الفصل الرابع عشر

عودة الأمير العجوز

اطمأنت الحاجة فعادت تتحدث بحماسة متزايدة، ظلت فترة طويلة تطري مواهب أحد الآباء المسمى آمفيلوك، الذي بلغ من تقشفه وزهده وقدسيته أن راحت يداه تتضوعان برائحة البخور المنتشر منهما، ثم راحت تشرح بتفاصيل ضافية قصة مقامها الأول في كييف، قالت: إن بعض معارفها من الرهبان أعطوها مفاتيح الأقبية، فلبثت فيها ثماني وأربعين ساعة في صحبة السعداء الصالحين لا تأكل إلا البسكويت، وبعد أن أصلي صلاة طويلة أمام أحد الأضرحة كنت أنتقل للتبرك بآخر والصلاة أمامه، ثم نمت فترة قصيرة وعدتُ أقبل الأضرحة المقدسة. لقد كان السكون عميقًا جدًّا والنعيم العلوي يدخل في نفسي متدفقًا، حتى إنني ما كنت أرغب في الخروج لرؤية ضياء الله الطيب الكريم.

كان بيير يصغي إليها بانتباه خطير، لكن ماري لم تدعه يستقر طويلًا؛ لأن آندريه كان قد انسحب، فتركت رجال الله يتممون احتساء شايهم، وقادت بيير إلى البهو، قالت له: «كم أنت طيب القلب!»

– «آه! حقًّا إنني لم أفكر في إهانتها مطلقًا، إنني أفهم هذه المشاعر وأقدِّرها حق قدرها.»

تأملته ماري فترة وهي صامتة وعلى شفتيها ابتسامة حانية، وأخيرًا قالت: «إنني أعرفك منذ زمن طويل، وأحبك كأخ لي.»

ثم أضافت دون أن تترك له المجال للإجابة على كلماتها الرقيقة: «كيف وجدت آندريه؟ إنه يقلقني جدًّا. لقد كان أحسن حالًا هذا الشتاء، لكن جرحه نكأ في الربيع فأوصى له الطبيب معالجة خارج البلاد، ثم إن حالته الفكرية تزعجني وتقلقني أيضًا؛ إنه ليس من طبيعة مثل طبيعتنا نحن معشر النساء تمكِّنه من استهلاك أحزانه بالدموع والمظاهر الخارجية، إنه يطوي آلامه في حناياه، وإذا تظاهر اليوم بالانشراح والوداعة، فما ذلك إلا بسبب وجودك الذي كان له هذا الأثر. يندر أن يكون على مثل هذه الحال من الانشراح. ليتك تقنعه بالسفر إلى مكان ما! إنه في حاجة إلى النشاط. إن هذه الحياة الساكنة الوتيرية تقتله. إن الآخرين لا يلاحظون هذا. أما أنا فإنني أراه بكل وضوح.»

تجاوزت الساعة التاسعة، وعندئذ ارتفعت ضجة في الخارج وعلت جلجلة. لقد كان الأمير العجوز عائدًا من المدينة، هرع الخدم على الطنف وتبعهم بيير وآندريه، فلما نزل الأمير من عربته شاهد بيير فسأل: «من هذا؟»

ولما عرف الكونت الشاب هتف: «آه! أهلًا بك، قبلني هنا.»

كان على خير مزاج فعامل بيير بشيء كثير من المجاملة والعطف، وقاده إلى مكتبه، فلما جاء آندريه يلحق بهما ساعة العشاء وجدهما غارقين في نقاش حامي الوطيس، كان بيير يصر على القول إن وقتًا سيحين تبطل فيه الحروب. أما الأمير فكان يسفِّه هذا الرأي، ولكن في غير جفاء وخشونة.

قال الأمير وهو يربِّت بلطف على كتف بيير: «إن الوسيلة الوحيدة لمنع الحروب هي أن تفصد العروق وتملأها بالماء بدلًا من الدم. إن هذه ترهات وأحلام نساء!»

ثم اقترب من المائدة حيث كان آندريه يتصفح أوراق أبيه التي أتى بها من المدينة عازفًا — ولا شك — عن الاشتراك في النقاش. راح يحدثه عن الأعمال، قال: «لم يستطع الكونت روستوف — بوصفه رئيس منطقة — أن يقدم لنا نصف الرجال المستنفرين. ثم تصوَّر بعد ذلك أنه جاء إلى المدينة يدعوني إلى تناول العشاء عنده! لقد أرسلته وعشاءه إلى …! هل رأيت مثل هذا … تأمل.»

أردف وهو يضرب كتف بيير متوددًا: «وبهذه المناسبة يا عزيزي، هل تعلم أن صديقك يعجبني؟ إنه فتى باسل يملؤني حماسًا وفخرًا. إن أيًّا كان مثله يبحث في مواضيع حساسة، لكنها تثير اشمئزاز المرء، فلا يلذ له الإصغاء إليها. أما هذا فإنه ينطق بحماقات، لكنه مع ذلك يثيرني رغم تقدُّم سني. حسنًا، إنني لا أستبقيكما، اذهبا فتناولا طعامكما، لعلني أنضم إليكما، قد أجيء لمشاكستك من جديد.»

فلما خرجا هتف الأمير العجوز متممًا: «حاول أن تنظر بعين العطف إلى ابنتي الحمقاء ماري.»

تذوق بيير خلال مقامه القصير في ليسيا جوري كل متعة الصداقة وقوتها؛ تلك الصداقة التي كانت تربطه إلى بولكونسكي، ولم تكن تلك المتعة قاصرة على علاقاتهما الشخصية، بل تعدتها إلى الصلات التي جمعت بينه وبين أفراد أسرة بولكونسكي ومعارفهم، فعلى الرغم من أنه لم يكد يتعرف على الأمير العنيد وماري الأميرة الخجول كما يجب، فإنه شعر في أعماقه براحة قصوى في مجالستهما أكثر مما يشعر به مع أصدقاء قدامى، ثم إنهم جميعًا سرعان ما أحبوه بدورهم؛ فماري أعجبتها طريقته اللطيفة وأساليبه الرقيقة في معاملة حجاجها، فراحت تلقي عليه نظراتها الأكثر إشراقًا وتوقدًا، ونيكولا الصغير نفسه؛ ذلك الطفل الذي لم يتجاوز عامه الأول، والذي كان جده يدعوه بالأمير الصغير، تقبَّل دعابة بيير ورضي أن يحمله هذا بين ذراعيه وراح يناجيه. أما ميخائيل إيفانوفيتش والآنسة بوريين فكانا يبسمان ابتسامة حقيقية صادرة من أعماقهما كلما وقع بصرهما عليه، أو شاهداه يتحدث إلى الأمير العجوز وكأنه أليفه وصفيه القديم، حتى إن هذا راح يحضر طعام العشاء مع الآكلين تكريمًا لضيفه الشاب. والخلاصة أن بيير خلال اليومين اللذين قضاهما في ليسيا جوري تلقى من عطف الأمير العجوز وإيناسه الشيء الكثير، حتى إن هذا دعاه بإلحاح إلى زيارته مرة أخرى.

فلما بارح بيير آل بولكونسكي بعد ذلك، واجتمعت الأسرة أعطى كل فرد من أفرادها رأيه في الضيف الراحل كما هي العادة بعد ذهاب شخص دخل في نطاق الأسرة من جديد. والعجيب النادر في الأمر أن كل واحد منهم كان مجمعًا مع الآخرين على امتداح الضيف المرتحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤