النبيُّ والإمام والصحابة

أحاديث النبي — عليه السلام — في فضل عليٍّ ومحبته متواترة في كتب الحديث المشهورة … منها ما انفرد به، وهو حديث الخيمة الذي رواه الصديق — رضي الله عنه — حيث قال: «رأيت رسول الله خيم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: معشر المسلمين … أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لما حاربهم، وليٌّ لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء الولادة.»

ومنها ما اشترك فيه وغيره، وهو الذي روته السيدة عائشة حيث سئلت: «أي الناس أحب إلى رسول الله ؟ … قالت: فاطمة! … فقيل: من الرجال؟ … قالت: زوجها … إن كان ما علمت صوَّامًا قوَّامًا.»

وقد روي حديث في هذا المعنى، حيث سئل رسول الله عن أحب الناس إليه، فقال: «من النساء عائشة، ومن الرجال أبوها.»

ولا تناقض بين الحديثين، إذ كانت السيدة عائشة هي التي تروي الحديث الأول، وتخرج من كلامها كما يخرج المتكلم من عموم كلامه، أو كانت تروي عن أقرباء النبي من لحمه ودمه، فتقول ما تعلم عن غيرها.

وهذان نموذجان من الأحاديث النبوية في فضل عليٍّ ومحبته ومنزلته عند الله ونبيه، وهي تعد بالعشرات.

وأصحاب المذاهب يختلفون في تأويل هذه الأحاديث، وفي أسانيدها، ويوجهونها حيث اتجهوا من التشيع للإمام أو التشيع عليه … وهو شرح طويل لا يهمنا منه هنا أن ننصر فيه فريقًا على فريق، أو نرجح مذهبًا على مذهب … إذ ليس فهم الإمام موقوفًا على تغليب أي الفريقين وتعزيز أي المذهبين، وفهم الإمام على حقيقته النفسية والتاريخية هو كل ما نعنيه …

فمهما يختلف الرواة في تأويل الأحاديث، فالذي يسعك أن تجزم به من وراء اختلافهم، أن عليًّا كان من أحب الناس إلى النبي، إن لم يكن أحبهم إليه على الإطلاق …

لقد كان النبي — عليه السلام — يغمر بالحب كل من أحاط به من الغرباء والأقربين … فأي عجب أن يخص بالحب من بينهم إنسانًا، كان ابن عمه الذي كفله وحماه، وكان ربيبه الذي أوشك أن يتبناه، وكان زوج ابنته العزيزة عنده، وكان بديله في الفراش ليلة الهجرة التي همَّ المشركون فيها بقتل من يبيت في فراشه، وكان نصيره الذي أبلى أحسن البلاء في جميع غزواته، وتلميذه الذي علم من فقه الدين ما لم يعلمه ناشئ في سنِّه؟ …

حب النبي لهذا الإنسان حقيقة لا حاجة بها إلى تأويل الرواة ولا إلى تفسير النصوص؛ لأنها حقيقة طبيعية، أو حقيقة بديهية قائمة من وراء كل خلاف …

ومما لا خلاف فيه كذلك، أنه — عليه السلام — كان لا يكتفي بحبه إياه … بل كان يسره ويرضيه أن يحبِّبه إلى الناس، وكان يسوءُه ويغضبه أن يسمع من يكرهه ويجفوه …

بعث رسول الله عليًّا في سرية ليقبض الخمس، فاصطفى منه سبية، واتفق أربعة من شهود السرية أن يبلغوا ذلك إلى رسول الله، وكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدءوا بالرسول، فسلموا عليه وأبلغوه ما عندهم، ثم انصرفوا إلى رحالهم … فقام أحد الأربعة وحدث الرسول بما رأى فأعرض عنه، وظن أصحابه أنه لم يسمعه … فتناوبوا الحديث واحدًا بعد واحد في معنى كلامه، فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول الله وقد تغير وجهه فقال: «ما تريدون من عليٍّ؟ … ما تريدون من عليٍّ؟ … ما تريدون من عليٍّ؟ عليٌّ مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي.» وقال لأحدهم في روايات أخرى: «أتبغض عليًّا؟» قال: «نعم!» قال: «لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك، أي: أكثر من السبية التي اصطفاها … لا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبًّا.»

•••

وبعث رسول الله عليًّا إلى اليمن، فسأله جماعة من أتباعه أن يركبهم إبل الصدقة ليريحوا إبلهم، فأبى … فشكوه إلى رسول الله بعد رجعتهم، وتولى شكايته سعد بن مالك بن الشهيد، فقال: «يا رسول الله … لقينا من عليٍّ من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق …» ومضى يعدد ما لقيه، حتى إذا كان في وسط كلامه ضرب رسول الله على فخذه، وهتف به: «يا سعد بن مالك بن الشهيد، بعض قولك لأخيك عليٍّ؟ فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله.»

وشكا بعض الناس مثل هذه الشكوى، فقام رسول الله فيهم خطيبًا يقول لهم: «أيها الناس … لا تشكوا عليًّا، فوالله إنه لجيش في ذات الله.»

ويلوح لنا أن النبي — عليه السلام — كان يحب عليًّا ويحببه إلى الناس؛ ليمهد له سبيل الخلافة في وقت من الأوقات، ولكن على أن يختاره الناس طواعيةً وحبًّا … لا أن يكون اختياره من حقوق العصبية الهاشمية، فإنه — عليه السلام — قد اتقى هذه العصبية جهد اتقائه، ولم يحذر خطرًا على الدين أشد من حذره أن يحسبها الناس سبيلًا إلى الملك والدولة في بني هاشم، وقد حرم نفسه الشريفة حظوظ الدنيا وأقصى معظم بني هاشم عن الولاية والعمالة؛ لينفي هذه الظنة … ويدع الحكم للناس يختارون من يرضونه له بالرأي والمشيئة.

فالتزم في التمهيد لعليٍّ وسائل ملموحة لا تتعدى التدريب والكفالة إلى التقديم والوكالة، أرسله في سرية إلى فدك لغزو قبيلة بني سعد اليهودية، وأرسله إلى اليمن للدعوة إلى الإسلام، وأرسله إلى منًى ليقرأ على الناس سورة براءة، ويبين لهم حكم الدين في حج المشركين وزيارة بيت الله، وأقامه على المدينة حين خرج المسلمون إلى غزوة تبوك … ولم يفته مع هذا كله أن يلمح الجفوة بينه وبين الناس، وأن يكله إلى السن تعمل عملها مع الأيام، ويكلهم في شأنه إلى ما ارتضوه، عسى أن تسنح الفرصة لمزيد من الألفة بينهم وبينه.

هذه فيما نعتقد أصح علاقة يتخيلها العقل، وتنبئ عنها الحوادث بين النبي وابن عمه العظيم …

•••

وربما كانت أصح العلاقات المعقولة؛ لأنها هي وحدها العلاقة الممكنة المأمولة، وكل ما عداها فهو بعيد من الإمكان بعده من الأمان.

فهو يحبه ويمهد له وينظر إلى غده، ويسره أن يحبه الناس كما أحبه، وأن يحين الحين الذي يكلون فيه أمورهم إليه …

وكل ما عدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول …

ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة …

وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة …

وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك، ثم لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع …

وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره، إنهم لا يريدون ذلك مخلصين، وإنهم إن أرادوه لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين، وإنهم إن استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين …

فكل أولئك ليس بالممكن، وليس بالمعقول …

وإنما الممكن والمعقول هو الذي كان، وهو الحب والإيثار، والتمهيد لأوانه، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان.

أما العلاقة بين عليٍّ وسائر الصحابة من الخلفاء وغير الخلفاء، فهي علاقة الزمالة المرعية، والتنافس الذي يثوب إلى الصبر والتجمل والتقية …

فليس فيما لدينا من الأخبار والملامح ما يدل على ألفة حميمة بينه وبين أحد من الصحابة المشهورين، وليس فيها كذلك ما يدل على عداوة وبغضاء … بل ليس في أخباره جميعًا ما يدل على طبيعة تحقد على الناس، وإن دلت أحيانًا على طبيعة يحقد الناس عليها ويفرطون.

فمن المعلوم أن عليًّا كان يرى أنه أحق بالخلافة من سابقيه، وأنه لم يزل مدفوعًا عن حقه هذا منذ انتقل النبي — عليه السلام — إلى الرفيق الأعلى، واحتج المهاجرون على الأنصار في أمر الخلافة بالقرابة منه — صلوات الله عليه. قال: «ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله فلجوا١ عليهم … فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم، وإن بغيره فالأنصار على دعواهم.»

كذلك كان رأيه في الخلافة يوم بويع بها الصديق، ثم بويع بها الفاروق، ثم بويع بها عثمان …

وجاءت قضية الإرث بعد قضية الخلافة في أوائل عهد الصديق، فباعدت الفرجة بين القلوب، وأطالت العزلة بين الأصحاب … وخلاصة هذه القضية، أن فاطمة والعباس — رضي الله عنهما — طلبا ميراثهما في أرض فدك وسهم خيبر، فذكر لهما الصديق حديث النبي عن إرث الأنبياء، ونصه في روايته: «نحن — معاشر الأنبياء — لا نورث … ما تركناه فهو صدقة … إنما يأكل آل محمد من هذا المال.»

فغضبت فاطمة، ولم تكلمه حتى ماتت … ودفنها عليٌّ ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر … وقيل: إن عليًّا تخلف عن البيعة ستة أشهر إلى ما بعد وفاتها، ثم أرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد … وتلقاه وعنده بنو هاشم، فقال: «إنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقًّا فاستبددتم به علينا.»

ومع هذا اليقين الراسخ عنده في حقه وحق غيره، نرجع إلى سيرته وأحاديثه … فنرى ولا ريب أنها أقل ما تشعر به النفس الإنسانية في هذه الحالة من النفرة والنقمة، ولا نجد في خطبه ومساجلاته التي ذكر فيها الخلفاء السابقين كلمة تستغرب من مثله، أو يتجاوز بها حد الحجة التي تنهض بحقه … بل الغريب أنه لزم هذا الحد ولم يجاوزه إلى جمحة غضب تفلت معها بوادر اللسان، ولو جاوزه لكان عاذروه أصدق من لائميه …!

•••

وقد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه ومقاله، ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم … ولكنه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رمي بها كما يأنف العزيز الكريم، وفي ذلك يقول من خطاب إلى معاوية: «ذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلك.»

وأولى أن يقال: إن دلائل وفائه في حياتهم، وبعد ذهابهم، كان أظهر من دلائل جفائه، فإنه احتضن ابن أبي بكر محمدًا وكفله بالرعاية ورشحه للولاية، حتى حسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله، وقد سمى ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء الذين سبقوه، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان …

ويخطئ جدًّا من يتخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلًا على كراهيته لعمر أو نقمةً منه في أبنائه … فقد أسرع عبيد الله بن عمر إلى الهرمزان، فقتله انتقامًا لأبيه، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البينة القاطعة عليه، فلما استفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه، ولم يغير رأيه حين تغير رأي عثمان، فأعفاه من جريرة عمله … لأنه هو الرأي الذي استمده من حكم الشريعة كما اعتقده وتحراه، وبهذا الرأي دان قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فأوصى وكرر الوصاية ألا يقتلوا أحدًا غيره لمظنة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه.

وإنك لن تجد إنسانًا أعرف بالعهد، ولا أصون له ممن يتذاكره في حومة الحرب، ويرى أن التذكير به ينزع السلاح من الأيدي، ويعود بالخصمين المتناجزين إلى الصفاء والإخاء …

فما حارب عليٌّ عدوًّا له سابقة مودة به إلا أن يذكره بتلك السابقة، ويستنجد بالصداقة الأولى فيه على العداوة الحاضرة.

ومن ذلك موقفه مع الزبير وطلحة في وقعة الجمل، وهما ملحان في حربه وإنكار بيعته …

فخرج حاسرًا لا يحتمي بدرع ولا سلاح، ونادى: يا زبير، اخرج إليَّ … فخرج إليه شاكًّا في السلاح، وسمعت السيدة عائشة فصاحت: وا حرباه! … إذ كان خصم عليٍّ مقضيًّا عليه بالموت كائنًا ما كان حظه من الشجاعة والخبرة بالنضال.

فلما تقابل عليٌّ والزبير اعتنقا، وعاد عليٌّ يسأله: «ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟ …»

قال: «دم عثمان.»

قال: «قتل الله أولانا بدم عثمان.»

وجعل يذكره عهوده وعهود رسول الله، ومنها مقالة النبي: «والله ستقاتله وأنت له ظالم.»

فاستغفر الزبير وقال: «لو ذكرتها ما خرجت.»

•••

ولما وقف عليٌّ على جثة طلحة بكى أحر بكاء، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو يقول: «عزيز عليَّ أن أراك أبا محمد مجندلًا تحت نجوم السماء.» وتمنى لو قبضه الله قبل هذا اليوم بعشرين سنة …

والمودة عند فارس كعليٍّ عهد محفوظ وموثق مذكور، إن فاتها أن تكون حنان قلب أو ألفة شعور.

ويخيل إلينا أنه لم يرزق قط صداقة الألفاء الذين يرعاهم ويرعونه؛ لأنه يحبهم ويحبونه، ولكنه عامل الناس وعاملوه على سنَّة العهود وديدن الفروسية، فلم تزل بينه وبينهم إيماءة إلى سلاح مغمد أو سلاح مشهور.

ومثل عليٍّ لا يرزق صداقة الألفاء؛ لأنه من أصحاب المزايا التي تغري بالمنافسة أو بالحسد ولا تحميها المنافع ولا المسايرة والمداراة.

فهو شجاع، عالم، بليغ، ذكي، موصول النسب بأعرق الأرومات … فإن لم يحسد هذا، فمن يحسد؟ …

وإن حسد، فما الذي يفل من غرب حاسديه؟ … وما الذي يفيء بهم إلى القصد في عدائه والتأليب عليه؟ …

•••

إنهم يستبعدون يومه في الإمارة والسلطان، وإذا استقربوا يومه في الإمارة والسلطان، فلا مطمع لهم في النفع على يديه وهو قوام بالقسط على الأموال والحقوق، فنصيبه إذن منهم نصيب المحسود الذي لا رجاء له في هوادة من حاسديه، وليس أحقد من الناس على صاحب عظمة لم يطمعوا في نفعه ولم يزالوا على طمع في النفع من خصومه، وبليته بهم أكبر وأدهى حتى لا يصطنع الدهان ولا يعمد معهم إلى الختل والروغان … على أنه لو داهنهم وراوغهم لما اغتفروا له ذنب العظمة التي لا تحميها حماية من طمع أو نكاية، أو كما قال الحكيم الغربي: «إن نسي أنه أسد لم ينسوا أنهم كلاب.»

وهكذا فُرضت على الرجل العظيم ضريبة العظمة الغريبة في ديارها وبين آلها وأنصارها …

فالعلاقة بينه وبين كرام الصحابة، كانت علاقة الزمالة التي ينوب فيها الواجب مناب الألفة …

والعلاقة بينه وبين الخصوم، كانت علاقة حسد غير مكفوف، وبغض غير مكتوم …

والعلاقة بينه وبين سواد العامة، كانت علاقة غرباء يجهلونه ولا ينفذون إلى لبابه، وإن قاربه أناس معجبين، وباعده أناس نافرين …

وتلك أيضًا آية الشهيد …

١  فلجوا: أي انتصروا عليهم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤