الفصل العاشر

أم دولوخوف

نشط الكونت روستوف العجوز نشاطًا كبيرًا حتى استطاع أن يجعل المسئولين يتجاوزون عن اشتراك ابنه في مبارزة دولوخوف-بيزوخوف، وكان نيكولا ينتظر ذلك. والحقيقة أنه بدلًا من أن تسحب منه رتبته عُيِّن ضابطًا مساعدًا لحاكم موسكو العام، وكان بحكم منصبه الجديد مُرغَمًا على البقاء في العاصمة، وهكذا تخلَّف عن مرافقة أسرته إلى الريف، وقضى الصيف كله في موسكو، وكان دولوخوف قد أبَلَّ من جراحه بفضل عناية أمه التي كانت تحبه حبًّا عميقًا، فازدادت أواصر الصلة بينه وبين نيكولا توثقًا خلال فترة نقاهته، وكانت أم دولوخوف العجوز ماري إيفانوفنا متأثرةً بهذه الصداقة، فأحبَّت روستوف وأحلَّتْه من نفسها مكانًا لائقًا، وراحت تتحدث معه عن عزيزها فيديا، كانت تقول: «نعم، يا كونت، إنه نبيل جدًّا، وروحه سامية لا تتفق والقرن الحاضر الفاسد. إن أحدًا لا يحب الفضيلةَ اليوم؛ إنها تكدِّر كل الناس وتزعجهم. خذ مثلًا يا كونت؛ هل ما قام به بيزوخوف نبيلٌ وحقٌّ؟ لقد كان فيديا يحبه من أعماق قلبه الكبير، وهو حتى هذه الساعة لم يتفوَّه بكلمةٍ سيئة عنه. تذكر مشاكلهم في بيترسبورج وقصة ذلك الشرطي. إن الله وحده يعلم حقيقتها، لكنهما كانا مشترِكَين فيها معًا، أليس كذلك؟ مع ذلك فقد تخلَّص بيزوخوف من النتائج. أما «فيدياي» العزيز فقد تحمَّل كل الوزر، والله يعرف وحده مبلغ الألم والشقاء الذي قاساه في محنته. ثم أعادوا إليه رتبته! إن البواسل والمواطنين المخلصين مثله قلة في الجيش! وهم في حاجة إلى أمثاله. ثم هذه المبارزة!

إنني أسألك يا كونت: هل حقيقة أن لهؤلاء الناس قلبًا وشرفًا؟ إنه يعرف أن فيديا ولدي الوحيد، مع ذلك فقد ورَّطه في ذلك النزاع وأطلق النار عليه دون أن ينبِّهه! ولحسن الحظ رفق الله بنا ولطف. وما هو سبب المبارَزة؟ مَن الذي يخلو في عصرنا هذا من الدسائس والمكايد؟ فإذا كان يحسُّ بالغيرة على زوجته، فلماذا لم يُبدِ له ملاحظاته من قبلُ بدلًا من أن يحتمل دأبه وزياراته المتكررة الكثيرة طيلةَ عام كامل؟ وهو إذ تحدَّاه كان يظن أن فيديا لن يقبل التحدي؛ لأنه مدينٌ له ببعض المال. يا لها من دناءة! يا لها من خِسَّة! إنني أعرف تمامًا يا عزيزي الكونت أنك تفهم «فيدياي» حق الفهم؛ ولهذا السبب أحبك من كل قلبي. قلائل الذين يفهمونه؛ فلا تبتئس. إنه روح علوية سامية.»

وكان دولوخوف نفسه يحدِّث روستوف بشيء من هذا القبيل؛ الأمر الذي لم يكن منتظرًا منه. كان يقول: «أنا أعرف أنهم يعتبرونني رجلًا خبيثًا، لكنني لا أبالي. إنني لا أريد أن أعرف أحدًا إلا أولئك الذين أحبهم، وعندما أحب إنسانًا فإن حبي يبلغ مبلغ افتدائه بدمي وروحي. أما الآخرون فإنني سأسحقهم جميعًا إذا حاولوا الوقوف في سبيلي والتصدِّي لي. إن لي أمًّا أعبُدها ولا أستطيع إيفاءَها حقَّها من التقدير، وثلاثة من الأصدقاء بينهم أنت. أما الباقي فإنني — كما ترى — لا أعتبرهم إلا بالقدر الذي أستطيع أن أفيد منهم، ويختلف تقديري لهم باختلاف النفع والضر، وهم جميعًا مُضِرُّون كما يبدو، وخصوصًا النساء. نعم يا عزيزي، إنني إذا وجدتُ حقيقةً رجالًا نبلاء القلوب، رفيعي العواطف، مهذَّبين، فإنني بالمقابل لم أجد بعدُ بين النساء، ابتداءً من الكونتيسات وحتى الطاهيات، إلا مخلوقات برسم البيع. إنني لم أعثر بعدُ على ذلك الطُّهْر الملائكي والإخلاص اللذين أنشدهما عند المرأة، وإذا وقع مثل هذا الاكتشاف ووجدت المرأة المنشودة؛ فإنني سأقدِّم حياتي هبةً لها، أما تلك اﻟ…! — وأشار بيده إشارة احتقار — صدقني كذلك إنني شديد التعلُّق بالحياة لسبب واحد؛ وهو اكتشاف العصفور النادر ذات يوم، المخلوق السماوي السامي الذي سيُطهِّرني ويرفعني ويسمو بي ويبدِّل نفسيتي، لكنك لا تفهمني.

فأجاب روستوف — وهو شديد الإعجاب والافتتان بصديقه الجديد: «بل أفهمك تمامًا.»

جاء الخريف وعاد آل روستوف إلى موسكو، وفي أول الشتاء عاد دينيسوف بالمثل ونزل عندهم. كان ذلك الشتاء من عام ١٨٠٦ أول شتاء قضاه نيكولا روستوف في موسكو، وكان أروع وأسعد شتاء عرفته تلك الأسرة. ولقد اجتذب وجودُ نيكولا عددًا كبيرًا من الشباب، وكانت فيرا قد بلغت العشرين وأصبحت جميلة، وسونيا السادسة عشرة وملْءُ إهابها اللطفُ والجمال الذي لم يتفتح بعدُ. أما ناتاشا فأضحت نصفَ طفلةٍ نصفَ آنسة، تجمع بين عبث الطفلة وفتنة الشابة الفتِيَّة.

كان منزل آل روستوف في تلك الأثناء مشبعًا بجو غرامي تنفرد به البيوت الحافلة بالفتيات الجميلات الناضجات، وكان الشبان الذين يدخلون ذلك البيت وتطالعهم تلك الوجوه المشرقة المتعطشة المتقبِّلة كلَّ أنواع الإيحاء، الباسمة الطروب من السعادة ولا شك، ويرون تلك الحركة الدائمة، وذلك النشاط المتقد، ويصغون إلى الأغاني والموسيقى وثرثرة نساء في مقتبل العمر يَحدُوهن الأملُ والإرادة الطيبة، تلك الثرثرة الفارغة إلا من تودُّدٍ وعطف؛ كان أولئك الشبان يشاطرون شبابَ آل روستوف ذلك الترقُّب للحب والسعادة الذي يعيشون فيه.

وكان دولوخوف، وهو أول الوافدين إلى تلك الدار بتسهيلٍ من نيكولا، يحوم حولَ كلِّ مَن في الدار باستثناء ناتاشا، التي كادت أن تشتجر مع أخيها نيكولا بسببه. كانت ناتاشا تؤكد أن هذا الرجل يحمل وحده كلَّ الخطأ في مبارَزته مع بيير، وأنها تنفر منه لأنه متصنِّع ومكروه. كانت تصرخ بعناد في وجه أخيها: «إنني لا أريد فهمه ولا يهمني ذلك. لنأخذ — على سبيل المثال — صديقك دينيسوف؛ إنه فاسق حقًّا، وكل ما يريد المرء أن يقوله عنه يمكن أن يكون صحيحًا، لكن ذلك لا يمنعني من أن أحبَّه، وبالتالي أن أفهمه. لست أدري كيف أوفق في إفهامك هذا الرأي! إن الآخَرَ كلُّ شيء عنده قائم على تدبير سابق، وهذا ما يزعجني فيه وينفرني منه، بينما دينيسوف …»

فيجيبها نيكولا: «إن دينيسوف يختلف اختلافًا كليًّا. يجب فهم روح هذا الشاب ومعرفة ذلك القلب الذي يضمُّه بين جوانحه، وكيف يتصرف حيال أمه!»

كان يريد بهذا القول أن يلمِّح بأن دينيسوف لا يُعتبر شيئًا مذكورًا إذا قِيسَ بدولوخوف. قالت ناتاشا: «إنني أجهل كل هذا، لكنني أشعر بالارتباك في حضرته. هل تعرف أنه مفتونٌ بسونيا؟»

– «يا لها من حماقة!»

– «بل إنني متأكدة، وسوف ترى.»

والحقيقة أن ناتاشا كانت محقَّةً في تخمينها؛ أصبح دولوخوف — وهو الذي لم يكن يحب عِشْرة النساء — ضيفًا مواظبًا في دار روستوف، حتى إن كل السكان أدركوا إدراكًا ضمنيًّا أن تردُّده المنظَّم ما كان إلا من أجل سونيا، وسونيا نفسها — رغم أنها لم تجرؤ حتى تلك اللحظة على التفوُّه بحرف واحد من ذلك — كانت تعرف حقيقةَ نواياه، ويتضرج وجهها خجلًا كلما ظهر دولوخوف في البهو.

كان دولوخوف يتناول طعامه غالبًا لدى آل روستوف، ولا يتخلف عن أية حفلة تُقام حتى حفلات الأحداث الخاصة بهم، التي كان أستاذُ الرقصِ إيوجل يقيمها أحيانًا، والتي كانت النسوة من آل روستوف يحضرْنَها بلا انقطاع. كان يُظهِر كثيرًا من العناية والرعاية إزاء سونيا، ويغمرها بنظرته المغرية التي ما كانت تتذكرها دون أن تندفع الدماء إلى وجهها حياءً، بل إن الكونتيس نفسها وناتاشا أيضًا كانتا تشعران بمثل شعورها حيال تلك النظرة. كان ذلك الرجل القوي الغريب الشاذ يتأثر بشدةٍ تأثُّرًا لا يُقاوم بفتنة تلك السمراء الصغيرة الجذَّابة التي كان قلبها مشغولًا في مكانٍ آخر.

وأدرك نيكولا أخيرًا — دون أن يحدِّد الغاية الحقيقية من ذلك — أن هناك صلةً ما بين دولوخوف وسونيا، فكان يحدِّث نفسه وهو يفكِّر في أخته وابنة عمه: «آه! رباه! إن هاتين الخبيثتين لا تقضيان يومًا دون أن تُغرَما بأحد!» ولما كان يشعر أنه على غير ما يرام في صحبة دولوخوف وسونيا — ومن أن يعرف السبب — فقد راح يقضي جلَّ وقته خارج الدار.

ومنذ خريف عام ١٨٠٦، عاد حديث الحرب إلى الألسن؛ الحرب مع نابليون، فكان حديثًا أكثر انتشارًا وحماسة من العام السابق. تقرَّرَ إجراءُ تجنيدٍ يعادل عشرة على كل ألف للجيش العامل، وتسعة على كل ألف لبقية الأسلحة الفنية والمهمات الحربية. وفي كل مكان كانت اللعنات الدينية والحرمان الكنيسي يُسلَّطان على بونابرت، فلم تكن موسكو لتتحدَّث إلا عن معاوَدة القتال القريب. ولولا عزيزهم نيكولا لما علَّق آل روستوف على تلك الأخبار والاستعدادات إلا أهمية سطحية، لكن الشاب كان يرفض بإلحاحٍ البقاءَ في موسكو، كان ينتظر انتهاء مأذونية دينيسوف بفارغ صبر ليعود معه إلى القطعة بعد أعياد الميلاد، غير أن ذلك الرحيل المنتظر لم يبدِّل شيئًا من أفراح روستوف وعاداته اليومية، بل إنه كان على العكس يثيره ويشحذ همته، وكان لذلك النبأ ردُّ فعلٍ لطيف؛ ذلك أن الدعوات انهالت عليه بين حفلاتٍ راقصة وولائم، حتى إن ذويه باتوا لا يرونه إلا غِرارًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤