حُكُومَتُه

كانت الدولة الإسلامية الناشئة على شفا الخطر في إبان الفتنة الداخلية بين عليٍّ ومعاوية … ولكنها وقيت منه؛ لأن عوامل الأمان الذي يحيط بها كانت أقوى من عوامل الخطر الذي يهددها … وتتلخص عوامل الأمان في وقاءين اثنين:
  • أحدهما: أن الإسلام كان دعوة طبيعية تلقاها العالم وهو مستعد لها مستريح إليها، فرسخت دعائمه وامتنعت حدوده بعد أعوام قليلة من ظهوره، وسكن إليه الناس مؤمنين بدوام ظله وشمول عدله، سواءٌ منهم من دخل فيه ومن أوى إلى حكمه وهو باق على اعتقاده …
  • وثانيهما: أن أعداء الإسلام كانوا في شاغل عنه بما أصابهم من الوهن، وأحدق بهم من المخاوف، وربما صح في الفتنة الإسلامية يومئذ ما يصح في كثير من الطوارق التاريخية الكبرى، وهي أنها لن تكون شرًّا محضًا في جميع عواقبها، ولا تخلو من الخير على غير قصد من ذويها … فإن هذه الفتنة قد أغرت أعداء الإسلام بالانتظار، وأوقعت في روعهم أنهم غنيُّون عن التحفز والوثوب الذي يشق عليهم جهده، وهم في تلك الحالة من الجهد والإعياء … فقنعت دولة الروم بهجمات ضعيفة تلقاها معاوية بالجلد والأناة، وألهى القوم عنه ببعض الإتاوات والنوافل … فتراجعوا متربصين إلى أن يقضي الخلاف بين المسلمين قضاءه، وهم وادعون مكفيون شر القتال … فكان هذا الانتظار الخادع جانبًا من جوانب الخير في الفتنة الإسلامية، التي فاضت يومئذ بالشرور.

وعلى هذا انقضت أيام عليٍّ، وليس للحكومة الإسلامية سياسة خارجية تحسب من سياسة الفتوح، أو سياسة الدفاع، أو سياسة المفاوضة والاستطلاع …

وكل ما يدور الكلام عليه عن حكومة عليٍّ، فهو من قبيل سياسة الحكم بينه وبين رعاياه، أو هو السياسة الداخلية كما نسميها في العصر الحديث …

•••

ومن اليسير أن نعرف سياسة الإمام بينه وبين رعاياه، بغير حاجة إلى الإطالة في التعريف وسرد الأمثال …

لأنها سياسة الرجل الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية.

فنحن نتخذ ما شئنا من طريقين متقابلين، فإذا طريق عليٍّ هي طريق الخلافة المنزهة، حين تقابل الدولة الدنيوية مقابلة الخصم للخصم أو النقيض للنقيض، أو هي أقرب الطريقين إلى المساواة وأدناهما إلى رعاية الضعفاء …

فالناس في الحقوق سواء …

لا محاباة لقوي ولا إجحاف بضعيف، وقد عمد إلى القطائع التي وزعت قبله على المقربين والرؤساء، فانتزعها من القابضين عليها وردها إلى مال المسلمين لتوزيعها بين من يستحقونها على سنَّة المساواة، وقال: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة … ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.»

وفرض الرفق بالرعية على كل وال، فلا إرهاق ولا استغلال، ولو كانت الحكومة هي صاحبة الحق في المال.

فمن وصاياه المكررة لولاته: «أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنهم خزان الرعية … ولا تحسموا أحدًا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدًا، ولا تضربن أحدًا سوطًا لمكان درهم.»

ومن وصاياه في تحصيل الخراج والصدقات: «… امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه؟ … فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه … وإن أنعم لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه وتتوعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له … فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به … ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءن صاحبها فيها، وأصدع المال صدعين، ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء حق الله في ماله … فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله …»

وكان دستوره في تحصيل الضرائب المفروضة على الناس، أن النظر في عمارة الأرض أبلغ من النظر في استجلاب الضريبة، فكان يكتب إلى واليه: «تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله … فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحًا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم … لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن جلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلًا، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها إسراف الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر …»

أما دستوره في الولاة والعمال، فخلاصته ما كتب به إلى الأشتر النخعي يقول له: «انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارًا ولا تولهم محاباةً وأثرة … فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فإنهم أكثر أخلاقًا وأصح أعراضًا، وأقل في المطامع إسرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا … ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنًى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والعيون عليهم … فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.»

وعلى هذه العناية باستطلاع أحوال الولاة والعمال، كان ينهى أشد النهي عن كشف معائب الناس، أو كما كان يقول في وصية ولاته: «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس … فإن في الناس عيوبًا، الوالي أحق من سترها … فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك.»

وكان ينهى عن بطانة السوء مع حثه على اتخاذ العيون والجواسيس، فقال في وصيته لمحمد بن أبي بكر: «لا تدخلن في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يزين لك الشره بالجور … فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله … إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرًا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم … وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم» …

ولم ينكر قط شيئًا من سياسة التولية، ثم صنع مثله في عهده، على كثرة الإغراء حوله باصطناع التقية والمداراة والهوادة قليلًا مع الأقرباء وذوي الأخطار …

ومن زعم غير ذلك، من ناقديه في عصره أو بعد عصره، فإنما هو آخذ في المقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات …

إذ كان مما قيل مثلًا: إن عليًّا أقام عبد الله بن عباس على البصرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، ومحمد بن أبي بكر ابن زوجته على مصر … وهم أقرباؤه وخاصة أهله، فهو إذن يصنع ما أنكره على حكومة عثمان من إيثار الأقرباء بالولايات، وإقصاء الآخرين عنها …

ولكنها كما قلنا مقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات؛ لأن المقارنة الصحيحة بين العملين تسفر عن فارق بعيد كالفارق بين النقيض والنقيض …

فبنو هاشم لم يكن لهم متسع لعمل أو ولاية في غير حكومة الإمام، ولم يكن للإمام معتمد على غيرهم بعد أن حاربته قريش، وشاعت الفرقة والشغب بين أعوانه من أبناء الأمصار …

وهم مع هذا لم يؤثروا بالولايات كلها، ولم يؤثروا بالذي خصهم منها ليستغلوه ويجمعوا الثراء من غنائمه وأرزاقه … بل كانوا يحاسبون على ما في أيديهم أعسر حساب، وكانوا لتضييقه عليهم في المراقبة يتركون ولاياتهم ويستقيلون منها، كما فعل ابن عباس حين هجر البصرة إلى مكة …

وقد بلغ من حسابه للولاة أنه كان يحاسبهم على حضور الولائم التي لا يجمل بهم حضورها … فكتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة: «أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلًا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة … فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان … وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم … فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.»

واستكثر على شريح قاضيه أن يبني دارًا بثمانين دينارًا، وهو يرزق خمسمائة درهم … وحاسب على أقل من هذا من هو أقل من شريح أمانةً في القضاء، وحرجًا في الدين …

فلو أن الإمام اختص أقرباءه بالولايات التي يحاسبون عليها هذا الحساب، لما كان في اختصاصه إياهم مستبيح حق، ولا مستبيح مال … فكيف وهو لا يختصهم إلا بالقليل منها، ولا يختصهم وله مندوحة عنهم، أو يختصهم وهم دون غيرهم في القدرة والأمانة؟

فالمقارنة هنا مقارنة أشكال وحروف، وكل ما توحي إلى الناقد بها أنه يذكر الأقرباء هنا والأقرباء هناك …

وقد انقسمت طريق الخلافة، وطريق الدولة الدنيوية في كل أمر من الأمور على عهد الإمام، ولم تنقسم في مسألة الولاة أو مسألة الاستغلال وكفى.

وأكبر ما يذكر من انقسام الطريقين في عهده قيام الفكرة العالمية إلى جانب العصبية بالقبيلة أو بالوحدة الوطنية …

فالدولة الدنيوية تشد أزرها بالعصبية الجنسية، والخلافة الدينية تشد أزرها بالإخاء بين الشعوب، وبطلان الفوارق بين الأجناس …

وقد كانت القبيلة من أنصار الإمام، تقاتل القبيلة من أنصار معاوية في سبيل الرأي والعقيدة …

وكان أنصار الإمام أبدًا من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة، وبين بني هاشم على الأخص، وبين قبائل العرب على التعميم …

وهذا الامتزاج بين الفكرة العالمية وبين إمامة عليٍّ أو خلافته، هو أقطع الأدلة على الوحدة بين أوانه وأوان الخلافة … فإذا ذهب هذا وجب أن يذهب ذاك، أيًّا كانت السياسة المتوخاة، وبالغًا ما بلغ نصيبها من السداد والصواب …

ولنا أن نعمم هذا الحكم الإنساني في كل شأن من شئون الحكومة، قضى به عليٌّ في عهده أو عهود الخلفاء من قبله …

فالروح الإنساني هو قوام الحكومة الإمامية، كما ينبغي أن يكون، وهو قوامها كما كانت على يديه جهد الطاقة الآدمية … وهي طاقة لها ما لها من حدود.

جيء إلى عمر بن الخطاب بامرأة زانية يشتبه في حملها، فاستفتى الإمام … فأفتى بوجوب الإبقاء عليها حتى تضع جنينها، وقال له: «إن كان لك سلطان عليها، فلا سلطان لك على ما في بطنها.»

وانتزع امرأة من أيدي الموكلين بإقامة الحد عليها … وسأله عمر فقال: «أما سمعت النبي يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل؟» قال: «بلى.» قال: «فهذه مبتلاة بني فلان … فلعله أتاها وهو بها.» قال عمر: «لا أدري.» قال: «وأنا لا أدري.» فترك رجمها للشك في عقلها …

وأتي عمر بامرأة أجهدها العطش، فمرَّت على راع فاستسقته فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها … ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال عليٌّ: «هذه مضطرة إلى ذلك … فخل سبيلها.»

وهذه أمثلة قليلة من أمثلة كثيرة في القصاص وتفسير الشريعة …

إلا أنه قد حاد عن هذه السنة في أمر واحد خالفه فيه بعض فقهاء عصره، ومنهم ابن عمه عبد الله بن عباس.

وذلك هو إحراقه الروافض الذين عبدوه ووصفوه بصفات الآلهة، وأبوا أن يتوبوا عن ضلالتهم مرة بعد مرة، وقيل: إنهم أصروا على عنادهم وهم يحرقون … فاتخذوا من تعذيبه لهم بالنار دليلًا على أنه هو الإله المعبود … إذ لا يعذب بالنار إلا الله.

فهؤلاء المفسدون المفتونون، قد استحقوا عقوبة الموت بقضاء الشريعة وقضاء الدولة، التي لا يقوم لها نظام على هذه الضلالة … ولكن الإحراق بالنار صرامة لا توجبها ضرورة العقاب، وليس في اجتنابها خطر على الشريعة، ولا على النظام …

إنما شفيع الإمام في هذه الصرامة أنه كان هو المستهدف لتلك الضلالة، وهو مظنة الريبة في الهوادة فيها … فهو ينزه عدله عن كل ظن، حيث تظن بالهوادة جميع الظنون، وقد أحرق الذين ألَّهوه … ونهى عن قتال الخوارج الذين حكموا بكفره، إلا أن يفسدوا في الأرض أو يبدءوا بالعدوان على بريء، وفي هذا الإنصاف بين مؤلِّهيه ومكفريه شفاعة من تلك الصرامة في العقاب.

وكان الإمام يذكر أبدًا في حكومته أن الحقوق العامة لها شأن لا ينسى مع حقوق الأفراد …

ومن ذلك ما نقله الطبري عن بعض الأسانيد، حيث قال: «رأيت عليًّا — عليه السلام — خارجًا من همدان، فرأى فتيين يقتتلان ففرق بينهما … ثم مضى فسمع صوتًا: يا غوثا بالله فخرج يحضر نحوه حتى سمعت خفق نعله، وهو يقول: «أتاك الغوث.» فإذا رجل يلازم رجلًا، فقال: «يا أمير المؤمنين … بعت هذا ثوبًا بتسعة دراهم وشرطت عليه ألا يعطيني مغموزًا ولا مقطوعًا، فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها لي فأبى فلزمته فلطمني.» فقال: «أبدله.» ثم قال: «بينتك على اللطمة.» فأتاه بالبينة … قال: «دونك فاقتص.» قال: «إني قد عفوت يا أمير المؤمنين.» قال: «إنما أردت أن أحتاط في حقك» … ثم ضرب الرجل تسع درات، وقال: «هذا حق السلطان».»

وكان يكرر هذا الحكم في كل ما شابهه من أمثال هذا العدوان، وهو أشبه المذاهب بمذهب الحكومات العصرية في القصاص.

ويقال الكثير عن مناهج الإمام في الحكومة وسياسة الرعية، مما يغني فيه هذا الإجمال عن التوسع في التفصيل …

ولكن الذي لا ينسى في سياق الكلام عن الإمامة والدعوة العالمية، أنه — رضي الله عنه — كان أول من خرج بالعاصمة من المدينة إلى أرض غير أرض الحجاز، وهو الحجازي سليل الحجازيين …

وقد اختار الكوفة، فكانت أوفق عاصمة للإمامة العالمية في تلك المرحلة من مراحل الدولة الإسلامية …

لأنها كانت ملتقى الشعوب من جميع الأجناس، وكانت مثابة التجارة بين الهند وفارس واليمن والعراق والشام، وكانت العاصمة الثقافية التي ترعرعت فيها مدارس الكتابة واللغة والقراءات والأنساب والأفانين الشعرية والروايات … فهي أليق العواصم في ذلك العصر بحكومة إمام، وما زالت الإمامة لاحقة بعليٍّ ومحيطة به حيث تحول وحيث أقام …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤