الخاتمة

أوضحت الدراسة أن زراعة الكتان في بلدان الغرب الإسلامي انتشرت بكثرة مقارنة بباقي المحاصيل النسيجية الأخرى كالقطن والقنب، خاصة في مدن المغرب؛ نظرًا لتوافر المقومات الزراعية، التي ساعدت على نموِّه وانتشاره، في حين انتشرت زراعة القطن في معظم مدن الأندلس وصقلية بوفرة، مقارنة بمدن المغرب، وهو ما يوضح تأثير الأحوال المناخية والطبيعية على زراعة المحاصيل النسيجية.

وأبرزت الدراسة ازدهار إنتاج الحرير في مناطق الغرب الإسلامي في مدن الأندلس، خاصة في ألمرية وجيان، في حين قلَّت مناطق إنتاج الحرير في مدن وقرى المغرب، على الرغم من أن قابس كانت من مراكز إنتاج الحرير في المغرب خلال القرن ٦ﻫ/١٢م؛ وعليه فقد احتل الحرير الأندلسي مكانةً مرموقة وسط صادرات الغرب الإسلامي النسيجية لمعظم البلدان، فعلى الرغم من النمو الصناعي والتجاري لمدن الغرب المسيحي، التي طورت نشاطها الاقتصادي فيما يتعلق بالنسيج من إنتاج الصوف والكَتَّان والقطن وكذلك الحرير، لكن ظل الحرير الأندلسي ولفتراتٍ طويلة محافظًا على قيمته الصناعية والتجارية، فلم يجد منافسًا قويًّا له في الأسواق الأوروبية، وذلك لأن مصانع الغرب المسيحي لجأت لتصنيع الصوف الخام والكَتَّان والقُطْن أكثر من الحرير.

كما بينت الدراسة أن بلاد المغرب الإسلامي عُرفت بإنتاجها الوفير من الأغنام والأصواف؛ لكثرة مراعيها الممتدة من ساحل البحر المتوسط إلى بطون الصحراء، التي ساعدت على تعدُّد أصناف إنتاج الصوف بها، والتي تميَّزت بأصوافها الجيدة والحسنة، فلاقت رواجًا تجاريًّا خاصة في أسواق الغرب المسيحي، كما ساهمت بلاد المغرب في نقل الأغنام — من غنم، ومعز، وبقر — إلى البلدان الأندلسية، ولعل تلك الأغنام التي يُطلق عليها أغنام المرينو Merinas-Merino، والتي جُلبت لبلاد الأندلس منذ القرن الخامس والسادس الهجريين/الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين؛ تميزت بجودة صوفها. ويُرجِع البعض أصل لفظ المرينو إلى لفظ «مرن» للدلالة على نعومة الأصواف ودقَّتها ومرونتها، في حين نسبها البعض الآخر لبني مرين؛ وعليه فقد شكلت تربية الأنعام دعامةً أساسية في النظام الفلاحي والحيواني في بلاد المغرب، وكانت لخدمة الحياة اليومية لسكان الغرب الإسلامي وساهمت في البناء الاقتصادي لأُسره؛ لذلك لم يتركَّز الاقتصاد الأندلسي على إنتاج الصوف، بل اعتمد بشكلٍ جزئي على استيراده من البلدان المجاورة خاصة من المغرب وميورقة والممالك المسيحية.

وأظهرت الدراسة اهتمام العديد من فئات مجتمع الغرب الإسلامي بممارسة صناعة النسيج من علماء، ونساء، وصبية، وأهل ذمة، وغيرهم من مكونات هذا المجتمع؛ نظرًا لملاءمة طبيعة صناعته بعاداته وتقاليده، فضلًا عن إكسابه العديد من الصفات الحسنة من صبر والسعي على الرزق الحلال، كما ساعد النسيج في ترابط أُسَره وأوجد روح التعاون والتقارب بين أفراد أُسَره، ومن أبرز صور هذا التعاون «التويزة» وهي خروج نساء القرية أو المدينة للاجتماع في مجالسَ خاصةٍ بالنساء ليغزلن عند امرأة منهن يخترنها بأنفسهن، ما تدعوهن هي لغَزْله سواء من كَتَّان أو صوف، فيتشاركن في الغَزْل؛ لهذا أطلق البعض على هذا الترابط «دولة النساء»، ولم تمارس النساء الأعمال الأخرى المرتبطة بالنَّسيج من قصارة أو كمادة أو صباغة؛ لأنها من الأعمال الصعبة التي استلزمت القوة لتأديتها، ولكن من المؤكد أنهن مارسن أمور الغَزْل والنسج والخِياطة، وهي المهن التي تماشت وما نهى عنه الدين الحنيف والظروف الاجتماعية من عادات وتقاليد؛ لذا ساهم النسيج عبر مراحله في إبراز دور المرأة الغرب إسلامية في أسرتها ومجتمعها من خلال النسيج.

كما بينت الدراسة تعدُّد مراكز صناعة النسيج في الغرب الإسلامي، فيكاد لا تخلو قرية ولا مدينة إلا وكانت بها فئة تمارس النسيج، سواء في الجبال أو الوديان أو الصحاري أو على ضفاف البحر والمحيط؛ مما أدى لظهور بعض التجمعات الكبرى، وبخاصة حول الحواضر والمدن لتجميع الغَزْل من المناطق المحيطة، كما حول الناحية الجنوبية من مدينة تُونس التي تُعرف ﺑ «مسبحة مقرين للغَزْل»، فكانت مستودعًا كبيرًا للغَزْل المتجمع من المدن والبوادي ولمعامل ومصانع الغَزْل المختلفة، لتُعَدَّ وتدخل مرحلة التصنيع، وقد حرصت السلطة على حماية هذا الموضع لأهميته الصناعية والتجارية. كما كان لصُناع الغرب الإسلامي — في بعض المدن — شاراتٌ خاصة بهم تميزهم؛ فكانت لكل صنعة شارة تميزها عن غيرها، وتبرز كل فرقة من أهل الصِّناعة عن الأخرى خاصة عند الاقتضاء والنزاعات التي قد تنشب بينهم، والشارة عبارة عن علم يحمل شعار كل صنعة وما يناسبها.

وتُظهر الدراسة كيف أن حرفيي الغرب الإسلامي ساهموا في تطوير صناعة النسيج في العديد من مناطقه، بل وأدخلوا أساليبَ جديدةً عليه، بعد أن أدخل الصناع المسلمون دود القز إلى صِقِلِّيَّة لصناعة الحرير بها، بالإضافة لصناعة الورق عن طريق المسلمين الفاتحين، كما كان لصناع المغرب دور في ازدهار صناعة الورق بالأندلس، خاصة خلال القرن الرابع الهجري، ومنها انتقلت إلى معظم بلدان الغرب المسيحي، فأنتج صنَّاعُه الورق الملوَّن في العصر المرابطي.

ورصدت الدراسة كيف أن بلدان الغرب الإسلامي تميزت بإنتاج أنواعٍ معينة من المنسوجات اختلفت عنها في باقي المدن؛ فانتشرت العديد من مراكز الصناعة، التي لاقت شهرةً واسعة، بإنتاجها نوعياتٍ فريدةً ومتميزة خاصة مراكزها الحريرية، بإنتاج المنسوجات الحريرية، كالقَابِسي، والتلمساني، والثياب السفسارية، والوطاء البسطي، والثياب السرقسطية، والحرير السيراكوزي، فضلًا عن مراكزها الصوفية، فمن جملة الثياب الصوفية التي عُرف بها الغرب الإسلامي الثياب السوسية، والأكسية العبيدية، وثياب الصوف التلمسانية، والقماش الدرجيني، الأشكري أو الإشكرلاط، والوطاء الجنجالي، والبسط التنتالية. وكذلك مراكزها القطنية، فصنعت جملة من المنسوجات القطنية كالقماش السفساري. هذا بخلاف مراكزها الكتانية، التي انتشرت في العديد من المناطق فأنتجت، كالقماش الأفريقي الذي اعْتُبر من أحسن كساوي المغرب، والثياب السوسية المهدوية، والثياب الرفيعة السوسية، بالإضافة للمناديل المقاوِمة للنار من الكتان باستخدام نوع من الحجارة عرف ﺑ «تاوطغيت» في درعة، كما بيع بأسواق نكور نوع من البرانس المقاومة للماء.

انقسمت دُور الطِّراز في الغرب الإسلامي إلى: الطِّراز الخاص، وهو ما خُصص إنتاجه للخلفاء والملوك. والطِّراز العام ووُجِّه إنتاجه لعامة الناس والبلاط أيضًا، وكلاهما خضع للمراقبة من قِبَل السلطة، حتى تستطيع تلبية احتياجات المجتمع الغرب إسلامي من منسوجات وثياب.

وأفادت الدراسة أن بلدان الغرب الإسلامي انتشرت بها العديد من الأسواق التخصصية للنسيج في مدنه وقراه، وكان من أشهرها: أسواق الغَزْل، وأسواق الأقمشة الصوفية وأسواق الصباغين والخياطين والبزازين والثياب والقراقين، والوزر، وأسواق الرهادنة، وسوق الجبة، والقشاشين، والأبارين، والمغازل، وخيوط الكَتَّان، والحرارين، والمركطين. وخُصِّص في بيع الثياب المستعملة الهبط، وسوق الورقة الذي خُصِّص لتهيئة ورق التوت، وسوق التيالين وهو السوق المخصَّص لصناعة الغرابيل، بالإضافة لسوق البز، وربض الطرازين، وسوق الخيط، وسوق القرمز، وسوق السقاطين.

وأوضحت الدراسة أن الحركة التجارية في الغرب الإسلامي اتسمت في بدايتها بنوع من البطء التجاري الذي لم يُساير القوى التجارية الموجودة آنذاك؛ مما دفعها لأن تلعب دور الوسيط التجاري في العديد من المُبادلات التجارية بين البلدان الأِفْرِيقِيَّة والغرب المسيحي؛ حيث قامت مُدن المغرب الأقصى بهمزة الوصل بين السودان والعالم الخارجي، وظلَّت علاقاتها التجارية مع الغرب المسيحي مفعَّلة وسارية — رغم فتورها في بعض الأوقات — عن طريق عقد المعاهدات والاتفاقيات التجارية بين السلطات لتوفير الظروف المناسبة لاستمرار تلك العلاقات والعمل على تنشيطها.

وبيَّنت الدراسة أن التواصل التجاري للنسِيج للغرب الإسلامي امتدَّ إلى بلاد الهِنْد والصِّين، وساعد على هذه الصلات التجارية بعض المُدن المشرقية، التي لعبت دور الوسيط في بعض الأحيان كمدينة البَصْرة العراقية. كما أظهرت الدراسة وجود علاقاتٍ تجاريةٍ رصينة منذ زمنٍ طويل مع مصر تركَّزت على المواد الخام النَّسيجية من كَتَّان وحَرِير، بالإضافة إلى المَنْسوجات الأخرى، عن طريق موانئ الغرب الإسلامي والموانئ المصْرية وبخاصة الإسكندرية.

ورصدت الدراسة كذلك نشاط حركة تجارة المنسوجات في الغرب الإسلامي مع الغرب المسيحي خلال القرن ٦ﻫ/١٢ حتى منتصف القرن ٧ﻫ/١٣م، ثم تطورها مع نهاية القرن ٨ﻫ/١٤م خاصة مع مملكة البرتغال؛ حيث كان للتجارة البرتغالية أواخر القرن ٩ﻫ/١٥م دور في مُدن الغرب الأفريقي والسودان الغربي، من خلال سلسلة من المُدن الساحلية المغربية على طول ساحل المحيط الأطلسي ومناطقَ رئيسيةٍ ساهمت في إنجاح تجارة المَنْسوجات البرتغالية. وبنهاية ٩٢٩ﻫ/١٥٢٣م تقلَّصت المحطات التجارية البرتغالية في مُدن غرب أفريقيا بشكلٍ كبير، على الرغم من أن التجارة البرتغالية مع غرب أفريقيا كانت تمثل عنصرًا لا غنى عنه في نجاح التجارة الخارجية للبرتغال.

وأثبتت الدراسة أنه على الرغم من سقوط المدن والممالك الأندلسية في قبضة إسبانيا المسيحية فإن النسيج الإسلامي ظل شامخًا بقيمته ودِقَّته في تلك الأراضي؛ فظلَّ لفظ القُطْن Algodon مستخدَمًا من سكان إسبانيا المسيحية لفتراتٍ طويلة عقب زوال الحكم الإسلامي من الأندلس. كما ظل اسم القُنَّب Alconba يُطلَق على إحدى القرى في الأندلس، وكذلك بعض الألفاظ والمصطلحات الصناعية للنسيج كلفظ Alfombra، الذي يعني سجادة أو بساطًا، والذي جاء من الكلمة العربية الحمرة أو الخمرة أي الحصير. وظل حي السقاطين Zacatin — وهم بائعو الثياب المستعملة — لفترةٍ قريبة يحمل نفس الاسم في الأندلس. وكذلك استعان تجار قيسارية طليطلة بالذراع الرشاشية في قياس أقمشتهم لفتراتٍ طويلة عقب زوال الحكم الإسلامي من الأندلس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤