صفاته

المشهور عن علي — كرم الله وجهه — أنه كان أول هاشمي من أبوين هاشميين … فاجتمعت له خلاصة الصفات التي اشتهرت بها هذه الأسرة الكريمة، وتقاربت سماتها وملامحها في كثير من أعلامها المقدمين، وهي في جملتها: النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، عدا المأثور في سماتها الجسدية التي تلاقت أو تقاربت في عدة من أولئك الأعلام.

فهو ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.

وقيل: إن اسمه الذي اختارته له أمه: حيدرة باسم أبيها أسد، والحيدرة هو الأسد … ثم غيَّره أبوه فسمَّاه عليًّا وبه عرف واشتهر بعد ذلك …

وكان علي أصغر أبناء أبويه، وأكبر منه جعفر وعقيل وطالب، وبين كل منهم وأخيه عشر سنين.

قيل: إن عقيلًا كان أحب هؤلاء الإخوة إلى أبيه، فلما أصاب القحط قريشًا وأهاب رسول الله — عليه السلام — بعميه حمزة والعباس أن يحملوا ثقل أبي طالب في تلك الأزمة جاءوه، وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلًا وخذوا من شئتم، فأخذ العباس طالبًا، وأخذ حمزة جعفر، وأخذ النبي — عليه السلام — عليًّا كما هو مشهور، فعوضه إيثار النبي بالحب عن إيثار أبيه، ولكنه عرف هذا الإيثار في طفولته الأولى، فكان سابقة باقية الأثر في نفسه على ما يبدو من أطوار حياته التالية، وجاءت لهذه السابقة لواحقها الكثيرة على توقع واستعداد، فتعود أن يفوته الحق والتفضيل وهو يدرج في صباه.

وربما صح من أوصاف عليٍّ في طفولته أنه كان طفلًا مبكر النماء سابقًا لأنداده في الفهم والقدرة؛ لأنه أدرك في السادسة أو السابعة من عمره شيئًا من الدعوة النبوية التي يَدِقُّ فهمها، والتنبه لها على من كان في مثل هذه السن المبكرة، فكانت له مزايا التبكير في النماء كما كانت له أعباؤه ومتاعبه التي تلازم أكثر المبكرين، ولا سيما المولودين منهم في شيخوخة الآباء …

ونشأ — رضي الله عنه — رجلًا مكين البنيان في الشباب والكهولة، حافظًا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين …

قال واصفوه وهو في تمام الرجولة: إنه كان — رضي الله عنه — ربعة أميل إلى القصر، آدم — أي: أسمر — شديد الأدمة، أصلع مبيض الرأس واللحية طويلها، ثقيل العينين في دعج وسعة، حسن الوجه، واضح البشاشة، أغيد كأنما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين لهما مشاش كمشاش١ السبع الضاري لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجًا، وكان أبجر — أي: كبير البطن — يميل إلى السمنة في غير إفراط، ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها، ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها، شثن الكفين، يتكفأ في مشيته على نحوٍ يقارب مشية النبي، ويقدم في الحرب فيقدم مهرولًا لا يلوي على شيء.

وتدل أخباره — كما تدل صفاته — على قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات، فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل، ويمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس، واشتهر عنه أنه لم يصارع أحدًا إلا صرعه، ولم يبارز أحدًا إلا قتله، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه إلا رجال، ويحمل الباب الكبير يعيي بقلبه الأشداء، ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان.

ومن مكانة تركيبه — رضي الله عنه — أنه كان لا يبالي الحر والبرد، ولا يحفل الطوارئ الجوية في صيفٍ ولا شتاء، فكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف، وسئل في ذلك فقال: «إن رسول الله بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله، إني أرمد العين، فقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فما وجدت حرًّا ولا بردًا منذ يومئذ …»

•••

ولا يفهم من هذا أنه — رضوان الله عليه — كان معدوم الحس بالحر والبرد بالغًا ما بلغت بهما القساوة والإيذاء، فقد كان يرعد للبرد إذا اشتد ولم يتخذ له عدة من دثارٍ يقيه، قال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت على علي بالخورنق — وهو فصل شتاء — وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبًا، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ … فقال: والله ما أرزؤكم شيئًا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.

فليس هو انعدام حس بالصيف والشتاء، إنما هي مناعة قوية خصت بها بنيته، لم يخص بها معظم الناس.

وكان إلى قوته البالغة، شجاعًا لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة، فكان لجرأته على الموت لا يهاب قِرنًا من الأقران بالغًا ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت، واجترأ وهو فتى ناشئ على عمرو بن ود فارس الجزيرة العربية، الذي كان يقوم بألف رجل عند أصحابه وعند أعدائه، وكانت وقعة الخندق فخرج عمرو مقنعًا في الحديد ينادي جيش المسلمين: من يبارز … فصاح علي: أنا له يا نبي الله … قال النبي وبه إشفاق عليه: إنه عمرو، اجلس، ثم عاد عمرو ينادي: ألا رجل يبرز؟ … وجعل يؤنبهم قائلًا: أين جنتكم التي زعمتم أنكم داخلوها إن قتلتم؟ … أفلا تبرزون إليَّ رجلًا؟ … فقام علي مرةً بعد مرة وهو يقول: أنا له يا رسول الله، ورسول الله يقول له مرةً بعد مرة: اجلس، إنه عمرو، وهو يجيبه: وإن كان عمرًا … حتى أذن له فمشى إليه فرحًا بهذا الإذن الممنوع كأنه الإذن بالخلاص … ثم نظر إليه عمرو فاستصغره وأنف أن يناجزه وأقبل يسأله: من أنت؟ … قال ولم يزد: أنا عليٌّ، قال: ابن عبد مناف؟ … قال: ابن أبي طالب، فأقبل عمرو عليه يقول: يا ابن أخي … من أعمامك من هو أسن، وإني أكره أن أهريق دمك، فقال له عليٌّ: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب عمرو وأهوى إليه بسيفٍ كان كما قال واصفوه كأنه شعلة نار، واستقبل علي الضربة بدرقته فقدَّها السيف وأصاب رأسه، ثم ضربه عليٌّ على حبل عائقه فسقط ونهض، وسقط ونهض، وثار الغبار، فما انجلى إلا عن عمرو صريعًا وعلي يجأر بالتكبير.

وكأنما كانت شجاعته هذه القضاء الحتم الذي لا يؤسى على مصابه؛ لأنه أحجى المصائب، وأقلها معابةً ألا يدفع، فكانت أخت عمرو بن ود تقول على سبيل التأسي بعد موته:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدًا ما دمت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد

فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يُصاب …

ويزيدها تشريفًا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء … فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي، وهي التورع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويًّا أو ضعيفًا على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال.

فمن تورعه عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، أنه لم يبدأ أحدًا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: «لا تدعوَنَّ إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغٍ والباغي مصروع» …

وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون …!»

وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صِفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض: يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.

كان يعظ قومًا فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه، فصاح معجبًا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرًا ما أفقهه … فوثب أتباعه ليقتلوه، فنهاهم عنه، وهو يقول: إنما هو سبٌّ بسب أو عفوٌ عن ذنب.

وقد رأينا أنه كان يقول لعمرو بن وُد: إني لا أكره أن أهريق دمك … ولكنه على هذا لم يرغب في إهراق دمه إلا بعد يأس من إسلامه ومن تركه حرب المسلمين … فعرض عليه أن يكف عن القتال فأنف، وقال: إذن تتحدث العرب بفراري، وناشده: يا عمرو، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال، قال: ولمَ يا ابن أخي؟ … فوالله ما أحب أن أقتلك … فلم يكن له بدٌّ بعد ذلك من إحدى اثنتين: أن يقتله أو يقتل على يديه.

وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم، ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة: فاتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري، فصاح بين الصفين: من يبارز؟ … فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله ووقف عليه ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم نادى: من يبارز؟ … فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبه، ثم نادى رابعة: من يبارز؟ … فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول إلى الصف الذي يليه، وخاف علي أن يشيع الرعب بين صفوفه، فخرج إلى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه، ثم نادى نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه، ثم قال مسمعًا الصفوف: يا أيها الناس، إن الله — عز وجل — يقول: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ، ولو لم تبدءونا ما بدأناكم … ثم رجع إلى مكانه.

أما مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مدبرًا أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا سترًا أو يأخذوا مالًا، وصلى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على السواء، وظفر بعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وهم ألد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيشٍ ذي عدة، فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاءً لضربته … وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين، وهم يقولون له: ولا قطرة حتى تموت عطشًا … فلما حمل عليهم وأجلاهم عنه سوَّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها شيئًا، ثم خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها، قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ … فانتهره وهو يقول: ويحك؟ … إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهم مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟ … وإنه لفي طريقه إذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة، فأمر بجلدهما مائة جلدة، ثم ودع السيدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالًا، وأرسل معها من يخدمها ويحف بها، قيل: إنه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلَّدهن السيوف … فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي … فلما وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.

وكانت هذه المروءة سنته مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، ومن كان في حرمة عائشة — رضي الله عنها — ومن لم تكن له قط حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال …

وتعدلها في النبل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له، وأضرهم به وأشهرهم بالضغن عليه، فنهى أهله وصحبه أن يمثلوا بقاتله وأن يقتلوا أحدًا غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاء محزون يفيض كلامه بالألم والمودة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه، وأفسدوا عليه أمره وكانوا شرًّا عليه من معاوية وجنده؛ لأنه رآهم مخلصين وإن كانوا مخطئين وعلى خطئهم مُصرِّين …

•••

وتقترن بالشجاعة — ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم — صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها، وكأنها والشجاعة أشبه شيء بالنضح للماء، أو بالإشعاع للنور، فلا تكون شجاعة الفروسية إلا كانت معها تلك الصفة التي نشير إليها، وهي صفة «الثقة» أو «الاعتزاز» أو الادراع بالهيبة والتهويل على الخصوم، ولا سيما في مواقف النزال.

وقد يسميها بعض الناس زهوًا وليست هي به ولا هي من معدنه وسمته، وإن شابهته في بعض الملامح والألوان.

فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه، وهو لونٌ خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع …

أما هذا الاعتزاز الذي نشير إليه، أو هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز، فهي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلًا بعمله في مواجهة خصومه، وهو عرض للقوة يساعد الفارس في إرهاب عدوه وإضعاف عزيمة من يتصدى لحربه … مثله هنا كمثل العروض التي تعمد إليها الجيوش لإعلان بأسها، وتخويف الأعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها، فهو كالشجاعة أداة ضرورية من أدوات القتال لا تنفصل عنها، وليس كل ما فيها ضربًا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره، ويتيه به في عير حاجةٍ إلى التيه.

ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمن وعهدوه وتحدثوا به وتناقلوه، فسمحوا للفارس — بل لعلهم أوجبوا عليه — أن يروغ من خصمه بالفخر المرعب إذ يتقدم لنزاله، وأن يلاقيه وهو ينشد الأشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والإشادة بغزواته، وعلموا أنهم — وقد احتاجوا إلى شجاعته — محتاجون كذلك إلى فخره وحماسته، وإيقاع الرعب في جَنان قِرنه، فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة، وهي أحب القصائد إلى القلوب.

•••

ومن تأصُّل هذه العادة في الطبائع أنها تشاهد في جميع الأحياء فطرةً وارتجالًا بغير اصطناعٍ ولا تعمد، فلا نرى حيًّا من الأحياء الناطقة أو العجماء ينازل قرنًا له إلا حاول ما استطاع أن يهوله بتكبير حجمه، واستطالة قدره واتمار نظره وتنفيش ريشه أو شعره، ويقف الإنسان مثل هذا الموقف فيطيل قامته، ويبرز صدره ويدق بيده عليه ويقول بلسان حاله ما يقال باللسان، فإذا هو الفخر والحماسة وإذا هو عنوان الثقة والإقدام …

هذه الصفة لازمة لفرسان الميدان، ولا سيما فرسان العصور الأولى الذين يقفون للقتال وجهًا لوجه، وينظر أحدهم إلى قرنه وهو يهجم عليه.

وكانت هذه الصفة من صفات علي — رضي الله عنه — يفهمها من يريد أن يفهم ولا يضيق صدرًا بفضله، وينكرها من ينفس عليه فيسميها الزهو أو يسميها الجفوة والخيلاء، قال له قيس بن سعد بعد عزله من ولاية مصر: إنك والله ما علمت لتنظر الخيلاء … ومر الزبير بن العوام مع رسول الله في بني غنيم، فرأى رسول الله عليًّا على مقربةٍ منه فضحك له وضحك عليٌّ يحييه، فقال الزبير: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، قال رسول الله: إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم …

فليس هو بالزهو المكروه، ولكنها الشجاعة التي يمتلئ بها الشجاع والثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها؛ لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها ولم يحس أنه يحتاج إلى مداراتها؛ ولأنه لا يقصدها ولا يتعمد إبداءها …

•••

وقد كان مدار هذا الخلق في ابن أبي طالب على ثقةٍ أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرجال، فما منعته الطفولة الباكرة يومًا أن يعلم أنه شيء في هذه الدنيا، وأنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير، ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي — عليه السلام — ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في وجوههم، ويسأل عن النصير ولا نصير … لو كان بعلي أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذٍ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة، ورفعتهم آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع، ولكنه كان عليًّا في تلك السن الباكرة كما كان عليًّا وهو في الخمسين أو الستين … فما تردد وهم صامتون مستهزئون أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك … فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم …

عليٌّ هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة، وقد علم ما تأتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش.

وعلي هذا هو الذي تصدى لعمرو بن ود مرةً بعد مرة، والنبي يجلسه ويحذره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير، يقول النبي: اجلس، إنه عمرو، فيقول: وإن كان عمرًا … كأنه لا يعرف من يخاف ولا يعرف كيف يخاف، ولا يعرف إلا الشجاعة التي هو ممتلئ بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث.

وتمكنت هذه الثقة فيه لطول مراس الفروسية، التي هي كما أسلفنا جزء منها وأداة من أدواتها.

وزادها تمكينًا حسد الحاسدين ولجاجة المنكرين، وكلاهما خليق أن يعتصم المرء منه بثقة لا تنخذل، وأنفةٍ لا تلين، فمن شواهد هذه الثقة بنفسه أنه حملها من ميدان الشجاعة إلى ميدان العلم والرأي حين كان يقول: «اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئةٍ تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها.»

ومن شواهدها أنه كان يقول والخارجون عليه يرجمونه بالمروق: «ما أعرف أحدًا من هذه الأمة عبد الله بعد نبينا غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين.»

وزاده اتهام من حوله معتصمًا بالثقة بنفسه، فلما عتب عليه خصماه طلحة والزبير أنه ترك مشورتهما قال: «نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما …»

وأبدى هذه الخليقة منه أنه كان — رضي الله عنه — لا يتكلف ولا يحتال على أن يتألف، بل كان يقول: «شر الإخوان من تكلف له.» ويقول: «إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه.» فكان الذين ينتظرون منه الاصطناع والإرضاء يخطئون ما انتظروه، ولا سيما إذا هم انتظروه من أرزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن إليها، فيحسبون أنها الجفوة البينة وأنه الزهو المقصود وما هو بهذا ولا بتلك … إنما هي شجاعة الفارس بلوازمها التي لا تنفصل منها، وإنما هو امتعاض المغموط المسيء ظنًّا بمن حوله يتراءى على سجيته في غير مداراة ولا رياء، فما كان يتكلف إظهار تلك الخلائق زهوًا كما يسمونه أو جفوةً كما يحسبونها، بل كان قصاراه ألا يتكلف الإخفاء، فإذا التفت قاصدًا إلى ما في نفسه فهو لا يقصد العجب ولا يرضاه، بل ينهى عنه ويشتد في اجتنابه، ويوصي من أحب: «إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها» … «واعلم أن الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب.»

نعم كان ملاك الأمر في أخلاق علي — عليه السلام — أنه كان لا يتكلف إظهار شيء، ولا يتكلف إخفاء شيء، ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده فلا يدعه حتى يعلن له طويته، ويقول له: «أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.»

•••

وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى من الشجاعة والبأس والامتلاء بالثقة والمنعة، وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء، كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه، وإنما يجيء منه على البديهة كما تجيء الأشياء من معادنها: كان مثلًا يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد، أفعجيبٌ منه أن يخرج إليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء؟ … وكان يغفل الخضاب أحيانًا ويرسل الشيب ناصعًا، وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الأحيان، أفعجيبٌ منه — مع هذا — أن يقل اكتراثه لكل خضاب ساترًا ما ستر، أو كاشفًا ما كشف، من رأيٍ وخليقة؟

بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة أخرى كالشجاعة في قوتها ورسوخها … أو هي قريبة للشجاعة في نفس الفارس النبيل وقلما تفارقها، ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجترئ به الرجل على الضر والبلاء، كما يجترئ به على المنفعة والنعماء، فما استطاع أحدٌ قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء؛ لأنهم أرهقوه باللجاجة وأعنتوه بالخلاف، فما عدا معهم قول الصدق في شدةٍ ولا رخاء، حتى قال فيه أقرب الناس إليه: إنه رجلٌ يعرف من الحرب شجاعتها، ولكنه لا يعرف خدعتها، وكان أبدًا عند قوله: «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك» …

•••

وصدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير، فيقول: «لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم» … قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أميَّة التي تبغض عليًّا، وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات: «أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.» وقال سفيان: «إن عليًّا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.» وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارًا للخصاص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام، وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت على عليٍّ — عليه السلام — فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا — وأشار إلى ثيابه — فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به» …

وعلى هذا الزهد الشديد كان علي — رضي الله عنه — أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشيرة، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة، وروي عن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — أنه قال له: «لله أبوك لولا دعابة فيك.» وأنه قال لمن سألوه في الاستخلاف: «ما أظن إلا أن يلي أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجلٌ فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على الطريق.»

•••

وأغرق ابن العاص في وصف الدعابة فسماها «دعابة شديدة»، وطفق يرددها بين أهل الشام ليقدح بها في صلاح الإمام للخلافة، وإنما نقول: إن ابن العاص أغرق في هذا الوصف، وإن الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفاته؛ لأن تاريخ عليٍّ وأقواله ونوادره مع صحبه وأعدائه محفوظة لدينا، لا نرى فيها دليلًا على خلق الدعابة فضلًا عن الدليل على الإفراط فيه … فإن كان لهذا الوصف أثر أجاز لعمر بن الخطاب أن يذكره، فربما كان مرجع ذلك أن عليًّا خلا من الشغل الشاغل سنين عدة، فأعفاه الشغل الشاغل من صرامته، وأسلمه حينًا إلى سماحته وأحاديث صحبه ومريديه، فحسبت هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون، ولم يثبتوها بقصة واحدة أو شاردة واحدة تجيز لهم ما تقوَّلوه.

وقد كانت للإمام صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزاياه الخلقية، فاتفق خصومه وأنصاره على بلاغته، واتفقوا على علمه وفطنته، وتفرقوا فيما عدا ذلك من رأيه في علاج الأمور ودهائه في سياسة الرجال.

والحق الذي لا مراء فيه أنه كان على نصيبٍ من الفطنة النافذة لا ينكره منصف، وأنه أشار على عمر وعثمان أحسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء، وأنه أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان … وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور، ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأديب اللبيب …

إلى هنا متفقٌ عليه لا يكثر فيه الخلاف، ثم يفترق الناس في رأيه رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبين، فيقول أناس: إنه كان على قسطٍ وافر من الفهم والمشورة، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة، ولا ينتفع بما يراه. ويقول أناسٌ: بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان أعداءه وإنهم لدونه في الفطنة والسداد. وهو — رضي الله عنه — قد اعتذر لنفسه بمشابه من هذا العذر حين قال: «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس» …

•••

أما مقطع الرأي بين الرأيين فنرجو أن نفصله في مواضعه من الفصول التالية مشفوعًا بمناسباته، ولكننا نستطيع أن نجزم هنا بحقيقتين تجملان ما نبسطه في مواضعه من الكتاب، ولا نحسبهما تتسعان لجدلٍ طويل، وهما أن أحدًا لم يثبت قط أن العمل بالآراء الأخرى كان أجدى وأنجع في فض المشكلات من العمل برأي الإمام، وأن أحدًا لم يثبت قط أن خصوم الإمام كانوا يصرفون الأمور خيرًا من تصريفه، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه، وكلتا الحقيقتين حَرية أن تضبط لسان الميزان قبل أن يميل، فيغلو به الميل هنا أو هناك.

هذه صفات تنتظم في نسقٍ موصول: رجلٌ شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع؛ وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيءٍ منها إلا الذي اصطدم بالمطامع، وتفرقت حوله الشبهات، وما من رجلٍ تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم.

١  المشاش: رأس العظم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤