إسلامه

ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنما كان ميلاده ثمة إيذانًا بعهدٍ جديد للكعبة وللعبادة فيها.

وكاد عليٌّ أن يولد مسلمًا …

بل لقد ولد مسلمًا على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح؛ لأنه فتح عينيه على الإسلام ولم يعرف قط عبادة الأصنام.

فهو تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الإسلامية، وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجه الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه وأمه، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة، فكان ابن عم محمد — عليه السلام — وربيبه الذي نشأ في بيته ونعم بعطفه وبره، وقد رأينا الغرباء يحبون محمدًا ويؤثرونه على آبائهم وذويهم، فلا جرم يحبه هذا الحب من يجمعه به جد، ويجمعه به بيت، ويجمعه به جميل معروف: جميل أبي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسُّه ابن أبي طالب ويأوي إليه.

واختلفوا في سنه حين إسلامه من السابعة إلى السادسة عشرة، ولعله أسلم في نحو العاشرة؛ لأنه كان يناهزها عند إعلان الدعوة المحمدية، وكان النبي — عليه السلام — يتعبد في بيته عبادة الإسلام قبل الدعوة بفترة غير قصيرة، وليس ما يمنع عليًّا أن يألف تلك العبادة في طفولته الباكرة، فإذا هو نفر منها، وأعرض عنها لغير سبب في تلك الطفولة الباكرة، فالعجيب أنه يعود إلى ألفتها والرضا بها بعد أن بلغ السن التي يعرف فيها معنى الغضب لعبادة الآباء والأجداد.

ولولا ألفة علي لابن عمه وكافله لما قربته القرابة وحدها من الدين الذي دعى إليه، فقد أصر كثير من أقرباء النبي على الشرك زمنًا طويلًا، منهم عقيل أخوه وأحب إخوته إلى أبيه، فحارب المسلمين في بدر ولم يسلم وقد وقع في أسر النبي وصحبه … بل افتداه عمه العباس وخرج من الأسر وهو على دينه، ثم أسلم بعد صلح الحديبية مع طائفة من الغرباء والأقربين …

•••

على أن الألفة بين ابني العم الكريمين قد أوشكت أن تكون عائقًا لإسلام علي في طفولته الباكرة … لأن النبي — عليه السلام — أبى أن ينتزع الطفل من دين أبيه وأبوه لا يعلم، وأشفق أن يكون برُّه بعمه وبابن عمه سبيلًا إلى التفرقة بين الأب وابنه وهو لا يدرك ما يفعل، ولم يشأ أن يعوِّد الطفل الصغير أن يخفي سرًّا عن أبيه، كأنه يخدعه بإخفائه ولو في سبيل الهداية والخير، فظل هذا الحرج الكريم عائقًا عسيرًا أعسر ما فيه أنه عائق اختيار يهون معه الاضطرار، أو عائق حيرة تقل فيها حيلة الكريم … حتى شاع أمر الدعوة المحمدية وعلم بها أبو طالب ونَصَر ابن أخيه، وأمر عليًّا بمتابعة ابن عمه ونصره، فأقبل الغلام البر بأبيه وبكافله إقبالًا لا تلجلج فيه على الدين الجديد.

وملأ الدين الجديد قلبًا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه، ويرجع به إلى عقابيله … فبحقٍّ ما يقال: إن عليًّا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وإن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلامًا منه ولا أعمق نفاذًا فيه.

كان المسلمَ حق المسلم في عبادته، وفي علمه وعمله، وفي قلبه وعقله؛ حتى ليصح أن يقال: إنه طبع على الإسلام فلم تزده المعرفة إلا ما يزيده التعليم على الطباع …

كان عابدًا يشتهي العبادة كأنها رياضة تريحه، وليست أمرًا مكتوبًا عليه … وكان يرى في كهولته وكأنما جبهته ثفنة بعيرٍ من إدمان السجود، وكان عليٌّ محجة في الإسلام لا يحيد عنها لبغيةٍ ولا لخشية، فكلما زيَّنوا له الهوادة أبى «أن يداهِن في دينه ويعطي الدنية في أمره»، وآثر الخير كما يراه على الخير كما يراه الناس …

وكان دينه له ولعدوه، بل له ولعدو دينه، فما كان الحق عنده لمن يرضاه دون من يقلاه، ولكنه كان الحق لكل من استحقه وإن بهته وآذاه …

•••

وجد درعه عند رجلٍ نصراني فأقبل به إلى شريح — قاضيه — يخاصمه مخاصمة رجلٍ من عامة رعاياه، وقال: إنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل شريح النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ … قال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! … فالتفح شريح إلى عليٍّ يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ … فضحك عليٌّ وقال: أصاب شريح، ما لي بينة! … فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى و«أمير المؤمنين» ينظر إليه … إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء … أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه يقضي عليه! … أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين … اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق. فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وشهد الناس بعد ذلك هذا الرجل وهو من أصدق الجند بلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان.

وأحسن الإسلام علمًا وفقهًا كما أحسنه عبادةً وعملًا، فكانت فتاواه مرجعًا للخلفاء والصحابة في عهود أبي بكر وعمر وعثمان، وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأيٌ فيها يؤخذ به، أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء …

إلا أن المزية التي امتاز بها عليٌّ بين فقهاء الإسلام في عصره أنه جعل الدين موضوعًا من موضوعات التفكير والتأمل، ولم يقصره على العبادة وإجراء الأحكام، فإذا عرف في عصره أناس فقهوا في الدين؛ ليصححوا عباداته، ويستنبطوا منه أقضيته وأحكامه، فقد امتاز علي بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة، وأمعن فيه ليغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية، أو الحقيقة الفلسفية كما نسميها في هذه الأيام.

•••

ويصح أن يقال: إن عليًّا — رضي الله عنه — أبو علم الكلام في الإسلام؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فواصل ابن عطاء كبيرهم تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي — رضي الله عنه، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي الجبائي أحد مشايخ المعتزلة الذين علمهم واصل بن عطاء … أما الفقه فإمامه الأكبر أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه، وهكذا ينتهي الأمر إلى علي — رضي الله عنه. وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على عليٍّ — رضي الله عنه. وقيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟ … فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط …

•••

قال ابن أبي الحديد: «ومن العلوم، علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسنادٍ متصل إليه — عليه السلام …»

وقد جمع «نهج البلاغة» نماذج شتى من الكلمات التي تنسب إليه، ويصح أن تحسب أصلًا «للعلم الإلهي»، أو لأسرار التصوف في صدر الإسلام قبل اشتغال المسلمين بفلسفة اليونان وحكمة الأمم الأجنبية. وربما وقع الشك في نسبة بعض الكلمات إلى علي — رضي الله عنه — لأنها تجمعت بعد عصره بزمنٍ طويل، وامتزج بها ما لا بد أن يمازجها من علوم القرن الثالث وما بعده … ولكن شيئًا على هذا النهج لا بد أن يكون قد صدر منه حقًّا، حتى جاز أن يتصل النسب بينه وبين أئمة التوحيد وعلم الكلام على النحو الذي تواترت به الأقوال، وأجمله ابن أبي الحديد فيما تقدم …

•••

ولنا أن نقول: إنه كان — رضي الله عنه — يتتلمذ للقرآن الكريم، ويستوحيه نصًّا في عرفان إسلامه وتقرير إيمانه، فكانت نظرته إلى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر ما شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ، فكلامه عن الطاووس والخفاش والزرع والسحاب إنما هو الدرس القرآني الذي وعاه من أمر الكتاب بالنظر في المخلوقات، ووصف الكتاب لطوائف منها كالنمل والنحل والطير والأجنة في الأرحام. فهو تلميذ ربه — جلَّ وعلا — في قوله عن الخفاش: «من لطائف صنعته وعجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش، التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف غشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورًا تهتدي به في مذاهبها … فسبحان من جعل الليل لها نهارًا ومعاشًا، والنهار لها سكنًا وقرارًا، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب … تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلاف غيره.»

ومثله قوله عن الطاووس: «ومن أعجبها خلقًا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضَّدَ ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه وذنب أطال سحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مظلًّا على رأسه … وقد ينحسر من ريشه ويعرَى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعًا، فينحت من قصبة نحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاصق ثانيًا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه» …

ونحن لا نستغرب ابتداء هذا النمط من النظر الفلسفي على نحوٍ من الأنحاء في عصر الإمام علي — رضي الله عنه — لأنه كان عهدًا نبتت فيه أصول الفرق الإسلامية جميعًا من الخوارج والشيعة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، والمجتهدين في قراءة القرآن وتفسيره على شتى المذاهب … فأقرب شيء إلى المعقول أن يكون إمام العصر كله قدوة في الاجتهاد والنظر، وعنوانًا للنوازع التي تفرقت بين أهل زمانه، وتعبيرًا صادقًا لتفكيره ووعيه، وصاحب أقوال من قبيل هذه الأقوال التي قدمناها، وإن لم تكن هي إياها بالنص والتفصيل …

ويستقيم مع هذا التقدير أن يكون الإمام على سجيته مؤثرًا للاجتهاد ما استطاعه، معرضًا عن التقليد ما استغنى عنه، فوافق الخلفاء من قبله في أمور وخالفهم في أمور، وأبى أن يأتم بعملهم فيما يراه وما لا يراه، وأوصى ابنه الحسن وقد بلغ الستين فقال: «… اعلم يا بني أن أحبَّ ما أنت آخذٌ به إليَّ من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر … فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعُلَق الخصومات، وابتدئ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهةٍ أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك همًّا واحدًا، فانظر فيما فسَّرت لك …»

وربما كانت هذه الوصية وحدها كافية للتعريف بإسلام عليٍّ كما ارتضاه لنفسه، وارتضاه للقادرين عليه من أتباعه … فإنما هو إسلام المسلم «المطبوع» الذي يبتكر دينه؛ لأنه يعتمد فيه على وحي بصيرته وارتجال مزاجه، وإنما هو إسلام الحكيم المجتهد الذي يرجع في الحكمة والاجتهاد إلى رياضة النفس على سنَّة النسَّاك، وتمحيص الفكر على سنَّة العلماء، وإنما هو إسلام الرجل الذي أتيح له أن يتتلمذ لربه، ويتربى في حجر نبيه، ويصبح إمامًا للمقتدين من بعده …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤