إبراهيم الموصلي والرشيد والجارية

قال إبراهيم الموصلي: قال لي الرشيد: بكِّر لنصطبح، فقلت: أنا والصبح فرسا رهان نستبق إلى حضرتك، فبكرت فإذا أنا به خالٍ وبين يديه جارية كأنها غصن بان، حلوة المنطق، جميلة الصوت، وهي تنشد شعر أبي نواس:

توهمهُ طرفي فأصبح خده
وفيه مكان الوهم من نظري أثر
ومرَّ بفكري خاطر فجرحتهُ
ولم أرَ جسمًا قط يجرحهُ الفكر
وصافحه كفي فآلم كفهُ
فمن غمز كفي في أنامِله عقر

فذهبت والله بعقلي حتى كدت أُفتضح، فقلت: مَن هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه التي قال فيها الشاعر:

بها قلبي الغداة وقلبها لي
فنحن كذاك في جسدين روح

ثم قال لها غنِّي فغنت:

تقول غداة البين إحدى نسائهم
لي الكبد الحرَّى فسر ولك الصبرُ
وقد خنقتها عبرة فدموعها
على خدها بيض وفي نحرها صفرُ

وشرب وسقاها، وقال: غنِّ يا إبراهيم، فغنيت عن غير عمد ولا تحفظ أقول:

تشرَّب قلبي حبها ومشى به
تمشي حميا الكأس في جسم شارب
ودب هواها في عظامي فشقها
كما دبَّ في الملسوع سم العقارب

ففطن لتعريضي وكانت جهلة مني، فأمرني بالانصراف ولم يدعُ بي شهرًا ولا حضرت مجلسه، فلما كان بعد شهر دسَّ إليَّ خادمًا معهُ رقعة مكتوب عليها هذه الأبيات:

قد تخوفت أن أموت من الوجد
ولم يدر من هويت بما بي
يا كتابي اقرأ السلام على من
لا أسمي وقل له يا كتابي
كف صب إليكم كتبتني
فارحموا غربتي وردوا جوابي
إن كفًّا إليكم كتبتني
كف صب فؤاده في عذاب

فأتاني الخادم بالرقعة، فقلت: ما هذه؟ قال: رقعة فلانة الجارية التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين، فأحسست بالقصة وعجبت من ذاك الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤