البَيْعَة

بويع لعليٍّ بالخلافة بعد حادثة من أفجع الحوادث الدامية في تاريخ الإسلام، وهي مقتل الخليفة عثمان بن عفان في شيخوخته الواهنة، بعد أن حصروه بين جدران داره، وكاد يقتله الظمأ لو أمهله القتلة بضعة أيام …

وأفجع ما كان في هذه الحادثة، أنها بلاء لا يدفع، وقضاء لا حيلة لأحد في اتقائه؛ لأن المسئولين عنه كثيرون متفرقون في كل جانب يناصره أو يعاديه … فإذا امتنع الأعداء لم يمتنع الأصدقاء، وإذا بطل الشر الذي فيه اختيار لم يبطل الشر الذي لا اختيار فيه، وربما كان حسن النية وسوء النية هنا صنوين متساويين، فمن الأعمال المؤسفة التي عجلت بالفاجعة أعمال كثيرة بدرت من عثمان نفسه، أو لعله أقدم عليها بعد قصد ومراجعة، وليست هي في تعجيلها ولا في سوء مغبتها بأهون من أعمال الأعداء …

مضت السنون الأولى من خلافة عثمان على خير ما كان يرجى لها أن تمضي في عهد خليفة …

ثم تغيَّرت الأحوال فجأة من جانب الراعي ومن جانب الرعية، لأسباب لم تكن طارئة ساعة ظهورها، وإن ظهرت عواقبها طارئات.

وتتعدد الأسباب التي أوجبت ذلك التغيير بعد السنوات الأولى، ولكنها قد تنحصر في سببين اثنين جامعين لغيرهما من الأسباب العديدة، وهما إمعان الخليفة في الشيخوخة، واستمراء الأعوان لما نعموا به من لين الخليفة ولين الرغد والمتاع.

ولقد كتبت الأسفار المطولات في إحصاء المآخذ على عثمان — رضي الله عنه — وكتبت الأسفار المطولات في تبرئة الخليفة من تلك المآخذ، أو الاعتذار له بأحسن الأعذار وتفسيرها على أحسن الوجوه؛ لأن المسألة خرجت من عداد المسائل التاريخية، وانتقلت إلى ميدان النزاع بين الأحزاب والمذاهب وأقاويل الجدل والحجاج … فجعلها الشيعيون وأهل السنة ذريعة إلى تأييد مذهب، وإنكار مذهب في الخلافة والخلفاء، وراح الأولون يبالغون في الاتهام كما يبالغ الآخرون في الدفاع، ولا طائل هنا من شرح هذا وذاك، ولا هو مما يقتضيه كلامنا الآن … وإنما المرجع فيه إلى تاريخ عثمان …

إلا أننا نجتزئ هنا بالإشارة إلى التذمر الذي أثار الفتنة، والإلمام بأسبابه عند أصحابه … فمما لا شك فيه أنهم تذمروا لأسباب تثيرهم، وإن طال الشك والجدل حول نصيبهم من الخطأ والصواب.

أهم هذه الأسباب، أنه خالف بعض السنن التي اتبعها النبي — عليه السلام — في الأذان والصلاة، وأنه أدنى أناسًا من أقاربه كان رسول الله — عليه السلام — قد أقصاهم عن المدينة … فاستدعاهم إليه بعد استخلافه، وأغدق عليهم المنح والأموال، وأنه أطلق العنان لأبناء أسرته في الولاية والعمالة، ومنهم من اتهموه بإقامة الصلاة وهو سكران، وأنه منح سفيان بن حرب مائتي ألف درهم، ومنح الحارث بن الحكم زوج ابنته عائشة مائة ألف درهم من بيت المال، وأنه توسع في بناء القصور، وحرم بعض الصحابة، وضرب بعضهم على مشهد من الملأ ضرب إهانة وإيجاع …

ولم تنقض سنوات على هذه الحال حتى كثر المترفون من جانب، والمُتربون من جانب آخر، وشاع بين الجانبين ما يشيع دائمًا في أمثال هذه الأحوال من الملاحاة والبغضاء والتزيُّد بالتهم واللجاجة، وإضافة الأوهام إلى الحقائق في خلق ذرائع الخلاف والشحناء.

ويدل على خطر مسألة الثروة في هذه الفتنة، أن الناس تألبوا على الخليفة مرة … فأرسل في طلب عليٍّ ليصرفهم عنه، فلما قدم إليه استأذنه في إعطائهم بعض الرفد العاجل من بيت المال، فأذن له … فانصرفوا عن زعماء الفتنة، وهدءوا إلى حين …

ثم توافد المتذمرون من الولايات إلى المدينة مجندين وغير مجندين، وتولى زعامة المتذمرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاء الصحابة، كتبوا صحيفة وقعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة … فلما حملها عمار بن ياسر إليه، غضب وزيره مروان بن الحكم، وقال له: «إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس … وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه.» فضربوه حتى غشي عليه.

وفي مرات أخرى، كان الخليفة يصغي إلى هذه الشكايات ويندم على ما اجترحه أعوانه بعلمه أو بغير علمه، ثم يعلن التوبة إلى رعاياه، ويؤكد لهم الوعد بإقصاء أولئك الأعوان، وإخلافهم في أعمالهم بمن يرضي المسلمين، ويرضي الله.

ثم يغلبه أولئك الأعوان على مشيئته، فيبقيهم حيث كانوا ويملي لهم فيما تعودوه من الترف والنكاية، وعلى رأسهم مروان بن الحكم … أبغض أولئك الأعوان إلى المسلمين، حتى من أهل الخليفة المقربين.

وكان بعض الوفود يشكون ولاتهم، فإذا عادوا إلى بلادهم تلقاهم أولئك الولاة بالأذى، وقتلوا بعضهم ضربًا على ملأ من الشاكين الذين ينتظرون الإنصاف … فيعود المضروبون إلى الشكوى، وينصرهم أجلَّاء الصحابة عن الخليفة، ويسألونه أن يولي عليهم غير واليهم المسيء إليهم، فإذا توجه الوالي الجديد إلى مكانه، إذا في الطريق رسول يحمل خطابًا للوالي المعزول، يأمره فيه بقتل من يفد إليه من حاملي الشكوى وحاملي كتاب الولاية، ويقره في مكانه!

حدث هذا مع وفد مصر، واختلفت الأقاويل في تأويله من متهم للخليفة، ومتهم لمنافسيه على الخلافة، ومتهم لوفد الشكوى الذي عثر بالخطاب، ومتهم لمروان بن الحكم — عنصر السوء في هذه المأساة كلها — وهو أولى الأقاويل بالترجيح والتصديق، إذا كان أيسر شيء على مروان لو كان بريئًا من هذه المكيدة أن يكشف حقيقتها بسؤال الغلام حامل الخطاب، وفي كشف هذه الحقيقة إبراء له، وتعزيز لسلطان الخليفة، وفضيحة لأعدائه، وإدحاض لحجة الفتنة ودعوة الإثارة والتحريض … ولكنه أهمل السؤال، وقنع من تبرئة نفسه بقذف التهمة على متهميه …

•••

وظل الخليفة والثوار يشتبكون ويتحاجزون … لا هم في حرب، ولا هم في سلام …

وكلما تحاجزوا بعد اشتباك منذر بالشر، زاد الخليفة ضعفًا، وزاد الثوار ضراوة، وزاد التوجس بينهم استفحالًا، واتسع مع التوجس مجال السعاية والإرجاف بين الفريقين حتى بلغ الكتاب أجله …

وتوسط عليٌّ بين الخليفة والثوار، فاستمهلهم الخليفة ثلاثة أيام يرد فيها المظالم، ويعزل العمال المكروهين.

فانتظر الثوار هذه الأيام الثلاثة تلبية لنصيحة عليٍّ … ومنهم من يسيء الظن، ويرى أن الخليفة إنما يستمهلهم في انتظار المدد الذي طلبه من الأمصار …

وانقضت الأيام الثلاثة على غير جدوى …

وتفاقمت الفتنة، وأحاط الثائرون ببيت عثمان … لا يقنعون في هذه الكرة إلا أن يعتزل، أو يسلمهم مروان بن الحكم، أو يعزلوه عنوةً.

وجاء في رواية «شداد بن أوس» أن عليًّا — رضي الله عنه — خرج من منزله يومئذ معتمًّا بعمامة رسول الله متقلدًا سيفه، أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، حتى حملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على الخليفة فسلَّم عليه عليٌّ … وقال بعد تمهيد وجيز: «… لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا لنقاتل.» فقال الخليفة: «أنشد الله رجلًا رأى لله حقًّا، وأقر أن لي عليه حقًّا، أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه في.» فأعاد عليٌّ القول، فأعاد عليه هذا الجواب … ثم خرج من عنده إلى المسجد، وحضرت الصلاة فنادوه: «يا أبا الحسن … تقدم فصلِّ بالناس.» فقال: «لا أصلِّي بكم والإمام محصور، ولكني أصلِّي وحدي.» ثم صلَّى وحده وانصرف إلى منزله، وترك ابنيه مع أبناء زمرة من الصحابة في حراسة دار الخليفة؛ ليعلم الثوار أنهم معتدون على كل ذي خطر في الإسلام إن وصلوا إلى الخليفة باعتداء … عساهم إن علموا ذلك أن يتهيبوا المركب، فلا ينزعوا بالشر غاية منزعه.

إلا أن الثوار علموا أنهم مأخوذون بالانتظار مغلوبون بالمطاولة، فتسوروا الدار وولغوا في دم طهور لو هان على صاحبه أن تسفك الدماء في سبيله لعز عليهم أن يسفكوه.

•••

وللإفاضة في مقتل عثمان وعبرة هذا المقتل، مكان غير هذا المكان، وكتاب غير هذا الكتاب …

فإنما نحن في صدد الموقف الذي وقفه عليٌّ من هذه الجريمة، وما ينم عليه هذا الموقف من خلقه ورأيه وسريرته وجهره … وإنما يعنينا هنا أن نسأل: أكان عليه وزر في هذه الجريمة؟ … أكان في مقدوره عمل صالح يعمله لإنقاذ عثمان من هذا المصير؟ …

ونحن لا نسأل هذا السؤال لنرجع في جوابه إلى جدل المجادلين، وأقاصيص المادحين والقادحين … فقد سال في الخلاف على هذا السؤال دم غزير ومداد كثير، وليس علينا نحن أن نزيد قطرة أو قطرات على هذا البحر المسجور الذي لا ريَّ فيه.

ليس علينا هذا؛ لأننا نستطيع أن نعبره إلى حقيقة ماثلة لمن يشاء أن يراها، وفيها الغنى — ولو بعض الغنى — عن الإسهاب في السؤال والجواب …

فالحقيقة التي لا يطول فيها الريب، أن عليًّا — رضي الله عنه — لم يكن أقدر على اجتناب هذا المصير من معاوية أو من عثمان نفسه، لو شاء عثمان أن يستمع إلى بعض الناصحين إليه.

فقد كان معاوية واليًا عزيزًا، له جند يرسله إلى الخليفة فيحميه في الشدة اللازبة وإن أباه، وكان لمعاوية قبول عند عثمان لم يكن لعليٍّ ولا لأحد من خلصائه، وكان هو أقمن أن يميل بعثمان إلى الرضا بالحراسة أو الرضا بالرحلة إلى مكة أو الشام، لو أراد.

وكان في وسع عثمان أن يرحل إلى مكة، وهي آمن له من المدينة، أو يرحل إلى الشام، وقد كانت مفتوحة له قبل أن تغلقها الفتنة ويمرد الثوار في العصيان …

أما عليٌّ فقد كان موقفه أصعب موقف يتخيله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب من كل جانب …

كان عليه أن يكبح الفرس عن الجماح، وكان عليه أن يرفع العقبات والحواجز من طريق الفرس … كلما حيل بينها وبين الانطلاق.

كان ناقدًا لسياسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه … ناصحًا للخليفة بإقصاء تلك البطانة، وتبديل السياسة التي تزينها له، وتغريه باتباعها وصم الآذان عن الناصحين له بالإقلاع عنها.

وكان مع هذا أول من يطالب بالغوث، كلما هجم الثوار على تلك البطانة، وهموا بإقصائها عنوةً من جوار الخليفة.

كان الثوار يحسبونه أول مسئول عن السعي في الإصلاح، وكان الخليفة يحسبه أول مسئول عن تهدئة الحال وكف أيدي الثوار.

ولم يكن في العالم الإسلامي كله رجل آخر يعاني مثل هذه المعضلة، التي تلقاه من جانبيه كلما حاول الخلاص منها، ولا خلاص!

وضاعف هذا الحرج الشديد الذي كان يلقاه في كل خطوة من خطواته، أنه لم يكن بموضع الحظوة والقبول عند الخليفة حيثما وجب الإصغاء إلى الرأي والعمل بالمشورة، وإنما كان مروان بن الحكم موضع الحظوة الأولى بين المقربين إليه … لا ينجو من إحدى جناياته التي كان يجنيها على الحكومة والرعية حتى يعود إلى الخليفة، فيوقع في روعه أن عليًّا وإخوانه من جلة الصحابة هم الساعون بين الناس بالكيد له، وتأليب الثائرين عليه، وأنه لا أمان له إلا أن يوقع بهم ويعرض عنهم … ويلتمس الأمان عند عشيرته وأقربائه، ومن هم أحق الناس بسلطانه وأصدقهم رغبةً في دوامه …

ففي المؤتمر الذي جمعه الخليفة للتشاور في إصلاح الأمر وقمع الفتنة، لم يكن عليٌّ مدعوًّا ولا منظورًا إليه بعين الثقة والمودة … بل كان المدعوون إلى المؤتمر من أعدائه والكارهين لنصحه … وهم معاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص، وهم في جملتهم أولئك الولاة الذين شكاهم عليٌّ وجمهرة الصحابة، وبرمت بهم صدور المهاجرين والأنصار.

قال لهم عثمان: «إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون … فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ» …

قال معاوية: «أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك ما قبلي.»

رأي رجل يريد أن يحتفظ بولايته، ولا يريد أن يغضب أحدًا من أصحاب الولايات في غير مصره …

وقال عبد الله بن عامر: «رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك … فلا تكون همة أحدهم إلا نفسه …»

رأي رجل يريد أن يشغل الناس عن الشكوى ولا يريد أن يزيلها، ثم هو لا يبالي أن يخلق جهادًا تسفك فيه الدماء في غير جهاد مطلوب.

وقال عبد الله بن سعد: «أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.»

رأي رجل يشتري الرضا بالرشوة، ويستبقي ما في يديه منها.

وقال عمرو بن العاص، وهو بين السخط على ولاية فاتها والطمع في ولاية يرجوها: «أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعدل … فإن أبيت، فاعتزم أن تعتزل … فإن أبيت، فاعتزم عزمًا وامض قدمًا.»

رأي رجل عينه على الخليفة وعينه على الثوار؛ ولهذا بقي حتى تفرق المجتمعون … ثم قال للخليفة حيث لا يسمعه أحد غيره: «والله يا أمير المؤمنين لأنت أعزُّ عليَّ من ذلك … ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي … فأقود إليك خيرًا وأدفع عنك شرًّا …»

•••

وكان هؤلاء هم الوزراء والنصحاء وأهل الثقة عند عثمان، ومن ورائهم مروان بن الحكم يلازمه، ويكفل لهم أن يحجب النصحاء عنه، وفي مقدمتهم عليٌّ وإخوانه … ثم تفرق المؤتمرون وقد رد عثمان كل عامل إلى عمله، وأمره بالتضييق على من قبله …

فكانت حيلة عليٍّ في تلك المعضلة العصيبة جدَّ قليلة، وكان الحول الذي في يديه أقل من الحيلة.

إلا أنه مع هذا قد صنع غاية ما يصنعه رجل معلق بالنقيضين، معصوب بالتبعتين، مسئول عن الخليفة أمام الثوار ومسئول عن الثوار أمام الخليفة …

جاءه الثوار مرة من مصر خاصةً، يتخطون الخليفة إليه ويعرضون الخلافة عليه … فلقيهم أسوأ لقاء، وأنذرهم لئن عادوا إليها ليكونن جزاؤهم عنده وعند الخليفة القائم، جزاء العصاة المفسدين في الأرض.

وجاءوه مرة أخرى وحجتهم ناهضة، ودليل التهمة التي يتهمون بها بطانة عثمان في أيديهم … جاءوه بالخطاب الذي وجدوه في طريق مصر مع غلام عثمان، يأمر عامله بقتلهم بعد أن وعدهم خيرًا، وأجابهم إلى تولية العامل الذي يرضيهم، فلم تخدعه حجتهم الناهضة، ولم يشأ أن يملي لهم في ثورتهم واحتجاجهم من جراء ذلك الخطاب المشكوك فيه، وجعلهم متهمين مسئولين بعد أن كانوا متهمين سائلين، فقال لهم: «وما الذي جمعكم في طريق واحد، وقد خرجتم من المدينة متفرقين كل منكم إلى وجهة؟ …»

•••

وكانت حيرة عليٍّ بين التقريب والإبعاد، أشد من حيرته بين الخليفة والثوار … فكان يؤمر تارةً بمبارحة المدينة ليكف الناس عن الهتاف باسمه، ويستدعى إليها تارةً ليردع الناس عن مهاجمة الخليفة، فلما تكرر ذلك، قال لابن عباس الذي حمل إليه رسالة عثمان بالخروج إلى ماله في ينبع: «يا ابن عباس … ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملًا ناضحًا بالغرب — أي: الدلو — أقبل وأدبر … بعث إليَّ أن أخرج، ثم بعث إليَّ أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إليَّ أن أخرج … والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثمًا» …

ثم بلغ السيل الزُّبَى، كما قال عثمان — رضي الله عنه — فكتب إلى عليٍّ يذكر له ذلك ويقول: «إن أمر الناس ارتفع في شأني فوق قدره … وزعموا أنهم لا يرجعون دون دمي، وطمع فيَّ من لا يدفع عن نفسه:

فإن كنتُ مأكولًا فكن خير آكلٍ
وإلا فأدركني ولمَّا أمزَّقِ»

فعاد عليٌّ، وجهد في إنقاذ الخليفة جهده، ولكنه كان يعالج داءً استعصى دواؤه وابتلي به أطباؤه … فكلهم يريد تغييرًا يأتي من قبل الغيب أو يأتي من قبل الآخرين، ولا يغيِّر شيئًا من عمله أو مستطاعه، ولعل الخليفة لو شرع في التغيير المرجو يومئذ لما أجدى عليه عظيم جدوى، لفوات أوانه وانطلاق الفتنة من أعنتها، وامتناع التوفيق والصفاء بعد ما وقر في النفوس ولغطت به الأفواه …

وعد الخليفة وعدَه الأخير … ليصلحن الأحوال ويبدلن العمال …

وأحاطت به بطانته كدأبها في أثر كل وعد من هذه الوعود، تنهاه أن ينجزه وتخيفه من طمع الناس فيه، إن هو أنجز ما وعدهم حين توعدوه.

وكانت المرأة أصدق نظرًا من الرجال في هذه الغاشية التي تضل فيها العقول … فأشارت عليه امرأته السيدة نائلة باسترضاء عليٍّ، والإعراض عن هذه البطانة، ولم يكن أيسر على بطانته من إقناعه بضعف هذا الرأي بعد سماعه من امرأة ضعيفة، فكان مروان يقول له: «والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها» …

وكان هو يأذن له أن يخرج ليكلم الناس، فلا يكلمهم إلا بالزجر والإصرار … كما قال لهم يومًا: «ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه … جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا … ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبون على ما في أيدينا.»

إذن بطلت الرويَّة، ولم يبق إلا لحظة طيش لا يدرى كيف تبدأ، ولا يؤتى لأحد إذا هي بدأت أن يقف دون منتهاها.

•••

هجم الثوار على باب الخليفة، فمنعهم الحسين بن عليٍّ وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وطائفة من أبناء الصحابة …

واجتلدوا فمنعهم عثمان، وقال لهم: «أنتم في حلٍّ من نصرتي.» وفتح الباب ليمنع الجلاد حوله … ثم قال رجل من أسلم يناشد عثمان أن يعتزل، فرماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله، فجنَّ جنون الثوار يطلبون القاتل من عثمان، وعثمان يأبى أن يسلمه، ويقول لهم: «لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي …» وعزَّ على الثوار أن يدخلوا من الباب الذي كان قد أغلق بعد فتحه، فاقتحموا الدار من الدور التي حولها … وأقدموا على فعلتهم النكراء بعد إحجام كثير.

لو لم تقع الواقعة في هذه اللحظة الطائشة، لوقعت في لحظة غيرها لا يدرى كيف تبدأ هي الأخرى … فإنما هي بادرة واحدة من رجل واحد تسوق وراءها كل مجتمع حول الدار من المهاجرين أو المدافعين، ولا أكثر من البوادر بين ثوار لا يجمعهم رأي، ومدافعين لا يضبطهم عنان …

ونقل الخبر إلى المسجد، وفيه عليٌّ جالس في نحو عشرة من المصلين، فراعه منظر القادم وسأله: «ويحك ما وراءك؟» قال: «والله قد فرغ من الرجل.» فصاح به: «تبًّا لكم آخر الدهر …» وأسرع إلى دار الخليفة المقتول … فلطم الحسن، وضرب الحسين، وشتم محمدًا بن طلحة وعبد الله بن الزبير وجعل يسأل ولديه: «كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟» فأجابه طلحة: «لا تضرب يا أبا الحسن ولا تشتم ولا تلعن، لو دفع مروان ما قتل.»

•••

قال سيف بن عمر عن جماعة من شيوخه: «بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب، يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر، والمصريون يلحون على عليٍّ وهو يهرب إلى الحيطان،١ ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم: لا نولي أحدًا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى، فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم، ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم … فرجعوا إلى عليٍّ فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس … وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا عليٌّ، فلما كان يوم الجمعة وصعد على المنبر، بايعه من لم يبايعه بالأمس وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» ثم الزبير، ثم قال الزبير: «إنما بايعت عليًّا واللج على عنقي والسلام …»

وهذا الخبر على وجازته، قد حصر لنا أسماء جميع المرشحين للخلافة بالمدينة عند مقتل عثمان … وربما كان أشدهم طلبًا لها طلحة والزبير اللذان أعلنا الحرب على عليٍّ بعد ذلك … فقد كانا يمهدان لها في حياة عثمان، ويحسبان أن قريشًا قد أجمعت أمرها ألا يتولاها هاشمي، وأن عليًّا وشيك أن يذاد عنها بعد عثمان كما ذيد عنها من قبله، وكانت السيدة عائشة تؤثر أن تئول الخلافة إلى واحد من هذين … أو إلى عبد الله بن الزبير؛ لأن طلحة من قبيلة تيم والزبير زوج أختها أسماء، وفي تأييد السيدة عائشة لواحد منهما مدعاة أمل كبير في النجاح …

على أن الرأي هنا لم يكن رأي قريش، ولا رأي بني هاشم … فلو أن عثمان مات حتف أنفه، ولم يذهب ضحية هذه الثورة لجاز أن تجتمع قريش فتعقد البيعة لخليفة غير علي بن أبي طالب، وجاز أن يختلف بنو هاشم … فلا يجتمع لهم رأي على رجل من رجالهم الثلاثة المرشحين للخلافة، وهم: عقيل، وعليٌّ، وابن عباس.

•••

ولكنها الثورة الاجتماعية التي تنشد رجلها دون غيره ولا محيد لها عنه … فإن ترددت أيامًا، فذاك هو التردد العارض الذي يرد على الخاطر لا محالة، قبل التوافق على رأي جازم … ثم لا معدل للثورة عن الرجل الذي تتجه إليه وحده على الرغم منها …

فطلحة والزبير، كانا يشبهان عثمان في كثير مما أخذه عليه المتحرجون في الدين، وتمرد له الفقراء المحرومون … كانا يخوضان في المال، ولا يفهمان الزهد والعلم على سنَّة الناقمين المتزمتين، فإذا طلب الثائرون خليفة على شرطهم ووفاق رجائهم … فما هم بواجديه في غير عليِّ بن أبي طالب، وقد قال بحق: «إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر.» ولو شاء لقال عن الخاصة الذين لا يطمعون في الخلافة مقالته عن العامة في انقيادهم إليه بغير رهبة ولا رغبة … فقد كان أولئك الخاصة جميعًا على رأي العامة في حكومة عثمان وبطانته، وإن أخفى بعضهم لومه … ولم يذهب بعضهم في اللوم مذهب الثوار في النزق وسفك الدماء …

ونعتقد كما أسلفنا أن هذه الحقيقة هي أولى الحقائق بالتوكيد والاستحضار، كلما عرض أمر من أمور الخلاف والتردد في خلافة عليٍّ رضي الله عنه … فإذا هي فهمت على وجهها، فكل ما عداها مفهوم البواطن والظواهر منسوق الموارد والمصادر … وإذا هي لم تفهم على الوجه الأمثل أو تركت جانبًا، وبحث الباحثون عن العلل والعواقب في غيرها، فالعهد كله غامض مجهول، والموازين كلها مختلة منقوصة سواء في تقدير الرجال أو تقدير الأعمال، وجاز حينئذ أن يرمى عليٌّ بالخطأ … ولا خطأ عنده يصححه غيره في موضعه، وإنما هو حكم الموقف الذي لا محيد عنه، وجاز كذلك أن ينحل خصومه فضل الصواب ولا صواب عندهم؛ لأنهم مضطرون إلى ورود هذا المورد … فكروا فيه أو طرقوه اعتسافًا بغير تفكير …

•••

فلم تكن المسألة خلافًا بين عليٍّ ومعاوية على شيء واحد، ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك.

ولكنها كانت خلافًا بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يتمرد ولا يستقر، والآخر يقبل الحكومة كما استجدت، ويميل فيها إلى البقاء والاستقرار …

أو هي كانت صراعًا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في عليِّ بن أبي طالب، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية بن أبي سفيان.

وليس موضع الحسم فيها أن ينتصر علي … فيحكم في مكان معاوية، أو ينتصر معاوية فيحكم في مكان عليٍّ، بل موضع الحسم فيها مبادئ الحكم كيف تكون إذا تغلب واحد منهما على خصمه؟ أتكون مبادئ الخلافة الدينية أو مبادئ الدولة الدنيوية؟ … أتكون مبادئ الورع والزهادة أو مبادئ الحياة على أساس الثروة الجديدة، كما توزعت بين الأمصار، وتفرقت بين السراة والأجناد والأعوان؟

فلو أن عليًّا ملك الشام ومصر والعراق والحجاز، وجرى في سياستها على سنَّة أصحابه من الحفاظ والقراء، ومنكري البذخ والإسراف لبقيت المشكلة حيث كانت، ولم تغن هزيمة معاوية إلا ريثما يتجرد للدولة منازع آخر يحاول الغلبة من حيث فشل …

ولو أن معاوية ملك المدينة إلى جانب ملكه، وجرى في سياستها على سنَّة الحفاظ والقراء لما أرضاهم، ولا انقاد له أحد من أشياعه …

فالحسم حق الحسم هنا، إنما هو تغليب مبادئ الملك أو مبادئ الخلافة، ولا حيلة لعليٍّ ولا لمعاوية في علاج الأمر على غير هذا الوجه، لو جهد له جهد الطاقة …

•••

وقد كان الموقف بين الخلافة والملك ملتبسًا متشابكًا في عهد عثمان: كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية …

فوجب أولًا أن يتضح الموقف بينهما، وأن يزول الالتباس عن فلق صريح …

ووجب وقد زال الالتباس، وتقابل الضدان اللذان لا يتفقان، أن يبلغ الخلاف مداه … ولن يزال قائمًا حتى تكتب الغلبة لمبدأ من المبدأين وحكم من الحكمين، وليس لعليٍّ أو معاوية على التخصيص.

هذه هي العلة الكبرى التي تنطوي فيها جميع العلل الظاهرة …

وخليق بكل علة أخرى أن تكون تعلة موضوعة يستر صاحبها غير ما يبطن، أو ينخدع في زعمه وهو غافل عن معناه …

خذ لذلك مثلًا علة طلحة وأصحابه الذين ثاروا على عليٍّ ليطلبوه بدم عثمان، وهم لم يدفعوا عنه في حياته بعض ما دفع عليٌّ عنه، وقد كان عثمان كثيرًا ما يقول: «ويلي من طلحة … أعطيته كذا وكذا ذهبًا وهو يروم دمي … اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه» …

وساء ظن الناس بنقمة طلحة على عثمان حتى حدث بعضهم أنه رآه يوم مقتله يرمي الدار، ويقود بعض الثائرين إلى الدور المجاورة؛ ليهبطوا منها إلى دار عثمان، وهو حديث يفتقر إلى السند الوثيق، ولكنه ينم على ظن الناس بصداقة طلحة للخليفة المقتول.

وخذ لذلك مثلًا حجة معاوية حين علل ثورته باتهام عليٍّ في دم عثمان، وعلل اتهامه لعليٍّ بتقصيره في القود من الثائرين … وهم ألوف يحملون السلاح، وهو لم يسكن بعد إلى سلطان يعينه على القود من هؤلاء الألوف المسلحين، فماذا صنع معاوية بقاتلي عثمان حين صار الملك إليه، ووجب عليه أن ينفذ العقاب الذي من أجله ثار واستباح القتال؟ إنه اتبع عليًّا فيما صنع، وأبى أن يذكر الثأر المقيم المقعد، وقد ذكَّروه به وألحفوا في تذكيره، ولقد كان أول ما سمعه يوم زار المدينة، ودخل بيت عثمان صيحة عائشة بنته وهي تبكي: «وا أبتاه.» فلم تزده هذه الصيحة المثيرة إلا إصرارًا على الإغضاء والإعفاء، وقال لها يعزيها: «يا ابنة أخي … إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانًا، وأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره … فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خيرًا من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين …»

•••

ولو كانت الثورة كلها من أجل عثمان لما انتهت بهذا التسليم الهين … ولكان عذر عليٍّ في بداية المحنة أعظم حجة، وأحق بالقبول …

أو خذ لذلك مثلًا علة عمرو بن العاص، وقد كان أول الناصحين لعثمان بالاعتزال، بل كان عثمان يخطب ليسترضي الناس، وعمرو يصيح به من صفوف المسجد: «اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أمورًا وركبناها معك … فتب إلى الله نتب …» ثم ترك عثمان في المدينة بين المؤتمرين به ومضى إلى فلسطين، وسمع وهو يقول: «والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.»

فكل علة للثورة على خلافة عليٍّ، فهي تعلل موضوع ينخدع به قائله أو يخدع به غيره … إلا تلك العلة التي طوت فيها جميع العلل ظاهرها وخافيها، وصريحها ومكذوبها، وهي الخلاف بين مبادئ الخلافة الدينية ومبادئ الدولة الدنيوية، وضرورة الفصل بين هاتين الخطتين … وإن كان في ظاهره فصلًا بين رجلين …

فلما بويع بالخلافة، كانت هذه البيعة إيذانًا بانقسام الحلقة بين الندين للصراع الأخير، أو كانت إيذانًا باصطفاف المتسابقين إلى غاية لا بد من بلوغها … ولن تخطر على البال غاية لهذا السباق المحتوم غير انتهاء الخلافة، أو انتهاء الملك على النحو الذي تهيأت له عناصر النظام الاجتماعي الجديد.

فأما انتهاء الملك في بدايته، فقد كان بعيدًا — بل كان عسيرًا جدًّا في تلك الآونة — كما يعسر انطفاء النار وهي تهب بالاشتعال …

وأما انتهاء الخلافة فهو الذي كان، وهو الذي كان منظورًا أن يكون، ولن يكون غيره بمنظور … فمن الفضول لوم عليٍّ على شيء من الأشياء التي أفضت إلى هذه الخاتمة، وهي محتومة ليس عنها محيد …

إذ لم يكن طبيعيًّا أن يصمد الناس على سنَّة النبوة أكثر من جيل واحد، تثوب بعده الطبائع إلى فطرتها من نشأة الخليقة الأولى، وقد يتفق كثيرًا أن يغمرها جلال النبوة أو جلال الخلافة، وهي في إبان النضال والحمية الدينية، فتنسى المطامع وتسهو عن الحزازات، وتستعذب الألم والفداء إلى مدى الطاقة الإنسانية، ولكنها تبلغ مدى الطاقة الإنسانية بعد حين، وتفتر عن النهوض من قمة إلى قمة، فتركن آخر الأمر إلى الأرض السواء، حيث لا حافز ولا مستنهض إلا مجاراة الطبيعة في مجاريها التي لا تشق عليها، وإن المصلحين ليرضون غاية الرضا إذا هي حفظت من إصلاحهم عند ذلك وازعًا يهديها بعد ضلالة عمياء، ويردعها بعد جماح مريد، ويكفكف من غلوائها ما كان من قبل منطلقًا بغير عنان …

وقد نظر النبي — عليه السلام — بعين الغيب إلى هذا المصير فقال: «الخلافة ثلاثون عامًا ثم يكون بعد ذلك الملك» … وأنبأ بانقسام الفرق وتشعب الأهواء، وكأنما كان ينظر إلى ذلك بعينيه — صلوات الله عليه — واتبع عليٌّ من اليوم الأول في خلافته أحسن السياسات التي كان له أن يتبعها، فلا نعرف سياسة أخرى أشار بها ناقدوه أو مؤرخوه ثم أقاموا الدليل على أنها خير من سياسته في صدق الرأي وأمان العاقبة، أو أنها كانت كفيلة باجتناب المآزق التي ساقته الحوادث إليها.

فمن اللحظة الأولى، أخذ في تجنيد قوى الخلافة الدينية التي لا قوة له بغيرها …

فعزل الولاة الذين استباحوا الغنائم المحظورة، وتمرغوا بالدنيا، وطمعوا وأطمعوا رعاياهم في بيت مال المسلمين، وأثاروا على عثمان سخط السواد وسخط الفقهاء المتحرجين والحفاظ الغيورين على فضائل الدين …

•••

ورد القطائع التي وزعتها بطانة عثمان بين المقربين وذوي الرحم، فصرفتها عن وجوهها التي جعلت لها من إصلاح المرافق، وإغاثة المفتقرين إليها على شرعة الإنصاف والمساواة.

ورجع إلى خطبة أبي بكر وعمر في تجنيب الصحابة الطامحين إلى الإمارة فتنة الولايات، مخافة عليهم من غوايتها وإبعادًا لهم من دسائس الشيع والعصبيات … فلما طالبه طلحة والزبير بولاية العراق واليمن، قال لهما: «بل تبقيان معي لآنس بكما.» وسأل ابن عباس: «ما ترى؟» فأشار بتولية الزبير البصرة وتولية طلحة الكوفة، قال علي: «ويحك … إن العراقين بهما الرجال والأموال … ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع، ويضربان الضعيف بالبلاء، ويقويان على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملًا أحدًا لضره أو نفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.»

نعم، إن هذه السياسة أغضبت منافسيه وطالبي المنفعة الدنيوية على يديه … ولكن السياسة الأخرى كانت تغضب أنصاره، ولا تضمن رضا المنافسين ودوامهم على الرضا والوفاق بينهم في تأييده، وكانت تخالف عقيدته التي يدين بها نفسه وأقرب الناس إليه، وتخالف وعده وعقيدة الناس فيه … ولن يكون مالكًا غالبًا بسياسة الملك على كل حال، فإن لم يكن خليفة فما هو بشيء، وإن كان خليفة وملكًا فهي خطة عثمان التي لم تستقم قط على وجه من وجهيها ومصيرها معروف، وإن كان خليفة ولا اختيار له في ذلك، فكل ما صنع فهو الحكمة كأحسن ما تراض له الحكمة، وهو السداد كأقرب ما يتاح له السداد.

•••

وعلم أن قريشًا لا ينصرونه، فنقل العاصمة من المدينة إلى الكوفة … لأن قريشًا كانوا هاشميين وهم لا يتفقون على بيعته، وقد تركه أقربهم إليه ورحل إلى معاوية طمعًا في رفده، أو كانوا أمويين وهم حزب معاوية وأهل عشيرته وبيته، أو من تيم وهم حزب طلحة، أو من عدي وهم يؤثرون عبد الله بن عمر بن الخطاب، أو من قبائل أخرى، وهم كما قال: «قد هربوا إلى الأثرة» … فإذا أقام بينهم فهو مقيم بين أناس لا ينقطع لهم طلب ولا يضمن لهم ولاء …

ولم تمض أيام معدودة على مبايعة الخليفة الجديد، حتى انتظمت صفوف الحجاز كله له أو عليه … فكان معه جميع الشاكين لأسباب دينية أو دنيوية، وكان عليه جميع الولاة الذين انتفعوا في عهد عثمان، وجميع الطامعين في الانتفاع بالولاية والأموال العامة … وحالت الخلافة الجديدة بينهم وبين ما طمعوا فيه …

وعلى رأس هؤلاء طلحة والزبير …

فحشدوا جموعهم إلى البصرة، وصحبتهم السيدة عائشة؛ لأنها كانت ترغب في خلافة طلحة … لقيها ابن عباس على مقربة من المدينة وهو أمير على الحج من قبل عثمان، ولما يزل قائمًا بالخلافة، فقالت له: «يا ابن عباس … أنشدك الله فإنك قد أعطيت لسانًا أزعيلًا — أي: ماضيًا — أن تخذل عن هذا الرجل — تعني عثمان — وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد جم، وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح … فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر — رضي الله عنه.» فأجابها ابن عباس: «يا أمه! لو حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا.» أي: عليٌّ، فقالت: «أيها عنك … إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.»

فلما بويع عليٌّ في المدينة، لم تكن من أنصاره ولا مع الباقين على الحيدة بينه وبين خصومه … ولعلها لم تنس بعد نصيحته للنبي — عليه السلام — في مسألة الإفك التي قيل: إنه أشار فيها بتطليقها، فخرجت إلى البصرة مع المطالبين بثأر عثمان، وكانت هنالك وقعة الجمل التي سُمِّيت بهذا الاسم لاحتدام القتال فيها حول جملها وهودجها … فانتصر عليٌّ، وقُتل الزبير، ومات طلحة بجرح أصابه في المعركة، وحسم القتال بالصلح بين الفريقين في الحجاز والعراق …

على أن هذا النصر العاجل، لم يخل من آفة تكدره وتنذر بالمخاوف التي يوشك أن يلقاها عليٌّ في حربه لخصومه الباقين بعد موت طلحة والزبير … وأقواهم معاوية بن أبي سفيان صاحب الشام …

فقد كشفت وقعة الجمل عن مصاعب القيادة في جيش من المتمردين والمتذمرين … فإنهم يستحمسون في عقيدتهم، وهي فضيلة من فضائل الجيوش المقاتلة، ولكنهم من جراء هذه الحماسة نفسها عرضة للعناد، والتمادي في اللدد وإعجال قائدهم على إنعام الروية، وانتظار الفرص المؤاتية …

فقد كان عليٌّ يميل — كدأبه — إلى مفاتحة الخارجين عليه في المهادنة أو المصالحة، وكان معه جماعة السبئية — أتباع عبد الله بن سبأ — وهم أخلص الناس له وأغيرهم عليه، ولكنهم لفرط غيرتهم ولددهم في عداوتهم لم يقنعوا بما دون القضاء على خصومه، ولم يقبلوا التوسط في الصلح دون الغلبة التي لا هوادة فيها … فدهموا القوم وأوقدوا جذوة الحرب، قبل أن يفرغ عليٌّ من حديث المهادنة، والتقريب بينه وبين أصدقائه الذين خرجوا عليه …

وكانت هذه أولى العثرات الكبار التي أعثرته بها حماسة المتمردين والمتذمرين في جيشه، ولم تزل تتعاقب وتتفاقم عليه حتى مني بالعثرة التي لا تقال …

وكان ذلك في وقعة صفين …

فإنه نظر بعد غلبته في العراق، فلم يجد أمامه خصمًا يقف في طريق الخلافة إلا جيش معاوية بالشام، فعمد معه إلى خطته التي جرى عليها مع خصومه كافة، حيث كانوا وكانت منزلتهم من الجاه والقوة، ونعني بها خطة المسالمة والبدء بالإقناع … فطالت المراسلة منه إلى معاوية، ومن معاوية إليه، وفي مثل واحد منها، ما يغني عن كثير …

كتب إلى معاوية بعد وقعة الجمل، وقد سبقته كتب كثيرة من المدينة …
سلام عليك … أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضى، وإن خرج عن أمرهم ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتِّبَاعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردهما، فجاهدتهما بعدما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق وظهر أمر الله، وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إليَّ قبولك العافية، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون … ثم حاكمت القوم إلى حملتك وإياهم على كتاب الله، وأما تلك التي تريدها — يعني الخلافة — فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطلقاء٢ الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة … فبايعه، ولا قوة إلا بالله.
فرد عليه معاوية بما يلي:

سلام عليك … أما بعد، فلعمري لو بايعك الذين ذكرت وأنت بريء من دم عثمان، لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بدم عثمان وخذلت الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان … فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على طلحة والزبير، إن كانا بايعاك فلم أبايعك أنا، فأما فضلك في الإسلام وقرابتك من رسول الله فلست أدفعه …

ومن رد معاوية هذا، تبدو النية الواضحة في فتح أبواب الخلاف واحدًا بعد واحد … كلما أغلق باب منها بقي من ورائه باب مفتوح، ولا ينتهي الخلاف بإغلاقه.

فتسليم قتلة عثمان لا يكفي؛ لأن عليًّا نفسه متهم بالإغراء والتخذيل، وبراءة عليٍّ من هذه التهمة لا تكفي؛ لأن المرجع بعد ذلك إلى الشورى، والنظر في البيعة من جديد …

وشورى الحجازيين والعراقيين لا تكفي؛ لأن الحق قد خرج منهم إلى أهل الشام، وهم الحكام على الناس … لأنهم يحكمون لمعاوية ولا يحكمون لغيره …

ومن ثم، بطلت الحجج والرسائل كما تبطل كل حجة وكل رسالة عندما يقال باللسان غير ما يجول في الصدور.

وزحف عليٌّ من الكوفة إلى صفين، ووجد جيش معاوية على الماء … فنحاه عنه بعد أن أبى عليه معاوية أن ينحيه بغير قتال …

وبدأت العثرات من ثم في كل خطوة يخطوها للسلام أو لقتال، فلا يتحفز فريق من أنصاره للحرب حتى يثنيه فريق آخر يحرمها ولا يقول بوجوبها، وتحاجز القوم نيفًا وثمانين فزعة … وتصاولوا في وقعات شتى غامرت بها طائفة من هنا وطائفة من هنا، وقلما اشتبك فيها الجيشان في وقعة جامعة حتى كانت وقعة الهرير، وحاقت الهزيمة بجيش معاوية وقيل: إنه همَّ بالفرار … وإذا بالمصاحف ترفع على الحراب من قبل جيش الشام، وإذا بالعثرة الكبرى التي لا خطوة بعدها في طريق فلاح … فإن عليًّا نظر حوله، فإذا بجيشه يوشك أن يقتتل فيما بينه نزاعًا على القتال أو إلقاء السلاح، وإن معاوية لفي غنًى عن كفاح قوم لا يتفقون على كفاحه … فله منهم سيوف مشرعة لنصرته، شاءوا أو لم يشاءوا، وسيكفونه مئونة الحرب حتى يتفقوا بينهم على حربه، وهيهات!

•••

ولو كانت آفة الطاعة في جيش عليٍّ مقصورة على اجتهاد القراء والحفاظ، وتعجل الغلاة والمتمردين … لكان في ذلك وحده ما يكفي لإفساد التدبير، واضطراب القيادة وتعذر القتال على أصوله … إذ لا يستغني القائد في ميدان الحرب، ولا في ميدان السياسة عن الكتمان والمفاجأة، وتحويل الخطط على حسب الطوارئ والمناسبات … فإذا كان في كل عمل من أعماله عرضة لاجتهاد أصحاب الفتاوى، وكان أصحاب الفتاوى يفترقون عشرين وجهة في كل حركة من حركات الجيش، فليست له خطة تكتم ولا خطة تنفذ، وليس عجيبًا بعد ذلك أن ينهزم في ميدان القتال شر هزيمة يبتلى بها مقاتل … بل العجيب أن يتماسك فترة من الزمن — وإن قصرت — أمام جيش يفوقه في العدد، ويرجع في أمره إلى قيادة موحدة ونية مجتمعة ومشيئة مطاعة …

ولكن الآفة مع هذا، لم تكن كلها في اجتهاد الحفاظ وتعجل الغلاة … بل كان في الجيش أناس يخونون عهده ويشغبون عليه، ويبدو من أعمالهم أنهم مسخرون لعدوه كارهون لانتصاره … فإن لم يكونوا كذلك، فالأمر الذي لا شك فيه أنهم كانوا يعملون وهم عامدون — وغير عامدين — شر ما يعمله الخائن الخبيث الذي يتحين الفرص للعناد والشقاق، وإفشاء الخلل والخذلان في أحرج الأوقات.

وأدهى من ذلك، أنه لم يكن قادرًا على زجرهم والتنكيل بهم … لأن الجيش الذي يوجد فيه من يحرم حرب العدو، لن يعدم أناسًا يحرمون حرب النصير المقيم على ظاهر الطاعة، وليس لك بيِّنة قاطعة عليه.

ومثل من ذلك أيضًا يغني عن أمثال كثيرة، وهو مثل الأشعث بن قيس أكبر سادات كندة، وأخلقهم أن ينصر حزبًا على حزب، لو خلصت نيته وبرئت شيمته من التقلب والغدر بأصحابه …

طمح هذا الرجل إلى الملك بعد موت النبي — عليه السلام — فدعا قومه أن يتوجوه … وحارب المسلمين مع المرتدين حتى حوصر في حصنه أيامًا، ويئس من الغلبة فاستسلم … على أن يصون دمه وبقية دم عشرة من أخصائه، ثم فتح الحصن فقتل كل من فيه، ونجا بالعشرة الذين اختارهم إلى أبي بكر — رضي الله عنه — فقبل توبته وزوجه أخته أم فروة، فلما نشبت الفتنة بين عليٍّ ومعاوية، كان هو من حزب علي يتطلع للفرصة السانحة.

ثم زحف عليٌّ — رضي الله عنه — إلى صفين، فكان الأشعث أول المندفعين إلى القتال حين سد أهل الشام طريق الماء، وجاء عليًّا يقول: «يا أمير المؤمنين! أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ … ولِّني الزحف إليه … فوالله لا أرجع أو أموت.»

ولكنه عاد إلى المسالمة، بعد أن وضح النصر في ليلة الهرير، فخطب في قومه من كندة قائلًا:

… قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب … فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط … ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا إن توافقنا غدًا إنه لفنيت العرب وضيعت الحرمات … أما والله ما أقول هذه المقالة خوفًا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا …

ثم ذهب إلى عليٍّ — رضي الله عنه — بعد رفع المصاحف، فقال له: «ما أرى الناس إلا قد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن … فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، فنظرت ما يسأل» …

ولقي معاوية فسأله: «يا معاوية … لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟»

قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله — عز وجل — في كتابه … تبعثون منكم رجلًا ترضون به، ونبعث منا رجلًا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه … ثم نتبع ما اتفقنا عليه.»

فقال الأشعث: «هذا الحق!»

وعاد إلى عليٍّ ينادي بالتحكيم، ويختار له هو وأنصاره رجلًا ينوب عن عليٍّ، وعليٌّ لا يرضاه …

•••

وكان أنصار التحكيم قد تكاثروا واجترءوا على أمير المؤمنين، فلم يبالوا أن يجبهوه بالقول السيئ منذرين متوعدين: «يا علي! أجب إلى كتاب الله — عز وجل — إذا دعيت، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنه عرض علينا أن نعمل بما في كتاب الله — عز وجل — فقبلناه … والله لتفعلنَّها أو لنفعلنَّها بك.»

وألحوا عليه أن يرد قائده الأشتر النخعي من ساحة الحرب، وإلا اعتزلوه أو قتلوه …

فقبل التحكيم وهو كاره …

واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فقال الأشعث: «فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري.»

قال علي: «إنه ليس لي بثقة … قد فارقني وخذل الناس عني، ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك.»

قالوا: «لا نريد إلا رجلًا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكم بأدنى من الآخر …»

قال: «فإني أجعل الأشتر.»

قال الأشعث — وهو ينفس على الأشتر مكانته وبلاءه من قبل: «وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ … أو قال: وهل نحن إلا في حكم الأشتر …!»

فلما رأى إصرارهم وقلة أنصاره على رأيه بينهم قال: «فقد أبيتم إلا أبا موسى!»

قالوا: «نعم!»

قال: «فاصنعوا ما بدا لكم!»

•••

فهذا رجل من الزعماء المطاعين في جيش علي، لم يدع من وسعه شيئًا لتغليب حزب معاوية على حزبه، واستكثر عليه أن يكون الحكم الذي يختاره نصيرًا له مؤمنًا بحقِّه وصحة رأيه، ولا طائل في البحث عن هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل عليٍّ أم النقمة على الأشتر النخعي في مكانته وبلائه، أم التواطؤ بينه وبين معاوية على منفعة مؤجلة ومكافأة موعودة … فإنما النية الخبيثة ظاهرة وإن استترت العلة، وأيًّا كانت العلة الخفية فقد صنع الرجل غاية ما استطاع لتغليب حزب معاوية وخذلان الحزب الذي هو فيه.

قال عليٌّ يصف قسمته من الأنصار، وقسمته من النوازل والعثرات: «لو أحبني جبل لتهافت.»

وقال يصف أنصاره: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء … ما عزَّت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل دفاع ذي الدين المطول … أي دار بعد داركم تمنعون؟ … ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ … المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل،٣ أصبحت والله لا أصدق قولكم ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم، ما بالكم؟ … ما دواؤكم؟ … ما طبُّكم؟ … القوم رجال أمثالكم، أقولًا بغير علم؟ … وغفلة من غير ورع؟ … وطمعًا في غير حق؟ …»

•••

وهي صيحة لا تصف إلا بعض ما يعانيه من حيرة، لا مخرج له منها في سياسة أصحابه، فإنه لم يفرغ من التحكيم الذي أذعن له وهو كاره، حتى فوجئ بطاقة أخرى من أنصاره يرمونه بالكفر؛ لأنه قبل ذلك التحكيم، وزعموه قبولًا للتحكيم في كلام الله وفي دماء المسلمين، وهو عندهم كفر بواح، أولئك هم الخوارج الذين حاربوه بالسلاح، وكانوا يحرمون عليه حرب معاوية قبل ذاك!

ثم اجتمع الحكمان بدومة الجندل التي وقع عليها الاختيار؛ لتكون وسطًا بين العراق والشام، ولم يكن قرار الحكمين خافيًا على من عرفوا أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، فإن أبا موسى لم يكتم قط أن السلامة في اجتناب الفريقين والقعود عن القتال، فليس أيسر من إقناعه بخلع صاحبه وخلع معاوية على السواء، ثم يرجع الرأي إلى عمرو بن العاص في إقرار هذا الخلع، أو الاحتيال فيه بالحيلة التي ترضيه.

إلا أن الدهاة من العرب، كانوا يتوقعون من عمرو بن العاص أن يحتال لنفسه حتى يفرغ وسعه قبل أن يحتال لصاحبه الذي أنابه عنه.

ومن هؤلاء الدهاة المغيرة بن شعبة الذي اعتزل الفريقين من مطلع الفتنة إلى يوم التحكيم، فلما اجتمع الحكمان علم أنها الجولة الأخيرة في الصراع … فخرج من عزلته ودنا ليستطلع الأمور، على سنَّة الدهاة من أمثاله، إذ يتنسمون الريح قبل هبوبها، ولا يقلقون أنفسهم بمهبها قبل أوانها … فلقي أبا موسى وعمرو بن العاص، ثم ذهب إلى معاوية وهو مشغول البال بطول الاجتماع بين الحكمين، واضطراب الظنون فيما وراء هذا الإبطاء المريب … فقال له وهو يرى اشتغال باله: «قد أتيتك بخبر الرجلين …»

قال معاوية: وما خبرهما؟ …

قال المغيرة: «إني خلوت بأبي موسى لأبلو ما عنده فقلت: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا وجلس في بيته كراهية للدماء؟ … فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم وبطونهم من أموالهم. فخرجت من عنده وأتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟ … فقال: أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقًّا ولم ينكروا باطلًا» …

ثم عقب المغيرة قائلًا: «أنا أحسب أبا موسى خالعًا صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد، وأحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي عرفته، وأحسبه سيطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله، ولا أراه يظن أنك أحق بهذا الأمر منه …»

وقد أحسن المغيرة حزره نقل الحرف بالحرف في تقدير نية الرجلين، فإنهما ما اجتمعا هنيهة حتى أقبل أبو موسى على عمرو يقول له: «يا عمرو! … هل لك فيما فيه صلاح الأمة ورضا الله؟»

قال: «وما هو؟ …»

قال: «نولي عبد الله بن عمر، فإنه لم يدخل في نفسه شيء من هذه الحروب …»

فراغ عمرو قليلًا يحاول أن يلقي في روع صاحبه أنه يريد معاوية، ثم عاد يسأله: «فما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟»

فأوشك أبو موسى أن يجيبه لولا أنه قال: «إن ابنك رجل صدق، ولكنك غمسته في هذه الحروب غمسًا.»

وتكرر بينهما هذا القول وأشباهه في كل لقاء، وطفقا يبدئان منه ويعيدان إليه بعد كل جدال، حتى وقر في خلد الأشعري أن خلع الزعيمين أمر لا مناص منه، ولا اتفاق بينهما على غيره، فتواعدا إلى يوم يعلنان فيه هذا القرار …

وتقدم أبو موسى فقال بعد تمهيد: «… أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية، ونستقبل الأمة بهذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًّا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا.»

وتلاه عمرو فقال بعد تمهيد: «… إن هذا قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان — رضي الله عنه — والطالب بدمه وأحقُّ الناس بمقامه.»

فغضب أبو موسى، وصاح به: «ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث …»

فابتسم عمرو، وهو يقول: «إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا …»

كلب وحمار فيما حكما به على نفسيهما غاضبين، وهما يقضيان على العالم بأسره ليرضى بما قضياه …

وانتهت المأساة بهذه المهزلة، أو انتهت المهزلة بهذه المأساة.

وبان أن اجتماع الحكمين لم يفض إلى اتفاق بين الحكمين، فعاد الخلاف إلى ما كان عليه …

إلا أنه استشرى واحتدم بعد قصة الحكمين بما زاد عليه من فتنة الخوارج المنكرين للتحكيم.

فقد أجمعوا وأبرموا فيما بينهم «… إن هذين الحكمين قد حكما بغير ما أنزل الله، وقد كفر إخواننا حين رضوا بهما، وحكموا الرجال في دينهم ونحن على الشخوص من بين أظهرهم، وقد أصبحنا والحمد لله ونحن على الحق من بين هذا الخلق.»

وخرجوا وعليٌّ يأبى قتالهم حتى ييأس من توبتهم، ولقيهم بالجيش، فآثر أن يلقاهم مناقشًا قبل أن يلقاهم مقاتلًا، واقترح عليهم أن يخرجوا إليه رجلًا منهم يرضونه، يسأله ويجيبه ويتوب إن لزمته الحجة ويتوبوا إن لزمتهم، فأخرجوا إليه إمامهم عبد الله بن الكواء.

قال علي: «ما الذي نقمتم عليَّ بعد رضاكم بولايتي وجهادكم معي وطاعتكم لي، فهلا برئتم مني يوم الجمل؟ …»

قال ابن الكواء: «لم يكن هناك تحكيم.»

قال علي: «يا ابن الكواء ويحك … أنا أهدى أم رسول الله ؟»

قال ابن الكواء: «بل رسول الله

قال علي: «فما سمعت قول الله — عز وجل: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ أكان الله يشك أنهم هم الكاذبون …

قال: «إن ذلك احتجاج عليهم، وأنت شككت في نفسك حين رضيت بالحكمين، فنحن أحرى أن نشك فيك.»

قال: وإن الله تعالى يقول: فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ

قال ابن الكواء: «ذلك أيضًا احتجاج منه عليهم.» ثم قال بعد كلام طويل من قبيل كلامه هذا: «إنك صادق في جميع قولك غير أنك كفرت حين حكَّمت الحكمين.»

قال علي: «ويحك يا ابن الكواء … إني إنما حكمت أبا موسى وحكم معاوية عمرًا» …

قال ابن الكواء: «فإن أبا موسى كان كافرًا.»

قال علي: «متى كفر؟ … أحين بعثته أم حين حكم؟»

قال ابن الكواء: «بل حين حكم.»

قال علي: «أفلا ترى أني بعثته مسلمًا فكفر في قولك بعد أن بعثته … أرأيت لو أن رسول الله بعث رجلًا من المسلمين إلى ناس من الكافرين ليدعوهم إلى الله،٤ فدعاهم إلى غيره، هل كان على رسول الله من ذلك شيء؟»

قال: «لا.»

قال: «ويحك … فما كان عليَّ أن ضل أبو موسى؟ أفيحل لكم بضلالة أبي موسى أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم فتعترضوا بها الناس؟»

فعلم الخوارج أن صاحبهم ليس بندٍّ لعليٍّ في مجال نقاش، فكفُّوه عن الكلام كأنهم آمنوا بصدق عليٍّ في حجته وقصده، لولا أنهم قوم قهرتهم لجاجة العناد كما تقهر أمثالهم من المتهوسين، الذين يجدون في المضي مع العناد لذة يستمرئونها من الحق والمعرفة … فمردوا على الشقاق، وأصروا على تكفير علي وأصحابه، وأن يعاملوهم في الحرب والسلم معاملة الكفار …

•••

واستبقى عليٌّ بعد هذا كله بقية للسلم والمراجعة … فرفع في الساحة راية ضم إليها ألفي رجل ونادى: «من التجأ إلى هذه الراية فهو آمن.»

ثم قال لأصحابه: «لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم.» فصاح الخوارج صيحتهم: «لا حكم إلا لله وإن كره المشركون.» وهجموا هجمة رجل واحد … وتلقاهم عليٌّ وأصحابه لقاء من نفد صبره ووغر صدره، فما هي إلا ساعة حتى قتل معظم الخوارج، وبقي منهم نحو أربعمائة أصيبوا بجراح وعجزوا عن القتال، فأمر بهم عليُّ فحملوا إلى عشائرهم لينظروا من فيه رمق فيدركوه بعلاج.

وأراد المسير إلى الشام ليلقى بها جيش معاوية …

فتصدى له الأشعث بن قيس مرة أخرى، كما تصدى له في كل فرصة سانحة للغلبة، وقال له على مسمع من الناس: «يا أمير المؤمنين … نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنَّة رماحنا، فارجع بنا إلى مقرنا لنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا، فإنه أوفى لنا على عدونا.»

•••

وتسلل الجند من معسكرهم، ولاذ من لاذ بالمدن القريبة منهم، وأيقن علي أن القوم مارقون من يده، ولا طاعة له عليهم إذا دعاهم بعدها لقتال …

أما معاوية فقد علا نجمه بين قومه، وأعانه طلاب المنافع عامدين، وأعانه الخوارج غير عامدين، فحاربوا عليًّا ولم يحاربوه، وطلبوا التوبة من عليٍّ ولم يطلبوها منه، واستمر هو في إنفاذ البعوث والسرايا إلى كل موضع آنس منه غرة وظن بزعمائه موجدة أو سآمة، فلم تنقض سنتان حتى كانت معه مصر والمدينة ومكة، وبقي عليٌّ في أرباض الكوفة يائسًا منعزلًا عن الناس، يتمنى الموت كما قال في بعض خطبه، ويوجس شرًّا من أقرب المقربين إليه، وانتهى بقبول المهادنة بينه وبين معاوية على أن تكون له العراق ولمعاوية الشام، ويكفا السيف عن هذه الأمة، فلا نزاع ولا قتال …

•••

وبقيت في كنانة الأقدار مصادفة من هذه المصادفات التي يخيل إليك وأنت تتعقبها، أنها تجمعت منذ الأبد ليبوء عليٌّ بنقائض الموقف كله، ويظفر خصومه بتوفيقات الموقف كله … فشاءت هذه المصادفة الأخيرة أن يتفق ثلاثة على قتل ثلاثة، فيذهب هو وحده ضحية هذه المكيدة العاجلة، ويفلت زميلاه فيها: معاوية، وعمرو بن العاص.

اجتمع عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي، وهم من غلاة الخوارج الموتورين، فتذاكروا القتلى من رفاقهم وتذاكروا القتلى من المسلمين عامةً، وألقوا وزر هذه الدماء كلها على ثلاثة من الكفار — أو أئمة الضلالة في رأيهم — وهم: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص.

فقال ابن ملجم: «أنا أكفيكم علي بن أبي طالب.»

وقال البرك: «أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان.»

وقال عمرو بن بكر: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.»

وإن ضغينة الثأر لحافز أي حافز …

وإن تهوس العقيدة لمثير أي مثير …

وكان للمتآمرين الثلاثة قسط واف من هذين الحافزين، يغني عن مزيد من التحريض على القتل والانتقام …

ولكن المصادفة العجيبة هي التي شاءت أن تشحذ عزيمة ابن ملجم بحافز ثالث، لعله يمضي حين ينبو هذان الحافزان الماضيان، وهو حافز من الغرام الظامئ لا يرويه إلا دم ذلك الشهيد الكريم.

فإن المرء قد ينيم ثائرة الحقد، وقد يماري نفسه فيما تفرضه العقيدة، ولكنه إذا كان عاشقًا مخبولًا يستنجزه الوعد معشوق مسلط عليه، فهو مأسور زمامه في يدي غيره، وليس في يديه.

•••

وكان ابن ملجم يحب فتاة من تيم الرباب، قتل أبوها وأخوها وبعض أقربائها في معركة الخوارج، وكانت توصف بالجمال الفائق والشكيمة القوية، وتدين بمذهب قومها فوق ما في جوانحها من لوعة الحزن على ذويها، فلما خطبها ابن ملجم لم ترض به زوجًا إلا أن يشفي لوعتها.

قال: «وما يشفيك؟» قالت: «ثلاثة آلاف درهم وعبد وقينة، وقتل علي بن أبي طالب.»

قال: «أما قتل علي فلا أراك ذكرته لي وأنت تريدينني.»

قالت: «بل ألتمس غرته … فإذا أصبت شفيت نفسك ونفسي ويهنأك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وزينتها وزينة أهلها.»

وخرج الثلاثة متواعدين إلى ليلة واحدة، يقتل كل منهم صاحبه في ذلك الموعد …

فأما عمرو بن العاص، فقد اشتكى بطنه تلك الليلة فلم يخرج من بيته، وأمر خارجة بن حذافة صاحب شرطته أن يصلِّي بالناس، فضربه عمرو بن بكر وهو يحسبه عمرًا فقتله، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، وأمر بقتله …

وأما معاوية فضربه البرك بن عبد الله، وقد خرج الغداة للصلاة، فوقعت الضربة على إليته … وقيل: إن الطعنة مسمومة لا يشفيها إلا الكي بالنار أو شراب يمنع النسل، فجزع معاوية من النار، ورضي انقطاع النسل، وهو يقول: «في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني، وأمر بالرجل فقتل لحينه.»

وأما عليٌّ، فضربه ابن ملجم في جبينه بسيف مسموم، وهو خارج للصلاة، فمات بعد أيام وهو يحذر أولياء دمه من المثلة، ويقول لهم: «يا بني عبد المطلب … لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين … ألا لا يقتلن أحد إلا قاتلي …»

«انظر يا حسن! إن أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور.»

•••

وهذه خاتمة فاجعة، ننظر في كل فرض من فروضها، فلا نخليها من المصادفة السيئة التي لا تلقى تبعتها على أحد بعينه.

فمهما يقل القائلون: إن عليًّا إنما أصيب لأنه كان لا يتقي أحدًا، ولا يخرج إلى المسجد بحرس، فالواقع أن المصادفة السيئة قائمة هناك تفرق في عثرات الحظ بينه وبين زميليه اللذين سيقا معه إلى مكيدة واحدة … فخرجا منها بحظين غير حظه، فإن ابن العاص لم ينج من القتل لأنه خرج إلى المسجد محروسًا؛ ولكنه نجا لأنه لزم بيته في تلك الليلة، ومات صاحب شرطته الذي خرج في مكانه؛ ولم ينج معاوية لأنه خرج محروسًا؛ ولكنه نجا لأنه أصيب وكانت إصابته غير قاتلة.

فهي المصادفة السيئة مهما تلتمس لها علة من علل التاريخ، ترجع بنا في آخر الأمر إلى علل المصادفات التي لا تقبل التعليل.

وشيء آخر تصوره لنا هذه الخاتمة الفاجعة، كما تصوره لنا البيعة كلها من قبل ابتدائها على ما بعد انتهائها …

وذلك هو النسيج الإنساني النابض الذي يتخلل حياة عليٍّ في لحمتها وسداها، وفي تفصيل أجزائها وجملة فحواها، فما من حادثة من حوادث هذه الحياة النبيلة إلا وهي معرض حافل للعواطف الإنسانية برمتها، تلتقي فيه عوامل النخوة والشجاعة والوفاء والإيمان والسماحة، وتشتبك فيه مطامع الناس وأشواقهم وظواهرهم وخفاياهم … ذلك الاشتباك الذي يخلقه الشعراء خلقًا في القصص والملاحم، فلا يحكمونه بعض إحكام الواقع الملموس في سيرة الإمام. وقد أسلفنا في صدر هذا الكتاب أنها سيرة تلامس النفس الإنسانية في شتى نواحيها: تلامسها من ناحية العقيدة كما تلامسها من ناحية العاطفة، ومن ناحية الفكر كناحية الخيال، ومن ناحية التمرد كناحية الولاء، فإذا اتبعت السيرة بالخاتمة، فأي خيط من خيوط تلك الشبكة الإنسانية التي تنسجها القرائح لاقتناص الشعور وتقريب الخيال تفقده في هذه الخاتمة الفاجعة؟ أي باعث من بواعث القصص الدامية بأحاسيسها ولواعجها لا يرتعد هنا ارتعادًا في كل فصل من فصولها، ومشهد من مشاهدها؟ يأس الكريم المغلوب وجرأة المحتال الغالب، وغرام المتهوس المجنون، وأريحية القتيل الموصي بمن اعتدى عليه، وحقد المرأة وخداع الجمال، وزيغ العقيدة، واستواء الإيمان، وفنون لا تحصى تجتمع من الشعور الموار واللهفة الدائمة في خاتمة حياة تسع ألف حياة.

•••

وهذه مزية عليٍّ بين خلفاء الإسلام قاطبة … ينفرد بها؛ لأنه انفرد بمثال من النفوس ومثال من العوارض الفردية والاجتماعية تؤلفه المصادفات في الأجيال الطوال، ولا تحسن أن تؤلفه بمشيئتها في كل جيل …

تلك حياة حي … وذلك مصرع شهيد …

١  البساتين.
٢  أطلق معاوية وأبوه من الأسر يوم فتح مكة.
٣  الأفوق هو السهم المكسور في موضع الوتر، والناصل العاري من النصل.
٤  وقد حدث هذا في عهد النبي — عليه السلام — إذ أوفد نهارًا الرجال؛ ليهدي قوم مسلمة فانقلب هناك مبشرًا بدينه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤