الفصل الأول

عودة روستوف

عاد نيكولا روستوف مأذونًا في مطلع عام ١٨٠٦، وكان دينيسوف ينوي زيارة ذويه في فورونيج، فاتفق معه روستوف على أن يترافقا حتى موسكو؛ حيث يستضيفه فترة قبل متابعته رحلتَه إلى فورونيج. كان لقاؤهما قبل المرحلة الأخيرة من الطريق، فاحتفل روستوف بذلك اللقاء بأنْ شرب مع زميله ثلاث زجاجات، ونام خلال بقية الرحلة نومًا عميقًا رغم المجرات العميقة، منطويًا على نفسه في الزحافة. أما روستوف فكان كلما ازداد قربًا من نهاية رحلته، ازداد الشوق في نفسه لظًى، وبلغ صبره منتهاه.

كان يفكر في نفسه بنفاد صبر: «ألن نصل أخيرًا؟ أوه! لا نفتأ نمر في شوارع وبدكاكين ومخابز ومصابيح وعربات! إن هذا لا يُحتمَل!» وكان إذ ذاك قد دخل موسكو بعد أن أشَّرَ على مأذونيته ومأذونية صديقه عند مدخلها.

هتف ينادي دينيسوف وقد مال غريزيًّا بجسمه إلى الأمام، وكأنه يستحث سرعة الزحافة: «دينيسوف، لقد وصلنا! إنه لا يزال نائمًا، يا للحيوان!»

أردف في شبه هذيان: «هذه هي الناحية التي اعتاد «زاخار» الوقوف عليها بزحافته …

آه! ها هو ذا زاخار بنفسه ومع الحصان «إياه» الذي لا يبدله، وهذه هي الدكان التي نشتري منها الحلوى. بسرعة، الله! بسرعة أكثر!»

سأل سائق الزحافة: «أين ينبغي أن نتوقف؟»

– «أمام أكبر المنازل في أقصى الشارع. أَلَا ترى؟! إنه منزلنا. دينيسوف، دينيسوف، لقد وصلنا!»

رفع دينيسوف رأسه وسعل، لكنه لم ينطق بكلمة.

سأل روستوف تابعه وكان جالسًا على حاجز الزحافة: «دميتري، إن النور الذي نراه يشع من منزلنا، أليس كذلك؟»

– «تمامًا، بل إنه ينبعث من مكتب أبيك على الضبط.»

– «إنهم لم يأووا إلى مهاجعهم بعدُ إذن! هه، ماذا ترى؟ لا تنسَ بصورة خاصة سترتي الهنغارية الجديدة التي يجب عليك إخراجها من الحقيبة فورًا.»

وراح يحاول عقف شاربه الصغير الذي لمَّا يَنْبُت بعد. أردف: «أسرع، ضاعِف السرعة.»

وصرخ في أذن دينيسوف الذي عاد إلى النوم من جديد تاركًا رأسه يتأرجح على صدره: «ألن تستيقظ يا فاسيا؟»

وللسائق رغم أن ثلاثة منازل فقط أصبحت تفصله عن داره: «أسرع، سأمنحك ثلاثة روبلات، ولكن زد سرعة جيادك. رباه!»

كان يعتقد أن الجياد لا تتحرك، وأخيرًا مالت الزحافة إلى اليمين، ودخلت الممشى المؤدي إلى الدار. عرف روستوف حدود الرصيف والمرقاة، والطنف ذا الجص المكسر المتساقط. قفز من الزحافة وهي في سيرها وجرى إلى الردهة، فوجدها خالية. كان المنزل في جموده وصمته يبدو غيرَ آبهٍ لمقدم القادمَيْن، فكَّر وهو يتوقف مترددًا منقبض الصدر: «آه! رباه! أيكون مكروه قد وقع؟» لكنه سرعان ما عاد إلى جريه، وارتقى السُّلم أربعًا فأربعًا، ذلك السُّلم الذي كانت درجاته المنحنية مألوفة لديه. كان باب المدخل يحمل المقبض ذاته الذي عرفه قبل رحيله، ذلك المقبض الذي كانت قذارته تثير غيظ الكونتيس وغضبها، والذي كان يتحرك بسهولة ويسر لقِدَمه. رأى شمعة تضيء الردهة الداخلية وميخائيل العجوز نائمًا فوق صندوق فيها، أما بروكوب — وهو الوصيف المرافق، ذلك العملاق الذي يستطيع رفع عربة من محورها الخلفي — فقد كان يضفر خفًّا منزليًّا، التفت عندما سمع الباب يُفتح، وأشرق وجهه الجامد النعِس بذعر بهيج. هتف وقد عرف سيده الصغير: «يا ملائكة النعيم، إنه الكونت الشاب! هل هذا معقول؟! آه يا عزيزي!»

هرع بروكوب مضطربًا من الانفعال إلى باب البهو ليذيع النبأ، لكنه تماسك برهةً وعاد على أعقابه يسند رأسه الضخم على كتف سيده الشاب.

سأله روستوف بعد أن خلص ذراعه: «هل هم جميعًا في صحة طيبة؟»

– «كل شيء على ما يرام بحمد الله! لقد تناولوا العشاء منذ حين. دعني أراك يا صاحب السعادة.»

– «صحيح! إن كل شيء على ما يرام؟»

– «حمدًا لله، حمدًا لله.»

كان روستوف قد نسي في عجالته واندفاعه صديقَه دينيسوف، خلع فروته ودخل على أطراف قدمَيْه إلى القاعة الكبرى المظلمة، كان كل شيء فيها كما تركه عند رحيله: موائد اللعب، والنجفة، وكل الأشياء المألوفة لديه، ويبدو أن بعضهم قد رآه؛ لأنه ما كاد يصل إلى البهو الصغير حتى انقضَّ أحدهم عليه كالإعصار قادمًا من باب جانبي، فطوَّقه وراح يغمره بالقُبَل، وجاء ثانٍ وثالثٍ كأن الأرض قد انشقَّت عنهما، وعاد العناق والقُبَل على أشده، وارتفعت صيحات التعجب والدهشة والفرح، وانسفحت دموع الغِبطة. ما كان يعرف أيهم أبوه، وأي المهاجمين ناتاشا أو بيتيا. كانوا يصرخون معًا ويتحدثون معًا ويعانقونه معًا، لكنه استطاع التنبؤ بأن أمه ليست بينهم.

– «وأنا الذي ما كنت أنتظر وجودك. نيكولا يا صديقي.»

– «ها هو ذا طفلنا الفتَّان! هذا الصغير العزيز! كم تبدَّل! أسرعوا، إليَّ بالشموع والشاي.»

«وأنا يا مهجتي، وأنا.»

أحيط به من جديد، واعتصرته الأذرع، وتناقلته الصدور، فمن سونيا إلى ناتاشا وبيتيا وآنَّا ميخائيلوفنا، وفيرا والكونت العجوز، فالخدم والوصيفات وكل مَن في الدار.

كان بيتيا يصيح وهو متعلق بساقيه: «وأنا، وأنا.»

أما ناتاشا فقد كانت مُطبِقة على خرج سترته تلتهمه بالقُبَل، ثم تركته فجأةً وراحت تدور حول نفسها، وتطلق صرخاتٍ حادة عالية.

كانت النظرات كلها مفعمة بالحنان والعطف، والعيون مبلَّلة بالدموع، والشفاه متعطشة للقُبَل.

كانت سونيا مضرجة الوجه كالزهرة البرية الحمراء، متفجرة بالسعادة، ممسِكة بذراعه تبحث عن عينيه لتستجديها نظرة. كانت قد تجاوزت السادسة عشرة من عمرها، وازدادت جمالًا، وخصوصًا في تلك اللحظة التي كانت السعادة تضطرم في أعماقها وتشرق من عينيها، كانت تتأمله باسمةً كاتمة أنفاسها، خصَّها بنظرة منفعلة والهة، لكنه ظل يبحث عن شخصٍ آخر، ذلك أن الكونتيس لم تظهر بعدُ بين الموجودين، وأخيرًا ارتفع صوت خطوات قرب الباب، كانت خطواتٍ مسرعةً لا يمكن أن تكون لأمه.

مع ذلك فقد كانت هي القادمة، بدت في زينةٍ لم يَرَها روستوف من قبلُ فيها، أفسح لها الجميع الطريقَ وجرى هو للقائها. ارتمت الكونتيس على صدر ابنها وراحت تنتحب. ما كانت تستطيع رفع رأسها، بل راحت تضغطه بشدة على الأشرطة المذهَّبة التي تحلِّي سترته.

دخل دينيسوف إلى البهو دون أن يشعر به أحد، ووقف مباعدًا بين ساقَيْه يتأمل ذلك المشهدَ وهو يدلِّك عينيه بيديه.

قال يقدِّم نفسه جوابًا على نظرةِ الكونت المستفسرة التي حطَّت عليه بعد طول تنقُّل: «فاسيلي دينيسوف، صديق لولدك.»

فقال الكونت وهو يبسط ذراعَيْه ويعانق صديق ابنه: «تمامًا، لقد حدَّثني نيكولا عنك في رسائله. أهلًا بك بيننا! ناتاشا، فيرا، هذا هو، هذا دينيسوف.»

تحوَّلت الأنظار المبتهجة المتحمسة السعيدة إلى شخص دينيسوف الضخم وأحاطت به.

زمجرت ناتاشا، وقد أخفقت في ضبط شعورها، وارتمت على عنق دينيسوف دون وعي: «آه! أيها العزيز، دينيسوف العزيز.»

ارتبك الحاضرون لطيش الفتاة، واحمرَّ وجه دينيسوف، ثم ابتسم وأمسك بيد الفتاة المتحمسة وقبَّلها، ثم اقتِيد إلى الغرفة التي خُصِّصت له، بينما اجتمع أفراد الأسرة في المخدع مُلتفِّين حول نيكولا.

جلست الكونتيس قرب ابنها ممسكةً أبدًا بيديه تُوسِعهما تقبيلًا، واحتشد الآخرون حولهما يراقبون حركات نيكولا ونظراته ويحصون عليه كلماته، شاخصين إليه بأبصارهم المفعمة بالحب والابتهاج، وتزاحم أخوه الصغير مع أخواته يتنافسون على أقرب المقاعد إلى أخيهم الأكبر، ويتنازعون شرف تقديم الشاي إليه أو المنديل أو الغليون.

وكانت سعادة روستوف لا تُوصَف وهو يرى نفسه موضعَ هذا العطف وذلك الحب، غير أن اللحظة الأولى التي مرت على لقائهم بلغت من تسامي العاطفة مبلغًا جعله ينظر إلى الدقائق التي بعدها وما رافقها من أحاسيس، نظرته إلى شيء تافه فقير في مضمونه، وحفَّزته إلى التطلُّع إلى المزيد.

نام المسافران نومًا عميقًا بعد رحلتهما الشاقة، فلم يستيقظا إلا بعد العاشرة من صباح الغد.

وفي الغرفة التي تليها غرفتاهما تراكمت السيوف وجيوب الذخيرة والحقائب المفتوحة والأحذية الملطَّخة بالوحول، وجاء خادم بزوجين من الأحذية المنظَّفة الملمَّعة فوضعهما قرب الجدار، وآخَر يحمل الصحاف والماء الساخن لإزالة اللحية، وثالث يحمل الألبسة النظيفة، أما الغرفة فكانت رائحة الرجل والتبغ تتضوَّع فيها.

ارتفع صوت فاسيلي دينيسوف الأجش صائحًا: «هيلا! يا جريشكا، إليَّ بغليوني! وأنت يا روستوف، كفاك نومًا!»

فرك روستوف أجفانه التي ألصقها النعاس وانتزع رأسه من الوسادة الدافئة وغمغم متسائلًا: «أستيقظ؟ هل الوقت متأخر؟»

فأجابه صوت ناتاشا: «بالطبع، لقد أشرفت الساعة على العاشرة.»

وارتفع من الغرفة المجاورة حفيف الأثواب المهفهفة، وتعالت الهمسات والضحكات الفضية المجلجلة، بينما كان الباب الموارِب يكشف عن شيء أزرق وأشرطة وشعور سوداء ووجوه مَرِحة، كانت ناتاشا قد جاءت بصحبة سونيا، وبيتيا تترقب نهوض أخيها من نومه.

figure
نيكولا في بيته.

كررت ناتاشا نداءها وهي واقفة بالباب: «انهض يا نيكولا، انهض!»

– «حالًا!»

وفي تلك الأثناء وقع نظر بيتيا على السيوف، فحمل واحدًا منها وهو يشعر بالحماس البريء الذي يستحوذ على نفوس الفتيان الصغار حيال المظاهر الحربية التي يتمتع بها الأبكار، وفتح الباب على مصراعه مغفلًا التقاليد التي لا تسمح لأخواته برؤية الرجال وهم نصف عراة، وصاح: «أهذا حسامك؟»

قفزت الفتيات إلى الوراء مبتعدات، وذُعِر دينيسوف لهذه المفاجأة وبادر إلى إخفاء سيقانه المملوءة بالشعر تحت الغطاء وهو يُلقِي نظرةً متطيرة إلى رفيقه، ولما مرَّ بيتيا أغلق الباب وارتفعت وراءه القهقهات. سُمِع صوت ناتاشا يقول: «سيخرج نيكولا في معطفه المنزلي!»

بينما كرر بيتيا سؤاله غير عالم بما فعل: «أهو حسامك؟»

واستدار إلى دينيسوف وأردف يسأله باحترام وامتثال متأثرًا بمشهد شاربَيْه الأسودين الكبيرين: «أم هو حسامك أنت؟»

لبس روستوف معطفه المنزلي على عجل واحتذى خفًّا وخرج، وكانت ناتاشا قد ربطت المهاميز بزوج من الأحذية وراحت تهيئ الآخر. أما سونيا فكانت تدور حول نفسها يستخفها الفرح، كانت هي وناتاشا ترتديان ثيابًا زرقاء فاتحة اللون جديدة كل الجدة ومتشابهة كل الشبه، وكانتا باسمتين متورِّدتي الخدود ممتلئتين حيوية، نفرت سونيا عند مرأى نيكولا، بينما قادت ناتاشا أخاها إلى المخدع وراحت تثرثر معه، لم يجدا قبل هذه اللحظة فرصةً مواتية ليتطارحا ألوفَ الأسئلة الصغيرة التي لا تخصُّ إلا سواهما، فلما سنحت انتهزاها، وراحت ناتاشا تضحك بعد كل كلمة تتفوَّه بها أو تخرج من فم أخيها. ولم يكن مرد الضحكةِ الدعابة التي يتبادلانها، بل كانت بهجة ناتاشا ومرحها هما الدافعان، وما كانت تستطيع الإعراب عنهما إلا بالضحك، كانت تقول في كل لحظة: «آه! كم هذا جيد! كم هو بديع!»

وهكذا منذ ثمانية عشر شهرًا شعر روستوف لأول مرة بأن ابتسامة الصبا التي بارحت وجهَه منذ ذلك الحين، تعود فتغمر وجوده وتشرق في عينيه تحت تأثير ذلك السيل الجارف من الحنان الذي كانت ناتاشا تُغدِقه عليه. قالت له: «أصغِ إليَّ، ها أنت قد أضحيت رجلًا حقيقيًّا! كم أنا سعيدة إذ تكون أنت أخي!»

ولمست شاربه الصغير وأردفت: «آه! كم وددت لو عرفتكم معشر الرجال! هل تشبهوننا في شيء؟ كلا!»

سألها روستوف: «لِمَ نفرت سونيا؟»

– «آه! لكن هذه وحدها قصة طويلة! وبهذه المناسبة هل ستعود إلى مخاطبتها بصيغة المفرد أم بصيغة الجمع؟»

– «سأخاطبها كما يدور على لساني.»

– «بل أرجوك أن تقول لها «أنتن» بدلًا من «أنتِ». سأفسِّر لك السبب فيما بعدُ، بل سأقوله لك على الفور، أنت تعرف أن سونيا صديقتي، وأن صداقتنا عميقة، حتى إنني على استعداد لحرق ذراعي من أجلها. خذ، انظر.»

حسرتْ كمَّ ثوبها المصنوع من «الموصلين» وأشارت إلى بقعة حمراء على ذراعها الطويل النحيف قرب الكتف وفوق المرفق، في موضع لا يظهر حتى ولو كانت مرتديةً ثيابَ الحفلات الراقصة. أردفت: «لقد حرقت ذراعي بنفسي لأدلِّل لها على صداقتي المتينة، لقد أحميتُ مسطرةً وألصقتها هنا.»

شعر روستوف وهو في مجلسه في قاعة الدرس القديمة على أريكة ذات ذراعين تغطيها الوسائد الصغيرة، ونظرات ناتاشا الدافئة الحماسية تغمره؛ بأنه عاد إلى عالمه العائلي، عالمه الصبوي الذي لم يكن يعني بالنسبة إليه شيئًا، لكنه يزخر بتلك المُتَع العميقة التي طالما تذوَّقَها؛ لذلك فإن مغامرة المسطرة الحامية وإحراق الذراع بها إشارةً للصداقة المتينة لم تكن تافهةً في نظره، كان يفهم أسبابها الموجبة ولا يدهشه ذلك التصرف، سألها: «وماذا؟ لا شيء آخر؟»

– «آه! ليتك تعرف مدى ما نحن عليه من صداقة! إن مسألة المسطرة ليست جدية ولا شك، لكننا صديقتان، صديقتان إلى الأبد، وهي عندما تحب أحدًا فإنما تحبه إلى الأبد، لكنني لا أفهم هذا، بل أنسى كلَّ شيء على الفور.»

– «وماذا بعد؟»

– «حسنًا إنها تحبنا — أنت وأنا — على هذا النحو.»

ثم تضرج وجهها فجأةً وأردفت: «هل تذكر قبل رحيلك؟ حسنًا، إنها تطلب إليك الآن أن تنسى كل شيء. لقد قالت لي: «سأحبه إلى الأبد، أما هو فَلْيكن حرًّا!» إن هذا شيء رائع! النبل! نعم إنه نبيل أليس كذلك؟ أَلَا تجده كذلك؟»

كانت تصرُّ وتلحُّ بتلك اللهجة الجدية المنفعلة التي تدل على أن ما قالته الآن هادئةً، قالته من قبلُ وهي تبكي.

فكَّر روستوف فترة، وقال: «إنني لا أسحب كلمتي، ثم إنها شديدة البهاء والجمال، حتى إن المرء يجب أن يكون غبيًّا كل الغباء إذ يرفض أن يكون سعيدًا!»

هتفت ناتاشا: «كلا، كلا. لقد تحدثنا من قبلُ في هذا. كنا نعرف أنك ستقول مثل هذا القول، لكنه لا يجب أن يكون كذلك. أَلَا تفهم أنك إذا اعتبرتَ نفسك مرتبطًا بوعدك، فإن ذلك سيبدو وكأنها أثارَتْه عامدةً؛ وعندئذٍ لا بد أن تعتقد في فترةٍ ما بأنك إنما تزوَّجتَها بدافعٍ من الواجب! ولن يكون الأمر كذلك.»

شعر روستوف بوجاهة هذا المنطق السليم، لقد أذهله جمال سونيا مساء أمس، فلما رآها هذا الصباح بدت لعينيه أكثر جمالًا رغم قِصَر الفترة التي استطاع خلالها أن يتملى بجمالها. كانت تلك البنية التي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها تحبه حبًّا جمًّا، ولم يكن عنده ظلُّ شكٍّ في ذلك، ولكن لِمَ لا يحبها هو الآخَر بدوره؟ بل لِمَ لا يتزوجها أيضًا؟ بيْدَ أن مُتَعًا كثيرة وانشغالات جمة كانت تنتظره في تلك الظروف، فقال لنفسه: «نعم، إنهما على حق. من الخير أن أبقى حرًّا.»

قال لأخته: «حسنًا، كما تشائين، سوف نعاود البحث في هذا. آه! كم أنا سعيد برؤيتك! لكن نبِّئيني، لعلَّك لم تخوني بوريس على الأقل؟»

فهتفت ناتاشا ضاحكة: «هذه لعمري حماقات! إنني لا أفكر فيه ولا في أحدٍ سواه.»

– «مستحيل! في أي شيء تفكرين إذن؟»

فقالت ناتاشا ووجهها يزداد إشراقًا: «أنا؟ هل شاهدت دوبور.»١

– «كلا.»

– «دوبور الشهير، الراقص، ألم تره قط؟ إنك إذن لن تفهم. انظر.»

أدارت ناتاشا ذراعيها وأمسكت بثوبها على طريقة الراقصات، وابتعدت راكضة ثم استدارت وقامت بقفزة صغيرة ضربت خلالها قدميها ببعضهما مرارًا في الفضاء قبل أن تمس بهما الأرض (وتلك طريقة كان يبدأ بها الراقصون رقصهم) وخطَّت بضع خطوات جريًا على رءوس أصابع القدمين.

قالت مفسِّرة وقد عجزت عن الاستمرار في وقفتها الفنية: «لقد استطعت الوقوف على رءوس أصابعي، أليس كذلك؟ هذا ما سأكونه! لن أتزوج قط، سأصبح راقصة، ولكن لا تتحدث بهذا إلى أحد.»

انفجر روستوف ضاحكًا ضحكة بلغت من صفائها حدًّا جعل دينيسوف الذي سمعها في غرفته يغار منه، ودفعت ناتاشا إلى الاستجابة لها فجارته بضحكة مثلها. كررت بإلحاح: «أليس هذا بديعًا؟»

– «بلى، إنه بديع، لكنك لن تستطيعي بعدئذ الزواج من بوريس.»

احمر وجه ناتاشا وقالت: «أكرر القول إنني لا أريد الزواج بأحد! وسأقول له ذلك متى قابلته.»

فقال روستوف مستهزئًا: «أصغوا إلى هذا القول، يا له من حديث!»

– «على كل حال إنه ضرب من الغباء. قل لي هل هو لطيف دينيسوف هذا؟»

– «بل شديد اللطف.»

– «حسنًا، إلى اللقاء. اذهب وارتدِ ملابسك. أليس دينيسوف هذا شديد الرهبة؟»

– «رهيب، فاسكا؟ أبدًا، إنه شاب فتَّان.»

– «هه، أتسميه فاسكا؟ ذلك مضحك! إذن، إنه لطيف جدًّا؟»

– «كل ما في العالم من لطف.»

– «هيا إذن وأسرع، سنتناول الشاي كلنا معًا.»

واجتازت ناتاشا الغرفة على رءوس أصابع القدمين كما تفعل الراقصات مع فارق واحد، وهو أن الابتسامة التي كانت على شفتيها لا يمكن أن ترتسم إلا على شفاه الفتيات السعيدات إذا كنَّ في مثل سنها.

ولما دخل روستوف إلى البهو احمرَّ وجهه وبان الاضطراب عليه عندما وقع بصره على سونيا، وارتبك في انتقاء النَّهْج الذي سيجري عليه في معاملتها. لقد تعانقا أمسِ في غمار الفرحة الأولى والتحرُّر من القيود الذي سبَّبته عودته المفاجئة، لكنهما كانا في ذلك الصباح يعرفان أنه يتعذَّر عليهما انتهاج سبيل البارحة. شعر نيكولا بنظرات أمه وأخواته المستفسرة تنحطُّ عليه، لقد كان الموجودون يتساءلون عن السلوك الذي سيعمد إليه في حضرتها. انحنى على يدها يقبِّلها، وخاطَبَها بصيغة الجمع، لكن عيونهما كانت تتلاقى فتتخاطب بصيغة المفرد، وتتبادل أعذب القُبَل. كانت نظرات سونيا تسأله الصَّفْح؛ لأنها جرؤت على تذكيره بوعده عن طريق ناتاشا وتشكوه على استمراره في محبتها، أمَّا عيون نيكولا فكانت تشكرها؛ لأنها أعادت إليه حريته وتفهُّمها أنه سيظل يحبها على شكلٍ من الأشكال؛ لأنها كانت من اللاتي لا يمكن للمرء إلا أن يحبهن.

انتهزت فيرا فترةَ صمتِ الحاضرين وقالت: «إن هذا مضحك! ها إن سونيا ونيكولا يتخاطبان بصيغة الجمع الآن وكأنهما غريبان!»

كانت ملاحظتها وجيهةً كعادتها، لكنها كعادتها أيضًا أحدثت أثرًا سيئًا في نفوس الحاضرين، ولم يقتصر الأثر السيئ على نفس سونيا وناتاشا ونيكولا وحدهم، بل تعدَّاه إلى الكونتيس نفسها التي تضرج وجهها كالفتيات خشيةَ أن تَحرم تلك العاشقةُ الصغيرة ابنَها العزيز نيكولا «صفقةَ» زواجٍ مغرية.

وفي تلك اللحظة دخل دينيسوف، فكانت دهشة روستوف لا تُوصَف؛ إذ رأى صديقه معطَّرًا مزيَّنًا في ثوب جديد، في مثل الرشاقة والأناقة التي كان عليها يوم المعركة، ورآه بمزيد من الدهشة والذهول يتجه إلى السيدات وينخرط معهن في حديثٍ شيِّق رقيق.

١  أورد المترجم عن الروسية ملاحظةً هنا تشير إلى وجود تباين بسيط في سرد الوقائع؛ لأن الراقص الفرنسي الشهير دوبور؛ منافس فيستريس، لم يحلَّ في روسيا إلا عام ١٨٠٨ حتى حصل على شهرة ونجاح كبيرين طيلة أعوام، بينما يتحدث تولستوي عن هذا الراقص ويورد ذكره عام ١٨٠٦. (أسرة الترجمة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤