الفصل الثالث

تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين

(١) الكِنْدي

أقدم ما عرفنا من أقوال الفلاسفة الإسلاميين في التعريف بالفلسفة هو ما نقله ابن نباته المصري١ عن أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب، قال:

«ومن كلامه (يعني الكندي) في الفلسفة: «علوم الفلسفة ثلاثة؛ فأولها: العلم الرياضي في التعليم، وهو أوسطها في الطبع. والثاني: علم الطبيعيات، وهو أسفلها في الطبع. والثالث: علم الربوبية، وهو أعلاها في الطبع.

وإنما كانت العلوم ثلاثة لأنَّ المعلومات ثلاثة: إمَّا علم ما يقع عليه الحس، وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى؛ إما أن يكون لا يتصل بالهيولى البتة، وإما أن يكون قد يتصل بها.

فأمَّا ذات الهيولى فهي المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي، وإمَّا أن يتصل بالهيولى وإن له انفرادًا بذاته، كعلم الرِّياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف،٢ وإمَّا لا يتصل بالهيولى٣ البتة، وهو علم الربوبية.»٤
وليس في هذا القول الموجَز المُجمَل الذي لا يخلص من نفحات عجمة، بحكم أنه من المُحاولات الأولى لإبراز المعاني والاصطلاحات الفلسفية في أساليب عربية، إلا تعرضٌ للقسم النظري من الفلسفة دون العملي، وليس فيه محاولة وضْع تعريف للفلسفة جامعٍ، ولا ذكرٍ للمنطق.٥

(٢) الفارابي

وجاء بعد ذلك أبو نصر الفارابي المعلم الثاني المتوفى سنة ٣٣٥ﻫ/٩٥٠م فعرض لتحديد معنى الفلسفة، وعرض للإحاطة بأقسامها، وذكر الغاية منها والفرق بين الدين والفلسفة في بيان أفصح وأبسط؛ لكنه فرَّق هذه الأبحاث في مواضع من كتبه لمناسبات، لم يعمد إلى جمعها في نسق، ولم تخلُ أقواله على بسطها من اضطراب وغموض في بعض الأحايين.

قال في كتابه «الجمع بين رأيَيِ الحكيمين»:

«إذ الفلسفة حَدُّها وماهيتها أنَّها العلم بالموجودات بما هي موجودة، وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة ومنشئان لأوائلها وأصولها، ومتممان لأواخرها وفروعها، وعليهما المعول في قليلها وكثيرها، وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها، وما يصدر عنهما في كل فنٍّ إنما هو الأصل المعتمد عليه لخلوِّه من الشوائب والكدر، بذلك نطقت الألسن وشهدت العقول، إن لم يكن من الكافة، فمن الأكثرين من ذوي الألباب الناصعة والعقول الصافية.

ولما كان القول والاعتقاد إنَّما يكون صادقًا متى كان للموجود المعبِّر عنه مطابقًا، ثم كان بين قول هذين الحكيمين في كثير من أنواع الفلسفة خلاف، لم يخلُ الأمر فيه من إحدى ثلاث خلال: إمَّا أن يكون هذا الحد المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح، وإما أن يكون رأي الجميع أو الأكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفًا ومدخولًا. وإما أن يكون في معرفة الظانين فيهما بأن بينهما خلافًا في هذه الأصول تقصير، والحد صحيح مطابق لصناعة الفلسفة، وذلك يتبيَّن من استقراء جزئيات هذه الصناعة، وذلك أنَّ موضوعات العلوم وموادها لا تخلو من أن تكون: إما إلهية، وإما طبيعية، وإما منطقية، وإما رياضية أو سياسية.

وصناعة٦ الفلسفة هي المستنبِطة لهذه والمخرِجة لها، حتى إنه لا يُوجد شيء من موجودات العالم إلا وللفلسفة فيه مدخل، وعليه غرض، ومنه علم بمقدار الطاقة الإنسية، وطريق القسمة٧ يصرِّح ويوضِّح ما ذكرناه، وهو الذي يؤثر الحكيم أفلاطون، فإن المقسم يروم ألَّا يشذَّ عنه شيء موجود من الموجودات، ولو لم يسلكها أفلاطون، لما كان الحكيم أرسطوطاليس يتصدى لسلوكها.

غير أنه لما وجد أفلاطون قد أحكمها وبيَّنها وأتقنها وأوضحها، اهتم أرسطوطاليس باحتمال الكد وإعمال الجهد في إنشاء طريق القياس، وشرع في بيانه وتهذيبه ليستعمل القياس والبرهان في جزءٍ جزءٍ مِمَّا تُوجِبه القسمة؛ ليكون كالتابع والمتمِّم والمساعد والنَّاصح.

ومَنْ تدرب في علم المنطق وأحكم علم الآداب الخلقية، ثم شرع في الطبيعيات والإلهيات، ودرس كتب هذين الحكيمين، يتبين له مصداق ما أقوله، حيث يجدهما قد قصدا تدوين العلوم بموجودات العالم، واجتهدا في إيضاح أحوالها على ما هي عليه من غير قصد منهما لاختراع أو إغراب أو إبداع وزخرفة وتشويق، بل لتوفيته كلًّا منها قسطَه ونصيبَه بحسب الوسع والطاقة.

وإذا كان ذلك كذلك، فالحد الذي قيل في الفلسفة: «إنها العلم بالموجودات بما هي موجودة» صحيح يبيِّن عن ذات المحدود ويدل على ماهيته.»٨

ويتفق مع هذا التعريف للفلسفة ويُوضِّحه قول الفارابي أيضًا في كتاب «تحصيل السعادة»:

«وأول هذه العلوم كلها هو العلم الذي يعطي الموجودات معقولة ببراهين يقينية، وهذه الأخر إنما تأخذ تلك بأعيانها، فتقنع فيها أو تخيلها؛ ليسهل بذلك تعليم جمهور الأُمم وأهل المدن، فالطرق الإقناعية والتخيلات إنما تُستعمل إذن في تعليم العامَّة وجمهور الأمم والمدن، وطرق البراهين اليقينية في أن يحصل بها الموجودات أنفسها معقولة٩ تستعمل في تعليم مَنْ سبيله أن يكون خاصيًّا.

وهذا العلم هو أقدم العلوم وأكملها رياسة، وسائر العلوم الأخر الرئيسية هي تحت رياسة هذا العلم …

وكان الذين عندهم هذا العلم من اليونانيين يسمونه الحكمة على الإطلاق، والحكمة العظمى، ويسمون اقتناءها العلم، وملكتها الفلسفة، ويعنون به إيثار الحكمة العظمى ومحبتها، ويسمون المقتني لها فيلسوفًا، يعنون به المحب والمؤثِر للحكمة العظمى.»١٠

وللفارابي تعريف وتقسيم للفلسفة نحا بهما منحًى آخَر؛ فهو يقول في كتاب «التنبيه على سبيل السعادة»:

«فإنَّ الصنائع صنفان: صنف مقصودهُ تحصيل الجميل، وصنف مقصوده تحصيل النافع، والصناعة التي مقصودها تحصيل الجميل فقط هي التي تُسَمَّى الفلسفة، وتُسَمَّى الحكمة على الإطلاق، ولمَّا كانت السعادة إنما ننالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة قنية، وكانت الأشياء الجميلة إنما تصير لنا قنية بصناعة الفلسفة، فلَزِمَ ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي بها تنال السعادة، ولما كان الجميل صنفين؛ صنف به يحصل معرفة الموجودات التي ليس للإنسان فعلها، وهذه تُسمى النظرية، والثاني: به تحصل معرفة الأشياء التي شأنها أن تُفعل، والقوة على فعل الجميل منها، وهذه تسمى الفلسفة العملية والفلسفة المدنية.

والفلسفة النظرية تشتمل على ثلاثة أصناف من العلوم؛ أحدها: علم التعاليم. والثاني: العلم الطبيعي. والثالث: علم ما بعد الطبيعيات.

وكل واحد من هذه العلوم الثلاثة يشتمل على صنف من الموجودات التي من شأنها أن تُعلم فقط …

والفلسفة المدنية صنفان؛ أحدهما: يحصل به علم الأفعال الجميلة، والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قنية لنا، وهذه تُسَمَّى الصناعة الخلقية، والثاني: يشتمل على معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن، والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم، وهذه تُسَمَّى الفلسفة السياسية، فهذه جُمَل أجزاء صناعة الفلسفة.»١١

وبعد أن عَرَّف الفارابي الفلسفة على هذا الوجه واستوفى أقسامها، ذكر المنطق على أنه آلة للفلسفة وممهِّد لسبيلها، لا على أنه قسم من أقسامها، فقال:

«وأقول: لما كانت الفلسفة تحصل بجودة التمييز، وكانت جودة التمييز تحصل بقوة الذهن، إنما تحصل متى كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع هذا، وقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة بها نقف على الحق أنه حق يقين فنعتقده، وبها نقف على الباطل أنه باطل بيقين فنجتنبه، ونقف على الباطل الشبيه بالحق فلا نغلط فيه، ونقف على ما هو حق في ذاته وقد أشبه الباطل فلا نغلط فيه ولا ننخدع، والصناعة التي بها نستفيد هذه القوة تُسمى صناعة المنطق.»١٢

وإذا كُنَّا نرى في هذا المقال اتجاهًا من الفارابي إلى عدِّ المنطق كالآلة للفلسفة يُخالف اتجاهه إلى عَدِّه قسمًا من صميمها فيما نقلناه من كلامه؛ أولًا: فإنَّا نجد الفارابي يذكر في كتابه: «ما ينبغي أن يُقدَّم قبل تعلُّم فلسفة أرسطو» الغاية التي يقصد إليها في تعلُّم الفلسفة بما نصه:

«وأمَّا الغاية التي يقصد إليها في تعلم الفلسفة فهي معرفة الخالق — تعالى — وأنه واحد غير مُتحرِّك، وأنه العلة الفاعلة لجميع الأشياء، وأنه المرتِّب لهذا العالم بجوده وحكمته وعدله.١٣

وتبيين الغاية من الفلسفة هذا البيان يشعر بقصر الفلسفة على القسم الإلهي.

ويُعين على هذا الفهم ما جاء في الكتاب نفسه عند الكلام على العلم الذي ينبغي أن يُبدأ به في تعلم الفلسفة.»١٤

فقد ذكر الفارابي أنَّ العلم الذي ينبغي أن يُبدأ به قبل تعلم الفلسفة موضع خلاف بين الحُكماء، فمنهم مَن يرون أنه علم الهندسة، ومنهم مَن يقولون علم إصلاح الأخلاق، ومنهم مَن يرون الابتداء بعلم الطبائع، ومنهم مَن يذكرون علم المنطق.

وظاهر أنَّ هذه العلوم التي دار عليها القول فيما ينبغي أن يُقدَّم قبل تعلم الفلسفة لا تكون أقسامًا من الفلسفة.

ومما ينحو هذا النحو في الميل إلى اعتبار الفلسفة على الحقيقة هي القسم الإلهي قول الفارابي في التعليقات:

«وقال: الحكمةُ معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته، والحكيم هو مَن عنده علم الواجب بذاته بالكمال، وهو١٥ ما سوى الواجب بذاته، ففي وجوده نقصان عن درجة الأول بحسبه، فإذن يكون ناقص الإدراك، فلا حكيم إلا الأول لأنه كامل المعرفة بذاته.»١٦

(٣) إخوان الصفاء

وهذا الاختلاف في تعريف الفَلسفة وتقسيمها الذي نُصادفه في أقوال الفارابي، نجد شيئًا منه في كلام مَن بعده، فرسائل إخوان الصفاء التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الرابع بعد زمن الفارابي، تقول في التعريف بالفلسفة وتقسيمها:

«الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يُوافق العلم، والعلوم الفلسفية أربعة أنواع؛ أولها: الرياضيات. والثاني: المنطقيات. والثالث: العلوم الطبيعيات. والرابع: العلوم الإلهيات.»١٧

وتقول في موضع آخر:

«وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع؛ منها الرياضيات، ومنها المنطقيات، ومنها الطبيعيات، ومنها الإلهيات.»

وبعد الكلام على أنواع الرياضيات من العدد والهندسة والنجوم والموسيقى وأنواع المنطقيات، وهي: معرفة صناعة الشعر، ومعرفة صناعة الخُطَب، ومعرفة صناعة الجدل، ومعرفة صناعة البرهان، ومعرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل، وأنواع العلوم الطبيعية وهي سبعة: علم المبادئ الجسمانية، وعلم السماء والعالَم، وعلم الكون والفساد، وعلم حوادث الجو، وعلم المعادن، وعلم النبات، وعلم الحيوان. بعد ذلك ذُكِرت أنواع العلوم الإلهية وهي خمسة؛ أولها: معرفة الباري جل جلاله. والثاني: علم الروحانيات، وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلَّامة الفعَّالة التي هي ملائكة الله. والثالث: علم النفسيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية. والرابع: علم السياسة وهي خمسة أنواع: السياسة النبوية، السياسة الملوكية، السياسة العامية، السياسة الخاصية، السياسة الذاتية. والخامس: علم المعاد وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى.١٨

فإخوان الصفاء لا يُقسمون العلوم الفلسفية إلى نظرية وعملية، بل يدخلون القسم العملي كله في الإلهيات، ويدخلون في علوم الفلسفة ما لم يُدخِله مَن قبلهم من السياسة النبوية وعلم المعاد.

ومع أنَّا نجد في هذه النصوص تصريحًا بأنَّ المنطقيات من علوم الفلسفة، فإن في رسائل إخوان الصفاء فصلًا عنوانه: «فصل في أنَّ المنطق أداة الفيلسوف» جاء فيه:

«واعلم بأنَّ المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل إنه أداة الفيلسوف، وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النُّبوة، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات؛ لأنه قيل في حَدِّ الفلسفة إنها التشبُّه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، واعلم بأن معنى قولهم: «طاقة الإنسان» هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته، هذا هو معنى قولهم التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأنَّ الله — عز وجل — لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير.»١٩

(٤) ابن سينا

أمَّا ابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ﻫ/١٠٨٧م فيعرض لتعريف الحكمة وتقسيمها في أسلوبه العلمي الدقيق، ولا تخلو مع هذا أقواله في كتبه المختلفة من تفاوت.

وهذا قوله في «رسالة الطبيعيات» من عيون الحكمة:

«الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصوُّر الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية؛ فالحكمة المتعلِّقة بالأمور التي لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها تُسَمَّى حكمة نظرية، والحكمة المُتعلقة بالأمور العملية التي لنا أن نعلمها ونعمل بها تُسمى حكمة عملية، وكل واحدة من هاتين الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة: فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية، ومبدأ هذه الأقسام الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تستبين بها وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النَّظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات.

فالحكمة المدنية فائدتها أن يُعلم أنه كيف يجب أن تكون المشاركة التي تقع فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان، ومصالح بقاء نوع الإنسان، والحكمة المنزلية فائدتها أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنظم به المصلحة المنزلية، والمشاركة المنزلية تتم بين زوج وزوجة، ووالد ومولود، ومالك وعبد.

وأما الحكمة الخلقية ففائدتها أن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، وتعلم الرذائل وكيفية توقِّيها لتطهر عنها النفس، وأمَّا الحكمة النظرية فأقسامها ثلاثة: حكمة تتعلق بما في الحركة والتغير من حيث هو في الحركة والتغير، وتُسَمَّى حكمة طبيعية، وحكمة تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن عن التغير، وإن كان وجوده مُخالطًا للتغير، وتسمى حكمة رياضية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغنٍ عن مخالطة التغير؛ فلا يخالطها أصلًا، وإن خالطها فبالعَرَض لا أنَّ ذاتها مفتقرة في تحقيق الوجود إليها، وهي الفلسفة الأولى، والفلسفة الإلهية جزء منها، وهي معرفة الربوبية، ومبادئ هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مُستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، ومُتَصرَّف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة، ومَن أُوتي استكمال نفسه بهاتين الحكمتين، والعمل مع ذلك بإحداهما فقد أوتي خيرًا كثيرًا.٢٠

وتعريف ابن سينا للحكمة فيما أسلفنا مُحتمل لأن تعتبر الحكمة نفس المعلومات التصورية والتصديقية، بناء على أنَّ السين والتاء في لفظة: «استكمال» مزيدتان بغير معنًى، ومحتمل لأن تكون السين والتاء للدلالة على الطلب، فتكون الحِكْمَة هي التماس تحصيل هذه المعلومات بالنظر العقلي، وفيما سبق من كلام الفارابي ما ينحو إلى كليهما.

واقتفى صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي٢١ في كتاب «الأسفار الأربعة» أثر الشيخ الرئيس في هذا التعريف فقال:
«اعلم أنَّ الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقًا بالبراهين لا أخذًا بالظن والتقليد بقدْر الوسع الإنساني، وإن شئتَ قلتَ نظم العالم نظمًا عقليًّا على حسب الطاقة البشرية؛ ليحصل التشبه بالباري تعالى.»٢٢

ثم إنَّ ابن سينا لم يعرض للمنطق في أقسام الحكمة، وعرض لصلة كلٍّ من الحكمة العملية، والحكمة النظرية بالدين ببيان لم يرد في كلام مَن سبقوه.

ويقول ابن سينا في «رسالة في أقسام العلوم العقلية»:

«فصل في ماهية الحكمة: الحكمة صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله مما ينبغي أن يكتسب فعله، لتشرف بذلك نفسه وتستكمل وتصير عالمًا معقولًا مضاهيًا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى بالآخرة، وذلك بحسب الطاقة الإنسانية.

فصل في أول أقسام الحكمة الحكمة: تنقسم إلى قسم نظري مجرد وقسم عملي، والقسم النظري هو الذي الغاية فيه حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان، ويكون المقصود إنما هو حصول رأي فقط مثل علم التوحيد وعلم الهيئة، والقسم العملي هو الذي ليس الغاية فيه حصول الاعتقاد اليقيني بالموجودات، بل رُبَّما يكون المقصود فيه حصول صحة رأي في أمر يحصل بكسب الإنسان؛ ليكتسب ما هو الخير منه؛ فلا يكون المقصود حصول رأي فقط، بل حصول رأي لأجل عمل، فغاية النظري هو الحق، وغاية العملي هو الخير.

فصل في أقسام الحكمة النظرية: أقسام الحكمة النظرية ثلاثة: العلم الأسفل، ويُسمى العلم الطبيعي، والعلم الأوسط، ويسمى العلم الرياضي، والعلم الأعلى، ويُسمى العلم الإلهي، وإنَّما كانت أقسامه هذه الأقسام لأنَّ الأمور التي يبحث عنها إمَّا أن تكون أمورًا حدودها ووجودها متعلقان بالمادة الجسمانية والحركة مثل: أجرام الفلك والعناصر الأربعة وما يتكوَّن منها، وما يوجد من الأحوال خاصًّا بها مثل الحركة والسكون والتغير والاستحالة والكون والفساد والنشوء٢٣ والبِلَى، والقوى والكيفيات التي تصدر عنها هذه الأحوال وسائر ما يُشبهها، فهذا قسم. وإما أن تكون أمورًا وجودها متعلق بالمادة والحركة، وحدودها غير مُتعلقة بهما، مثل التربيع والتدوير والكُريَّة والمخروطية، ومثل العدد وخواصِّه، فإنك تفهم الكُرَة من غير أن تحتاج في تفهُّمها إلى فهم أنَّها من خشب أو ذهب أو فضة، ولا تفهم الإنسان إلا وتحتاج إلى أن تفهم أنَّ صورته من لحم وعظم، وكذلك تفهم التقعير من غير حاجة إلى فهم الشيء الذي فيه التقعير، ولا تفهم الفطوسة إلا مع حاجة إلى فهم الشيء الذي فيه الفطوسة. ومع هذا كله فالتدوير والتربيع والتقعير والاحدايداب لا توجد إلا فيما يحملها من الأجرام الواقعة في الحركة، فهذا قسم ثانٍ، وإمَّا أن تكون أمورًا لا وجودها ولا حدودها مُفتقرين إلى المادة والحركة، أمَّا من الذوات فمثل ذات الأحد الحق رب العالمين، وأمَّا من الصفات فمثل الهوية والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والجزئية والكلية، والتمامية والنقصان، وما أشبه هذه المعاني، ولما كانت الموجودات على هذه الأقسام الثلاثة كانت العلوم النظرية بحسبها على أقسام ثلاثة، والعلم الخاص بالقسم الأول يُسَمَّى طبيعيًّا، والعلم الخاص بالقسم الثاني يُسمى رياضيًّا، والعلم الخاص بالقسم الثالث يُسمى إلهيًّا.
فصل في أقسام الحكمة العملية: لمَّا كان تدبير الإنسان إما أن يكون خاصًّا بشخص واحد، وإما أن يكون غير خاص بشخص واحد، والذي يكون غير خاص هو الذي إنما يتم بالشركة، والشركة إما بحسب اجتماع منزلي عائلي، وإما بحسب اجتماع مدني؛ كانت العلوم العملية ثلاثة: واحد منها خاص بالقسم الأول، ويُعرف به أن الإنسان كيف ينبغي أن تكون أخلاقه وأفعاله حتى تكون حياته الأولى والأخرى سعيدة، ويشتمل عليه كتاب أرسطوطاليس في الأخلاق. والثاني منها خاص بالقسم الثاني، ويُعرف منه أنَّ الإنسان كيف ينبغي أن يكون تدبيره لمنزله المشترك بينه وبين زوجه وولده ومملوكه، حتى تكون حاله منتظمة مؤدية إلى التمكُّن من كسب السعادة، ويشتمل عليه كتاب أرونس٢٤ في تدبير المنزل، وكُتُب فيه لقوم آخرين غيره. والثالث منها خاص بالقسم الثالث، ويُعرف به أصناف السياسات والرياسات والاجتماعات المدنية الفاضلة والرَّدِيَّة، ويُعرف وجه استيفاء كل واحد منها وعلة زواله وجهة انتقاله، فما كان يتعلق من ذلك بالملك فيشتمل عليه كتاب أفلاطون وأرسطو في السياسة، وما كان من ذلك يتعلق بالنبوة والشريعة فيشتمل عليه كتابان هما في النواميس، والفلاسفة لا تُريد بالناموس ما تظنه العَامَّة أن الناموس هو الحيلة والخديعة، بل النَّاموس عندهم هو السُّنَّة والمِثال القائم ونزول الوحي. والعرب أيضًا تُسمي المَلَك النازل بالوحي ناموسًا، وهذا الجزء من الحكمة العملية يُعرف به وجود النبوة وحاجة نوع الإنسان في وجوده وبقائه ومنقلبه إلى الشريعة، وتعرف بعض الحكمة في الحدود الكلية المشتركة في الشرائع، والتي تخص شريعة شريعة بحسب قوم قوم وزمان زمان، ويُعرف به الفرق بين النبوة الإلهية وبين الدعاوى الباطلة كلها.

وذكر ابن سينا بعد ذلك أقسام الحكمة الطبيعية ما يقوم منها مقام الأصل، وأقسام الحكمة الطبيعية الفرعية، وأتبع ما ذكر ببيان الأقسام الأصلية للحكمة الرياضية، والأقسام الفرعية للعلوم الرِّياضية، وأول الأقسام الأصلية للعلم الإلهي، ثم ذكر من فروع العلم الإلهي معرفة كيفية نزول الوحي والجواهر الرُّوحانية التي تُؤدي الوحي، وأنَّ الوحي كيف يتأدى حتى يصير مُبصَرًا ومسموعًا بعد روحانيته، وعلم المعاد ويشتمل على تعريف الإنسان أنَّه لو لم يبعث بدنه مثلًا لكان له ببقاء روحه بعد موته ثواب وعقاب غير بدنيين، وكانت الروح التقية التي هي النفس المطمئنة الصحيحة الاعتقاد للحق، العاملة بالخير الذي يُوجبه الشرع والعقل، فائزة بسعادة وغبطة ولذة فوق كل سعادة وغبطة ولذة، وأنَّها أجمل من الذي صحَّ بالشرع ولم يُخالفه العقل أنها تكون لبدنه، إلا أن الله — تعالى — أكرم عبادَه المتقين على لسان رسله — عليهم السلام — بموعد بالجمع بين السعادتين الروحانية بقاء النفس والجسمانية ببعث البدن الذي هو عليه قدير إن شاء هو ومتى شاء هو. وتبين أنَّ تلك السعادة الروحانية كيف أنَّ العقل وحده طريق إلى معرفتها، وأمَّا السعادة البدنية فلا يفي بوصفها إلا الوحي والشريعة، وبمثل ذلك يُعرف حد الشقاوة الروحانية التي لأنفس الفجار، وأنها أشدُّ إيلامًا وإيذاءً من الشقاوة التي أُوعِدوا بحلولها بهم بعد البعث، ويعرف أنَّ تلك الشقاوة على مَن تدوم وعمن تنقطع، وأما التي تختص بالبدن فالشريعة أوقفتْهم على صحتها، دون النظر والعقل وحده، وأمَّا الشقاوة الرُّوحانية فإنَّ العقل طريق إليها من جهة النظر والقياس والبرهان، والجُسمانية تصح بالنبوة التي صحت بالعقل ووجبت بالدليل وهي مُتَمِّمة للعقل، فإنَّ كل ما لا يتوصل العقل إلى إثبات وجوده أو وجوبه بالدليل؛ فإنما يكون معه جوازه فقط، فإنَّ النبوة تعقد على وجوده أو عدمه فصلًا، وقد صَحَّ عنده صدقها فيتم عنده ما صح وقصر عنه من معرفته.»

ولما فرغ ابن سينا من الكلام على أقسام الحكمة قال:

«وإذ قد أتى وصفنا على الأقسام الأصلية والفرعية للحكمة، فقد حان لنا أن نعرف أقسام العلم الذي هو آلة للإنسان موصلة إلى كسب الحكمة النظرية والعملية، واقية عن السهو والغلط في البحث والروية، مرشدة إلى الطريق الذي يجب أن يسلك في كل بحث ومعرفة حقيقة الحدِّ الصحيح، وحقيقة الدليل الصحيح الذي هو البرهان، وحقيقة الجدلي المقارب للبرهان، وحقيقة الإقناعي القاصر عنهما، وحقيقة المغالطي المدلِّس منهما، وحقيقة الشعري الموهِم تخيلًا، وهو صناعة المنطق.»

وعقد فصلًا عنوانه «في الأقسام التسعة للحكمة التي هي المنطق» ذكر فيه أقسام المنطق التسعة، وختم بقوله:

«فقد دلَّلت على أقسام الحكمة، وظهر أنه ليس شيء منها يشتمل على ما يخالف الشرع؛ فإنَّ الذين يدعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع إنما يضلون من تلقاء أنفسهم ومن عجزهم وتقصيرهم، لا أنَّ الصناعة نفسها توجبه، فإنها بريئة منهم.»٢٥

وذكر في نهاية الرسالة ما نصه:

«فجملة العلوم المعقولة المضبوطة في هذه الرسالة العظيمة ثلاثة وخمسون علمًا.»

ولم يبلغ أحد علمناه قبل ابن سينا بالعلوم العقلية أو العلوم الفلسفية هذا العدد، وقد جعل المنطق آلة للعلوم العقلية أو الفلسفة بقسميها النظري والعملي، ثم أسماه مع ذلك حكمة.

وذكر في فروع العلم الإلهي علم الوحي وعلم المَعَاد، وهو في ذلك يُقارب منهج إخوان الصفاء، ولابن سينا في تعريف الحكمة وتقسيمها مسلك طريف سلكه في منطق المشرقيين فقال: «في ذكر العلوم: إنَّ العلوم كثيرة، والشهوات لها مُختلفة، ولكنها تنقسم أول ما تنقسم قسمين:

علوم لا يصلح أن تجري أحكامها الدهر كله، بل في طائفة منَ الزَّمان ثم تسقط بعدها، أو تكون مغفولًا عن الحاجة إليها بأعيانها برهة من الدهر، ثم يُدَل عليها من بعد.

وعلوم مُتساوية النسب إلى جميع أجزاء الدهر، وهذه العلوم أولى العلوم بأن تُسمى «حكمة».

وهذه منها «أصول» ومنها «توابع وفروع»، وغرضنا ها هنا ما هو في الأصول، وهذه التي سميناها توابع وفروعًا؛ فهي كالطب والفلاحة، وعلوم جزئية تنسب إلى التنجيم، وصنائع أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها.

وتنقسم «العلوم الأصلية» إلى قسمين أيضًا؛ فإن العلم لا يخلو؛ إما أن يُنتفع به في أمور العالم الموجودة، وما هو قبل العالم، ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي «علوم أمور العالم وما قبله»، وإمَّا أن يُنتفع به من حيث يصير آلة لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله.

والعلم الذي يُطلب؛ ليكون آلة قد جرت العادة في هذا الزمان وفي هذه البلدان أن يُسمى «علم المنطق»، ولعلَّ له عند قوم آخرين اسمًا آخر، لكننا نُؤثِرُ أنْ نُسَمِّيه الآن بهذا الاسم المشهور.

وإنما يكون هذا العلم آلة في سائر العلوم؛ لأنه يكون علمًا منبِّهًا على الأصول التي يحتاج إليها كل مَن يقتنص المجهول من العلوم باستعمالٍ للمعلوم على نحوٍ وجِهَةٍ يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤديًا بالباحث إلى الإحاطة بالمجهول، فيكون هذا العلم مُشيرًا إلى جميع الأنحاء والجهات التي تنقل الذِّهن من المعلوم إلى المجهول، وكذلك يكون مُشيرًا إلى جميع الأنحاء والجهات التي تضل الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلوب من المجهول ولا يكون كذلك، فهذا هو أحد قسمي العلوم.

وأما القسم الآخر؛ فهو ينقسم أيضًا أول ما ينقسم قسمين؛ لأنَّه إمَّا أن تكون الغاية في العلم تزكية النفس مما يحصل لها من صورة المعلوم فقط، وإما أن تكون الغاية ليس ذاك فقط، بل وأن يعمل الشيء الذي انتقشت صورته في النفس.

فيكونُ الأوَّل تتعاطى به الموجودات لا من حيثُ هي أفعالنا وأحوالنا، لنعرف أصوب وجوه وقوعها منَّا وصدورها عنَّا ووجودها فينا. والثاني يلتفت فيه لفت موجودات هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها منَّا وصدورها عنَّا ووجودها فينا.

والمشهود من أهل الزمان أنهم يسمون الأول «علمًا نظريًّا»؛ لأنَّ غايته القصوى نظر، ويُسمون الثاني منها «عمليًّا» لأنَّ غايته عمل.

وأقسام العلم النظري أربعة؛ وذلك لأنَّ الأمور إمَّا مُخالطة للمادة المعينة حدًّا وقوامًا، فلا يصلح وجودها في الطبع في كل مادة، ولا يعقل إلا في مادة مُعينة مثل الإنسانية والعظمية، وإن كانت بحيثُ لا يمتنع الذهن في أوَّل نظرة، عن أن يُحلها كل مادة؛ فيكون على سبيل من غلط الذهن بل يحتاج الذهن ضرورة في الصواب أن ينصرف عن هذا التجويز، ويعلم أنَّ ذلك المعنى لا يحل مادة إلا إذا حصل معنًى زائد يُهيِّئها له، وهذا كالسواد والبياض فهذا٢٦ من قَبِيل الموجودات والأمور.

وإمَّا أمور مخالطة أيضًا كذلك، والذهن وإن كان يحوج في صحة تصوُّر كثير منها إلى إلصاقه بما هو مادة أو جارٍ مجرى المادة؛ فليس يمتنع عنده وعند الوجود ألَّا يتعين له مادة، وكل مادة تصلح لأن تُخالطه ما لم يمنع مانع، وليس يحتاج في الصلوح له إلى ممهد يخصصه به مثل الثلاثية والثنائية من حيث هي متكونة ويعرض لها الجمع والتفريق، ومثل التدوير والتربيع وجميع ما لا يفتقر وجوده ولا تصوُّره إلى تعيين مادة له، وهذا قَبِيل ثانٍ في الأمور والموجودات.

وإما أمور مُبايِنة للمادَّة والحركة أصلًا؛ فلا تصلح لأن تخلط بالمادة ولا في التصوُّر العقلي الحق، مثل الخالق الأول — تعالى — ومثل ضروب من الملائكة، وهذا قَبِيل ثالث من الموجودات.

وإما أمور ومعانٍ قد تُخالط المادة وقد لا تُخالطها، فتكون في جملة ما يخالط وفي جملة ما لا يخالط، مثل الوحدة والكثرة، والكلي والجزئي، والعلة والمعلول.

كذلك أقسام العلوم النظرية أربعة، لكل قَبِيل علم، وقد جرت العادة بأن يُسمى العلم بالقسم الأول «علمًا طبيعيًّا»، وبالقسم الثاني «رياضيًّا»، وبالقسم الثالث «إلهيًّا»، وبالقسم الرابع «كليًّا»، وإن لم يكن هذا التفصيل مُتعارَفًا، فهذا هو العلم النظري.

وأمَّا «العلم العملي» فمنه ما يُعلم كيفية ما يجب أن يكون عليه الإنسان في نفسه وأحواله التي تخصه، حتى يكون سعيدًا في دنياه هذه وفي آخرته، وقوم يخصون هذا باسم «علم الأخلاق».

ومنه ما يعلم كيف يجبُ أن يجري عليه أمر المشاركات الإنسانية لغيره، حتى يكون على نظام فاضل؛ إمَّا في المشاركة الجزئية وإما في المشاركة الكلية، والمشاركة الجزئية هي التي تكون في منزل واحد، والمشاركة الكلية هي التي تكون في المدينة.

وكل مشاركة فإنما تتم بقانون مشروع، وبمتولٍّ لذلك القانون المشروع يراعيه ويعمل عليه ويحفظه، ولا يجوز أن يكون المُتولي لحفظ المقنَّن في الأمرين جميعًا إنسانًا واحدًا، فإنه لا يجوز أن يتولَّى تدبير المنزل مَن يتولى المدينة، بل يكون للمدينة مُدبِّر، ولكل منزل مدبِّر آخَر؛ ولذلك يحسن أن يفرد «تدبير المنزل» بحسب المتولِّي بابًا مفردًا، «وتدبير المدينة» بحسب المتولِّي بابًا مفردًا، ولا يَحسن أن يفرد التقنين للمنزل والتقنين للمدينة كل على حِدَة، بل الأحسن أن يكون المقنن لما يجب أن يراعى في خاصة كل شخص. وفي المشاركة الصُّغرى وفي المشاركة الكبرى شخص واحد بصناعة واحدة وهو «النبي».

وأمَّا المتولِّي للتدبير وكيف يجب أن يتولى، فالأحسن ألَّا تدخل بعضه في بعض، وإن جعلت كل تقنين بابًا آخر، فعلت ولا بأس بذلك لكنك تجد الأحسن أن يفرد العلم بالأخلاق والعلم بتدبير المنزل والعلم بتدبير المدينة كل على حدة، وأن تجعل الصناعة الشارعة، وما ينبغي أن تكون عليه أمرًا مفردًا، وليس قولنا: «وما ينبغي أن تكون عليه»، مُشيرًا إلى أنها صناعة ملفَّقة مختَرَعة ليست من عند الله، ولكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، كلا! بل هي من عند الله، وليس لكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، ولا حرج علينا إذا نظرنا في أشياء كثيرة، مما يكون من عند الله، أنها كيف ينبغي أن تكون.

فلتكن هذه العلوم الأربعة أقسام العلم العملي، كما كانت تلك الأربعة أقسام العلم النظري.

وليس من عزمنا أن نُورد في هذا الكتاب جميع أقسام العلم النظري والعلم العملي، بل نُريد أن نورد من أصناف العلوم هذا العدد: نورد منه «العلم الآلي»، ونورد «العلم الكلي»، ونورد «العلم الإلهي»، ونورد «العلم الطبيعي الأصلي»، ونورد من العلم العملي القدْر الذي يحتاج إليه طالب النجاة، وأما العلم الرياضي فليس من العلم الذي يُختلف فيه.

والذي أوردناه منه في «كتاب الشفاء» هو الذي نورده ها هنا لو اشتغلنا بإيراده، وكذلك الحال في أصناف من العلم العملي لم نورده ها هنا، وهذا هو حين نشتغل بإيراد «العلم الآلي» الذي هو المنطق.»٢٧

ميَّز ابن سينا في هذا الفصل العلم الحكمي بأنَّه لا يتغير بتغير الأمكنة والأزمان، ولا يتبدل بتبدل الدول والأديان، وكما تُسمى هذه العلوم الحكمية يُقال لها العلوم الحقيقية أيضًا؛ أي العلوم الثابتة على مر الدهور والأعوام، وجعل العلوم النظرية على أربعة أقسام، والعلوم العملية على أربعة أقسام كذلك، والتقسيم على هذا الوجه لم يسبق إليه.

وقد بيَّن حدود ما بين الشريعة والفلسفة بقسميها النظري والعملي بيانًا كمل به ما لم يستوفِه الفارابي، فإنَّ الفارابي إنما عرض للقسم العلمي من الدين ومن الفلسفة فيما نقلناه من كتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين».

بقي أنَّ ابن سينا لم يَفُتْه أن يشرح ما أجمله الفارابي من التنبيه على مكانة العلم الإلهي بين العلوم الفلسفية، فقال في «الشفاء» في الفصل الأول من المقالة الأولى من جملة الإلهيات في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين إنيَّته٢٨ في العلوم:
«وأيضًا قد كنت تَسْمَعُ أنَّ ها هنا فلسفة بالحقيقة وفلسفة أولى، وأنَّها تُفيد تصحيح مبادئ سائر العلوم، وأنها هي الحكمة بالحقيقة، وقد كنت تسمع تارة أنَّ الحكمة هي أفضل علم بأفضل معلوم، وأُخرى أنَّ الحكمة هي المعرفة التي هي أصح معرفة وأتقنها، وأُخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل، وكنت لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى وما هذه الحكمة، وهل الحدود والصفات الثلاث لصناعة واحدة أو لصناعات مختلفة كل واحدة منها تُسمى حكمة، ونحن نبيِّن لك الآن أنَّ هذا العلم الذي نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى، وأنَّها الحكمة المُطلقة، وأنَّ الصفات الثلاث التي تُرسم بها الحكمة هي صفات صناعة واحدة وهي هذه الصناعة.»٢٩
ثم يقول بعد هذا: «فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي؛ فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرِّياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك، وما قبل ذلك التخصيص فكالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله، فيكون إذن مسائل هذا العلم بعضها في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبادئ العلوم الجزئية، فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة، وهو الفلسفة الأولى لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم، وهو الوجود والوحدة، وهو أيضًا الحكمة التي هي أفضل علم بأفضل معلوم، فإنَّها أفضل علم؛ أي اليقين بأفضل معلوم؛ أي بالله — تعالى — وبالأسباب من بعده، وهو أيضًا معرفة الأسباب القصوى للكل، وهو أيضًا المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود.»٣٠

(٥) ما بعد ابن سينا والحديث عن الصلة بين الفلسفة والكلام والتصوُّف

أمَّا ما يتعلق بتعريف الحكمة وتقسيمها بعد ابن سينا؛ فيوشك ألَّا يخرج عن الاستمداد من تلك التعاريف والتقاسيم التي أوردناها، ونكتفي في بيان جملة ذلك بما ذكره مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي المشهور باسم حاجي خليفة، المتوفى سنة ١٠٦٧ﻫ/١٦٥٨م في كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»:

«علم الحكمة: وهو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية، وموضوعه: الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان. وعَرَّفه بعض المُحققين بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدْر الطَّاقة البشرية، فيكون موضوعه الأعيان الموجودة، وغايته: هي التشريف الكمالات في العاجل، والفوز بالسعادة الأخروية في الآجل.

وتلك الأعيان إما الأفعال والأعمال التي وجودها بقُدرتنا واختيارنا أولًا، فالعلم بأحوال الأول من حيث يُؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد يُسَمَّى حكمة عملية، والعلم بأحوال الثاني يُسَمَّى حكمة نظرية؛ لأنَّ المقصود منها حصل بالنظر، وكل منهما ثلاثة أقسام؛ أمَّا العملية؛ فلأنها إما علم بمصالح شخص بانفراده ليتحلَّى بالفضائل، ويتخلَّى عن الرذائل، ويُسمى تهذيب الأخلاق، وقد ذكر في علم الأخلاق، وإمَّا علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والمولود، والمالك والمملوك، ويُسمى تدبير المنزل، وقد سبق في التاء، وإمَّا علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ويُسمى السياسة المدنية، وسيأتي في السين، وأما النظرية فلأنها إما علم بأحوال ما لا يفتقر في الوجود الخارجي، والتعقل إلى المادة كالإله، وهو علم الإلهي وقد سبق في الألف، وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون التعقل كالكرة، وهو علم الأوسط ويُسمى بالرياضي والتعليمي وسيأتي في الراء، وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والتعقل كالإنسان، وهو العلم الأدنى، ويُسمى بالطبيعي وسيأتي في الطاء.

وجعل بعضهم ما لا يفتقر إلى المادة أصلًا قسمين: ما لا يُقارنها مطلقًا كالإله والعقول، وما يُقارنها، لكن على وجه الافتقار كالوحدة والكثرة وسائر الأمور العامة، فيُسَمَّى العلم بأحوال الأول علمًا إلهيًّا. والعلم بأحوال الثاني علمًا كلِّيًّا وفلسفة أولى.٣١

«واختلفوا في أن المنطق من الحكمة أم لا، فمَن فسَّرها بما يخرج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل جعله منها، بل جعل العمل أيضًا منها، وكذا مَن ترك الأعيان من تعريفها جعله من أقسام الحكمة النظرية؛ إذ لا يبحث فيه إلا عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا، وأما من فسَّرها بأحوال الأعيان الموجودة، وهو المشهور بينها، فلم يعدَّه منها؛ لأنَّ موضوعه ليس من أعيان الموجودات، والأمور العامَّة ليست بموضوعات بل محمولات تثبت للأعيان فتدخل في التعريف.

ومن الناس مَن جعل الحكمة اسمًا لاستكمال النفس الإنسانية في قوتها النظرية؛ أي خروجها من القوة إلى الفعل في الإدراكات التصورية والتصديقية بحسب الطاقة البشرية، ومنهم مَن جعلها اسمًا لاستكمال القوة النظرية بالإدراكات المذكورة، واستكمال القوة العملية باكتساب الملكة التامة على الأقوال٣٢ الفاضلة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط.

وكلام الشيخ في «عيون الحكمة» يُشْعِر بالقول الأوَّل، وهو جعل الحكمة اسمًا للكمالات المُعتبرة في القوة النظرية فقط؛ وذلك لأنَّه فسر الحِكمة باستكمال النفس الإنسانية بالتصورات والتصديقات، سواء كانت في الأشياء النظرية أو في الأشياء العملية، فهي مفسَّرة عنده باكتساب هذه الإدراكات، وأما اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة فما جعلها جزءًا منها، بل جعلها غاية للحكمة العملية.»

(٦) حكمة الإشراق

«وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوُّف من العلوم الإسلامية، كما أنَّ الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة الكلام منها، وبيان ذلك أنَّ السعادة العُظمى والمرتبة العُليا للنَّفس النَّاطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزُّه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجُملة معرفة المبدأ والمعاد، والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين؛ أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال. وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات.

والسالكون للطريقة الأولى إنِ الْتزموا ملة من مِلَل الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاءون، والسالكون إلى الطريقة الثانية إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون، فلكل طريقة طائفتان، وحاصل الطريقة الأولى الاستكمال بالقوة النظرية والترقِّي في مراتبها الأربعة، أعني مرتبة العقل الهيولى، والعقل بالفعل، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد، والأخيرة هي الغاية القصوى لكونها عبارة عن مشاهدة النظريات التي أدركتْها النفس بحيثُ لا يغيب عنها شيء؛ ولهذا قيل: لا يُوجد المُستفاد لأحد في هذه الدار، بل في دار القرار، اللهم إلا بعض المتجرِّدين من علائق البدن والمنخرطين في سلك المجردات.»٣٣
وحاصل الطريقة الثانية الاستكمال بالقوة العملية والترقي في درجاتها التي:
  • أولها: تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والنواميس الإلهية.
  • وثانيها: تهذيب الباطن عن الأخلاق الذميمة.
  • وثالثها: تحلي النفس بالصور القدسية الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام.
  • ورابعها: ملاحظة جمال الله — سبحانه وتعالى — وجلاله، وقصر النظر على كماله.
والدرجة الثالثة من هذه القوة، وإنْ شاركتْها المرتبة الرابعة من القوة النظرية، فإنها تفيض على النَّفس منها صور المعلومات على سبيل المشاهدة كما في العقل المستفاد، إلا أنها تفارقها من وجهين:
  • أحدهما: أنَّ الحاصل المستفاد لا يخلو عن الشبهات الوهمية؛ لأنَّ الوهم له استيلاء في طريق المباحثة، بخلاف تلك الصور القدسية، فإن القوى الحسِّية قد سخرت هناك للقوة العقلية؛ فلا تنازعها فيما تحكم به.
  • وثانيهما: أنَّ الفائض على النفس في الدرجة الثالثة قد تكون صورًا كثيرة استعدت النفس بصفائها عن الكدورات وصقالتها عن أوساخ التعلقات؛ لأن تفيض تلك الصور عليها، كمرآة صقلت وحوذي بها ما فيه صور كثيرة، فإنَّه يتراءى فيها ما تسع من تلك الصور، والفائض عليها في العقل المُستفاد هو العلم التي تناسب منها تلك المبادئ التي رتبت معًا للتأدي إلى مجهول، كمرآة صقل شيء يسيرٌ منها فلا يرتسم فيها إلا شيء قليل من الأشياء المُحاذية لها (ذكره ابن خلدون في «المقدمة»).٣٤

(٧) طريق النظر وطريقة التصفية

ولطاش كبرى زاده المتوفى سنة ٩٦٢ﻫ/١٥٥٤-١٥٥٥م قول مُفَصَّل في الفرق بين طريقي النَّظر والتصفية، وحجة أهل كل منهما في المُفاضلة بينهما، نورده فيما يلي:

المقدمة الرابعة في بيان النِّسبة بين طريق النَّظر وطريق التصفية، اعلم أنَّ الكل مُتَّفقون على أنَّ السعادة الأبدية، والسيادة السرمدية، لا تتم إلا بالعلم والعمل، وأنهما توأمان، وله توجهان؛ أحدهما: الشائع المشهور، وهو أنه لا يُعتدُّ بواحد منهما بدون الآخر؛ إذ العلم بدون العمل وبال، والعمل بلا علم ضلال، وقال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. وثانيهما: أنَّ كلًّا منهما ثمرة للآخر، مثلًا إذا تمهَّر الرجل في اكتساب العلم وحذق فيه، لا مندوحة له عن العمل بموجبه، إذ لو قَصَّر في العمل لم يكن في علمه كمال، وأيضًا إذا باشر الرَّجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بيَّنوه من الشرائط، ينصبُّ على قلبه العلوم النظرية بكمالها، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وهاتان طريقتان؛ الأولى منهما: طريقة الاستدلال. الثانية: طريقة المُشاهدة. والأول درجة العلماء الراسخين، والثاني درجة الصديقين، وقد تنتهي كل من الطريقتين إلى الأُخرى؛ فيكون صاحبه مَجمَعًا للبحرين؛ أي بحرَيِ الاستدلال والمُشاهدة، أو العلم والعرفان، أو الشهادة والغيب.

وإذا عرفت أن السالكين إلى الحق، مع كثرة الطرق وخروجها عن حد الإحصاء، نوعان؛ أحدهما: ما يبتدئ من طريق العلم إلى العرفان، ومن طريق الشهادة إلى الغيب. وثانيهما: ما ينجلي الحق له بالجذبة الإلهية فيبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة.

قال بعض العارفين: يُشبه أن يكون الأول طريقة الخليل، حيثُ ابتدأ من الاستدلال بأفول الشمس والقمر إلى وجود رب العالمين، والثاني طريقة الحبيب، حيث ابتدأ بشرح الصدور وكشف له سُبُحَات٣٥ وجه ذي الجلال وأحرقتْه حتى انمحق جميع ما أدركه وتلاشى في ذاته، ولم يبقَ له لحظة إلى نفسه لفنائه عن نفسه، فتحقق رتبة كل شيء هالك إلا وجهه ذوقًا وحالًا لا علمًا وقالًا.

هذا حال الجامعين بين المرتبتين، وأما السالكون إلى إحدى الطريقتين فقد اختلفوا، وقال أرباب النظر: الأفضل طريق النَّظر؛ لأنَّ طريق التصفية صعب الوصول لأنَّ مسلكها وعر، وإفضاؤها إلى المقصد بعيد؛ لأنَّ محو العلائق إلى حدٍّ يؤدي إلى انكشاف المعارف متعذِّر بل قريب من الممتنع، وإنْ أفضى إلى المقصد فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس وخاطر يمحو ما حصل ويقطع ما وصل، على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء تلك المجاهدات الصعبة، والرِّياضات الشاقة.

وقال أرباب التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو في الأكثر عن شوب أحكام الوهم، ولا تخلص عن مُخالطة الخيال في الغالب؛ ولهذا كثيرًا ما يَقِيسُون الغائب على الشاهد فيَضِلون ويُضلون، كما تراه في أكثر مذاهب الاعتزال، وغير ذلك من اعتقادات الجهَّال من أصحاب الضلال، وأيضًا لا يتخلصون في مناظراتهم ومُباحثاتهم عن اتباع الأهواء والعادات، بخلاف التصوُّف فإنَّ ذلك تصفية للروح وجلاء للنفوس، وتطهير القلوب عن أحكام النفس وتخليتها عن الأوهام والحيالات، فلا يبقى إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية الحقة؛ فتنكشف عليهم علوم إلهية ومعارف ربَّانية، ويَرِد عليهم وارد إلهام هو حديث عهد بربه، وأمَّا وعورة المسلك وبُعده فلا يقدح في قوة اليقين وصحة العلم، مع أنه يسيرٌ على من يَسَّره الله — تعالى — من السالكين سُبُلَ أنبيائه والمتبعين لكمال أوليائه.

وأمَّا اختلال المزاج؛ فإنْ وقع فيقبل العلاج؛ لأنَّهم كما أنهم أطباء النفوس والأرواح كذلك عارفون أحوال الأبدان والأشباح، فالرِّياضة على ما شرطوه من الآداب والأحوال أمانٌ من الفَسَاد والاختلال، وخلاصٌ من الأفزاع والأهوال.

يُحْكَى أنَّ أهل الصين والروم في زمان قديم، تباهَوْا في صناعة النَّقش والرسم، وطال بينهم النِّزاعُ والجِدَالُ، ودار بينهم الكلام في النقص والكمال، حتى أدَّى الافتخار في هذا الشأن إلى الاختبار والامتحان، فعُيِّن لكلٍّ من الطائفتين جدارٌ بينهما حجاب ليتميز الكامل من النَّاقص في هذا الباب، فجمع أهل الصين من الأصباغ العجيبة والألوان الغريبة، وتكلفوا الصنائع النادرة والرسوم الباهرة، حتى استفرغوا المجهود في تحصيل المقصود، واشتغل أهل الروم عن الترسيم بالتصقيل، وعرفوا أنَّ ترك التخلية إلى التحلية هو التكميل، فلما كُشِفَ الغطاء وارتفع الحجاب لمعرفة الحال بين الأصحاب، رأَوْا أن جانب أهل الروم تلألأ لجميع نقوش أهل الصين مع زيادة الصفاء ولطافة الصقالة والجلاء، فهذا مثال العلوم النَّظرية والكشفية، والأول يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء، والثاني يَحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى.

إذا عرفتَ هذا؛ فاعلم أنَّ المحاكمة بين هذين الفريقين، وتعيين الأفضل من الطريقين، هي أن العلوم مع تكثُّر فنونها وتعدُّد شجونها منحصرة في أربعة أنواع: وذلك لأنَّ الأشياء وجودًا في أربع مراتب: في الأعيان. وفي الأذهان، وفي العبارة. وفي الكتابة، فالعلوم المُتعلقة في الأول من حيثُ حالها في نفس الأمر هي العلوم الحقيقية التي لا تتبدل باختلاف الأزمان وتجدُّد المُلْك والأديان، وهذه تُسَمَّى علومًا حكمية إن جرى الباحث عن أحوالها فيها على مقتضى عقله، وعلومًا شرعية إن بُحِث عنها فيها على قانون الإسلام، والعلوم المتعلقة بالثانية هي العلوم الإلهية المعنوية كالمنطق ونحوه، والعلوم المتعلقة بالأخيرين هي العلوم الآلية اللفظية أو الخطية، وهذه هي العلوم العربية المُعتبرة في ديننا هذا لورود شريعتنا هذه على لسان العرب وعلى كتابته، ثم إنَّ الثلاثة الأخيرة من هذه الأنواع لا سبيل إلى تحصيلها إلا بالكسب بالنظر، وأمَّا النوع الأول منها فقد يتحصل بالنظر وقد يتحصَّل بالتصفية.»٣٦

(٨) اصطباغ الكلام والتصوُّف بالفلسفة

وإذا كانت هذه النصوص تُشعِر بقوة الصِّلة بين العلوم الفلسفية، وعلم الكلام وعلم التصوُّف الشرعيين؛ فإنَّ ابن خلدون في «المُقَدِّمة» بيَّن، عند كلامه على هذين العِلْمَيْن، في حدوثهما وتدرج كلام الناس فيهما صدرًا بعد صدر، أنهما اختلطا بالفلسفة في آخِر أمرهما.

يقول ابن خلدون في علم الكلام: «ولقد اختلطتِ الطريقتان — يعني طريقتي المُتقدمين من المتكلمين والمتأخرين — عند هؤلاء المتأخرين، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة؛ بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر.»٣٧
ويقول ابن خلدون في علم التصوُّف ما يشبه هذا القول؛ فهو يذكر ما نصه: «ثم إنَّ هؤلاء المُتأخرين من المتصوِّفة المُتكلمين في الكشف، وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملئوا الصحف منه.»٣٨ ويقول في موضع آخر في نفس الفصل: «والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المَذهب أنَّ حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحُكماء في الألوان، من أنَّ وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.»٣٩

وجملة القول أن المؤلفين الإسلاميين لا يعدون علم الكلام وعلم التصوُّف من العلوم الفلسفية في حقيقة أمرهما، ولكنهم يرونهما قريبَيِ الشَّبَه بهذه العلوم، ويرون أنَّ الفلسفة طغت عليهما في بعض أدوار تدرجهما فصبغتْهما بالصبغة الفلسفية.

(٩) علم أصول الفقه والفلسفة

وعلم أصول الفقه لم يخلُ من أثر الفلسفة أيضًا، وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في الفصل الخاص بأصول الفقه، وما يتعلق به من الجدل والخلافيات؛ فهو يذكر أنَّ للمُتكلمين فيه طريقة عُني بها الناس، والمتكلمون ليسوا بعيدين من الفلاسفة، ويجعل ابن خلدون علم الخلافيات وعلم الجدل تبعًا لعلم أصول الفقه، وهما علمان لا يُنكَر صلتهما بالمنطق مُنكِر، وعلم الجدل كما في كتاب «مفتاح السعادة»:

«هو علم باحثٌ عن الطرق التي يُقتدر بها على إبرام أي وضع أريد، وعلى هدم أي وضع كان، وهذا من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف، وهذا مأخوذٌ من الجدل الذي هو أحد أجزاء مباحث المنطق، لكنه خص بالعلوم الدينية.»٤٠

وفي كتاب «أبجد العلوم» بعد نقل كلام «مفتاح السعادة»:

ولا يبعدُ أن يُقال: إنَّ علم الجدل هو علم المُناظرة؛ لأنَّ المآل منهما واحد، إلا أنَّ الجدل أخص منه، ويؤيده كلام ابن خلدون في «المقدمة»؛ حيثُ قال: «هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم … ولذلك قيل فيه: إنَّه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يُتوصَّل بها إلى حفظ رأي وهدمه، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره …»٤١ وعلم الخلاف هو كما في الكتاب نفسه: «الجدل الواقع بين أصحاب المذاهب الفرعية كأبي حنيفة والشافعي وأمثالهما»، والفرق بينه وبين علم الجدل بالمادة والصورة، فإنَّ الجدل بحث عن مواد الأدلة الخلافية، والخلاف بحث عن صورها.»٤٢

وفي موضع آخر من الكتاب نفسه:

«علم الخلاف، وهو علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية والتفصيلية، الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء أفضلهم وأمثلهم أبو حنيفة … إلخ.»٤٣

ويقول ابن خلدون في «المقدمة» ما خلاصته:

«اعلم أنَّ هذا الفقه المستنبَط من الأدلة الشرعية كثُر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، ثم لمَّا انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة واقتصر الناس على تقليدهم، أُقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة، وأُجرِي الخلاف بين الآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية، وجَرَتِ المناظرات في تصحيح كل مُقَلِّدٍ مذهب إمامه، وكان في هذه المناظرات بيان مأخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم، وكان هذا الصنف يُسَمَّى بالخلافيات.»٤٤
بل قد جعل طاش كبرى زاده فروع علم أصول الفقه أربعة علوم: «علم النظر، وهو علم المنطق الباحث عن أحوال الأدلة السمعية أو حدود الأحكام الشرعية، وعلم المناظرة، وهو علم باحث عن أحوال المُتخاصمين؛ ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب حتى يظهر الحق بينهما، ثم علم الجدل، وعلم الخلاف.»٤٥

وكل هذه العلوم من العلوم العقلية الفلسفية، وجعلها فروعًا لعلم أصول الفقه يدل على مبلغ اصطباغ هذا العلم بالصبغة الفلسفية.

هوامش

(١) توفي سنة ٧٦٨ﻫ/١٣٦٩م.
(٢) «وعلم التأليف هو الموسيقى وهو من أصول الرياضي» كشاف اصطلاحات الفنون.
(٣) الهيولى لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة. وفي الاصطلاح هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال، محل للصورتين الجسمية والنوعية «التعريفات للجرجاني».
(٤) كتاب «سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون»، طبعة المطبعة الأميرية سنة ١٢٧٨، ص١٢٥.
(٥) نثبت مع الشكر للأستاذ محمود الخضيري التعليق الآتي: «في رسالة للكندي نُشرت ترجمتها اللاتينية، ولم نقف حتى الآن على أصلها العربي عنوانها Liber de quinque essentiis يعرف الكندي الفلسفة بأنها العلم بجميع الأشياء، ويذكر أنه يتبع أرسطو في هذا التعريف، ثم يُقسمها بعد ذلك إلى فلسفة نظرية وفلسفة عملية، وأقرب ما ذكره المؤلفون القدماء من عناوين مؤلفات الكندي إلى عنوان هذه الرسالة هو «كتاب في الجواهر الخمس». راجع: Albino: Nagy: Die Philos. Adhandlungen des J. B. Ishaq al-Kindi أي: المقالات الفلسفية ليعقوب بن إسحاق الكندي نشرها الدكتور ألبينو ناجي. منستر سنة ١٨٩٧.»
(٦) للصناعة معانٍ أوردها صاحب «كشاف اصطلاحات الفنون»، والمناسب من هذه المعاني لما نحن بصدده ما ذكره بقوله: «وقال أبو القاسم في حاشية المطول: «وقد تفسَّر بملكة يُقتَدَر بها على استعمال موضوعات ما لنحو غرض من الأغراض صادرًا عن البصيرة بحسب الإمكان، والمراد بالموضوعات الآلات يتصرف بها سواء كانت خارجية، كما في الخياطة، أو ذهنية، كما في الاستدلال، وإطلاقها على هذا المعنى شائع وإطلاقها على مُطلق ملكة الإدراك لا بأس به».» (ج٢، ص٨٣٥). وفي الكتاب نفسه عند الكلام على كلمة العلم وتعداد معانيها ما نصه: «ومنها ملكة يُقتَدَر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض صادرًا عن البصيرة بحسب ما يُمكن فيها، ويُقال لها الصناعة.» (ج٢، ص١٠٥٥). وفي «مرآة الشروح» للعلامة محمد مبين على كتاب «سلم العلوم» لمحب الله البهاري: «الصناعة كالكتابة في اللغة حرفة الصانع، وعمله الصنعة، وفي عُرْف الخاصة علم يتعلق بكيفية العمل، أو يكون المقصود منه ذلك العمل سواء حصل بمزاولة العمل أم لا، والأوَّل هو المُسَمَّى بالصناعة في عُرْف العامة، وقد يُقال كل علم مارسه الرجل حتى صار كالحرفة يُسمى صناعة له.»
(٧) جاء في حواشي الشيخ محمد عبده على «البصائر النصيرية» للساوي: «القسمة: أمَّا ظن أن القسمة قياس على كل شيء فلا يبعد عن الحقيقة؛ إذا كانت وجهه ما قدَّمناه من أنَّ الأحكام التي تَثبت لشيء واحد بواسطة أقسامه لا سبيل إلى إثباتها له إلا تقسيمه إليها؛ لتستقر له أحكامها، وكثيرًا ما يكفي مُجرد التقسيم في ظهور ثبوت الحكم، ويبقى التقسيم ملحوظًا لا ينصرف الذهن عنه بعد ظهور المطلوب، وعند ذلك يكون التقسيم وحده هو الطريق، وقد يُحذَف كما يحذف الحد الوسط في كل قياس فيكون جزءًا من الدليل، وتسميته قياسًا لأنَّه الواسطة الحقيقية إلى المطلوب، وهذا الثاني هو ما يُسمى عندهم بالقياس المقسم أو الاستقراء التام، كما في قولهم: الجسم إما جماد أو نبات أو حيوان، وكل جماد متحيِّز، وكل نبات متحيِّز، وكل حيوان متحيِّز، فكل جسم متحيِّز؛ ومن ذلك تقسيم الكهرباء إلى سالبة وموجبة، وإثبات أحكام كلٍّ منهما له يثبت الحكم للكهرباء، والاستقراء الناقص باب من أبواب القسمة من هذا القبيل الثاني، لأنه تقسيم الكلي إلى جزئياته، ثم إثبات أحكامها لها لتثبت له بالضرورة، وإنما أفردوه نوعًا من أنواع القياس على حِدةٍ؛ لأنهم لا يستعملون فيه صورة التقسيم بإمَّا وإمَّا» (ص١٢٩).
وجاء في نفس كتاب «البصائر»: «الاستقراء، وهو حكم على كليٍّ لوجوده في جزئيات ذلك الكلي، إما كلها وهو الاستقراء التام الذي هو القياس المقسم، وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور، ومُخالفته القياس ظاهرة؛ لأنَّه في القياس يحكم على جزئيات كلي لوجود ذلك الحكم في الكلي، فالكلي يكون وسطًا بين جزئيِّه، وبين ذلك الحكم الذي هو الأكبر. وفي الاستقراء يُقلَب هذا فيُحكم على الكلي بواسطة وجود ذلك الحكم في جزئياته» (ص١٢١-١٢٢).
(ص: ج، د، أ، طبع مطبعة السعادة بمصر).
(٨) «الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية»، نشره ديتريصي Dietrici، ليدن سنة ١٨٩٠، ص١–٣.
(٩) في رسالة «مسائل مُتفرقة سُئل عنها الحكيم أبو نصر الفارابي»: «وأمَّا حصول الصورة في العقل فهو أن تحصل صورة الشيء فيه مفردة غير ملابسة للمادة، لا بتلك الحالات التي هي عليها من الخارج، لكن بتغير الحالات، ومفردة غير مركبة، (و) لا مع موضوع ومجرَّدة عن جميع ما هي ملابسة، وقد يظن أن العقل تحصل فيه صورة الأشياء عند مباشرة الحس للمحسوسات بلا توسط، وليس الأمر كذلك: إنَّ بينها وسائط، وهو أن الحس يباشر المحسوسات فيحصل صورها فيه ويؤديها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه، فيؤدي الحس المُشترك تلك إلى التخيل، والتخيُّل إلى التميُّز ليعمل التميُّز فيها تهذيبًا وتنقيحًا، ويؤديها مُهذَّبة منقَّحة إلى العقل فيحصلها العقل عنده» (ص١٧ من الطبعة المصرية، وص٩٧ من الطبعة الأوروبية).
(١٠) ص٣٦، ٣٨، ٣٩، طبع حيدر آباد.
(١١) ص٢٠-٢١، طبع حيدر آباد.
(١٢) ص٢١، طبع حيدر آباد.
(١٣) ص١٣، طبع المطبعة السلفية، وص٥٣ من تحرير ديتريصي.
(١٤) ص١١ من طبع السلفية، وص٥٢-٥٣ من تحرير ديتريصي.
(١٥) لفظ «هو» مزيد في الأصل والصواب حذفه.
(١٦) ص٩، طبع مجلس المعارف العثمانية بحيدر آباد.
(١٧) ج ص٢٣، طبع المطبعة العربية بمصر سنة ١٩٢٨م.
(١٨) ج١، ص٢٠٣–٢٠٩.
(١٩) ج١، ص٣٤٢.
(٢٠) ص٢-٣ من طبع بمباي. وفي «تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات»، طبع قسطنطينية سنة ١٢٩٨، ص٢-٣، وطبع القاهرة سنة ١٣٢٦، ص٣.»
(٢١) المتوفى حول ١٠٥٠ﻫ/١٦٤٠م.
(٢٢) ج١، ص٤.
(٢٣) في الأصل المطبوع: «النشور».
(٢٤) هو بريسون Bryson الفيثاغوري المُحدث، ويَرِدُ اسمه أحيانًا على الصورة «رونس» كما في «الفهرست» لابن النديم، ص٢٦٣، ١–٢٠، طبع أوروبا.
(٢٥) ص٢٢٧–٢٤٣ الرسالة التاسعة «في أقسام العلوم العقلية» لابن سينا من «مجموعة الرسائل»، مطبعة كردستان العلمية بمصر سنة ١٣٢٨ﻫ، وهي الخامسة من «تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات».
(٢٦) لعلها: فهذا قَبِيل من الموجودات والأمور.
(٢٧) «منطق المشرقيين»، ص٥–٨.
(٢٨) الإنية: تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية. («التعريفات» للجرجاني). وفي «دستور العلماء»: «الإنية التحقق، وتحقق الوجود العيني من حيث رتبته الذاتية.»
(٢٩) «الشفاء»: الإلهيات، الجملة الأولى، المقالة الأولى، الفصل الأول.
(٣٠) الكتاب نفسه، الفصل الثاني.
(٣١) في كتاب «مفاتيح العلوم» لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي المتوفى سنة ٣٧٨ﻫ/٩٧٧م: ««الفلسفة» مشتقة من كلمة يونانية وهي «فيلاسوفيا» ومعناها محبة الحكمة، فلمَّا أعربت قيل: «فيلسوف»، ثم اشتُقت «الفلسفة» منه، ومعنى الفلسفة علم حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح، وتنقسم قسمين؛ أحدهما: الجزء النظري، والآخر: الجزء العملي. ومنهم مَن جعل المنطق حرفًا (لعلها: جزءًا) ثالثًا غير هذين، ومنهم مَن جعله جزءًا من أجزاء العلم النظري، ومنهم مَن جعله آلة للفلسفة، ومنهم مَن جعله جزءًا منها وآلة لها.» ص٧٩، المطبعة السلفية.
(٣٢) لعلها الأفعال.
(٣٣) في كتاب «كشاف اصطلاحات الفنون» ما خلاصته: مراتب القوة النظرية أربعة (١) العقل الهيولاني: وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال، فإنَّ لهم في حال الطفولة وابتداء الخلقة استعدادًا محضًا، وإلا امتنع اتصاف النفس بالعلوم، وكما تكون النفس في بعض الأوقات خالية عن مبادئ نظري من النظريات؛ فهذه الحال عقل هيولاني للنفس باعتبار هذا النظري، (٢) العقل بالملكة: وهو العلم بالضروريات، واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات منها، وما هو إلا الإحساس بالجزئيات والتنبه لما بينها من المُشاركات والمباينات، فإمَّا النفس إذا أحست بجزئيات كثيرة وارتسمت صورها في آلاتها الجسمانية ولاحظت نسبة بعضها إلى بعض استعدت لأن يفيض عليها من المبدأ صور كلية وأحكام تصديقية فيما بينها، فالمراد بالضروريات أوائل العلوم، وبالنظريات ثوانيها، (٣) العقل بالفعل: وهو ملكة استنباط النظريات من الضروريات أي صيرورة الشخص بحيث متى شاء استحضر الضروريات ولاحظها واستنتج منها النظريات، وهذه الحالة إنما تحصل إذا صارت طريقة الاستنباط ملكة راسخة، وقيل هو حصول النظريات وصيرورتها بعد استنتاجها من الضروريات بحيثُ يستحضرها متى شاء بلا تجشم كسب جديد، فالعقل بالفعل على الأول ملكة الاستنباط والاستحصال، وعلى الثاني ملكة الاستحضار، (٤) العقل المستفاد: هو أن تحصل النظريات مشاهدة، ووجه الحصر في الأربع أنَّ القوة النظرية إنما هي لاستكمال النفس الناطقة بالإدراكات المُعتدِّ بها، وهي الكسبية لا البديهيات التي تشاركها فيها الحيوانات، ومَراتب النفس في هذا الاستكمال منحصرة في نفس الكمال واستعداده، فالكمال هو العقل المستفاد أي مشاهدة النظريات، والاستعداد إما قريب، وهو العقل بالفعل، أو بعيد، وهو العقل الهيولاني، أو متوسط، وهو العقل بالملكة.»
(٣٤) «كشف الظنون»، مطبعة دار السعادة، ج١، ص٤٤٣–٤٤٥.
(٣٥) سُبُحات وجه الله — تعالى — بضمتين: جلالته «مختار الصحاح».
(٣٦) «مفتاح السعادة» لطاش كبرى زادة ج١، ص٦٣–٦٦.
(٣٧) ص٤٠٧، طبع بيروت، سنة ١٨٧٩.
(٣٨) ص٤١٣.
(٣٩) ص٤١٢.
(٤٠) ج١، ص٢٥٢.
(٤١) ج٢، ص٤٢٦.
(٤٢) لعلَّ في العبارة تحريفًا؛ فإن علم الخلاف أقرب أن يبحث عن المادة، وعلم الجدل عن الصورة.
(٤٣) ج١، ص٢٥٣.
(٤٤) ص٢٤٨-٢٤٩، طبع الخشاب بمصر.
(٤٥) «مفتاح السعادة»، ج٢، ص٤٢٥-٤٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤