الفصل الخامس

سبيرانسكي العظيم

بانتظار تسميته عضوًا في اللجنة، عاد الأمير آندريه يوثِّق عُرى الصداقة مع معارفه القدماء، وخصوصًا ذوي السلطان منهم القادرين على إزجائه عونًا ونفعًا. سيطر عليه تطلع جامح غامض يشبه التطلُّع الذي أحس بمثله في أمسيات المعارك من قبلُ. أخذ يجذبه الآن نحو الأجواء العليا؛ حيث يُبحث مستقبل ملايين الرجال. استدل من غضبة المسنين من الرجال، وفضول المستهترين، وتحفظ العارفين الملمين بالأمور وانشغالهم، وكثرة اللجان والمجالس التي أخذ عددها يتزايد كل يوم، على أن معركة داخلية كبرى يرأسها ويقودها ذلك الشخص الغامض، سبيرانسكي، الذي كان يعزو إليه دون أن يعرفه كل صفات العبقرية، تُهيَّأ في ذلك العام نفسه. ولم تلبث مسألة الإصلاحات الكبرى، التي لم تكن لديه عنها إلا معلومات مبهمة، وصانعها الرئيس سبيرانسكي، أن استهوته لدرجة باتت معها أهمية النظام العسكري وغايته تشغل المرتبة التالية في مدرج تفكيره وانشغاله.

كان آندريه في مركز طيب يساعده على تلقي حفاوات قلبية في زياراته لمختلف المجتمعات الراقية في بيترسبورج؛ فحزب الإصلاحات كان يسلفه الاحترام؛ أولًا: لِمَا عرف عنه من ذكاء متقد وثقافة عالية، ولما اكتسبه إثر تحريره عبيده من شهرة في ميدان السخاء، وحزب الشيوخ المتذمرين الذي يفترض أن أفكار آندريه تتفق مع أفكار أبيه، كان يجد فيه حليفًا له. أما النساء، وبعبارة أصح «المجتمع»، فقد كن يحتفين به على اعتباره زوجًا منشودًا غنيًّا ونبيلًا، ويعتبرنه وجهًا جديدًا تمام الجِدَّة تحدق به هالة مغامرة موته المزعوم الخيالية، ونهاية زوجه المفجعة. أضف إلى ذلك أن كل من عرفنه من قبل بادرن إلى الاعتراف بصوت واحد بأنه تبدل تبدلًا كبيرًا في صالحه خلال الأعوام الخمسة المنصرمة؛ لانت عريكته، وتوطدت آراؤه، وحل الهدوء والتعديل اللذين يكتسبا مع الزمن محل الصلف والتصنع والهجاء. بات حديثه يشغل الأوساط، والناس يهتمون به ويبحثون عنه.

وفي اليوم التالي لزيارته لآراكتشييف، قصد منزله الكونت كوتشوبيئي لقضاء السهرة، وحدثه بمقابلته مع «سيلا آندريئيفيتش»، وكان كوتشوبيئي هو الآخر يطلق هذا اللقب على الوزير كلي النفوذ مشفوعًا بذلك التنويه الغامض الساخر، الذي أظهره الملتمسون في قاعة الانتظار.

– «يا عزيزي، لا غنى لك عن ميخائيل ميخائيلوفيتش حتى في قضيتك. إنه الصانع الأكبر. سوف أحدثه بالأمر. يجب أن يحضر هذا المساء.»

سأل آندريه: «ولكن ما علاقة القوانين العسكرية بسبيرانسكي؟»

بدا كأن سذاجة بولكونسكي قد أذهلت كوتشوبيئي وأدهشته، فابتسم وهز برأسه ثم استطرد: «لقد تحدثنا عنك في الأيام الأخيرة وعن مزارعيك الأحرار.»

وسأل عجوز من عصر كاتيرين وهو يلتفت نحو بولكونسكي في شيء من الازدراء: «آه! هذا أنت إذن أيها الأمير الذي حررت فلاحيك؟»

فقال بولكونسكي وهو يهدف إلى تخفيف حدة هذا الكهل وتهوين فعلته في نظره بدلًا من استثارته، دون جدوى: «لقد كانت قطعة أرض لا تغل شيئًا مذكورًا.»

استطرد ذلك العجوز وهو يلقي نظرة إلى كوتشوبيئي: «كنت تخشى أن تصل متأخرًا. هناك مسألة لا أستطيع فهمها: من الذي سيحرث الأرض إذا نحن أعطينا الفلاحين حريتهم؟ إن وضع القوانين ليس عملًا شاقًّا، ولكن الإدارة شيء آخر. خذ سؤالًا آخر: من أين يأتون برؤساء للألوية إذا كان كل واحد مرغمًا على اجتياز فحص؟»

فأجاب كوتشوبيئي وهو يعقد ساقيه ويسرح الطرف حوله: «من عداد الذين يتقدمون لاجتياز الفحوص على ما أعتقد!»

– «على هذا، فإن في مكاتبي رجلًا ممتازًا اسمه بريانيتشنيكوف، وهو إنسان ثمين، ولكن في الستين من عمره، فهل يجب عليه كذلك اجتياز فحوص؟»

– «لا شك أنها صعوبة، خصوصًا أن الثقافة غير منتشرة بكثرة، ولكن …»

لم يكمل كوتشوبيئي جملته، بل نهض وأخذ آندريه من ذراعه، ومضى يستقبل ضيفًا جديدًا طويل القامة، أشقر، أصلع، في الأربعين من العمر، عريض الجبهة، مستطيل الوجه، ناصع البياض بشكل غريب. كان الزائر مرتديًا ثوبًا رسميًّا «فراك» أزرق تزينه شارة على الجانب الأيسر، ويتدلى من عنقه وسام آخر، ذاك كان سبيرانسكي. حدس الأمير آندريه ذلك من فوره، وشعر بذلك الاضطراب الداخلي الذي يعتري المرء في اللحظات الرهيبة الجليلة من حياته. هل كان مبعث ذلك الشعورِ الاحترامَ أو الحسد أو الفضول؟ ذلك ما لم يكن يستطيع تبيانه، كانت شخصية سبيرانسكي كلها تبرز طابعًا بديعيًّا ينمُّ عنه لفوره ويدل عليه. لم يجد آندريه لدى كل من اختلط بهم من الشخصيات أكثر من هدوء سبيرانسكي وثقته بنفسه المتوفرين إلى جانب الحزق في الحركات، كما لم يجد في أحَدٍ قط مثل تلك النظرة الحية الأنيسة تنبعث من عينين نصف مغمضتين وكأنهما غارقتين، ومثل ذلك الحزم في ابتسامة جوفاء، أو ذلك الصوت الدقيق المتناسق، ولا مثل ذلك البياض الناصع النضير في الوجه، وتينك اليدين العريضتين بعض الشيء، ولكن الناعمتين السمينتين. إن مثل تلك النعومة في الجلد وذلك البياض الناصع في الوجه لم يجدهما آندريه إلا عند الجنود الخارجين من المشافي بعد إقامة طويلة فيها، كذلك كان سبيرانسكي؛ سكرتير الدولة ومشير الإمبراطور ورفيقه في إيرفورت؛ حيث تحدث أكثر من مرة هناك مع نابليون.

لم تكن نظرة سبيرانسكي تنطلق من رجل إلى آخر كما هي عادة المرء إثر دخوله مكانًا حافلًا بالناس، ولم يكن كذلك يتعجل الحديث، وكان صوته الهادئ ينمُّ عن ثقته العظيمة في أن محدثه يصغي إليه، وما كان ينظر إلى الشخص الذي يخاطبه.

راح الأمير آندريه يسجل في ذاكرته بعناية خاصة كل كلمة وحركة تصدر عن سبيرانسكي، وككثير من الناس، وبصورة خاصة أولئك الذين ألفوا الحكم بصرامة على الآخرين، كان الأمير آندريه عند التقائه بشخصية جديدة، وخصوصًا إذا كان لا يعرف صاحبها إلا عن طريق شهرته، يتوقع دائمًا أن يكتشف فيه موجزًا لكل الفضائل الإنسانية.

قال سبيرانسكي لكوتشوبيئي: «إنه يأسف لتأخُّره بسبب استبقائه في القصر.» سجل آندريه كذلك ذلك التواضع المصطنع. وعندما قدم كوتشوبيئي الأمير إليه، وجَّه سبيرانسكي أنظاره إليه ببطء مشفوعة بتلك الابتسامة بالذات، ونظر إليه لحظة في صمت. أخيرًا قال: «يَفْتنِّي أن أتعرف عليك؛ لقد سمعتهم يتحدثون عنك كما سمع كل الناس بالطبع.»

ولما ألمح كوتشوبيئي إلى الاستقبال الذي تلقى به آراكتشييف الأمير آندريه، اتسعت ابتسامة سبيرانسكي، وقال وهو يبرز كل مقطع في كلماته: «إن السيد مانيتسكي — رئيس لجنة القوانين العسكرية — من أصدقائي الطيبين. إنني أستطيع إذا رغبت أن أقابلك به.»

ثم توقف برهة وأردف: «سوف تصادف لديه — على ما أرجو — انجذابًا ورغبة في إخراج كل فكرة معقولة إلى حيز الوجود.»

تشكلت دائرة حول سبيرانسكي وطرح البوروقراطي العجوز الذي أطرى رجله بريانيتشنيكوف سؤالًا هو الآخر.

راح آندريه يراقب كل حركات ذلك الرجل الذي كان بالأمس تلميذًا مغمورًا من طلبة اللاهوت، وأضحى اليوم يمسك بين يديه البضتين السمينتين كل مستقبل الروسيا دون أن يشترك في الحديث، أعجب بالطلاقة المحتقرة التي أجاب بها سبيرانسكي على سؤال العجوز. بدت كلمته المراعية وكأنها سقطت من علوٍّ لا تُدرك رفعته. أعلن البوروقراطي وهو يرفع صوته قليلًا ويبتسم أنه ليس الحاكم على المحاسن والمحاذير التي تترتب على قرارات جلالته.

لبث سبيرانسكي فترة ثم اخترق الحلقة وفضَّها، ومضى إلى الأمير آندريه واصطحبه إلى الجانب الآخر من البهو. قدَّر ولا شك أن الاهتمام بالأمير آندريه ضروري، قال له: «لم تسمح لي المحادثة الحامية التي ساقني إليها ذلك الكهل بالتحدُّث إليك أيها الأمير!»

أشفع قوله بابتسامة تدلُّ على احتقار ضمني، أراد بها إفهام الأمير أنهما معًا يعرفان كيف يُقدِّران مثل تلك المحادثة التافهة، فأثَّر هذا الإطراء بالأمير آندريه، بينما استرسل سبيرانسكي: «إنني أعرفك منذ أمد: اعرف أولًا تصرفك حيال فلاحيك، وهو مثال أول نود لو يحتذي به كثير من الآخرين، وبعدُ فإنك من المرافقين القلائل الذين لم يعتبروا القانون الجديد بمثابة إهانة لهم رغم الاستقبال السيئ الذي قوبل به هذا القانون من كافة المتصلين بالبلاط على اختلاف مناصبهم.»

قال الأمير آندريه: «نعم، إن أبي لم يرض أن أستغل هذا الحق وأفيد منه؛ لذلك فقد تتبعت السبل الرسمية.»

– «لا شك أن السيد أباك رغم انتمائه إلى القرن الماضي أرفع بكثير من معاصريه الذين ينتقدون تدبيرًا عادلًا جدًّا، خصوصًا وأنه يرفع ظلامة صارخة.»

أجاب بولكونسكي وهو يقاوم التأثير الذي أخذ سبيرانسكي يحدثه فيه: «الحق يقال إنني لا أعتقد أن كل الانتقادات لا ترتكز على أسس معينة.»

أزعجه أن يؤيده في شيء فأراد أن يناقضه، لكنه أخذ يعبر عن آرائه في شيء من الارتباك وهو الذي اعتاد على استعمال عبارات واضحة، والإفصاح عن آرائه بطلاقة ويُسرٍ. لقد كان شديد الانهماك آنئذ في مراقبة شخصية ذلك الرجل الشهير ودراستها.

اعترض سبيرانسكي بهدوء: «إن الأساس الوحيد لانتقادهم ليس إلا الكرامة فحسب.»

فأضاف الأمير آندريه: «ومصلحة الدولة أيضًا.»

أخفض سبيرانسكي عينيه وسأل: «وكيف تفسر ذلك؟»

أجاب آندريه: «إنني من المعجبين بمونتيسكيو.»١ إن نظريته القائلة أن مبدأ الملكية هو الشرف تبدو لي أرفع من كل نقاش، ويخيل إليَّ أن بعض الحقوق والامتيازات المعطاة للنبلاء إن هي إلا وسائل لدعم هذا التفكير.

اختفت الابتسامة من الوجه الشاحب فازدادت هيئة سبيرانسكي ملاحة، ولا شك أن الفكرة التي عرضها الأمير منذ حين بدت له جديرة بالاهتمام. شرع يقول بهدوء لا يتزعزع، رغم ما اعترى أسلوبه في التعبير عن أفكاره باللغة الفرنسية من ارتباك واضح، جعله أكثر تمهلًا في حديثه مما كان عليه عندما كان يتحدث بالروسية: «إذا كنت تنظر إلى الأمر من الزاوية …»

وراح يشرح بحجج بسيطة موجزة وواضحة أن الشرف لا يمكن أن يُدعم بامتيازات تضر بسير الأمور المفيدة. إن الشرف ليس إلا الدراية السلبية للامتناع عن الأفعال الموجبة للزَّجْر، أو بعبارة أخرى: حافز معين يحثنا على الحصول على الاستحسان أو على المكافآت التي هي دليل عليه، وخير ترتيب وضع في هذا الصدد كان ما وضعه الإمبراطور الأكبر نابليون، وأعني وسام جوقة الشرف. إن هذا الوسام أبعد ما يكون عن الإضرار بصالح الخدمة، لكنه يعاون فيها دون أن يشكل في حد ذاته امتيازًا كبيرًا لحامله في طائفته أو في البلاط.

أجاب آندريه على البديهة: «إنني لا أعترض على ذلك، لكن امتيازات البلاط تهدف كذلك إلى مثل هذه الغاية، وهو ولا شك فيه؛ إذ إن كل فرد من البطانة يعتبر نفسه شبه ملزم باحتلال مركزه بجدارة.»

فقال سبيرانسكي وهو يبتسم ابتسامة من يريد إنهاء ذلك السجال الذي بدأ يُربك مخاطبه بعبارة لطيفة: «مع ذلك لم تشأ الإفادة من هذا الامتياز يا أمير.»

وأضاف: «شرِّفني بزيارة يوم الأربعاء، وسأكون قد التقيت بمانييتسكي خلال هذا الوقت، فأنقل إليك عند لقائنا أمورًا مهمة، ثم إنني سأتمتع بالتحدث معك لفترة طويلة.»

ثم أغمض عينيه وحيا واختفى على الطريقة الفرنسية دون أن يستأذن من مُصغيه.

١  شارل دوسو كوندا؛ بارون دومونتيسكيو: مشرِّع فرنسي شهير وُلد في قصر لابريد (مقاطعة الجيروند) عام ١٦٨٩، وتوفي عام ١٧٥٥، وكان أول من وضع مبدأ فصل السلطات في الدولة، ولعله كان أبعد الناس نظرًا وأكثرهم فيضًا في النتائج العملية بين كل المبشرين بالثورة الفرنسية. له مؤلفات عديدة: «الرسائل الفارسية»، «عظمة الرومان وسقطتهم»، «روح القوانين» … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤