بالنسبة له.»27 لم يمر كل هذا بالطبع دون صراعات بين المدارس النفسية المختلفة؛ فدائمًا ما يتخذ المفهوم الجديد سريعًا طابعًا امتداديًّا، مستفيدًا من الحدود غير الواضحة جاعلًا إياها تتراجع دون توقف. وبسهولة جرى ضم العديد من الحالات العصية على التصنيف، حتى إن بلولير كان يتحدث عما يسمى ﺑ «الفصام الكامن»، الذي اعتبره النوع الشائع من الفصام ولكن دون تحديد معايير التشخيص التي يجب أن تفرض عليه.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تربع الفصام على عرش الأمراض العقلية. ولقد لعب السويسري أدولف ماير (١٨٦٦–١٩٥٠) دورًا رئيسًا في هذا الأمر. أثناء عمله في الولايات المتحدة، كان ماير معارضًا لمفهوم كرابلين عن المرض الذي يشكل كيانًا بذاته؛ ومن ثم كان رافضًا لفكرة تصنيف الأمراض. وكان يُعلِّم أن الاضطرابات العقلية إنما هي طرق إجابة (ردود فعل نموذجية) لا تتناسب مع المواقف المختلفة من منظور وراثي اجتماعي؛ ومن ثم يجب مساعدة المريض على بلوغ أكبر حالات التأقلم. وانفتح الباب أمام توسع جذري في المفهوم، لدرجة جعلت مينكويسكي يقول: «لقد تمادى الأمر حتى بلغ القول بأن الفصام — بسبب اتساع نطاقه — أصبح مرادفًا للجنون. إنه أمر صحيح، مع الفارق أن الصفة «مجنونًا» تعني مجنونًا ليس أكثر، بينما تعني «فصامي»: كونه قابلًا لأن نفهمه ونرشده […] ولذلك نحن نعتقد أن الفصام يشكل خطوة حقيقية في الطب النفسي؛ لأنه يحرر، ليس فقط المريض، وإنما الطبيب أيضًا من القيود التي فُرضت عليهما منذ أمد بعيد بفعل مفهوم الخبل […] ففقدان الاتصال بالواقع يتضمن فكرة إمكانية إعادة هذا الاتصال، سواء بالكامل أو على الأقل جزئيًّا.»28
أما طب الأطفال النفسي،29 ففكرته ذاتها لم تظهر إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وببطء شديد. فعلى مدار زمن طويل، كان الاعتقاد بالفعل بأن مشكلة الأطفال المتأخرين عقليًّا إنما هي مشكلة في التربية. كان هذا هو الحلم المستحيل لجان إيتار (١٧٧٤–١٨٣٨) — في عهد الإمبراطورية الأولى — من خلال «الطفل المتوحش» فيكتور ديلافيرون (الذي لم يكن طفلًا مجنونًا). ومن جانبهم، عكف إدوارد سوجين (١٨١٢–١٨٨٠) وإيبوليت فاليه (١٨١٦–١٨٨٥) على إيجاد ممارسة تطبيقية يومية للتعليم وللعلاقات العميقة مع الأطفال المتأخرين عقليًّا. ولقد قام ديزيريه بورنفيل بالأمر ذاته خلال حكم الإمبراطورية الثانية. إلا أن أول طريقة طبية نفسية بحق لم تتم إلا في عام ١٨٨٨ على يد بول مورو دي تور (١٨٤٤–١٩٠٨، وابن الأول) عندما نشر أول وثيقة للطب النفسي للأطفال «الجنون لدى الأطفال». في بداية القرن العشرين، وضع الإيطالي سانتي دي سانكتيس (١٨٦٢–١٩٣٥) وصفًا عامَ ١٩٠٥ «لخبل مبكر» — يشبه الخبل الذي اكتشفه كرابلين لدى مرضاه الشباب — ولكنه يعد — على الرغم من الجدل الواسع الذي أثير حوله — أحدَ أُوليات المحاولات للتمييز بين الحالات الذهانية لدى الأطفال. ولقد كان هناك الكثير من الأعمال الرئيسة التي مهدت لولادة طب الأطفال النفسي؛ منها أعمال ثيودور هيلير عام ١٩٠٨ عن الخبل الطفولي، وأعمال جولييت لويز ديبير بين أعوام ١٩٣٠ و١٩٣٧ بمعهد نيويورك للطب النفسي، والتي وصفت فيها أول حالة لطفل مريض بالفصام.

الأبحاث الكبرى

كان عصر اليقين هو ذاته عصر الأبحاث الكبرى، فما من طبيب أمراض عقلية ذاع صيته إلا وأراد أن يؤلف بحثه الخاص. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت المدرسة الفرنسية هي السائدة، ولكنها بدأت تفسح المكان للمدرسة الألمانية ابتداءً من نهاية القرن (كان ذلك على مضض، والدليل أن معظم الوثائق الألمانية لم تترجم إلى الفرنسية، حتى بعد الحرب العالمية الثانية).

لم يكن من اليسير الدخول إلى العالم المتشعب للتصنيفات الفرنسية، وهي الأكثر تنوعًا بالطبع. كانوا يبالغون في كل شيء، فكل مشفًى — وفقًا لإحصاءاته — له تصنيف خاص به.30 ولكي نظل في المجموعات الرئيسة، بدأنا بذكر تصنيف إسكيرول31 وتصنيف موريل.32 وتشترك المجموعتان — إلى جانب شهرتهما العالمية — في استخدامهما لطريقة مصورة مبتكرة: فيكون الرسام هو المسئول عن رسم الأنماط المختلفة للمريض عقليًّا (وهو ما أسماه البريطانيون — الذين قاموا بالعمل نفسه — علم فراسة المرض العقلي). في عام ١٨١٨، جعل إسكيرول جورج فرانسوا ماري جابرييل يصمم مجموعة قيمة من بورتريهات لمرضى الاعتلال العقلي بمصحة شارنتون. «إن الفراسة (الاستدلال على الطبع من الشكل) ليست مجرد فضول تافه؛ فهي دراسة تساعد على تمييز طابع الأفكار والمشاعر التي تتسبب في هذيان هؤلاء المرضى. وكم كانت مثيرة النتائج التي توصلنا إليها من هذه الدراسة! لهذا الغرض، قمت بعمل بورتريهات لأكثر من مائتي مريض، ولعلي أنشر يومًا ما ملاحظتي عن هذا الموضع المدهش.» ولقد وصل إلينا منها سبعون لوحة بقلم الرَّصاص.33 ولكن نادرًا ما يصاحب هذه الصور تعليق، وإن وجد يكون موجزًا للغاية: «رجل عسكري، أجريت له عمليه ثقب للجمجمة، وأصبح مريضًا بالاكتئاب»، «هوجو — شقيق الشاعر — مصاب بالبله …» أما عن التعبيرات، فلا بد من المزيد من الإرادة لتصوير الجنون — وهنا تكمن مشكلة «الصورة الثابتة» سواء الرسوم أو الصور الفوتوغرافية. في عام ١٨٣٨، نشر إسكيرول سلسلة أخرى مكونة من سبعٍ وعشرين لوحة مرسومة بالحفر لأمبرواز تارديو (صاحب اللوحة الشهيرة نوريس المريض بمصحة بدلام، والتي ذكرناها من قبل). في هذه اللوحات، كانت أوضاع المرضى أكثر تعبيرًا ومحاكاة للمواقف: مرضى مقيدون في الكراسي، مريضة مرتدية سترة المجانين … في ذلك الوقت — عصر الطب النفسي الرومانسي — كانت الغلبة للحس الجمالي على الملاحظة الإكلينيكية. نحو عام ١٨٢٠ — وبناء على طلب جورجيه — رسم جيريكو عشرة بورتريهات لمرضى الاعتلال العقلي، من بينها «ضبعة سالبيتريير أو المريضة بهوس فكرة الحسد»،34 وهي من بين خمس لوحات وصلت إلينا.

سار موريل على النهج نفسه، إلا أن الرسم — خارج نطاق الطب النفسي للعصر الرومانسي — لم يكن مقنعًا بالقدر الكافي. كان الأمر يقارب فهرسة الأنماط المختلفة للأمراض. فها هو جان باتيست تي، الذي قالوا عنه: «إنه مريض بالبله ولكن لا تزال لديه القدرة على تنظيم بعض الأفكار تنظيمًا مُرَتبًا. كان لديه نوع من الهوس الديني، يصاحبه ميول جنسية. إنها الغرائز المدمرة. كانت لديه تعبيرات ولغة خاصة.» كانت التعليقات مصحوبة بصور مليئة بالملاحظات، ولكننا لا نرى أيًّا من هذا في الرسم. ولن نراه بسبب ظهور التصوير الفوتوغرافي الطبي؛ ربما سنرى ما أراد الأطباء إظهاره. كان أول بحث في فرنسا يدعو على استحياء إلى تصوير المرضى هو «بحث عن الأمراض العقلية» لداجونيه، وقد طُبع ثلاث مرات في الفترة من ١٨٦٢ وحتى ١٩١٤. فلم يكن ينقص هذا المريض — وقد ارتسم على وجهه تعبير ذو مغزًى واضح — إلا ثلاثة نياشين على صدره لإظهار أنه مصاب بهلاوس العظمة. وأيضًا في ثلاثينيات القرن العشرين، نجد هذا المريض «المسافر» الذي وقف خلف دراجته في الصورة التي نُشرت في مقال «للجمعية الإكلينيكية للطب العقلي». في الواقع، كان الجنون باديًا عليه، كانت دراجته مرتفعة بصورة لا تتناسب مع قامته الضئيلة، ومزينة ببوق سيارة وشرائط كثيرة بالعجلات. ونظرًا لكونها غير مقنعة من الناحية الإكلينيكية (وكيف لها ذلك؟) استمرت موجة تصوير أنماط لمرضى الاعتلال العقلي بشكل متقطع في أوروبا كلها حتى قبل الحرب العالمية الثانية. ثم، شرع الانهيار السريع لليقين في إظهار ما يسمى الطابع شبه العلمي للأنماط الشكلية للأمراض العقلية (ابتداء من بعض الصور الفوتوغرافية حول «انحطاط السلالة»).

ما هي أشهر البحوث الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر، في ظل «المنافسة» الألمانية؟ نذكر في البداية طبيب الأمراض العقلية الباريسي بنجامين بال (١٨٣٣–١٨٩٣)، الذي نشر عام ١٨٨٣ وعام ١٨٩٠ طبعتين من «محاضرات حول الأمراض العقلية»، وترجع أهميتها إلى كونها خلاصة معارف الطب النفسي للعصر. كما نشر — أحد مديري العيادات — إيمانويل ريجي (١٨٥٥–١٩١٨) «الدليل العملي للطب النفسي»، والذي ظل يعاد طبعه بشكل متواصل من عام ١٨٨٥ وحتى عام ١٩٢٣، وازداد حجمه تدريجيًّا من ستمائة صفحة حتى ألف ومائتي صفحة. وكان أول كتاب يولي اهتمامًا — في طبعته الخامسة — بالتحليل النفسي، والمعروف منذ ذلك الحين ﺑ «مذهب فرويد». عام ١٨٩٥، ظهرت «محاضرات إكلينيكية حول الأمراض العقلية» لجول سيجلا، وهو عمل شديد التركيز والتجانس يضع إطارًا دلاليًّا حقيقيًّا (تصنيف فعلي للأعراض) للأمراض العقلية. ولقد ظل تأثيره ممتدًا على المدرسة الفرنسية.

كان يتعين ذكر كافة أطباء الأمراض العقلية الفرنسيين الكبار، ولكننا سنذكر على وجه التحديد جيلبير باليه الذي جمع في «بحث حول المرض العقلي الباثولوجي» (١٩٠٣) أسماء كبار أطباء الطب النفسي في ذلك العصر. قبل الحرب العالمية الأولى، نلاحظ أيضًا صدور «الوثيقة الدولية لطب النفس الباثولوجي» الضخمة (٣٠٠٠ صفحة) تحت إشراف أوجست ماري (١٨٦٥–١٩٣٤)، جامعًا فيها أشهر العلماء الفرنسيين والأجانب (في سابقة هي الأولى في فرنسا). وتوالى إصدار البحوث واتسع مداها في الفترة ما بين الحربين، ولكنها سرعان ما قلت تدريجيًّا بعد زعزعة اليقينيات الطبية النفسية.

وتمتلك جميع البحوث الفرنسية عاملًا مشتركًا في كونها تشكل مجموعة جيدة، دون أن تكون متألقة لإسهاماتها النظرية الخاصة. لم يكن الأمر كذلك مع البحوث الألمانية التي بدأت في الظهور بعد حرب عام ١٨٧٠، وفيها يمكن التمييز بين تيارين: الأول الذي يفضل — وفقًا لموريل — نظرية الانحطاط (على سبيل المثال «الكتاب المدرسي في الطب النفسي» في عام ١٨٧٩ لريتشارد كرافت إبينج)، والثاني يميل — على خطى كارل ويستفال (١٨٣٣–١٨٩٠) — إلى نظريات الطب النفسي الباثولوجي الجديدة. ولكن يظل إيميل كرابلين المعلم الذي ليس عليه خلاف في المدرسة الألمانية، بل وفي مجال علم تصنيف الأمراض النفسية على مستوى أوروبا (أي عالميًّا). في عام ١٨٨٣، نُشر «بحث في الطب النفسي» صدرت منه ثماني طبعات حتى عام ١٩١٥، وفي كل طبعة كان يضيف المزيد من النظريات الجديدة. ومن بين الأبحاث العديدة التي ظهرت في ذلك الوقت، يجدر الإشارة إلى «وثيقة آشافنبرج» — وهو عمل جماعي ظهر ما بين عامي ١٩١١ و١٩١٣ — حيث جاء المقال المؤسس لبلولير حول الخبل المبكر. أما كارل ياسبرز (١٨٨٣–١٩٦٩) — فيلسوف وعالم نفسي — فقد نشر عام ١٩١٣ مقالًا في الطب النفسي الباثولوجي، اقترح فيه — بأسلوب نقدي جذري لمفاهيم الطب النفسي — طريقة ظواهرية للأمراض العقلية، تقوم أكثر على فهم العلاقات ذات المغزى للأنا المريضة بالعالم، أكثر من العكوف على دراسة الأسباب (بي موريل). لم يُترجَم العمل إلى الفرنسية إلا بعد عشرين عامًا، بينما ترجمت هذه البحوث إلى الإنجليزية والإيطالية، محدثة أثرًا عظيمًا على الطب النفسي في هذه البلاد.

آفاق جديدة

دائمًا ما يبحث الطب النفسي الناجح — إلى جانب ولعه بالتصنيف والعمق النظري — عن آفاق جديدة يستغلها. وكثيرًا ما تُفرض عليه بعض هذه الآفاق نظرًا لأهمية وجودها داخل مصحات الأمراض العقلية. كانت هذه هي حالة إدمان الخمور. وسنقيس ونناقش لاحقًا أثره على معدلات احتجاز المرضى، ولكن التركيز هنا سيكون على النظريات النفسية الباثولوجية التي انتهت بضم السكْر وإدمان الخمور إلى مجال الطب النفسي. لم يكن مفهوم «الجنون الكحولي»، أو بالأحرى «جنون السكارى»، مجهولًا تمامًا في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. في عام ١٨١٣، كان هناك وصف للهذيان المصحوب بارتجاف، وفي عام ١٨١٩ جرى توضيح سببها المتعلق بالخمور. في عام ١٨٣٠، نشر لوفييه «تاريخ جنون السكارى». كان السكْر حتى ذلك الحين مشكلة اجتماعية بسيطة، ولكنه أصبح منذ تلك اللحظة موضوعًا طبيًّا. إلا أن مصطلح «إدمان الخمر» لم يظهر في الحقل الدلالي للطب النفسي إلا على يد الطبيب السويدي مانيوس هاس (١٨٥٢) (تاريخ إدمان الخمور). «يعد مصطلح «إدمان الخمور» لفظًا جديدًا مناسبًا؛ لكونه يوفر استخدام كنايات طويلة مثل «التسمم بواسطة مواد كحولية» أو «فعل الخمر»، إلخ. ومن جانب آخر، فهو يكون مجموعة مرضية ويحددها ككيان ظل حتى تلك اللحظة غير واضح، جامعًا عددًا كبيرًا من العناصر المختلفة على أساس من تصنيف الأمراض.» وهكذا، في رسالته في الطب،35 يحيي فيكتور ألكساندر راكل أعمال مانيوس هاس من بين الكثيرين. ومن الطريف ملاحظة أن أول من اهتم بهذا الموضوع من الأطباء الفرنسيين كان طبيبَي الأمراض العقلية: موريل ورونودان.36
والاضطرابات العقلية التي يسببها إدمان الخمور هي التدهور الفكري، والذي قد يتطور حتى الخبل والضلالات وحالات الهياج الغاضبة والميل إلى الانتحار. ولقد أَولى الكثير من أطباء الأمراض العقلية عناية كبيرة لهذا الموضوع. وهكذا في إحصاءاته لمصحات الأمراض العقلية، يميز مانيوس بين ثلاثة أنواع «لإدمان الخمور النفسي»: الإدمان الحاد والإدمان شبه الحاد (المصحوب بهذيان) والإدمان المزمن. ويحتل إدمان الخمور مركزًا هامًّا في نظرية الانحطاط العقلي. «النقص المخي — وهو السبب المباشر للإفراط في الشرب — يرجع عادة لأسباب وراثية؛ أي إن شاربي الخمور مرضى، (وعلى الجانب الآخر) فإن إدمان الخمور يعد أحد أقوى أسباب الانحطاط العقلي؛ أي إن أبناء مدمن الخمور يكونون مرضى.»37 ولقد قادت هذه الحلقة المفرغة الطب العقلي إلى بحث يعطي وضعًا متميزًا لفكرة دراسة الأسلاف على حساب الدراسة الإكلينيكية؛ مما جعل تصنيفه غير محدد وشموليًّا. وسرعان ما انتقده بعض أطباء الأمراض العقلية مثل جول سيجلا. ولقد أدى الربط بين الهذيان وشرب الخمر إلى استنتاج لا يتغير بوجود جنون كحولي يصيب الشخص ذا الاستعدادات الوراثية.
إلا أن علم الدلالة العصبي النفسي لم يتوقف عن التقدم: اضطراب كحولي شبه حاد، متلازمة أعراض كورساكوف عام ١٨٨٩ (ذهان لأسباب متعلقة بإدمان الكحول ويتسم باضطرابات في الذاكرة يصاحبها اضطرابات عصبية)، أفكار ثابتة لما بعد الأحلام، هذيان يصيب الثملين، إلخ. لم يبدأ تراجع مفهوم «الجنون الكحولي» إلا بعد عام ١٩٢٠، بالتوازي مع مفهوم الانحطاط العقلي. وفي إحدى الرسائل الجامعية في الطب38 عام ١٩٢٣، نقرأ: «كنا مضطرين إلى استبعاد عدد كبير من المرضى شاربي الخمور، إلا أن إصابتهم كانت تتفاقم بعيدًا عن عامل إدمان الخمور.» ومن الآن فصاعدًا، ساد تصور جديد لتصنيف الأمراض أكثر تحديدًا، رابطًا الإصابات المتعلقة بإدمان الخمور بجدول إكلينيكي طبي نفسي محدد.
لم يكن من الممكن بالطبع عدم ضم إدمان المخدرات — الذي ظهر حديثًا — إلى مجال الطب النفسي في القرن العشرين.39 كانت نشأة هذا النوع من الإدمان نتيجة للحماس الشديد لظهور المهدئات، ولا سيما المستخدمة في التخدير (أثناء معركة واترلو عام ١٨١٥، كانت تجرى العمليات الجراحية وعمليات البتر من دونها). ومنذ تلك اللحظة، بدأ الأثير والكلورال والكلوروفورم والمورفين والكوكايين والهروين يتسببون في أنواع معينة من الإدمان. أثناء الحرب العالمية الأولى بفرنسا — في الوقت الذي كان كل ما يهم هو «إنقاذ السلالة» (التي كانت تجري التضحية بها داخل الخنادق في الوقت ذاته) — جرى التصويت على قانون في السادس عشر من مارس ١٩١٥ يحظر شرب الأفسنتين (كنا نتحدث حينها عن إدمان الأفسنتين)، وآخر في الثاني عشر من يوليو ١٩١٦، وجاء فيه مفهوم «مواد مخدرة» وكان يضم الجدول رقم «ب» (التصنيف القديم للمواد والأدوية المخدرة).

الأفيون هو أقدم المواد المخدرة، وهو موجود منذ قرون في تاريخ العقاقير (خاصة في صورة اللودونوم)، حتى قبل ظهور إدمان الأفيون في إنجلترا في مطلع القرن التاسع عشر. أما الحشيش، فقد كان يستخدم في البداية في الطب النفسي كما رأينا مع مورو دي تور، وقد كانت طريقته تقوم على إعادة إنتاج الحلم تجريبيًّا. في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، تراجع الأفيون والحشيش إلى المرتبة الثانية بعد ظهور مواد مخدرة جديدة (حتى استعاد الحشيش رونقه خلال سنوات الهيبية). شهد المورفين (مستخرج من الأفيون) — «الصنم الأسود» — انتشارًا واسعًا بين ١٨٧٥ و١٩٠٠. بدأ اكتشافه في بدايات القرن التاسع عشر، وتطور الأمر حتى أصبح مسببًا للإدمان ابتداء من منتصف القرن. ولشدة فعاليته في مقاومة الألم، أصبح المورفين يستخدم بكثرة مع جرحى حرب عام ١٨٧٠، ومنذئذٍ أصبح «متاحًا للعامة». وعلى عكس باقي المواد المخدرة المعاصرة — التي كانت حكرًا على المهربين — كان المورفين في نهاية القرن التاسع عشر يوصف قانونيًّا على يد الصيادلة والأطباء، ومن بينهم تكونت مجموعة كبيرة من مدمني المورفين (نلاحظ أن نظرة المجتمع السيئة لهذا الأمر لم تكن بنفس قوتها بالمقارنة مع القرن العشرين).

وفي الولايات المتحدة الأمريكية تم سريعًا حظر الهروين — منتج مركب من المورفين ظهر عام ١٨٩٨، بينما كان يُوصف في فرنسا عام ١٩٢٠ كعلاج ضد الأرق والصداع النصفي. أما الكوكايين — الموجود من عام ١٨٥٩ — فقد شهد في البداية — على شكل نبات الكوكا — نجاحًا تجاريًّا وفيرًا حينما دخل في صناعة نبيذ مارياني. وهنا أيضًا نجد أن استخدام الكوكايين كان قانونيًّا؛ مما أخَّر ظهور مصطلح إدمان الكوكايين. كان الكوكايين محتفًى به دائمًا، بل وقبل الحرب العالمية الأولى كان يمكن شراء «الثلج» أو «الكوكو الرائع» داخل ملاهي بيجال ومونبارناس. كان لإدمان الأثير — الذي «يهدئ الأعصاب المتوترة» — أتباعه أيضًا. فموباسان مثلًا كان مدمنًا حقيقيًّا للأثير، لدرجة أنه في شمال أيرلندا افتُتِحت ملاهٍ خاصة لتعاطي الأثير. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت أنواع إدمان البربيتورات تزداد؛ مسببة نوعًا من التراجع في تعاطي المواد المخدرة السالف ذكرها، إلا لدى المهمشين بالمعنى الأوسع للكلمة.

ثم جاء التطبيب النفسي، مرتبطًا بالنموذج الإكلينيكي لإدمان المورفين، والذي عُرِّف مرة بكونه اضطرابًا نفسيًّا جسديًّا ومرة عصابًا مستمرًّا ومرة ذهانًا. ويرى الأطباء — ومدمنو الخمور أيضًا — أن مصحة الأمراض العقلية ليست المكان المثالي للعلاج، في انتظار طرق بديلة قد تبدو غريبة. وهكذا، كان يوصف لعلاج مدم ني المورفين مواد مثل البروم والزرنيخ والكحول والحشيش والكوكايين والأثير والهروين … كما كانت تُطبَّق طرق الإيحاء في حالات اليقظة، وحتى التنويم المغناطيسي، ولكن الأمر كان كما يقول شامبارد عام ١٨٩٠ «كمن يوحي للجائع بأنه ليس جائعًا أو ظمآنَ!»40 فيما يتعلق بطريقة «الوقف المفاجئ للمادة»، والتي تسمى طريقة ليفينشتاين — مدير إحدى المصحات ببرلين — فكانت تقوم على حبس المريض في غرفة للعزل لمدة اثنتين وسبعين ساعة، مهما كانت صرخاته وتوسلاته. وطُبِّقَت بالفعل على طبيب الأعصاب الشهير كارل ويستفال — الذي أصيب بإدمان المورفين من فرط اهتمامه بدراسة هوس إدمان المورفين. ولكن عندما فتحوا الباب، كان الأستاذ ويستفال (كان ليفينشتاين تلميذه) قد مات.

ومن الآفاق الجديدة التي فُتحت أمام الطب النفسيِّ الجنسُ والمشاعر الجنسية. تتمثل هذه المشاعر في الاستمناء أو الزهري الوراثي أو الشلل العام. إلا أن الأمر ازداد اتساعًا، بعيدًا حتى عن مجال اكتشافات فرويد. عام ١٨٧٠، نشر ويستفال — الذي توفي نتيجة تطبيق سياسة المنع لليفينشتاين — في المجلة الرسمية «أرشيف الطب النفسي» مقالًا هامًّا عن الشذوذ الجنسي الذكوري (الشعور الجنسي المعكوس). عام ١٨٨٦، نال كرافت إبينج شهرة واسعة بسبب نشره مقاله «الأمراض النفسية الجنسية»، يضع فيه تقسيمًا للانحرافات الجنسية، والتي قسمها إلى فئتين كبيرتين (تُنسب عادة إلى فرويد): انحرافات بحسب الموضوع وانحرافات بحسب الهدف. وكان هو صاحب مصطلحات «السادية» و«المازوخية» و«السادية المازوخية».

في عام ١٨٨٦، نشر بول سيريو — تلميذ مانيان — رسالة بعنوان «أبحاث إكلينيكية عن انحرافات الغرائز الجنسية». كان هو من قدم أعمال كرابلين في فرنسا، ولكنه اهتم أيضًا بدراسة خطابات المرضى وكيف تعطي صورة عن حياة واحتجاز مرضى الاعتلال العقلي في عهد النظام القديم. كما اخترع كيانًا جديدًا وجريئًا يتماشى مع الوضع، من شأنه فتح آفاق لانهائية أمام الطب النفسي، وهي فئة «المرضى غير الطبيعيين بالتكوين»: المؤولين والمتطلبين ومؤلفي القصص؛ أي كل «المنحرفين أعداء المجتمع»، وكل المختلين وغير المتزنين، وعددهم كثير في واقع الأمر.

ولم يخشَ أطباء آخرون من توسيع نطاق الانحطاط العقلي لدرجة أنهم ضموا إليه الشعراء. «أردت فقط أن أبين أنه لدى بعض الأفراد، لا يكون الشعر إلا وسيلة للتعبير عن التفكك العقلي؛ أي مظهرًا من مظاهر تدني العقل.»41 فالأمر لا يقتصر فقط على «مرضى الانحطاط السامي» على حد وصف مانيان؛ «فيمكن لبعض المرضى بالانحطاط العقلي أن يشعروا بدفقات مفاجئة، ويمكنهم امتطاء أجنحة الشعر إلى ارتفاعات لا يصلها أحد، ويصقلوا أبياتًا رائعة الرقة تغلفها كآبة مؤلمة وساحرة مثل فيرلين أو جي مورياس، بينما يظل المرضى الآخرون عاجزين عن تجاوز التعثر في النطق وتفكك الأفكار التي لا تقوم إلا على السجع الصوتي. الأوائل هم من اتفق على تسميتهم بمرضى الانحطاط السامي، أما الآخرون فليسوا إلا بُلهًا ضعيفي العقل. ولكن لدى البعض والبعض الآخر، نجد — على الأقل لعدة ساعات — آثار الخلل العقلي التي لا تمحى.»

ومن المظاهر الأخرى المميزة للانحطاط العقلي (خاصة لدى البُلْه) الحب المفرط للحيوانات المنزلية. «تدور حياتهم كلها حول هذا الحيوان الذي يرعونه ويهدهدونه كطفل، ويعملون من أجله، وعلى استعداد لتقديم أكبر التضحيات في سبيله.» وفقًا لمؤلفنا، فإن أسوأ شيء هو تعلق الشعراء المفرط بالقطط. فها هو أحدهم وقد نقل ولعه هذا إلى زوجته: «كان لفظ قطة وكل ما يتعلق بالقطط يتردد بكثافة في حواراتهما، فكانا يدلِّل أحدهما الآخر بقطي، وقطتي … كانت القطة تسيطر على حياتهما وكأنها ابنتهما. طبيب الأمراض العقلية سيقول إنها حالة هذيان مشترك» (د. لوران).

إلى جانب إدراج الشعر وحب القطط إلى مجال الطب النفسي، ولكيلا يبدو الأمر كمزحة، نتطرق إلى «تفاعل كرب القتال» أثناء الحرب العالمية الأولى. وتوجد قائمة مراجع طبية هائلة تُعنى بتحليل «ذهان الحرب»42 والخوف — غير الطبيعي — داخل الجيوش. فالخوف — حتى المعتدل — يعد خوفًا مرضيًّا في جبهة القتال: «فالرجل يكون غير متأقلم على وظيفته، ومن ثم يتخلى عن واجبه الحربي.»43 لا يَعتبر الأطباءُ النفسيون في فترة الحرب العالمية الأولى هذا الخوفَ عرضيًّا، وإنما «بنيويًّا» لدى الأفراد الذين ظهرت لديهم «اضطرابات انفعالية». وقد يكون هذا «التكوين الانفعالي كامنًا»، وقد كشفته «أحداث الحرب». فها هو بي فيكتور «الذي أصيب بصدمة القذائف في الحادي عشر من أكتوبر في الساعة الخامسة مساءً. حين وُجد كان مغطًّى بأشلاءِ ثلاثة من زملائه قُتلوا بجواره. في اليوم التالي، كان عاديًّا، ولكنه غرق منذ تلك اللحظة في صمت تام.»44 أما جي هيلير — مزارع يبلغ من العمر أربعين عامًا — فكان عام ١٩١٥ «قد تعرض لهجوم القذائف أربع مرات»، ولكنه ظل «جنديًّا جيدًا حتى فبراير ١٩١٧». في هذا التاريخ، «تعرض لقصف عنيف، ومن حينها لم يتوقف عن الارتجاف […] منذ ثمانية أيام، نشك في أعراض فرط الحركة.»

وهكذا، أصبح تفاعل كرب القتال مجموعة مختلطة من الأعراض العقلية تحدث نتيجة ارتجاج أو صدمة انفعالية. في عام ١٩١٨، ذكر رئيس الجمعية العامة لضحايا البتر في الحرب على استحياء — بخصوص أحد المرضى — أنه بالإضافة إلى جروحه البالغة، أُصيب بصدمة عصبية نتيجة انفجار في الهواء. قد يكون الأمر نتيجة طلقة قذيفة، دون أي جروح خارجية، أو صدمات أخرى: كما أن أحد القادة كان قد رأى العديد من رجاله يحترقون أحياء بعد أن ألقيت عليهم قنابل يدوية مشتعلة. ولكنه استطاع إنقاذ واحد منهم، بعد أن لفَّه بعباءته، ولكنه سرعان ما شعر بدوار وفقد الوعي. ومنذ ذلك الحين، وهو يعاني من هذيان يشبه الحلم يرى فيه نفس المشهد دون توقف.

ولكن لننتبه: يذكر الأطباء العسكريون (الأطباء المدنيون سابقًا) مرارًا أن هؤلاء «العرجان عقليًّا»45 لديهم استعداد سابق أو «مسمومون» بمزاجهم الانفعالي. ولكن ازدياد عددهم جعل من الضروري إنشاء خدمة للعلاج النفسي في كل خط من خطوط الجيش. وتتعدد مظاهر الذهان المرتبط بالحرب، من حالات الفوضى العقلية البسيطة المصحوبة بذهول وحتى الاضطرابات العصبية، بل وحتى الهذيان والهلوسة. في جميع الأحوال، كان يتم فحص هؤلاء البؤساء بقدر كبير من التشكك. أليس من الممكن أن يكون بينهم من يدَّعون المرض أو على الأقل يبالغون؟ كان ذلك هو هاجس أطباء الجيش. «إن محاكاة المرض العقلي فكرة قد تخطر لشخص غير متزن يرغب في التخلي عن التزاماته العسكرية.»46 وتجدر الإشارة إلى أن الوضع بالنسبة إلى من هم أمام مجلس الحرب (بسبب الهرب من وجه العدو أو التخلي عن الموقع) يكون صعبًا للغاية سواء أكان جنونهم تمثيليًّا أم لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤