ترجمة فقيد المروءة والهمة والإقدام السري المشهور المرحوم محمد باشا الشواربي

كبير سراة مديرية القليوبية
وجه يبين عن الكمال ويسفر
وينم عن طيب الفعال ويخبر
هذا محمد بل وحاتم عصره
لو قام ينعته اللبيب الشاعر
أمست تذكرنا به أحفاده
فنبيت نحمد صنعه ونكرر
قوم إذا حل الذليل رحابهم
أضحى يصول بعزة ويفاخر

•••

يا حامد مهما أطلت مديحكم
فأنا لعمر الحق فيه مقصر
عمر أخوك أخو المكارم والندى
وصلاح يغبطه السحاب الممطر
سرتم بمصر على وتيرة جدكم
فغدا الزمان بذكركم يتعطر
figure
السري المشهور محمد باشا الشواربي.

مولده ونشأته

هو ابن محمد سالم بن منصور بن محمد بن إبراهيم، قدم جده الأكبر ورئيس هذه العائلة المباركة إلى مصر من نحو ٧٥٠ سنة من الأقطار العربية عن طريق الشام في زمن الظاهر بيبرس البندقداري، وعائلته قديمة عريقة في الحسب والنسب من أصل عربي، ومن أعلى القبائل العربية نسبًا وجاهًا، لها الشأن الرفيع والذكر الجميل في كل أدوارها.

ولد صاحب الترجمة سنة ١٨٤١م وتعلم العلوم الأولية، وشب على محبة الزراعة والتفكير في إصلاح الأراضي وتنسيقها على الطرق التي جعلت أراضي دائرته خصبة نامية، وكل أمة لا تذكر حسنات من تقدم من رجالها وفضائل أعمال أبنائها تضيع حلقات الاتصال بين ماضيها وحاضرها، حلقات الماضي التي تذكر بعظيم الشكر والثناء والإعجاب لهذا الشهم الجليل، والرجل الكبير محمد الشواربي باشا الذي يصح أن نلقبه «بالأمير العربي»؛ لأننا عرفناه شديد العصبية العربية متينها، حتى كان يهتم لأقل نبأ عن العرب وبلادهم وشؤونهم، وآخر عهدنا به في مجلس الشورى يدافع عن العرب بحماس شديد يوم وقف سعادة مرقص باشا سميكة، وطلب أن يساوى عرب مصر بفلاحيها أو بسائر الأهالي وتلغى امتيازاتهم، استمر هذا الاقتراح مدة ثلاث سنوات متوالية والشواربي باشا صامت رزين كعادته، ثم هب كالعاصفة بكل حماس ونشاط أثبت أن هذه الامتيازات نالتها العرب بدمائهم؛ لأنهم كانوا سورًا متينًا للديار المصرية شرقًا وغربًا، أمناء لكل أمير تبوأ كرسي الخديوية، وقد قال: «الأجدر بالمجلس أن يخفف العبء عن الفلاحين فينال الفخر والأجر.»

ويكفينا أكبر برهان على سيرته السياسية حادثة عرابي باشا، إذ كان ينذر رفاقه «كما يؤخذ من سجلات المجلس» بالويل من طغيان الجيش، ولما لم يذعنوا لمشورته وحاصر الجيش النواب في منزل سلطان باشا، وأكرههم على إصدار قرارات لم يريدوها ولم يوافق عليها الخديوي، التفت إذ ذاك شواربي باشا إلى زملائه، وقال لهم: هذه نتيجة تساهلكم فقد كنتم بالأمس أقوى منهم وكانت البلاد سائرة إلى غرضها وحسن مستقبلها، والآن أنتم محاصرون وغدًا يقذفون بكم وبالوطن من حالق»، ولم يمض يومان حتى طغت الثورة وقام الجيش بمظاهرته الكبرى أمام سراي عابدين، وتبع ذلك ما تبعه من الشر والبلاء وفي ذلك الحين كانت جريدة الأهرام تجاهد في سبيل الأمن العام، وتنصح الثوار بأن يخضعوا للخديوي حتى لا يعرضوا البلاد للخطر، فهب العرابيون يتهمونها بالخيانة والغدر فلما بلغ مسمع المترجم له، وهو عالم أن جريدة الأهرام على حق وأن الجرائد الممالئة للثوار قد سممت عقول الأمة فتح منزله الكائن في شارع الساحة بمصر لوكيل جريدة الأهرام، وكان يرسل معه خدمه يستلمون أعداد الأهرام من السكة الحديد، ويحملونها إلى داره وتوزع من هناك، وقد كان الفقيد أول من حافظ على حياة «أديب إسحاق»، الذي عينته الحكومة كاتبًا لضبط محاضر المجلس، إذ آواه في منزله مدة شهرين، والعرابيون يظنونه في منزل سلطان باشا، وللمترجم له أقوال وحكم عظيمة ونصائح نفيسة.

الوظائف السامية التي تقلدها

أما أدوار حياته فإنه تقلد وظيفة وكيل مديرية القليوبية، ثم مديرًا لمديريتي الجيزة والمنوفية ثم تعين عضوًا بمجلس النواب سنة ١٨٨٢، وكان أشد مراسًا وأحزم رأيًا مع أحمد باشا عرابي ثم تعين عضوًا لمجلس الشورى، ثم وكيلًا للمجلس أيضًا وكان في كل هذه الوظائف مثال الجد والنزاهة والإخلاص الحقيقي لوطنه.

الرتب والنياشين التي نالها

نال الفقيد العظيم رتبة البكوية في زمن المغفور له إسماعيل باشا، وحاز المجيدي الأول والعثماني الأول ونياشين سامية من دولة إيطاليا، وأنعم عليه بالميرميران الرفيعة في زمن ساكن الجنان توفيق باشا الخديوي الأسبق، والرومللي بيكاريبكي «بيلربيه» في زمن الخديوي عباس الثاني.

إدارته المالية

كان الفقيد العظيم رجلًا حازمًا فإذا صح لنا أن نذكره مصريًّا فهو من الأغنياء المثريين، وإن قارناه بالإفرنج فإنه يضع الأمور في مواضعها الحقيقية؛ ولذلك سار سيرًا حميدًا معتدلًا وحفظ ثروته من التبديد، ولقد كان شفوقًا رحيمًا حتى أبت نفسه الكريمة رفع أجور الأدوار والعمارات وقال: «إنني لا أريد أن أظلم إنسانًا حتى لا يظلمني أحد»، ولقد عرض عليه أحد الكتاب كتابًا ليشتريه فأجابه «إن مثلك يجب على الأمة أن تساعده لتنشطه وتقوي عزيمته»، ثم أخذه منه ودفع له ثمن نسخة واحدة عشرين بنتو. فرجل مثل الشواربي باشا لجدير بالأمة أن تفتخر به وجدير بالمؤرخين أن يسطروا تاريخه الناصع البياض بين دفتي كتبهم؛ لتظل أعماله ناطقة له بالفخر والإعجاب ما دامت السماوات والأرض.

أعماله الخيرية

كان من أعمال الفقيد الخيرية إنشاء مستشفى قليوب الشهير، هذا المستشفى الذي خفف ويلات الفقراء والمساكين، إذ به من الأطباء ما يغني المريض عن الاستشفاء بمصر وإسكندرية، وهو أعظم حسنة وأجمل معروف عمله الباشا عن حب لفعل الخير لا عن إرادته الشهرة الكاذبة والجاه العريض. أقام مسجدًا فخمًا بمحطة قليوب، أوقف وقفًا خيريًّا للحرم النبوي، رتب مالًا مخصوصًا لينفق على النجف النبوي. أوقف أوقافًا خيرية لتكية أنشأها بقليوب، رتب مرتبات خصوصية للأضرحة والعائلات الفقيرة، ولقد حج البيت الحرام مرتين وزار المصطفى ثلاث مرات، وبالإجمال فهو رجل تربى على البر والتقوى والصلاح وحب الفقراء ومواساة البؤساء وتخفيف ويلات المنكوبين.

أخلاقه وصفاته

كان رحمه الله وأسكنه فسيح جناته لين العريكة لطيف المحادثة وديع الأخلاق يحب العلماء ويجلهم، مشهور بالحزم وبعد النظر، وأصالة الرأي وطهارة الذمة والجد في كل أعماله.

قضى حياته الطاهرة حتى كانت الساعة العاشرة من ليلة ١٣ يونيو سنة ١٩١٣ أصابته سكتة بالمخ فاضت بعدها روحه الطاهرة لملاقاة ربها الكريم، ولقد كان خبر وفاته مؤثرًا جدًّا في نفوس الأمة رحمه الله وأحسن إليه وسقى ثراه بالرحمة والغفران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤