فقه النساء١

صورة المرأة في الفقه القديم

(١) الصورة والمادة

يعني «فقه النساء» صورة المرأة في الفقه القديم كما هي عليه دون زيادة أو نقصان، دون نقد أو دفاع. فإن كانت صورة سلبية، المرأة العضوية في العبادات والمعاملات، فإنها مسئولية الفقهاء المحدثين تغيير هذه الصورة إلى صورة أخرى مثل المرأة العالمة، والمرأة العاملة، والمرأة المواطنة، والمرأة المجاهدة، والمرأة رئيسة الدولة، وهي مسائل تعرضها جمعيات حقوق المرأة اليوم. وإذا كان بعض النساء يعترضن على صورة المرأة «البيولوجية»، المرأة الموضوع، المرأة الجنس في الفقه القديم فإن هذه الاعتراضات تؤخذ بعين الاعتبار عند الفقهاء المحدثين. وقد كان الرسول يسمع اعتراض النساء المسلمات ويستجيب الوحي لهم على مستوى اللغة فكان الخطاب ليس للذكور فقط بل للإناث أيضًا إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ….

ولا يعني «فقه النساء» دور المرأة في الفقه القديم. فالدور يقوم على صورة، والفعل أساسه الإدراك. الصورة هنا أقرب إلى الوضع والمكانة. قد يخرج دور المرأة في الفعل عن صورتها الذهنية، ومع ذلك تظل الصورة هي الأساس.

ولا يعني «فقه النساء» صورة المرأة في الكتاب والسنة. فقد حشد للموضوع عديد من الدراسات بداية بتجميع الآيات والأحاديث عن المرأة في الكتاب والسنة.٢ وقد تختلف القراءات في تفسير الآيات وتعدد المناهج وإصدار الأحكام بين الإطلاق والتقييد، بين الشريعة والفقه، بين الوحي والتاريخ. وقد يختلف البعض الآخر على درجة صحة الحديث بين الصحيح والموضوع، بين المتواتر والآحاد، القطعي والظني.

وقد ارتبط تاريخ التشريع الإسلامي بالتشريع اليهودي. وكثير من وضع المرأة في الشريعة لها ما يقابلها في الشريعة اليهودية. فالرؤية التاريخية لوحدة التشريع قد تفيد في فهم وضع المرأة وصورتها من أجل تغييرها طالما أن الزمان مستمر، والتاريخ لم ينتهِ مساره بعد.

كما ارتبط التشريع الإسلامي بباقي الشرائع المعاصرة خاصة عند اليونان والرومان غربًا وفارس والهند شرقًا. فالتشريع الإسلامي ليس خارج التاريخ، مقطوع الصلة عما قبله وعما يعاصره من الشرائع. هو جزء من التاريخ العام للشرائع الإنسانية. فإذا تغيرت الشرائع المعاصرة من الحضارات القديمة إلى الحضارات الحديثة شرقًا وغربًا فإلى أي حد يؤثر هذا التغيير في صورة المرأة الآن؟

ويعتمد وصف الصورة على «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» لابن رشد٣ وهو آخر ما وصل إليه الفقه الإسلامي من إعادة صياغة من فيلسوف مشهود له بالعقلانية والجرأة في النقد من أجل تحرير العقل من الأشعرية والواقع من الأموية. في القرن السادس قبل نهاية المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية الأولى في القرن السابع. ويحتم إعادة بنائه في بداية المرحلة الثالثة من مسار الحضارة الإسلامية لإقالة حركة الإصلاح والنهضة من عثرتها، وإعادة الحيوية لها بمزيد من الجذرية والجرأة وقبول التحدي للماضي والحاضر.

وهو كتاب محايد. لا ينتسب إلى أي مذهب فقهي مالكي وهو الأقرب بحكم البيئة والمذهب الغالب على الأندلس والمغرب العربي. يرصد الاختلافات، ويختار أقرب الحلول. ويسمح بإعادة البناء والتأويل طبقًا لظروف العصر.

ولا حياء في الدين. هكذا كانت سنة القدماء والمحدثين على حد سواء. ولا حرج في الدين. المهم عرض الصور كما هي عليه من أجل تغييرها إذا توفرت الدواعي، وتجاوزها الزمن، وتجرأ الفقهاء المحدثون، وعدم الاكتفاء بالدفاع والتجميل السطحي إلى التغيير الفعلي باسم التجديد ضد التقليد، وباسم العصر ومسار الزمان.

التراث الفقهي في النهاية من صنع الفقهاء. وهو ليس تراثًا مقدسًا في ذاته ولا الفقهاء القدماء مقدسون في ذواتهم مهما علا شأنهم، وعظم قدرهم، واكتملت مذاهبهم مثل المذاهب الأربعة الشهيرة: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية. وربما تظهر الحاجة إلى إحياء مذاهب قديمة اندثرت مثل الأوزاعي وأبي ثور. كما يجوز إبداع مذاهب جديدة تعبر عن روح العصر. كما أضاف بعض المحدثين المذهب الجعفري مذهبًا خامسًا حتى تتسع آفاق الاختيار، وتتجدد طاقات الإبداع في «فقه المجتمع».

وهذا البحث «فقه النساء» مقدمة تجريبية لمحاولة إعادة بناء الفقه القديم في إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه في «من النقل إلى العقل». لا خطأ فيها ولا صواب بل مجرد بيان حدود القديم وإمكانيات الجديد من أجل الخروج على النمطية والإيحاء بالصور البديلة.

وهناك فقه يتساوى فيه المسلون جميعًا بصرف النظر عن الرجل والمرأة مثل الزكاة، والاعتكاف، والأيمان، والنذور، والضحايا، والذبائح، والصيد، والبيع، والشركة، والرهون، والتفليس، والصلح، والكفالة، والحوالة، والوكالة، والقذف، والسرقة، والحرابة. فلا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الفقه. يختفي التمييز بين الذكورة والأنوثة فيه. فلا هو فقه ذكوري يثور عليه النساء، ولا هو فقه نسوي يغضب منه الرجال. هذا الفقه يبين وجود الفرد أو الإنسان أو المسلم أو المؤمن أولًا قبل أن تتمايز فيه الذكورة والأنوثة. فإمكانية إيجاد فقه عام يتساوى فيه الرجل والمرأة موجودة. إنما المهم توسيع مساحتها والإقلال من مساحة فقه التمايز بين الرجل والمرأة حتى يعم فقه واحد يقوم على المساواة دون تمييز بين رجل وامرأة أو بين مسلم وذمي أو حتى بين مؤمن وكافر، ومؤمن ومرتد، ما دام الجميع يعيش في وطن واحد يتساوى فيه الجمع في الحقوق والواجبات.

والتمايز في الفقه القديم في العبادات وفي المعاملات، في موضوع الطهارة وقانون الأسرة والعلاقات الاجتماعية كوضع خاص للمرأة متمايزًا عن وضع الرجل بحكم البنية العضوية للكائن الحي. وهو تصور بيئي خالص ناتج عن الثقافة القديمة التي تتركز أحيانًا حول «المرأة–البقرة» أو «المرأة–القط» التي مهمتها الإنجاب، المرأة الولود التي لا تختلف فيها المرأة عن أي كائن حي. آخر يتوالد. فإلى أي حد يمكن تغيير هذه الصورة الوظيفية للمرأة إلى صورة إنسانية أخرى تضع الأولوية فيها للمرأة–الإنسان على المرأة–الحيوان؟

وتظهر صورة المرأة في الفقه القديم في قسميه الرئيسين: العبادات والمعاملات. في العبادات صورة المرأة الطاهرة عضويًّا في علاقاتها بالله، وفي المعاملات صورة المرأة الولودة في علاقتها بالرجل. فالمرأة في علاقة مع طرفين، رأسية مع الله، وأفقية مع الرجل. ولا يوجد قسم ثالث في علاقة المرأة مع ذاتها أولًا. المرأة من حيث هي امرأة، علاقة الأنا بنفسه قبل علاقة الأنا بالآخر، قانون الهوية قبل قانون الاختلاف.٤

أولًا: العبادات

(١) الطهارة

إن أول صورة للمرأة تبرز في الفقه القديم هي الطهارة من النجاسة وكأن المرأة بمفردها دون قانون ينظم كيانها العضوي تصبح دمًا وحيضًا ونفاسًا في حاجة مستمرة إلى الغسل أو عورة في حاجة إلى الغطاء أو إثارة الرجل في حاجة إلى ستر أو قاصرة في حاجة إلى ولي. فالطهارة نمط يتكرر من التلوث العضوي إلى الوصاية الاجتماعية.

ولا فرق بين الرجل والمرأة في وجوب الوضوء والغسل. إنما الفرق في الوضوء. في الوضوء يتوضأ كل من الرجل والمرأة بماء مستقل. وفي الوضوء يتوضآن بماء مشترك. الطهارة فعل مشترك بين المرأة والرجل وليس المرأة وحدها. ويظهر ذلك في موضع أسار الطهر، أي فضول الماء من طهر المرأة أو طهر الرجل، وجواز استعماله من جديد من أي منهما. واختلف العلماء بين التحليل المطلق والتحريم المطلق. على عدة آراء: الأول الجواز، فالسؤر طاهر بإطلاق عند أبي حنيفة ومالك والشافعي، لا فرق أن يكون سؤر المرأة أو سؤر الرجل، وهو ما يتنافى مع درجة نظافة الماء الذي تم الاستنشاق والمضمضة وغسيل الأذنين ومسح اليدين إلى المرفقين وغسل الرجلين به.٥ والثاني يجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل ولا يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة. وهو تمايز واضح لأن المرأة والرجل يتساويان في المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين والرجلين ومسح الرأس دون التطرق إلى باقي الأعضاء الخارجة على الوضوء والداخلة في الغسل. فالقوامة ليست في السؤر. إنما هي التبعية، تبعية المرأة للرجل. وأولوية الرجل على المرأة في الطعام والشراب والوضوء طبقًا للعادات البدوية القديمة. والثالث الجنابة للرجل مثل الحيض للمرأة يستويان كعامل في الجواز من عدمه. وكلاهما يتعلقان بالأعضاء الخارجية التي يشملها الوضوء. والرابع جوازه من الطرفين إذا شرعا معًا في زمان واحد وليس على التوالي. وفي هذه الحالة يكون الماء قبل الوضوء والصب ماءً واحدًا، وبعد الوضوء ماءً مشتركًا. والخامس عدم جواز سؤر على التوالي أو على التزامن عند أحمد بن حنبل. وهو الرأي الأكثر واقعية والأبعد عن الافتراضات النظرية. فلا داعي لاقتراض نظري ما دام الماء متوافرًا. وطرق التحبب والقرب بين الرجل والمرأة كثيرة، والأفعال المشتركة بينهما متعددة في الرياضة والطعام والتنزه والأعمال الفنية.

وهو موضوع مرتبط بالبيئة وندرة الحياة. أما الآن فالماء متوفر ولا يحتاج الرجل أن يتوضأ بسؤر المرأة أو المرأة بسؤر الرجل. كان الماء نادرًا قديمًا، والضرورات تبيح المحظورات. فالوضوء وما يستلزم من مضمضة واستنشاق وغسيل الأذنين واليدين حتى المرافق ومسح الشعر وغسيل الرجل لا يصبح نقيًّا صافيًا إذا ما استعمل لثاني مرة. وتحبب المرأة للرجل أو الرجل للمرأة بالوضوء قد يكون عادة عند القدماء وليس عند المحدثين الذين يفضلون أنواعًا أخرى من المشاركة الجسدية كالرياضة أو العلمية والفنية والثقافية.

وإذا كان لمس النساء ينقض الوضوء فهل يجب الوضوء من لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة مثل القبلة والأحضان عند المحدثين؟ وتتفاوت الإجابات عند القدماء بين الإثبات والنفي. فمن لمس امرأة بيده دون حجاب ولا ستر فعليه الوضوء سواء التذ أم لم يلتذ (الشافعي). واعتبار لمس اليد مصدر اللذة إنما يدل على مجتمع الحرمان. وإذا كان القصد الالتذاذ فهو ليس مجرد المصافحة بل الملاعبة والعشق الرومانسي كما تدل على ذلك بعض الأغاني الشعبية.٦ ولا فرق بين لمس اليدين ونظر العينين.٧ وهنا يقع التمايز بين الرجل والمرأة. فلمَ التفرقة بين اللامس والملموس؟ ولمَ إيجاب الوضوء على الملامس دون الملموس؟ وفي الأعراف الشعبية في الزنا، تتحمل المرأة المسئولية لدرجة الموت في حين أن الرجل لا يتحمل شيئًا. والأب يقتل ابنته أو يقوم نيابة عنه الأخ أو ابن العم أو القريب ولا يُقتل الرجل. في الصغيرة مثل اللمس يكون الرجل هو المجني عليه، وفي الكبيرة مثل الزنا تكون المرأة هي المجني عليها. لذلك آثر فريق آخر من العلماء المساواة بين الرجل والمرأة، وإيجاب الوضوء على الاثنين. ورأى آخرون وجوب الوضوء من لمس المرأة إذا كانت الزوجة وعدم الوجوب إذا كانت من ذوات المحارم. ولماذا يجب الوضوء من لمس يد الزوجة وهي حلال له؟ وكيف يستثار الرجل من لمس جزء خارجي من زوجته وكلها حلال له؟ وإيثارًا للمساواة بين اللامس والملموس، فضَّل فريق ثالث المساواة أيضًا في وجوب الوضوء على الرجل والمرأة في حالة تلامس اليدين في المصافحة.
بل ويشتد فريق رابع بإيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو القصد إليها بحائل أو بغير حائل أي وضع منديل أو جزء من «الطرحة» على اليد. ما عدا القبلة فإنهم لم يشترطوا اللذة. فالتشدد في لمس اليد يقابله تساهل في لمس الشفتين (مالك). والأقرب إلى العقل هو عدم وجوب الوضوء من لمس النساء سواء صاحبها لذة أم لم يصاحبها (أبو حنيفة). وإلا ظل الرجل العامل يتوضأ طيلة النهار مع كل امرأة يصافحها أو يشعر بالذل والمهانة إن تركت المرأة يده معلقة في الهواء رافضة مصافحته. وقد يثير ستر اليد بقطعة من قماش اللذة أكثر مما يثير كشفها. كما يثير البرقع والحجاب مفاتن العينين وتخيل الأنف والشفتين وباقي قسمات الوجه أكثر مما يستران.٨ وماذا عن الرئيس وحرمه اللذين يصافحان المئات في طوابير الوداع والاستقبال، نساءً ورجالًا وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة أو العيدين؟ وقد تقع بعض المساواة لصالح المرأة على حساب الرجل في موضوعات أخرى مثل «مس الذكر» الذي يوجب الوضوء للرجل في حين أن لمس المرأة للذكر قد لا يوجب الوضوء للمرأة. وماذا إذا لمست المرأة فرجها هل يوجب ذلك الوضوء عليها؟ وماذا لو لمس الرجل فرج المرأة هل يوجب الوضوء عليه نصًّا أو قياسًا؟ إلى هذا الحد بلغت مسائل الفقه القديمة في تصور المرأة بل والرجل أيضًا كبدن تتم إثارته والتلاعب به ذاتيًّا أو مع الآخر في تصور جنسي شامل للإنسان.
وممارسة الجنس من نواقض الوضوء. وهو ليس خاصًّا بالمرأة وحدها بل هو عمل مشترك بين الرجل والمرأة.٩ ويجب الغسل من التقاء الختانين سواء حدث نزول أم لم يحدث عند مالك والشافعي وأهل الظاهر أو مع ضرورة الإنزال عند فريق من أهل الظاهر. والإنزال هو الخروج سواء بلذة أو بغير لذة عند الشافعي، وبلذة عند مالك. وهو أقرب إلى البداهة والعرف والقاعدة العامة، الغسل بعد الجماع بدافع النظافة لا فرق بين شريعة دينية وسلوك عملي طبيعي تلقائي، ولا فرق بين مسلمين وغير مسلمين، بين متدينين وغير متدينين. ولا شأن له بوضعية خاصة للمرأة وحدها أو مع الرجل. والاستحمام أفضل من الوضوء أي الغسل الشامل للبدن لما حدث فيه من تصبب للعرق بناءً على الجهد المبذول في النكاح.

(٢) الحيض

ومن موضوعات الطهارة أحكام الدماء الخارجة من الرحم١٠ وهي ثلاثة: الحيض وهو خروج الدم طبيعيًّا في حالة الصحة، والاستحاضة في حالة المرض، والنفاس مع الولادة. وهي علامات التحول من الطهر إلى الحيض أو من الحيض إلى الطهر، في البداية أو النهاية.

وتتراوح أيام الحيض بين الأكثر، خمسة عشر يومًا عند الشافعي، والأقل، ثلاثة أيام أو الوسط بينهما، عشرة أيام عند أبي حنيفة. وربما لا يتحدد الأقل بثلاثة أيام أو بيوم وليلة.

ويقال نفس الشيء في أقل الطهر بين الأكثر بسبعة عشر أو خمسة عشر يومًا أو عشرة (مالك) أو ثمانية أيام أو أكثر الطهر وهو ما لا حد له إلا التجربة والعادة. وربما لا يوجد قانون عام واحد للنساء جميعًا نظرًا لطبيعة تكوين كل امرأة على حدة، والفردية التي تتمتع بها.١١ كما أنها أمور لا يعرفها الرجال قدر معرفة النساء بها. والفقه ذكوري من وضع الفقهاء. والحائض التي تنقطع حيضتها تحيض يومًا أو يومين، وتطهر يومًا أو يومين حتى ينقطع الحيض تمامًا كلما تقدمت المرأة في السن في حوالي الخمسين.

وهل تحيض الحامل؟ عند مالك الحامل تحيض. وهو أحد أقوال الشافعي أيضًا. وعند أبي حنيفة وأحمد والثوري لا تحيض وإن كان الدم الظاهر دمًا فاسدًا. وإذا حاضت الحامل هل هو حيض أم استحاضة؟ الحيض أسود، ودم الاستحاضة أصفر. ولو تمادى دما المستحاضة كان حيضًا وهو ما تقره التجربة وليس الفقه، وتعرفه المرأة أكثر من الرجل. وعلامة الطهر القصة البيضاء أو الجفوف. وهي أمور لا تعرفها إلا النساء والأطباء. ولا يعرفها الرجال معرفة أولية.

هي موضوعات طبية خالصة يعتمد الفقه فيها على آراء الطب الحديث كما اعتمد ابن رشد على آراء بقراط وجالينوس.١٢ تخرج من موضوع الفقه القديم والحديث وتدخل في موضوع العلم الدقيق. ولا تستنبط منه صورة خاصة للمرأة سلبية أم إيجابية بل هو واقع عضوي صرف. ولا يوجد في الفقه القديم تحليل لبلوغ الرجل والمني والإنزال والانتصاب والعنن كما يتم تحليلها عند المرأة. فالرجل ليس موضوعًا للفهم بل هو الفقيه، في حين أن المرأة هي موضوع التحليل.
والحيض يمنع المرأة من الصلاة وليس عليها قضاء باستثناء بعض الخوارج الذين يوجبون القضاء. في حين أنه يمنع من الصوم والطواف والجماع في الفرج. والأهم هو وطء الحائض وما يستباح منها. فهو جائز عند أبي حنيفة ومالك والشافعي فيما فوق الإزار. وجائز في كل شيء إلا في موضع الدم عند سفيان وداود. وجائز إذا طالت الحيضة عند أحمد، ولا يجوز عند جمهور من العلماء وهو الشائع في العرف. وطء الحائض بعد الطهور وقبل الاغتسال جائز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند مالك والشافعي. ويجوز في الفرج فقط عند الأوزاعي. وهي مسألة ذوق وطهارة في النهاية والتمتع بالمرأة كصورة جمالية أكثر منها كموضوع جنسي لقضاء الوطر.١٣ ومن أتى امرأته وهي حائض يستغفر الله عند مالك والشافعي وأبي حنيفة أو يتصدق بدينار ونصف عند أحمد. وعند أهل الحديث في الدم دينار وبعد انقطاعه دينار ونصف.

إلى هذا الحد بلغ الشبق بالرجل الذي لا يستطيع انتظار انقضاء الحيض. وإلى هذا الحد تقبل المرأة هذا العذاب المزدوج، آلام الحيض وضرورة النكاح. وإلى هذا الحد بلغت أهمية النكاح حتى في الظروف غير المواتية. والعرف السائد هو امتناع الرجل والمرأة عن الجنس وقت الحيض. فهو أدعى للنظافة. وقد تعبر بعض الممارسات الحديثة للجنس عن متعة الجسد من حيث هو جسد، عن العناق واللمس، وعن الجنس بالفم وفي الدبر عن هذه المواقف الفقهية القديمة.

وبعد الحيض يأتي النفاس. أقله خمسة وعشرون يومًا عند أبي حنيفة، وعشرون عند الحسن البصري، وأحد عشر يومًا عند أبي يوسف، ولا حد له عند الشافعي. وأكثره ستون يومًا عند مالك ثم تراجع عن ذلك بعد سؤال النساء. وأربعون يومًا عند أبي حنيفة وأهل العلم. وقد تختلف ولادة الذكر عن ولادة الأنثى، فولادة الأنثى تتطلب أيامًا أكثر، أربعون يومًا للأنثى وثلاثون للذكر. والحكمة في ذلك بداية الطهر من أجل الصلاة والجماع، من أجل إرضاء الرب وإرضاء الزوج وقيام المرأة بوظائفها تجاه الآخر الرأسي والآخر الأفقي، تجاه المعاشرة بالروح والمعاشرة بالبدن.

ثم تنتقل الطهارة من موضوع الوضوء إلى موضوع الطهارة في الصلاة. فكما تؤخر صلاة المسافر والصبي والمغمى عليه كذلك تؤخر صلاة الحائض والمستحاضة.١٤ وهل الحيض مانع من أداء الواجبات بكل وسائل الحفظ الحديثة التي تمنع المرأة من أداء أي فعل بما في ذلك الرياضة والجري والسباحة؟١٥

وعلى المستحاضة طهر واحد، وجوبًا أو ندبًا عند مالك. وعند فريق ثانٍ عليها الوضوء لكل صلاة تشددًا. وعند فريق ثالث عليها الاطِّهار كل يوم وليلة. وكل هذا تقنين لحياة المرأة وسلوكها وواجباتها دون أن يسألها أحد رأيها أو يستشير إحساسها أو يقدر مشاعرها الداخلية، ما تريد وما لا تريد، ما تقدر عليه وما لا تقدر. هي موضوع للتقنين وكفى، وحياتها في أيدي الآخرين يقررون مسارها باسم القانون وتطبيق الشريعة، وما عليها إلا الطاعة. لذلك كانت المرأة المتمردة صعبة المنال، توصف بالنشاز، وتستدعى إلى بيت الطاعة. وتحتاج إلى موافقة الزوج لخروجها وسفرها.

(٣) العورة

ثم يتحول موضوع الطهارة إلى موضوع العورة، وما هو حد العورة في المرأة. ولا يُسأل نفس السؤال بالنسبة للرجل، ما هو حد العورة فيه. ولماذا يكون هناك حد للعورة في المرأة لإثارتها للرجل ولا يوجد حد للعورة في الرجل يثير المرأة؟ فالمرأة تثار بجسد الرجل كما يثار الرجل بجسد المرأة.

البدن كله عورة. لذلك لزم الدرع والخمار عند أحمد وأبي بكر عبد الرحمن. وكله عورة ما خلا الوجه والكفين عند الجمهور. وعند أبي حنيفة القدم ليست بعورة مع أكثر ما قيل في جمال قدمي النساء، نحتًا وتصويرًا وشعرًا وغناءً.

إن البدن صورة فنية، وتشكيل جمالي للنساء والرجال على حد سواء كما يظهر ذلك في فنون الرقص خاصة الباليه. وهناك مسابقات لكمال الأجسام للرجال، ولجمال الأجسام للنساء. ما يظنه القدماء على أنه عورة يظنه المحدثون جمالًا طبيعيًّا يمكن تقليده في الفن.

ولماذا يكون جزء من الجسد وحده، وغالبًا ما يتصل بالجنس، عورة يجب إخفاؤه والصوت بل والقامة بل مجرد الحضور لا يكون عورة؟ ولمَ لا تكون العورة في المرأة في العينين وفي الشفتين وفي قسمات الوجه وفي اليدين وفي القوام والمشية والتثني والجلوس إلى آخر ما هو معروف في لغة الجسد؟١٦

والجسد باعتباره عورة مرتبط بثقافة الستر والغطاء، ثقافة البدو والصحراء. مع أنه في أفريقيا تسير المرأة في الحقول والغابات والأحراش عارية من شدة الحر، ولا أحد ينظر إليها باعتبارها عورة. وحاليًّا لا ينظر الأوروبيون إلى العراة على الشواطئ باعتبارهم عورة فقد شبعوا من الجسد، ولم يعد يمثل شبقًا لديهم على عكس ثقافة الغطاء والحجاب. وكلها عادات اجتماعية طبقًا لظروف البيئة الجغرافية، حماية الرأس من حرارة الشمس، والوجه عن رمال الصحراء كما هو الحال عند الموريتانيين والصحراويين.

ولماذا يكون تمايز بين الحرة والعبدة في حد العورة وكلاهما امرأة بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي؟ وقد تكون العبدة أجمل من الحرة. وقد يعشق الحر العبدة أكثر مما يعشق الحرة، ويخلدها بشعره. ويحزن على فراقها، ويرفض بيعها حتى لو عرضت عليه أموال الدنيا ونعيم الآخرة. والبعض أباح للخادمة أن تكون مكشوفة الرأس والقدمين بينما أوجب الحسن البصري الخمار عليهما معًا، الحرة والعبدة. هذا التمايز بين الخادمة والسيد في السلوك العام يجعل الخادمة محط نظرة دونية من الناس. فعليها علامة الخادمة.١٧ والوظيفة أو المهنة أو العمل ليس سببًا للتمايز الاجتماعي.
وتنتقل العورة من الأحياء إلى الأموات في أحكام الميت وموضوع الغسل. والسبب ليس العورة والإثارة واللذة بل حرمة الأموات وهياج الذكريات وحركة الجسد واحترامه حين النظر. فالرجال يغسلون الرجال، والنساء يغسلون النساء تمايزًا بين الميدانين، عالم الرجال وعالم النساء. فإذا مات الرجل مع المرأة أو ماتت المرأة مع الرجل وليسا زوجين، وهي حالة شبه افتراضية، يغسل كل واحد صاحبه عن فوق الثوب غضًّا للنظر عند البعض. ويكفي التيمم عند أبي حنيفة والشافعي. وعند فريق ثالث يدفنان بغير غسل عند الليث بن سعد.١٨ إلى هذا الحد بلغت حساسية الجسد والتوحيد بين الإنسان وجسده. فالنوع هو الذي يحدد طريقة المعاملة بين البشر حتى ولو كانوا رفقة طريق.

أما إذا كانا زوجين، تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة. قد تكون المرأة أقوى على حزن الفراق من الرجل. وقد يكون قاسيًا على الرجل رؤية الجسد الذي تمتع به وقد أصبح هامدًا بلا حراك. وهو رأي أبي حنيفة. في حين ساوى الجمهور بين غسل المرأة لزوجها وغسل الزوج لامرأته. والمطلقة لا تغسل زوجها فلم يعد لها. وقد تتشفى فيه. في حين الراجعة تغسل زوجها بعد أن رجعت إليه وارتبطت به من جديد عند مالك. وهي كالمطلقة لا يجوز لها غسل زوجها عند أبي حنيفة والقاسم.

والآن الغسل مهنة لا يقوم بها الزوج أو الزوجة، زوجين أو مطلقين. والشائع غسل الرجل للرجل، والمرأة للمرأة بصرف النظر عن درجة القرابة ونوعها. فالعرف هو الذي يغلب على الشرع. والعادات والثقافات هي التي تتحكم في القانون. والمسلمون في اليابان يحرقون موتاهم طبقًا لعادة اليابانيين ويجمعون الرماد في آنية جميلة يضعونها في حديقة المنزل وأمامه ورد يسقى كل يوم. وربما يحييه الأهل في الصباح والمساء.

(٤) أركان الإسلام

وفي أركان الإسلام الخمس لا يوجد فرق بين المرأة والرجل في الشهادة وفي الزكاة. إنما الفرق في الصلاة والصوم والحج وفي الجهاد كركن سادس. فالشهادة إعلان وتصريح بالحرية الإنسانية ومساواة الجميع أمام مبدأ واحد، والتضامن بين البشر. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء لا فرق بين رجل وامرأة في الالتزام الاجتماعي أي في الأفعال الفردية الخاصة.

ففي الصلاة نفسها ليس على النساء أذان ولا إقامة. وحتى لا يبدو الفرق كبيرًا بين الرجل والمرأة قال مالك إن أقمن أفضل. وقال الشافعي إن أذنَّ وأقمن أفضل. في حين ساوى إسحاق بين الرجل والمرأة في الأذان والإقامة. وهو أقرب إلى الضرورة اليوم في جمع الأمة وتوحيد طاقاتها وتجنيد قواها.١٩

أما إمامة المرأة في الصلاة فلا تجوز عند جمهور العلماء ومالك. وتجوز للنساء فقط عند الشافعي. وتجوز على الإطلاق عند أبي ثور والطبري. ولم تجرِ العادة لإمامة المرأة للصلاة لأن عدد المصلين من النساء أقل من الرجال. ويصلين في آخر المسجد، وبينهم وبين المصلين الرجال حاجز. وربما يصلين في مكان مجاور أو في طابق علوي. ولا يعقل أيضًا إحضار إمام رجل لإمامة النساء أيضًا فهو أكثر إثارة له ولهن باعتباره الذكر الوحيد. ولا يعقل أن تؤم امرأة واحدة الرجال بحكم العادة والعرف. والأقرب إلى العقل جواز إمامة المرأة للنساء وحدهن في مجتمع النساء. وهي قضية عادة وعرف لم تتغير كثيرًا حتى الآن بالرغم من اختلاف الثقافات وتعدد الأجناس.

وتقطع الصلاة إذا مر أمام المصلي حمار أو امرأة أو كلب أسود طبقًا لرواية شهيرة. وهو ما يستحيل عملًا في المساجد المغلقة وفي المدن. قد يكون القصد أو جذب انتباه المصلي خارج الصلاة، بالبيئة المحلية. فإذا كانت المرأة قد تثير المصلي فلماذا يثيره الحمار والكلب؟ ولماذا الأسود دون غيره من الألوان؟ ولماذا لا تقطع صلاة المرأة إذا مر أمامها رجل أو حمار أو كلب أسود أو غير أسود؟ ألا تستثار المرأة من الرجل كما يستثار الرجل من المرأة؟ وإذا كان الحمار والكلب يشتتان الانتباه أمام المصلي فلماذا الرجل وحده دون المرأة وكلاهما مصليان؟٢٠
وكما لا تجب صلاة الجمعة على المريض كذلك لا تجب على المرأة، مساواة لها بالمريض. والخلاف أيضًا على المسافر والعبد. المسافر معذور أما العبد فهو مسلم عليه واجبات المسلمين. ولا يقلل وضعه الاجتماعي الالتزام بالأحكام الشرعية.٢١ والتخفيف عن المرأة رفقة لا عزيمة. في حين تجب صلاة العيدين. فقد أمر الرسول النساء بالخروج لصلاة العيدين.٢٢ وهذا يدل على ضرورة مشاركة المرأة في كل مظاهر النشاط الجماعي. وفي كثير من الأحيان تتقدم المرأة الرجل في النشاط الاجتماعي الحر، بل وفي التجمعات الصاخبة وفي المظاهرات الوطنية.
وفي ترتيب جنائز الرجال والنساء في الصلاة هناك نموذجان: الأول القبلة ثم النساء ثم الإمام ثم الرجال. والثاني القبلة ثم الرجال ثم الإمام ثم النساء. في النموذج الأول النساء قبل الرجال. وفي النموذج الثاني الرجال قبل النساء. والإمام وسط بينهما في كلتا الحالتين.٢٣ وفي نموذج ثالث يصلي كل فريق على حدة، الرجال بمفردهم، والنساء بمفردهن. وفي حالة الحزن العامة لا يلتفت أحد إلى أي من النسقين، ولكن جرى العرف في صلاة الجنازة وفي غيرها، الإمام ووراءه الرجال ووراءهم النساء بساتر أو بغير ساتر.
وفي ثقافات أخرى، مثل الثقافة الأفريقية لدى المسلمين في جنوب أفريقيا قد يصلي النساء بجوار الرجال دون حاجز بينهما وراء الإمام، ويجلسون معًا في دروس العصر أو العشاء، ففي الصلاة وفي العلم لا يوجد تمييز بين الرجال والنساء.٢٤
وفي الصوم هل تجوز قُبلة الصائم؟ وهو سؤال على قُبلة الرجل دون قُبلة المرأة. فالرجل هو المبادر في المجتمع الذكوري.٢٥ تجوز عند البعض لأنها من محدودة الأثر، ولا تجوز عند البعض الآخر خوفًا من النتائج المترتبة على القُبلة. وقد تجوز للشيخ لأنه بعيد عن الإثارة، ولا تجوز للشاب لأنه أقرب إليها في حين أن الشيخ قد يكون متصابيًا، والشاب قد يكون مستشيخًا. ويصعب تحديد الفارق الزمني بين الشاب والشيخ. وماذا عن الرجل بين الأربعين والخمسين، والمرأة أيضًا وهي في قمة التألق الجنسي؟٢٦

فإذا طاوعت المرأة الرجل على الجماع فعليها الكفارة عند أبي حنيفة ومالك ولا كفارة عليها عند الشافعي وداود مع أن المسئولية على الرجل قدر المرأة في الجماع.

والمفطرون في الشرع الحامل والمرضع لحاجة كليهما للغذاء للجنين قبل الولادة وللطفل بعدها. وهو ما يقرره الطب الحديث أيضًا.

وفي الحج تحج المرأة مع محرم أو زوج أو رفقة مأمونة عملًا بقول الرسول «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم». جعله بعض الفقهاء على الوجوب، والبعض الآخر على الندب، وهو ينطبق على أداء الحج في غياب وسائل الراحة قديمًا. أما الآن فقد يتساءل أحد الفقهاء المحدثين ولماذا لا تحج المرأة بمفردها؟ وهل تفكر في الجنس وهي بين يدي الله في مكة والمدينة؟ فالعلة غير متوافرة في الحج الميسور الآن، وفي استقلال شخصية المرأة وتمردها على أن تكون موضوعًا جنسيًّا حتى في أشد لحظات الإيمان والصفاء والابتهال. والرجل في الإحرام يعري كتفه والمرأة تغطى رأسها دون أن يحدث إغراء المرأة بالجزء العاري من الرجل.٢٧
فإذا ما ولدت في الحج فعليها الاغتسال وإكمال الحج. وهي حالة نادرة الوقوع لأن المرأة الحامل خاصة في الشهر الأخير من الحمل لا تقوى على الذهاب إلى الحج وتخشى على الجنين من فرط الزحام وعظم المشقة.٢٨ الفقه القديم ينظر لحالات بصرف النظر عن مدى وقوعها لأنه يعرض على النص أكثر مما يعرض على الواقع على عكس المغرب العربي في «فقه النوازل».
وفي الجهاد لا يجوز قتل المرأة في الحرب، ولا قتل نساء الأسرى، ولا استعباد أهل الكتاب. إنما يكفي السبي من الغنائم. فالمرأة أضعف من الرجل في القتال، ومِن ثَم لا يجوز قتلها. ونساء الأسرى لا يؤخذن بجريرة المحاربين. وأهل الكتاب مؤمنون بالله، ولا يجوز استرقاق المؤمن. بل إن السبي انقضى عهده. فقد كان عادة متبعة عند القدماء، عند الروم والفرس والعرب في الجاهلية. وقد انقضى العهد الآن إلا ما يفعله الجنود المحاربون من جرائم الاغتصاب في البلاد المحتلة.٢٩ والمرأة والطفل والشيخ هم أضعف الناس في الحروب الحديثة التي لا تفرق أسلحتها في الدمار الشامل بين رجل وامرأة أو شاب وكهل أو بالغ وطفل.

ثانيًا: المعاملات

(١) النكاح

ويعني الزواج أو الارتباط ولكن الفقه القديم صريح. الزواج نكاح، وارتباط جنسي دون باقي أبعاد الارتباط والحياة الزوجية من المودة والرحمة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.

وهو علاقة بين طرفين وليس علاقة المرأة بنفسها. تبدأ بالخطبة، ما يجوز فيها وما لا يجوز.٣٠ فلا يجوز الخطبة على الخطبة، مثل خطبة الأخ على أخيه حفاظًا على روح الأخوة. وقد أجاز البعض النظر إليها، كلها عدا السوأتين. ومنع البعض ذلك مطلقًا طبقًا للأصل وهو تحريم النظر إلى النساء. وأخذ البعض حلًّا وسطًا جواز النظر إلى الوجه والكفين. وهنا تبدو المرأة موضوعًا للبيع والشراء وموضوعًا للنظر، دون أن يكون لها حق مماثل في رؤية الخطيب. وهل تكفي الرؤية دون المحادثة والمشافهة وربما المشاركة في أعمال حتى يمكن تعرف كل منهما على الآخر في مواقف عملية تكشف عن شخصيته.

والآن وطبقًا للعرف يتعرف الخطيبان بعضهما على البعض في الجامعات وأماكن العمل وفي النوادي والتجمعات العامة. يتزاوران ويتنزهان ويتعرفان بعضهما على البعض في الحياة العامة والسلوك اليومي. وكلما طالت الفترة زاد التعارف. ويكون الارتباط النهائي بناءً على تجربة ومعرفة ومشاركة وذكريات. وقد تظل فترة الخطوبة عند الزوجين من أمتع فترات حياتهما المشتركة قبل أن تغمرهما الأولاد ومشاكل التنشئة الاجتماعية.

ويكون الإذن في النكاح بالألفاظ للثيب وعند الشافعي أيضًا باللفظ للبكر، وعند الآخرين بالسكوت للبكر وبالرفض باللفظ. فالبكر يكفيها السكوت حياءً. أما في حالة الرفض فالإعلان بالتصريح والقول. أما الثيب التي عرفت الرجال من قبل فباللفظ لما تتمتع به من جرأة وصراحة فيمن تقبل ومن لا تقبل وبما لديها من خبرة أو خبرات سابقة. والعانس مخيرة بين الاثنين لأنها بين البكر والثيب.

واشترط مالك الولاية أي الوسيط الذي يعلن عن رأي البكر وكأنها لا تستطيع أن تعبر عن نفسها إلا من خلال الولي. وهنا الحياء يعارض حقًّا من حقوق المرأة وهو الفردية، وتمثيل نفسها بنفسها.٣١ أما الثيب فلا ولي لها لما تمتع به من شخصية مستقلة وحياة مجربة. وعند أبي حنيفة إن كان كفؤًا لا تشترط الولاية. وهو مشروط بمعنى الكفؤ والمواصفات الموضوعية له. من يكون كفؤًا عند البعض قد لا يكون كفؤًا عند البعض الآخر. وهل الكفاءة في العلم أو المال أو الحسب أو النسب أو السن؟ ويرى فريق أن الولاية سنة لا فرض، وهو الأقرب إلى الواقع وما وصلت إليه المرأة حاليًّا من تعليم واستقلال في الشخصية. فالرشد يكفي، أي العقل والرشاد في النكاح والمال.
والحديث عن طبع المرأة مخاطرة كبيرة. وأحكامه عامة لا تقوم على أساس علمي إحصائي تجريبي. يغفل فردية المرأة وتنوعها طبقًا للبيئات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المختلفة. ومثل هذه الأحكام أن المرأة ميالة بطبعها إلى الرجال أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال. ومن ثم لزم الولي لها لترشيدها، وكأنها كالثور الهائج يحتاج إلى من يضبطه.٣٢ وشرط الولاية الذكورة، فلا تنفع ولاية النساء على النساء. وهو أيضًا تصور ذكوري للولاية.

ولا يجوز للولي الإنكاح لنفسه نظرًا للمصلحة الخاصة في الولاية، وسيطرته على المرأة وطمعه فيها. فالولي بمثابة الأب، يمثل مصالح البنت. وفي حالة تضارب المصالح فقد يغلب الولي مصالحه على مصلحة وليه. وهذا أحد أسباب السماح بتعدد الزوجات حتى لا يطمع الولي فيمن هو تحت ولايته مالًا أو جنسًا، وله حق الولاية أي الأمر والسيطرة. فمن الأفضل للولية أن تكون زوجة شرعية حفاظًا على حقوقها.

وتتحدد الولاية بدرجة القرابة من المرأة. والأقرب أولى من الأبعد. وعند البعض الآخر القرابة ليست شرطًا. فإذا غلب الأبعد كان السلطان هو الولي. ويعني السلطان من يمثله من أولي الأمر ممثل الدولة مثل المأذون وربما الشرطي!٣٣

ولا يجوز عضل الأولياء أي إرهاقهم بالشروط والمطالب. فقد تعترض المرأة لغياب الكفاءة أو الدين أو الرزق من المال الحرام أو كثرة الحلف بالطلاق. وقد تحتج المرأة باختلاف النسب أو بالحرية، أي أن يكون المتقدم عبدًا، أو باليسار أي أن يكون فقيرًا، أو بالصحة أي أن يكون عليلًا، أو بالعيوب أي أن تكون في خلقه عيوب. وهذا يدل على أن الولاية ليست أمرًا مطلقًا، بل هي محددة بآراء الولية.

ويجوِّز مالك نكاح الموالي من العرب ولا يجوِّزه أحمد وسفيان. ويوجب أبو حنيفة جواز القرشي من القرشية. وهو ما يتعارض مع «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح».

والفقر يوجب فسخ النكاح. وهي نظرية طبقية. وكثيرًا ما أحب الملوك عامة الشعب، والأغنياء الفقراء كما تروى بذلك القصص والآداب، وهي سمة من سمات المجتمع التجاري الذي تتحدد قيمه بالفقر والغنى. والآن ينشأ كلاهما فقيرين ويعملان سويًّا حتى يصلا إلى حد الكفاية وإشباع الحاجات الأساسية.

والشهادة شرط للنكاح أي الإعلان. فلا يجوز النكاح السري؛ إذ يترتب على النكاح حقوق وواجبات للزوجين وللأولاد. ولا يصح التحايل بأشكال النكاح الحالية، المسيار أو العرفي، لندرة توافر الشهود وربما الإعلان النسبي، وليس تبريرًا لأوضاع أغنياء الخليج.

والصداق شرط للنكاح. ما يدفعه الرجل للمرأة صداقًا لها. كانت العادة أن يأخذ الأب مهرًا لابنته لفك ضيقة أو لاستثمار ماله ثم أصبح مساعدة للمرأة في تأسيس بيتها. وتختلف العادات فيه. ففي بعض البلاد الأوروبية تدفع المرأة للرجل الصداق تحبيبًا له في الزواج وتشجيعًا عليه لعزوف الرجال عن النساء واستبدال الصداقة الحرة بالزواج لما في الزواج من ارتباط أدبي والتزام وواجبات. ومن حقوق الزوجية النفقة والكسوة.

وهنا تتحول العلاقات الوجدانية إلى مسائل تجارية، مكسب وخسارة، أو اجتماعية، إعلان وإشهار، حتى يضيع الأصل لحساب الفرع، وتنتهي التجربة لصالح القانون. لذلك انتشرت قضايا الأحوال الشخصية في المحاكم وتفككت الأسر لضياع الأصل فيها، وهو المحبة والتراحم والتكافل والتضامن والعيش المشترك.

وقد توجد موانع للزواج مثل: مانع النسب أي تحريم الزواج من الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت، والمحرمات بالمصاهرة، وزوجات الأب، وزوجات الأبناء، وأمهات النساء، وبنات الزوجات. وكل مجتمع له نظام قرابة. وتتغير نظم القرابة بتغير مراحل التاريخ، مثل زواج الأخوات عند قدماء المصريين. وبعض زواج الأقارب مكروه طبيًّا لما قد يسببه من تشوه في النسل. وليس الزنا محرمًا للنكاح إن تابت الزانية وصلح حالها. وعند البعض الآخر قد يكون مانعًا، وهو حكم قاسٍ على المرأة يرد حياتها كلها إلى أحد أفعالها والحكم عليها إما بالعودة إلى الزنا أو بالرهبنة. وهناك مانع الرضاع. فالرضاع بمثابة الأخوة. كما لا يجوز الجمع بين الأختين. وهناك مانع العدد إذا ما زاد على أربع من الحرائر. أما الإماء فلا حد عدديًّا لهن. وهناك مانع الرق. فالعبد يتزوج أمة، والحرة للعبد بشرط موافقة وليها مما يقلل الفوارق بين الطبقات، والحر من أمة على الإطلاق أو يشترط عدم الطَّول والخوف من العنت عند أبي حنيفة ومالك والشافعي. وهناك مانع الكفر، وهو ما يتطلب تحديد معنى الكفر، وهل يوجد اليوم كافر لا يؤمن بأي إله؟ وهناك مانع الدين مثل الذمي. وإذا تزوج الذمي مسلمة فعليه التحول إلى الإسلام، وهو ما قد يتعارض مع حرية العبادة عند بعض المحدثين، في حين إذا تزوج المسلم ذمية تبقى على دينها ويأخذ الأولاد دين الأب مع أن الأم هي المربية وكما حدث لأوغسطين عندما ربته أمه المسيحية وأبوه وثني. ومانع الإحرام مانع وقتي، ساعة الإحرام. ومانع المرض أيضًا مانع وقتي يجوز عند البعض ولا يجوز عند البعض الآخر، فالمريض ليس مسئولًا عن مرضه. ومانع العدة محدود بوقت العدة والذي ينتهي بالحيض أو بنهاية الحمل أو بعدة أشهر، ثلاثة قروء.٣٤

وهذه الموانع كلها من جهة المرأة كي ترفض. ولا توجد موانع تذكر من جهة الرجل لأنه هو الذي يطلب. وكثيرًا ما تم تجاوز هذه الموانع إذا حضر الأصل، أي الارتباط الوجداني بين الطرفين.

وهناك موجبات الخيار للمرأة لتقبل أو لترفض مثل العيوب، عيوب الرجل الجسدية والنفسية، والإعسار بالصداق أو النفقة والكسوة أو العنِّين أو الفقد والهجرة والاختفاء أو العتق للأمة المزوجة فتحصل على حقوق المرأة الحرة. وهذا يدل على استقلال المرأة في حياتها الخاصة وأنه لا سيطرة لأحد على مستقبلها تحت أي ذريعة حتى ولو كان العرف الاجتماعي.

وهناك أنكحة محرمة مثل نكاح الشغار، التبادل دون صداق، ونكاح المتعة المؤقت، ونكاح المحلل. ففي الشغار تصبح المرأة مجرد موضوع للجنس، وليست علاقة خاصة بين رجل وامرأة. وكذلك الأمر في نكاح المتعة حتى لو حتمته الظروف. أما نكاح المحلل فهو نكاح صوري لم يؤدِّ وظيفته في تعرف امرأة على رجل آخر حتى تكتشف عالمًا جديدًا. وربما يعيد الرجل اكتشافها بغيرته عليها. وهي أشكال نادرة الوقوع. فقد ازدادت الثقافة، وكثر المتعلمون. البعض منها انقضى مثل الشغار وإن كان حاضرًا في الثقافات الغربية المعاصرة في جماعات الجنس الجماعي.

(٢) الطلاق والإحداد والحجر

والطلاق على أنواع منها البائن وفي مقابله الرجعي، والسني وفي مقابله البدعي، وقت الحيض أو إجبارًا. والخلع فديةً أو صلحًا أو مبارأة كتعويض عن الطلاق. ويمكن فسخ الطلاق بالردة أو المحرم. ويمكن للمرأة أن تخير بين التمييز والتمليك وهو أمر العصمة. علاقة الرجل بالمرأة كعلاقة الثابت بالمتحول باستثناء الخلع والعصمة التي تسترد فيها المرأة زمام المبادرة. وهو أبغض الحلال لأنه يضحي بالأسرة وبالتنشئة الطبيعية للذرية لصالح فراق الزوجين.

ولا يتم الطلاق إلا لفظًّا وليس نية أو بألفاظ تشبيهية مثل «ابعدي»، «فارقي»، «انطلقي»، «عودي». فالطلاق أمر جاد لا يتم في لحظات الغضب وبعبارات التشبيه التي تعبر عن مواقف لحظية وليس عن حكم ثابت.٣٥
والحكمة من الرجعة، الندم، والمراجعة، وأن الواقع أفضل من الممكن.٣٦ والذكريات المشتركة لها دورها في عودة العلاقة بين الزوجين والفراق المؤقت وآلامه قد يكون دافعًا على العودة إلى الحياة المشتركة وإحياء العواطف من جديد.

ولا تتزوج المطلقة قبل انقضاء العدة. وهو أيضًا أمر بيولوجي صرف يمكن أن يحول إلى الإعداد النفسي الجديد والتأهيل للحياة الجديدة. فليس الرجال على التبادل. ويكون لها نفقة المتعة. وهو لفظ كريه، وكأن علاقة الرجل بالمرأة هي مجرد علاقة جنسية مدفوعة الثمن وبأجر، وأن المرأة تبيع الرجل المتعة وتريد مقابلًا لذلك حين الطلاق.

وقبل الطلاق يبدأ الحكَمان من الأهلين للتوفيق والإصلاح قدر الاستطاعة. فوجود طرف ثالث للوساطة أهدأ للنفس وأقرب إلى العقل، وأكثر قدرة على رؤية مصالح الطرفين والتوفيق بينهما.

وأحيانًا تتحدد العلاقة بين الرجل والمرأة وكأنهما عدوان في الإيلاء (أربعة أشهر) أو الظِّهار والكفارة أو اللعان والعنف. فالحياة بين الرجل والمرأة لا تقوم على العقاب والعناد وكأنهما خصيمان.

ويعني الإحداد مظاهر الحزن المتبادل بين الرجل وزوجه في حالة الوفاة. الشائع «الحداد».٣٧ ويجوز الإحداد على الحرائر، المسلمة والكتابية، الكبيرة والصغيرة. وعند البعض الآخر لا إحداد على الكتابية ولا على الصغيرة. أما الأمة فلا حداد عليها إن مات سيدها، سواء كان له ولد منها أو لم يكن له ولد. فهل يمكن تقنين الحزن على الموتى بقانون القرابة أو الرق؟ إن العشرة بين الناس لتؤدي في حالة الفراق إلى الحزن. بل إن العشرة بين الإنسان والحيوان أو بين الإنسان والشيء الضائع لتبعث أيضًا على الحزن. ففي العشرة الطيبة بين الرجل والمرأة والمحبة المتبادلة بينهما لا يفرق الموت في الحزن على المسلمة أو الكتابية، على الكبيرة أو الصغيرة، على الحر أو العبد. وكثير من عادات الأفراح والأحزان إنما ترجع إلى عهود سحيقة من الزمن في المنطقة العربية الإسلامية مثل حضارات مصر القديمة وما بين النهرين.

أما الحجر فقد تدخل الزوجة مع الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد والسفيه والعبد والمفلس والمريض. ومن الصغار ذكور وإناث. وسن الحجر على النساء والرجال واحد. وسن الرشد واحد عندهما معًا عند الجمهور وعند مالك حتى سن الزواج أو بعد ذلك بعام أو عامين من نظر البكورة سن الزواج كعادة العرب. وهو تصور قهري يقع على المرأة دون الرجل. ومن يحجر على الرجل إذا كان في نفس الموقف الذي استدعى الحجر على المرأة؟

(٣) الميراث والرق والقصاص والشهادة والقضاء

والميراث من الفرائض، يخضع لقانون تفصيلي صارم تكون فيه المرأة كزوجة وابنة وأخت وجدة أحد مكوناته. فالميراث من الصلب، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وهو ما يراه الفقهاء قدماء ومحدثين غير مناقض لمبدأ المساواة؛ لأن وحدة التحليل هي الأسرة وليس الفرد. كما أن الرجل مكلف بالإنفاق عليها وعلى الأولاد، وهي ليست مكلفة بشيء. والجدل ما زال قائمًا. فإذا انفرد الابن فله كل الميراث. وللبنت الواحدة النصف. وللبنات الثلاث الثلثان. وليس لبنات الابن ميراث من الصلب. وفي ميراث الأزواج ميراث الرجل من المرأة النصف دون ولد، والربع بولد. وميراث المرأة من الرجل الربع دون ولد والثمن بولد. وفي ميراث الأب والابن، الأب بمفردها له جميع المال ومع الأم يكون لها الثلث. وفي ميراث الإخوة للأم إذا انفرد له السدس، وأكثر من واحد لهم الثلث بصرف النظر عن الذكر والأنثى. ولا يرثون مع أربعة: الأب، والجد، والابن، وابن الابن. وفي ميراث الإخوة للأب والأم أو للأب، للأخت بمفردها النصف، وللاثنتين الثلثان، ذكورًا أو إناثًا. وللجد ميراثه. وللجدات أيضًا السدس في عدم وجود الأم. فإن اجتمعن فالسدس أيضًا. والأخ الشقيق يحجب الأخ للأب. وفي حالات أخرى قد يحجب الأخ للأب الأخ الشقيق. وابن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب. وبنو الأخ للأب أولى من بني الأخ للأب والأم. هنا تدخل الأم كعامل مرجع في الميراث في حالة الذرية وعدم الزواج عليها بأخرى.٣٨

وهنا تظهر صورة المرأة ليس بعلاقاتها العائلية، بل أيضًا في علاقاتها بالأشياء، بالمكسب والخسارة، وتنسى الأحزان على الفقيد لصالح المال والعقار المكتسب. لذلك اجتهد بعض المعاصرين في قانون الميراث وتحويله من كم إلى كيف، ومن توزيع لرأسمال وتفتيت له إلى استثمار وتجميع له.

وبالرغم من أن الرق قد انقضى عهده بعد إلغائه منذ أكثر من قرن إلا أن الموضوع ما زال مطروقًا في الفقه القديم ويتناوله المحدثون وكأنه ما زال قائمًا. فليس للنساء مدخل في وراثة الولاء إلا من باشرن عتق أنفسهن أو ما جر إليهن من باشرن عتقه إما بولاء أو بنسب.٣٩ فولاء المرأة لسيدها القديم أو الجديد بعد بيعها. وولاؤها لنفسها إذا ما عتقت نفسها بنفسها عن طريق تعلم القراءة والكتابة أو الأمومة أو النسب أو إطلاق السراح.
ولا تباع أمهات الأولاد. فالقطط تبحث عن أولادها. ويصبحن حرائر إذا مات سيدهن. وتبدأ الأمومة بالحمل وليس فقط بعد الولادة وأثناء الرضاعة. ويرى آخرون ملكها قبل الحمل وليس بعده كالأمَة. ولا يبقى لسيدها فيها شيء بعد إعتاقها.٤٠
وفي القصاص، الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى، والذكر بالأنثى بإجماع الأئمة باستثناء الحسن البصري.٤١ وهو يخضع الآن للقانون المدني الذي يتساوى أمامه الجميع.
والدية في النفوس تتحدد بالذكورة والأنوثة، والإيمان والكفر، والحرية والعبودية. دية المرأة نصف دية الرجل. وهو إهانة للنفس البشرية. بل إن دية الجنين تحدد إذا كان ذكرًا أو أنثى، حيًّا أو ميتًا. ودية الكافر النصف أو الثلث أو النفس بالنفس كما هو الحال عند أبي حنيفة والثوري. والأولى المساواة في الدية المرأة والرجل بصرف النظر عن الإيمان والكفر، والحرية والعبودية مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.٤٢
ويدخل عامل الذكورة والأنوثة في أحكام الزنا. فللأمة المحصنة خمسون جلدة، ولغير المحصنة خمسون أيضًا أو تترك بلا حد ويترك الأمر تعزيرًا طبقًا لتقدير السلطان. في حين أن الحرة البكر لها مائة جلدة وتغريب عام. والحرة الثيب لها جلد مائة والرجم بالحجارة. فالعقاب على الحر أقصى من العقاب على العبد. وهي واقعية تستنكفها المثالية. وتتفاوت العقوبة بين الجلد والتغريب والرجم، هذا بالإضافة إلى صحة النكاح وعدم صحته أو نكاح اليمين. وهي حالات افتراضية خالصة؛ إذ يصعب تحقيق شروط إثبات الزنا، أربعة شهود يرون بالعين دخول المورد في المكحلة أي الفعل الفاضح في الطريق العام. وهو ما تقره أيضًا القوانين المدنية.٤٣
وفي الشهادة، شاهد ثانٍ من النساء مقابل شهادة رجل٤٤ ويؤخذ ذلك من منظور التطور الاجتماعي للمرأة التي لم يكن لها حق الشهادة على الإطلاق إلى أن تؤخذ بشهادة تقويها شهادة امرأة أخرى. وقد بلغت المرأة الآن شأنًا من التعليم يجعلها شاهدة. فالمرأة العالمة أقدر على الشهادة من الرجل الجاهل.
وفي القضاء لا تكون قاضية. وإن لم تكن شاهدة كاملة فإن القضاء أولى من الشهادة.٤٥ وقد جرى العرف حتى الآن على أن القضاة من الرجال. وانكسر العرف أخيرًا بتنصيب امرأة قاضية. وكذلك الإمامة؛ إذ لا تجوز إمامة المرأة وهو ما لم يتعرض له ابن رشد. وتجوز عند بعض المجتهدين المحدثين. فالإمام الآن لا يقود الجيوش بل ينوب عنه قواد الجيش. وقد تغيرت كل المحددات القديمة التي كانت تمنع المرأة من تولي منصب الرئاسة.

والخلاصة أن المرأة في العبادات أقرب إلى الكائن العضوي الذي يوجب الطهارة. وفي المعاملات أقرب إلى الشريك الجنسي للرجل من نكاح وطلاق أو شريك مالي في الميراث. الطهارة في علاقة المرأة بالله، والقوامة فيما يتعلق بعلاقة المرأة بالرجل. وفي كلتا الحالتين ليس للمرأة وجود مستقل، في علاقة مع نفسها أولًا قبل أن تكون في علاقة مع غيرها. فهي في علاقة مع الله والزوج والأولاد. هي المؤمنة والزوج والأم، والمحجور عليها ومن يقع عليها القصاص. وكثير من عناصر هذه الصورة عادات وأعراف مرتبطة بالحياة القبلية في شبه الجزيرة العربية التي ظهر فيها الإسلام أول مرة.

فلما تحول البعض منها إلى فقه تعددت الآراء بين التشدد واللين، بين المحافظة والتحرر، بين التقليد والتجديد، بين الحرف والروح. ويمكن تحريك صورة المرأة من الجانب المحافظ التقليدي الحرفي إلى صورة أقرب إلى التحرر والتجديد وروح الشريعة. كما أن الطابع التدريجي للشريعة كما وضح في الناسخ والمنسوخ يجعل من الممكن أخذ روح الشريعة دون حرفها. وإذا كانت الشريعة قد غيرت وضع المرأة من اللاشيء إلى المنتصف في حق الحياة والميراث وضمانات الزواج والطلاق والشهادة وإمامة الصلاة فإن روح الشريعة بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا تتطلب تطويرها من المنتصف إلى المساواة الكاملة.

وهناك اعتراضات داخلية وخارجية الآن على وضع المرأة وصورتها. فهل يمكن للفقيه الجديد أن يأخذ هذه الاعتراضات بعين الاعتبار كما أخذها الرسول عندما احتجت امرأة عليه بأن القرآن يذكر الرجال دون النساء ولبى اعتراضها، وكما قبل عمر اعتراض المرأة عليه وهي تدافع عن حقوقها وقوله «أصابت امرأة وأخطأ عمر».

إن صورة المرأة في فقه النساء لم تعد في معظمها تلبي حاجات العصر. فالطهارة موضوع للطب. والمعاملات يقننها القانون المدني. إنما المطلوب هو وضع المرأة العالمة، والمرأة العاملة في الريف والمصنع والإدارة والخدمات والوظائف العامة، والمرأة السياسية، المواطنة، والدبلوماسية كسفير وربما كرئيس دولة مثل بنازير بوتو.

وهناك أيضًا المرأة في ذاتها كقيمة مستقلة وليست في علاقتها بالله والزوج أو بالدولة، المرأة الإنسان التي تتمتع بما تنادي به المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، المرأة الأنا قبل أن تغترب في الآخر. وهي في هذه الحالة لا تختلف عن الرجل. فكلاهما مواطن. ومِن ثَم قد يكون أحد وسائل تغيير صورة المرأة هو إعادتها إلى أصلها الأول الذي تشارك فيه الرجل وهو المواطن والإنسان. ومِن ثَم يكون الدفاع عن حقوق المرأة ليس عن طريق عداوتها للرجل بل لنضالهما سويًّا من أجل حقوق المواطن وحقوق الإنسان. وليس عن طريق تقليد الغرب في الحركة النسوية وبرامجها المحلية مثل الإجهاض والشذوذ الجنسي والعري، بل في تغيير وضع المرأة وصورتها في الفقه القديم.

١  «النساء في الخطاب العربي المعاصر»، تجمع الباحثات اللبنانيات، الكتاب التاسع، ٢٠٠٣–٢٠٠٤م، بيروت، ص١١٦–١٣٦، وكان قد أُلقي هذا البحث في ندوة المرأة العربية والإبداع، بيروت، ٢٠٠٢م.
٢  عبد الحليم أبو شقة: تحرير المرأة في عصر الرسالة (٥ أجزاء)، دار القلم، الكويت، ١٩٩٣م.
٣  ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (جزءان)، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ١٩٦٩م. انظر أيضًا: ابن رشد فقيهًا، البلاغة المقارنة، مجلة ألف: العدد ١٦، ١٩٩٦م. ابن رشد والتراث العقلاني في الشرق والغرب، قسم الأدب الإنجليزي، الجامعة الأمريكية، القاهرة، ١٩٩٦م.
٤  انظر كتابنا: فشته فيلسوف المقاومة، الجمعية الفلسفية المصرية، القاهرة، ٢٠٠٣م، ص٢٦٦–٢٧٧.
٥  والأدلة أربعة: هي اغتسال النبي من الجنابة هو وأزواجه من إناء واحد، حديث ميمونة عن اغتساله من فضلها، حديث الحكم الغفاري في الترمذي عن نهى الرسول الوضوء بفضل المرأة، حديث عبد الله بن سرجس عن نهي الرسول عن الاغتسال بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل إلا أن يشرعا معًا. بداية المجتهد، ج١،  ٣٢–٣٣.
٦  مثل أغنية «إنت عمري» لأم كلثوم حين تقول «هات إيديك ترتاح بلمستهم إيديا».
٧  وذلك مثل النظر «هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيا.
٨  كان الرسول يلمس عائشة بيده عند السجود. وقبَّل بعض نسائه وخرج إلى الصلاة، بداية المجتهد، ج١،  ٣٨–٤٠.
٩  أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، نهاية المجتهد، ج١،  ٣٤.
١٠  بداية المجتهد، ج١،  ٥٠–٦٤.
١١  «عسر الوقوف على ذلك بالتجربة لاختلاف أحوال النساء في ذلك، ولأنه ليس هناك سنة يعمل عليها كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر.» السابق، ص٥٤.
١٢  السابق، ص٥٤.
١٣  يروى أن الرسول كان يباشر الحائض بعد شد الإزار عليها وقوله «اصنعوا كل شيء بالحائض إلا النكاح». وقوله لعائشة «اكشفي عن فخذك» للنوم عليها وهي حائض، وقوله أيضًا «إن حيضتك ليست في يدك»، وأيضًا «إن المؤمن لا ينجس».
١٤  بداية المجتهد، ج١،  ١٠٢.
١٥  وذلك مثل التامبون Tampon.
١٦  وذلك مثل الأغنية التركية الشهيرة «لما بدا يتثنى».
١٧  بداية المجتهد، ج١،  ١١٨–١١٩.
١٨  السابق، ص٢٣٣–٢٣٥.
١٩  السابق، ج١،  ١١٣.
٢٠  السابق، ج١،  ١٨٣–١٨٤. ويروى أن عائشة كانت تعترض الرسول وهو يصلي.
٢١  السابق، ج١،  ١٦٠.
٢٢  السابق، ج١،  ٣٢٣.
٢٣  السابق، ج١،  ٢٤٣–٢٤٤.
٢٤  وذلك في مسجد كليرمونت في كيب تاون بإشراف الإمام الشاب المجتهد رشيد عمر.
٢٥  بداية المجتهد، ج١،  ٣٠٠–٣١٥.
٢٦  يروى أن النبي كان يقبل وهو صائم. وفي رواية أخرى «أفطروا جميعًا».
٢٧  بداية المجتهد، ج١،  ٣٣٤–٣٣٥.
٢٨  السابق، ص٣٥٠، وذلك طبقًا لرواية «مرها فلتغتسل ثم لتنهل».
٢٩  السابق، ص٣٩٨،  ٤٠١،  ٤٠٧–١٠٨. ويروى عن الرسول قوله «فلا يقتلن ذرية ولا عسيفًا ولا امرأة.»
٣٠  السابق، ج٢،  ٤.
٣١  السابق، ج٢،  ١٥، ويروى حديث «المرأة أحق بنفسها من وليها»، وأيضًا «لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان»، السابق، ص١٥.
٣٢  «المرأة مائلة بالطبع إلى الرجال أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال، فاحتاط الشرع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد، مع أن ما يلحقها في العار في إلقاء نفسها في غير موضع كفاءة يتطرق إلى أوليائها، لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ أو الحسبة.» السابق، ج٢،  ١٣.
٣٣  السابق، ص١٧–١٨.
٣٤  السابق، ص٣٨–٤٤.
٣٥  السابق، ج٢،  ٩٦.
٣٦  وذلك طبقًا للمثل العامي «الشيطان اللي تعرفه أحسن من الشيطان اللي ما تعرفوش».
٣٧  بداية المجتهد، ج٢،  ١٣٢–١٣٤.
٣٨  السابق، ص٣٦٦–٣٩٠.
٣٩  السابق، ج٢،  ٣٩٣.
٤٠  السابق، ج٢،  ٤٢٤–٤٢٧.
٤١  السابق، ج٢،  ٤٣٣.
٤٢  السابق، ج٢،  ٤٤٧.
٤٣  السابق، ج٢،  ٤٧٠. وفي الحديث «البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام».
٤٤  السابق، ج٢،  ٥٠١.
٤٥  السابق، ج٢،  ٤٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤