الاشتباه في فكر باحثة البادية١

ملك حفني ناصف (١٨٨٦–١٩١٨م)

(١) معنى الاشتباه

الاشتباه هو التردد بين موقفين كلاهما صحيح، والتوتر بين قطبين كلاهما واقعي. ليس فقط في اللغة في صنوف المجاز المحكم والمتشابه بل أيضًا في الوجود الإنساني. فالإنسان وجود مشتبه، توتر بين النفس والبدن، العقل والحس، المنطق والوجدان، المثال والواقع، ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. وهو ليس ظاهرة مرضية تدل على تشكك في الأخلاق المعيارية كما هو الحال عند سيمون دي بوفوار في «من أجل أخلاق للاشتباه» وإيثار الغموض على الوضوح، والتناقض على البداهة، واللامعقول على المعقول. إنما هو شرط الإبداع الإنساني وتأكيد مطلبين في نفس الوقت، وإثبات شرعيتين لنفس الموقف.

وهو اشتباه يعبر عن موقف حضاري بأكمله وفترة تاريخية، وليس مجرد ظاهرة فردية عند هذا المفكر أو ذاك. فمنذ فجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي الرابع عشر الهجري، والاشتباه قائم بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين القدماء والمحدثين، بين الإسلام والحداثة أو الإسلام والغرب، بين الأنا والآخر، بين الدين والدولة، بين السلفية والعلمانية، بين الإيمان والعلم … إلخ.

وانحاز فريق لطرف بينما انحاز فريق آخر للطرف الآخر، فحدث الصدام بين الأزهريين والجامعيين، بين المشايخ والأفندية. فبدأ فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا طالما أن الدولة قوية تضم الجميع، وتسمح بالحوار الوطني، دون أن تنحاز لفريق دون آخر كما كان الحال في مصر والشام في العصر الليبرالي، وينتهي بصراع دموي بين الأخوة الأعداء في حالة ضعف الدولة ورغبة كل فريق في دراستها والاستئثار بالسلطة وحده كما هو الحال في الجزائر الآن.

والاشتباه خارج منطق الصواب والخطأ، والحق والباطل، والصحيح والمزيف، والصادق والكاذب، والخير والشر. فكلاهما صحيح كلاهما واقع ثقافي في مصدر المعرفة، ومصدر الأخلاق، في العلم والعمل. كلاهما رئتان لجسد واحد يتم التنفس من خلالهما. عينان لفرد واحد يتم النظر من خلالهما. كلاهما ساقان لرجل واحد يسير عليهما. كلاهما أذنان لإنسان واحد يسمع كل شيء بواسطتهما وإلا كان الإنسان أعور وأعرج.

وفي الوقت الذي يتم فيه الحسم والقطع والبتر لأحدهما، والتناقض والتضاد والتنافر والقطيعة بينهما، يموت الطرفان. فلا قديم بلا جديد، ولا جديد بلا قديم. لا ماضي بلا حاضر، ولا حاضر بلا ماضي، لا أصالة بلا معاصرة، ولا معاصرة بلا أصالة. القطع تحزب وتعصب لأحدهما ضد الآخر، وتكفير وتخوين متبادلين واستبعاد وإقصاء كما هو الحال هذه الأيام.٢

لقد تميز فجر النهضة العربية منذ الطهطاوي وخير الدين التونسي بالجمع بين هذين المطلبين، ابن خلدون وروسو، العمران وعلم الاجتماع، المعتزلة والثورة الفرنسية، المصالح العامة والمنافع العمومية. فقامت نهضة في مصر والشام شكلت الوجدان العربي الحديث. ووصلت ذروتها في مصر في ثورة ١٩١٩م. ثم بدأت التجربة القومية العربية الاشتراكية في النصف الثاني من القرن تحمي هذا الجمع بين المطالبين في الاشتراكية العربية، وفي حركة العالم الثالث وعدم الانحياز، من باندونج حتى بلجراد. وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م بدأ التفكك بين الشرعيتين بدافع الانتقام ووراثة الدولة المهزومة من أجل النصر. ولم يشفع للدولة انتصار ١٩٧٣م بل استمرت القطيعة خاصة بعد انقلاب التجربة الاشتراكية على نفسها ومن داخلها، وبداية سلسلة التنازلات والتفريط في الثوابت القومية. وخرجت الشرعية الإسلامية من السجون بعد استبعادها من بداية الثورات العربية. تثبت جدارتها في فلسطين وجنوب لبنان. واعتمدت الدولة أمام هذا الخطر الجديد على الفريق الآخر في أجهزة الإعلام والثقافة في حرب ثقافية بين الأخوة الأعداء، وامتثال دائم في بلد المليون شهيد.

ليس الغرض من هذا البحث التقريظ والمدح وبيان أنه لم يكن بالإمكان أبدع مما كان بل النقد والتطوير ونقل الاشتباه من أوائل القرن الماضي إلى أوائل هذا القرن، بعد مائة عام. الهدف هو معالجة الاشتباه بمنطق جديد، وبنفس روح مسئولية نهضة الوطن وتقدم الأمة واستنارة الشعب. فقد تغيرت الظروف، وتراكمت الخبرات، وتعقدت الأمور، واحتدم الصراع بين الأخوة الأعداء، وغار جرح الهزائم، وما زال الانتصار حلمًا يراود الخيال.

ليس المقصود من هذا البحث التاريخ، فهو معروف عند المؤرخين وليس الغرض هو التكرار والعرض والبيان من أجل نقل المعلومات المتوافرة من ذهن إلى ذهن، وممن يعلم لمن لا يعلم، فهذا هو العلم المنقول المروي المحفوظ الذي حمله الرواة ونقله المحدثون.

وليس المقصود أيضًا هو الدخول في أدبيات المرأة في الغرب الحديث من أجل العرض والمقارنة بين أوضاع المرأة في حضارات وثقافات عدة. فالآخر ليس معيارًا للأنا. وكل حضارة لها مسارها الخاص، ونظرتها للعالم، ومنظومة قيمها. ولا توجد حضارة واحدة مقياسًا للحضارات جميعًا، حتى ولو كانت تقدم نفسها باسم الحداثة وتحت شعارها. فالحداثة مرحلة تاريخية تمر بها كل المجتمعات على التعاقب وليس بالضرورة على التزامن.٣

ولا يهدف البحث إلى أخذ موقف طرف ضد آخر بدعوى المزايدة أو إظهار الموقف والإعلان عن الذات، تمسكًا بالشرعية الأولى أو دفاعًا عن الشرعية الثانية. بل وصف الأمور على ما هي عليه في سياقها الحضاري والتاريخي، مع تحليل التجارب المشتركة بين المبحوث والباحث، الموضوع والذات اللذين يشاركان في نفس الهم بعد قرن من الزمان وربما لقرن آخر قادم. فالاشتباه فردي حضاري تاريخي، يعبر عن مرحلة تاريخية بأكملها. التحول من الإصلاح إلى النهضة أو من النهضة الأولى إلى النهضة الثانية.

(٢) الأنا والآخر

وهو الاشتباه الطبيعي في اللحظة التاريخية بين مصر أو العرب أو المسلمين والغرب الحديث. لم يتوقف الاتصال بين الاثنين منذ اللحظة التاريخية الأولى اليونانية الرومانية، والثانية أثناء الحروب الصليبية، والثالثة في عصر الاستعمار الحديث. ومنذ «تلخيص الإبريز» وبدأ حول الأنا والآخر، المرآة المزدوجة، رؤية الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا.

ويبرز هذا الاشتباه في أدب الرحلات والأعمال الروائية والفكرية مثل «عيسى بن هشام» للمويلحي، «علم الدين» لعلي مبارك، «يوميات» محمد حسين هيكل.

ويبرز هذا التقابل عند باحثة البادية في «النسائيات» في استعمال ضمائر المتكلم الجمع «مدارسنا»، «فتياتنا»، «ذنبنا» في مقابل ضمير الغائب الجمع «هم» مما يكشف عن التمايز الحضاري والهوية والاختلاف.

ويبدو الغرب نمطًا للتحديث في الاستشهاد بنساء شهيرات مثل إيزابيللا زوجة فردناند اللذين قضيا على الحكم الإسلامي في الأندلس حتى سقوط غرناطة، وجان دارك محررة فرنسا من الاستعمار البريطاني، وسيدة فرنسية سائحة في مصر.٤ بدأت دراستها بالمدرسة الفرنسية ثم السنية. وأول ما كتبت كان مقالًا تنادي فيه بإنشاء مقبرة للعظماء مثل الوستمنستر في لندن أو البانتيون في باريس. مدحها الإفرنج. وأثنت عليها الكاتبة البريطانية شرلوت كرون في «شتاء امرأة في أفريقيا». كما شهدت لها الأمريكية إليزابث كوبر في كتابها «المرأة المصرية». أسست «جمعية الستار التهذيبي» وكانت تجمع بين المصريات والإفرنجيات تشجيعًا للمصريات وثقة بأنفسهن، وكانت تحب السفر إلى الخارج مما أثار ضدها المحافظين من أهل زوجها. كانت تحب آداب الإفرنج ورواياتهم وتتأثر مما تشاهد وتسمع. جمعت بين الثقافتين الشرقية والغربية، الإسلامية ودارون وسبنسر. تجمع بين النموذجين: الوافد والموروث ولكن الأولوية للوافد، جان دارك، كاترينه ملكة روسيا، إيزابيللا ملكة إسبانيا، إليزابيث ملكة إنجلترا، وكليوباترا ملكة مصر، فيكتوريا، أولهلمينا ملكة هولندا، وفي نفس الوقت شجرة الدر امرأة الملك الصالح وأم طوران شاه، وعمر بن الخطاب، وخولة بنت الأزور.٥

وليس هناك أفضل من مدارسنا الحكومية التي تعلم القديم والجديد كما أن القول بأن الغربيات لا يصلحن لإدارة البيوت غير صحيح، فالجمع بين المطلبين لا يحدث فقط عند الأنا بل أيضًا عند الآخر طبقًا لفضيلة الاعتدال.

والمقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية أكثر الفصول طولًا، منذ الولادة والطفولة والمراهقة حتى الخطبة والزواج والأمومة.٦

وتهدف المقارنة إلى رؤية الأنا في مرآة الآخر دون أن يكون الآخر مرآة للأنا. القصد منها تغيير الأنا دون الانبهار بالآخر. في دور المولودة تقدمت الثقافة الإسلامية برفض دفن البنت حية، وأد البنات، عادة الجاهلية. وفي دور الطفولة ما زالت الثقافة الإسلامية تفضل الذكر على الأنثى، والولد على البنت. وفي دور المراهقة يسبق الغربيون في تربية الفتاة خاصة الفنون والآداب. وفي الخطبة والزواج تنتظر الفتاة حتى يطلبها الرجل، ولا وسيلة إلا الخطبة. في حين أن الغرب تجاوزها إلى اللقاء الطبيعي والمشاهدة في الأماكن العامة. وفي الأمومة سبق المرأة الغربية في الجمع بين المنزل والعمل. واضح من المقارنة سبق المرأة الغربية المرأة المصرية. ومِن ثَم كان لزامًا على المرأة المصرية اللحاق بزميلتها الغربية. ففي جدل الأنا والآخر ما زال الآخر نمطًا للتحديث عن وعي أو عن لاوعي، علنًا أو سرًّا، منطوقًا به أو مسكوتًا عنه.

(٣) الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

وهو اشتباه عصر، وتقابل يصل إلى حد التضاد نظرًا لفهم شائع في عصور التخلف الأخيرة ومزاحمتها بالغرب الحديث أن الشريعة إلهية، منزلة من السماء، وأن القانون المدني العصري قانون وضعي يعبر عن مصالح الناس بناءً على العقد الاجتماعي. وهو تقابل وهمي يكشف عن عدم وعي كافٍ بأصول الشريعة الإسلامية وبحدود القانون الوضعي ومدارسه المختلفة. مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية بالتعبير الشامل لأنها تقوم على الواقع وتتأسس في مصالح الناس. لها أسباب نزول، أي مشاكل في الواقع الاجتماعي، وتخضع للناسخ والمنسوخ، أي إنها تتطور بتطور الزمان. هناك أحكام «الوضع» التي تربط الحكم بميدان تحققه، السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة، والرخصة، والصحة، والبطلان.

وعند باحثة البادية لا يتم فهم الأحكام النصية إلا في ضوء الواقع الحالي وللتنظير المباشر له. ولا يتم التعامل مع الفقه القديم إلا في ضوء الواقع الاجتماعي الحالي للمرأة. فلا ضرر ولا ضرار. والمصلحة أساس التشريع. وما ينبغي أن يكون تطويرًا لما هو كائن وليس بديلًا عنه أو نقيضًا منه. ولا فرق بين المعيار والوصف. المعيار هو الواقع في حالة اكتماله. والوصف هو الواقع وهو في طريقه إلى الاكتمال. لا يفهم النص إلا في ضوء المشاهدات والتجارب الحالية وهي الواقع الذي نشأ فيه النص.

والنص الفقهي القديم والمثل العامي جزء من التراث القديم الذي تحجر في التاريخ وأصبح سلطة ثابتة ودائمة مهما تغير الزمان وتبدلت الأحوال.٧ والنص القرآني مؤثر بصياغته وقادر على تفجير شحنة الاعتراض والنقد للأوضاع الحالية السلبية بالنسبة للمرأة.٨

ويتم عرض قانون الأحوال الشخصية القديم على الأوضاع الحالية فيما يتعلق بالزواج والمحارم وزواج الأختين، وتعدد الزوجات، وسن الزواج والحجاب والسفور، والزينة، والتراث والتعليم.

كتبت باحثة البادية ضد تعدد الزوجات. فلم يشرعه القرآن ولا القانون الفرنسي، لم يؤيده لا القديم ولا الجديد.٩ لم يكن قصد الشارع من هذه القصة هذه الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية ونقضه عهود الأسر. فإن الأديان لم تأتِ لجلب البؤس والشقاء للإنسان بل لإسعاد البشر وتقريبهم إلى الحد الأقصى من الإنسانية. وإن أسباب الشقاق في الزواج جهل أحد الزوجين بالآخر، واختلاف الطباع، والطمع في الغنى، والزواج العشري، وتأويل الدين الحنيف في أحكام الزواج والطلاق على غير ما قصد منها. ولا يجب أن يكون سن الزواج مبكرًا للغاية حتى تنضج المرأة ولا تصاب بأمراض نفسية تضطرها للجوء إلى الزار.
وتدعو إلى السفور دون طلاء الوجوه والمغالاة في الزينة. فإنها غش خلق الله وتعمد تغيير الخلقة الطبيعية. وتخطئ النساء إذا سارت فيما هو شائع في علاقتهن بالأزواج وهو ما تسميه باحثة البادية مبادئ النساء، ومنها عدم الثقة بالزوج أو الغيرة العمياء، وبغض أقارب الزوج أو الأسرة، والمباراة والإسراف، وسرعة الغضب والتهديد بالفرقة.١٠
ومن مساوئ الرجال الطمع، والظلم، والازدراء بالمرأة. ويضيع الرجل تأثيره الحسن في أسرته لأنه ليس قدوة لها، فتتغلب عليه، أو لقسوته وسوء معاملته وعشرته.١١ إنما الواجب رفع الكلفة بين الزوجين.
وقد حرم الإسلام عدم الجمع بين الأختين في آنٍ واحد حتى لا تتضارب المشاعر، ومع ذلك حرصًا على المصالح العامة يمكن الزواج من أخت المتوفاة.١٢

(٤) المحافظة والتقدم

والخلاف حول وضع المرأة إنما هو خلاف بين مدرستين فكريتين، وتيارين اجتماعيين وقوتين سياسيتين، وحركتين تاريخيتين، الأولى تدفع إلى المحافظة، والثانية نحو التقدم، كل منها تتمسك بأحد طرفي الاشتباه. وتسمي باحثة البادية ذلك الصراع بين المحافظين والأحرار.١٣ ويظهر هذان الدافعان في عدة ميادين مثل التعليم والعمل والخروج خارج المنزل، والجمال والاختلاط والمرأة الحديثة (الأرستقراطية) حيث يبدو الاتجاه التقدمي، والأخلاق الفردية والخدم حيث تتغلب روح المحافظة.
ويمثل الجانب التقدمي محمد عبده وقاسم أمين ونبوية موسى وهدى شعراوي وغيرهم من الرواد الأوائل في إطار الثقافة الليبرالية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي قبل هزيمة ١٩٦٧م. وحدث رد الفعل المحافظ في الحياة العامة الذي عبرت عنه الحركة الإسلامية الخارجة من السجون والمهمشة في المجتمع والمطاردة من أجهزة الأمن. فأصبحت المحافظة السمة العامة للمجتمع السري المناهض للمجتمع العلني. الحجاب الذهني في مقابل السفور العقلي، والحقيقة أن الخلاف بين المدرستين هو خلاف في المنهج وليس في الغاية. وتمثل باحثة البادية منهجًا معتدلًا بين المدرستين، فقاسم أمين ممثل المدرسة التقدمية صريح إلى أقصى حد، يعتبر الغرب نموذجًا للتحديث خاصة في «المرأة الجديدة»، وصاحب دعوة فكرية أكثر منه مغيرًا اجتماعيًّا، فالتغير الاجتماعي في الحد الأدنى أكثر فاعلية من الدعوة الفكرية إلى الحد الأعلى.١٤
أما باحثة البادية فإنها تتناول وضع المرأة بطريق غير مباشر، بهدف التطوير والتغيير. وتحيل إلى دارون وسبنسر بوصفهما مصلحين اجتماعيين. وتتضامن مع شبلي شميل في نفس الموقف من المرأة. تحررت وتشق طريقًا ثالثًا بين التيارين من أجل وضع تحرير المرأة تحت قاعدة الاعتدال. ورائدها في ذلك الشرع الإسلامي.١٥ فتأخذ الجانب المستنير من التراث الإسلامي كما وصل من خلال عمر بن الخطاب، ونظرية التطور، دارون وسبنسر من الغرب، وتصف حال المرأة المصرية في عصرها معتمدة على المشاهدات العيانية، معبرة بذلك عن الموقف الحضاري الذي يوجد فيه كل مفكر، القديم والجديد والواقع، الماضي والمستقبل والحاضر، الأنا والآخر والعصر.

(٥) المرأة والمجتمع

وتصوغ باحثة البادية قضية المرأة صياغة تقليدية، المرأة في مقابل الرجل. أوضاع المرأة الزواج، والسفور والحجاب، والزوجة، والأم، والجميلة، والقريبة، والمقتصدة. في حين أن أوضاع الرجل تتمثل في مساوئ الرجال، الطمع، والظلم، وازدراء المرأة، ورفع الكلفة بين الزوجين، وتأثير الرجل في الأسرة. وتصيح: يا للنساء من الرجال، ويا للرجال منهن! لقد وقفت المرأة عن التقدم من زمن طويل بحكم قوة الرجال وليس بحكم قوة ضعفها الطبيعي ولا بحكم الشريعة الشماء.١٦
وتنتقد أولاد الذوات، وسيدات الطبقة الراقية. عملهم أقل واشتراكهن في النوادي الاجتماعية أكثر. وتصف جمال السيدات، سيدات الطبقة الراقية وتعني رشاقة البدن وجمال المنظر وانخفاض الصوت والحياء، يضيعه التبغ والخمر. بل إن الشعر له جنس، قصيدة نسائية وقصيدة رجالية.١٧
ما زال العدو الأول للمرأة هو الرجل الظالم المستبد الذي يأمر وينهى في المرأة ويدفنها وهي حية.١٨ الرجل أناني والمرأة عاشقة له، صادقة مخلصة. المرأة مثل دودة القز تفرز حريرها حتى تموت، والرجل كالنحلة ينتقل من زهرة إلى زهرة. في حين أن الواقع الاجتماعي المتخلف هو العدو المشترك لهما معًا.
وفي إحياء ذكرى باحثة البادية تقدمت السيدة هدى (شعراوي) ببيان تحدد فيه مطالب المرأة من أفكار باحثة البادية، منها مساواة المرأة بالرجل في التعليم، وإصلاح قانون الأحوال الشخصية مثل تحريم تعدد الزوجات والطلاق إلا أمام القاضي ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق المدنية، النيابية والتشريعية.١٩

وبالرغم من أن باحثة البادية عاشت في أتون الحركة الوطنية، ونشاط الحزب الوطني، وخطب مصطفى كامل ومحمد فريد، وألحان سيد درويش، فإنها كانت أقرب إلى أحزاب الأقلية، التلميذة النجيبة لأحمد لطفي السيد وحزب الأحرار الدستوريين، لم تلتهب بمقدمات ثورة ١٩١٩م ولا بحادثة دنشواي.

وعيها السياسي محدود. قُبض على أخيها في حادثة سياسية. وماتت وهي في زيارته. تستشهد بسيدة إنجليزية من صاحبات لورد كرومر، بل تستشهد بكرومر نفسه. وتتأسف أن ليس لديها مستعمرات. لم تكتب في السياسة إلا قليلًا. منها قصيدة إثر إعلان قانون المطبوعات. وخطبت أثناء حرب طرابلس في نساء الفيوم. وفي الحرب الكبرى حاكت مائة قميص ورداء للهلال الأحمر.

وربما يبدأ الإصلاح السياسي بالمرأة. فكيف والرجل بهذا الاستبداد يأمل بإصلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور. وفي «خطبة في نادي حزب الأمة»، وهو الحزب السياسي، حزب الأقلية، عالجت قضية المرأة بمعزل عن الوطن، وهي من أطول الخطب، تتحدث فيها بلسان السيدات وشكواهن من الرجال وتدافع عن حقوقهن، حق العمل في المجال العام والخروج من دائرة العمل الخاص، المنزل، لتجد موقعًا بين الإفراط والتفريط، بين الحجاب والسفور، بين حبس المنزل وسياحة الطريق، وتصوغ مواد عشرًا لتعليم البنات، الدين الصحيح، والمرحلة الابتدائية، والتدبير المنزلي، والطب، والعلوم الراقية، ومن أجل حسن التربية والصدق والجد والصبر، واتباع الطرق الشرعية في الزواج، واتباع عادة الأتراك في الآستانة، والحجاب، والحفاظ على مصلحة الوطن، والرجال في نهاية المطاف.٢٠

(٦) الوطن والأمة

وأخيرًا يكشف هذا الاشتباه السادس عن هوية المرأة بين الوطن والأمة والجامعة الشرقية. فقد كانت باحثة البادية معاصرة للأفغاني ودوائره المتداخلة، مصر والعروبة والإسلام والشرق. وفي نفس الوقت هي تلميذة أحمد لطفي السيد مفكر الأمة المصرية.

تعني بالوطن الأمة المصرية. وتقدم «النسائيات» للأمة المصرية. وتصف أخلاق هذه الأمة. وتنادي: «نحن المصريين». وتحبذ الزواج من المصريات اللاتي بلغن مستوى عالٍ من التعليم يفوق الشركسية والراقصة الأوروبية.

وفي نفس الوقت تتحدث عن الآستانة، تركيا. فقد سافرت إلى هناك امتدادًا لربوع الوطن، وقد كانت المصاهرة بين المصريين والأتراك شيئًا شائعًا. وكتبت في جريدة «تركيا الشابة» (الجون ترك)، تنصح بارتداء الحجاب مثل نساء الآستانة أي اليشمك التركي.

وتتحدث عن اليابان والمرأة الشرقية. فالمرأة اليابانية تسجد لزوجها. كانت تدعو لرقي المرأة الشرقية. وتدعو إلى مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده، ولا تعوق عن اجتناء ثمار التمدن الحديث. وليس وضع المرأة الشرقية أسعد حالًا من عندنا. فالمرأة تكاد تسجد لزوجها بالرغم من أخذها بوسائل التمدن الغربي الغربي. فهي تشارك زوجها مع الله.

وخلل هذا الاشتباه في الحزب الوطني حتى الآن. وعبرت عنه مواثيق الثورة المصرية مثل «فلسفة الثورة». وكان دعامة دعوة الإخوان المسلمين في بواكيرها الأولى، لمصر والعروبة والإسلام، وعموم الحركة السلفية في المغرب خاصة علال الفاسي.٢١
وأحيانًا يشير ضمير المتكلم إلى السلفيين أي عند أصحاب الدين الحنيف.٢٢ وهي الدائرة الأضعف عند باحثة البادية على عكس ما هو الحال الآن بعد ما يقرب من قرن، وبعث الدائرة الإسلامية على حساب الدائرتين القومية والوطنية.
كان إصلاح وضع المرأة هو الطريق إلى إصلاح حال الوطن. ونهضة المرأة دون نهضة الوطن نهضة كاذبة.٢٣ ربما كانت المرأة رمزًا للوطن كما هو الحال في عديد من الروايات والأعمال الأدبية المعاصرة.
ومع ذلك فأقرب التجمعات إلى الحياة الكاملة هي حياة الريف والقرى والفلاحين البسطاء، وليس حياة المدن والعمران. لذلك أثر جان جاك روسو في العصر الليبرالي عند باحثة البادية ومحمد حسنين هيكل. فالإسلام دين الفطرة والطبيعة.٢٤
كانت باحثة البادية أول من دخل المدرسة بمصروفات، وأول من نال شهادة الابتدائية عام ١٩٠٠م. أول من نال دبلومًا عاليًا عام ١٩٠٣م، وأول من كتب، وأول من خطب. لذلك امتلأ الجزء الثاني من «النسائيات» بالتقريظ لها.٢٥

النسائيات سيرة ذاتية تكشف عن أزمة وطن، وحياة خاصة تبين وضعًا اجتماعيًّا، وحياة إنسان تُظهر مرحلة تاريخية لالتقاء ثقافتين وعصرين وقوتين اجتماعيتين وموقفين، كلاهما صحيح، وهو معنى الاشتباه. إنما الخطورة الآن في تفكيك الأوطان باسم المرأة في مقابل الرجل، وحقوق الإنسان الفردية في مواجهة الجماعة وليس حقوق المواطن والوطن، باسم المجتمع المدني الأصلي في مواجهة الدولة الوطنية والقومية، والأقليات ضد وحدة الأوطان.

لا خلاص للمرأة إلا بخلاص المجتمع، ولا خلاص للمجتمع إلا بالانتماء للوطن، ولا حماية للوطن إلا بالنظام السياسي القادر على تجسيد لحظته التاريخية وحشد إمكانياته وتحديد رؤيته وتحقيق رسالته.

١  «من رائدات القرن العشرين: شخصيات وقضايا»، ملتقى المرأة والذاكرة، القاهرة ٢٠٠١، ص٨١–٩٢. وكان قد ألقى هذا البحث يوم ١٧ / ١٠ / ١٩٩٨م في ذكرى ملك حفني ناصف باحثة البادية (١٨٨٦–١٩١٨م) ١٧–١٨ أكتوبر ١٩٩٨م بمكتبة القاهرة الكبرى (جزءان). والموضوع أيضًا أدخل في الجزء الثاني من حصار الزمن، «مفكرون».
٢  انظر دراستنا: الاشتباه في فكر ابن رشد، عالم الفكر، الكويت، ١٩٩٨م.
٣  التعاقب Diachronism، التزامن Synchronism.
٤  باحثة البادية: النسائيات، مجموعة مقالات نشرت في الجريدة في موضوع المرأة المصرية، دار الهدى، القاهرة، ج١، ص١٠٩،  ٤،  ٣٢.
٥  المرجع السابق، ص١٠٩.
٦  في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية وعاداتها واستخلاص زبدة المقارنة لنعمل بها، المرجع السابق، ص١٢٤–١٤٥.
٧  تستعمل باحثة البادية بعض الأحاديث النبوية مثل «إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى» و«الناس بخير ما تباينوا». وفي نفس الوقت الأمثال العامية مثل «السبع لا يأكل أنثاه». النسائيات. ص٤٤، ٦٠، ٨٤.
٨  وذلك مثل: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، المرجع السابق، ص١٢٥.
٩  رأي في الزواج وشكوى النساء منه، تعدد الزوجات أو الضرائر، ص٤١–٤٤. سن الزواج، ص٤٥–٤٨.
١٠  الحجاب أم السفور. رد على خطبة ألقاها حضرة عبد الحميد الأفندي بشأن الحجاب، المرجع السابق، ط١، ٢٤–٢٩، ٣٧، طلاء الوجوه، ص٤٩–٥٢.
١١  المرجع السابق، مبادئ النساء، ط١، ص٥٢–٦٦.
١٢  المرجع السابق، مساوئ الرجال، ص٦٦–٧٥، ٧٩–٨٢.
١٣  المرجع السابق، زواج الأختين، ص٨٧–٩٠.
١٤  المرجع السابق، ط١، ٦، ٢٤.
١٥  المرجع السابق، ط١، ٧.
١٦  المرجع السابق، ط١، ٤.
١٧  المرجع السابق، جمال السيدات، ص٩٥–٩٧. جمال السيدات يضيعه التبغ والخمر، ص٩٨–٩٩. جمال السيدات والرياضة البدنية، ص١٠٠–١٠٣.
١٨  قصيدة نسائية لباحثة البادية، ص١٤٧–١٥٠.
١٩  المرجع السابق، خطاب السيدة هدى، ج٢،  ٢٩–٣٤.
٢٠  المرجع السابق، ج١،  ١٣،  ٧٥،  ١٠٣–١٢٤.
٢١  المرجع السابق، ج١،  ١٤–١٥،  ٢٩–٣٠.
٢٢  المرجع السابق، ج١،  ٣٧.
٢٣  المرجع السابق، إلى الآنسة مي، ج٢،  ٧.
٢٤  المرجع السابق، المدن والقرى، ص٩٠–٩٤.
٢٥  المرجع السابق، باب التقاريظ، ص١٥٠–١٧٦. وهي من الشيخ عبد الكريم سليمان صاحب السعادة، إسماعيل صبري باشا، الشيخ عبد العزيز جاويش، أحمد بك زكي، الشيخ حسين والي، الدكتور شبلي شميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤