أنس الوجود ومحبوبته ورد

حُكي أنه كان لأحد الوزراء ابنة بديعة في الحسن والجمال، فائقة في البهجة والكمال، ذات عقل وافر وأدب كامل، وكانت تهوى المنادمة وسماع رقائق الأشعار لرقة فؤادها ولطف أخلاقها وظرفها، فبينما كانت يومًا تنظر من شباك قصرها وقع نظرها على شاب نير الوجه، ضاحك السن، بهي الطلعة، حسن الشمائل، فوقع حبه في قلبها وعدمت صبرها في هواه، فرمته للحال بتفاحة كانت في يدها، فرفع رأسه فرآها في شباك القصر كأنها البدر، فلم يرنُ إليها طرفه إلا وهو بعشقها مشغول الخاطر.

فلما بَعُدَ عن القصر سألت جاريتها عن اسمه وكانت تعرفه، فقالت لها: إن اسمه أنس الوجود، وإنها تعرف مكانه. فكتبت له رقعة شرحت فيها حالها وما عراها من حبه وغرامه، فأخذت الجارية الرقعة وسارت بها إليه فأعطتها له، فلما قرأها كتب في أسفلها هذه الأبيات:

أعلل قلبي في الغرام وأكتمُ
ولكن حالي عن هواي يترجمُ
فلو فاض دمعي قلت جرح بمقلتي
لئلا يرى حالي العزول فيفهم
وكنت خليًّا لست أعرف ما الهوى
فأصبحت صبًا والفؤاد متيم
رفعت إليكم قصتي أشتكي بها
غرامي ووجدي كي ترقوا وترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعلها
بما حل بي منكم إليكم تترجم
رعى الله وجهًا بالجمال مبرقعًا
له البدر عبد والكواكب تخدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلها
ومن ميلها الأغصان عطفًا تعلم
وأسألكم من غير حمل مشقة
زيارتنا إن الوصال معظم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونها
فلي الوصل مني والصدود جهم

فأخذت الجارية الكتاب وأعطته إلى سيدتها، فلما قرأت ذاك الكتاب هاج منها الوجد والغرام وكتبت له تقول:

يا من تعلق قلبه بجمالنا
اصبر لعلك في الهوى تحظى بنا
لما علمنا أن حبك صادقٌ
وأصاب قلبك ما أصاب فؤادنا
زدناك فوق الوصل وصلًا مثله
لكن منع الوصل من حجابنا
وإذا تجلى الليل من فرط الهوى
تتوقد النيران في أحشائنا
وجفت مضاجعنا الجنوب وربما
قد برح التبريح في أجسامنا
الفرض في شرع الهوى كتم الهوى
لا ترفعوا المسبول من أستارنا

فلما فرغت من شعرها طوت الكتاب وأعطته إلى الخادمة، فأخذته وخرجت من عندها، فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت: إلى الحمام، وقد انزعجت منه فوقعت منها الورقة دون انتباه، فبينما كان بعض الخدم يمشي من تلك الجهة وقع نظره على الورقة فأخذها وقدمها إلى الوزير، فلما قرأها وفهم فحواها هاج منه الغيظ والغضب وجاء إلى بنته ورد لائمًا منددًا، ثم أمر بعض الخدم بإبعادها وأخذ مكان لها يكون بعيدًا في البرية، فلما علمت بذلك زاد منها القلق وكتبت قبل ذهابها هذه الأبيات على باب حجرتها:

بالله يا دار إن مرَّ الحبيب ضحى
مسلمًا بإشاراتٍ يحيينا
أهديه منا سلامًا زاكيًا عطرًا
لأنه ليس يدري أين أمسينا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنا
لما مضوا بي سريعًا مستخفينا
في جنح ليل وطير الأيك قد عكفت
على الغصون تباكينا وتنعينا
وقال عنها لسان الحال وأحربا
من التفرق ما بين المحبينا
لما رأيت كؤوس البعد قد ملئت
والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معتذرًا
وعنكم الآن ليس الصبر يسلينا

فلما فرغت من شعرها ركبت وساروا بها يقطعون القفار حتى وصلوا إلى مكان منفرد أمام شاطئ نهر، فنصبوا لها خيمة هناك ووكلوا بها بعض الخدم، فلما أظلم الظلام تذكرت حالها وكيف فارقت أطلال الحبيب، فسكبت العبرات وأنشدت تقول:

جن الظلام وهاج الوجد بالسقم
والشوق حرَّك ما عندي من الألمِ
ولوعة البين في الأحشاء قد سكنت
والفكر صيرني في حالة العدم
والوجد أقلقني والشوق أحرقني
والدمع باح بسر أي مكتتم
وليس لي حالة في العشق أعرفها
من رق عودي ومن سقمي ومن ألمي
جحيم قلبي من النيران قد سعرت
ومن لظى حرها الأكباد في نقم
ما كنت أملك نفسي أن أودعهم
يوم الفراق فيا قهري ويا ندمي
يا من يبلغهم ما حل بي وكفى
أني صبرت على ما خط بالقلم
أقسمت لا حلت عنهم في الهوى أبدًا
يمين شرع الهوى مبرورة القسم
يا ليل سلم على الأحباب مخبرهم
واشهد بعلمك أني فيك لم أنم

أما أنس الوجود فإنه بعد كتابة الأبيات وإرسالها إلى محبوبته ورد صبر إلى ثاني الأيام فقام وقصد أبياتها، فسأل عنها الخادمة فأعلمته بالخبر وأطلعته على ما كتبت من أبيات على الباب، فلما قرأ تلك الأبيات زاد منه الوجد والقلق وسار في عرض القفار لا يرتاح إلى سمير ولا يلذ له كلام، إلى أن رأى رجلًا أهداه إلى مكانها، فبينما هو سائر إلى حبيبته وقع نظره على حمام الأيك فهاج منه لاعج الغرام وأنشد:

يا حمام الأيك أقريك السلام
يا أخا العشاق من أهل الغرام
إنني أهوى غزالًا أهيفًا
لحظه أقطع من حد الحسام
في الهوى أحرق قلبي والحشا
وعلا جسمي نحول وسقام
ولذيذ الزاد قد حرمتهُ
مثل ما حرمت من طيب المنام
واصطباري وسلوي رحلا
والهوى بالوجد عندي قد أقام
كيف يهنا العيش لي من بعدهم
وهم روحي وقصدي والمرام

أما حبيبته ورد فإنها بينما كانت تخطر حول خيامها إذ رأت موكبًا حافلًا من بُعد فدنت منه فإذا في وسطه أمير خطير، فلما وقع نظره عليها عجب من رائق جمالها وهاله ما رأى فيها من شدة الضعف والهزال، فسألها عن حالها وما ألمَّ بها، فأعلمته القصة على التمام وما جرى لها أولًا وآخرًا، فرقَّ لها قلبه وبعث فاسترضى أباها وأرسل من يأتي بأنس الوجود، فما مضى إلا القليل حتى صادفوه قريبًا من خيام محبوبته، فلما جاءوا به إليها مالت إليه كغصن البان فضمها إلى صدره وأنشد:

ما أحيلاها ليلات الوفا
حيث أمسى لي حبيبي منصفا
نصب السعد لنا أعلامه
وشربنا منه كأسًا قد صفا
واجتمعنا وتشاكينا الأسى
وليلاتٍ تقضت بالجفا
ونسينا ما مضى يا سادتي
وعفا الرحمن عما سلفا

وعاشا معًا في ألذِّ عيش وأهنأ بال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤