ثقافته

ألسنة الخلق أقلام الحق …

كلمة سائغة ليس أصدق منها إن صدقت، وهي صدق في كثير من الأحيان …

ونحن نعلم صدقها الأصيل حين نسمع الكلمة من هذه الكلمات، التي ينقلها لسان عن لسان ويتلقاها جيل عن جيل، فيخيل إلينا أنها خاطر عابر يسمع ويستملح ويشفع له القدم … فنقبله كرامةً له كما نقبل الثمين والغث أحيانًا من وقار المشيب، ولكنه بعد كل هذا لا يثبت على النقد ولا يصبر على مراجعة العلم والقياس، ثم نعرضه اتفاقًا على العلم والقياس … فإذا به قد احتمل من النقد العسير ما ليست تحتمله آراء العلماء وقضايا الحكماء، وإذا بالخطأ في هذه القولة الشائعة، أو في هذا اللقب المرتجل أقل من كل خطأ يحصى على كل مخلوق …

من هذه الألقاب الشائعة، لقب الإمام الذي اختص به عليٌّ بين جميع الخلفاء الراشدين، والذي يطلق إذا أطلق فلا ينصرف إلى أحد غيره، بين جميع الأئمة الذين وسموا بهذه السمة من سابقيه ولاحقيه …

ولم وليس هو بفرد في الإمامة بجملة معانيها؟ …

ألم يكن الصديق إمامًا كعليٍّ؟ … ألم يكن الفاروق إمامًا كعليٍّ؟ … ألم يكن عثمان إمامًا كعليٍّ؟ … ألم يكونوا خلفاء راشدين إذا قصدت الخلافة الراشدة بعد النبوة؟ …

بلى كانوا أئمة مثله، وسبقوه في الإمامة …

ولكن الإمامة يومئذ كانت وحدها في ميدان الحكم بغير منازع ولا شريك، ولم يكتب لأحد منهم أن يحمل علم الإمامة؛ ليناضل به علم الدولة الدنيوية، ولا أن يتحيز بعسكر يقابله عسكر، وصفة تناوئها صفة، ولا أن يصبح رمزًا للخلافة يقترن بها ولا يقترن بشيء غيرها … فكلهم إمام حيث لا اشتباه ولا التباس، ولكن الإمام بغير تعقيب ولا تذييل هو الإمام كلما وقع الاشتباه والالتباس …

وذاك هو عليُّ بن أبي طالب، كما لقبه الناس وجرى لقبه على الألسنة … فعرفه به الطفل وهو يسمع أماديحه المنغومة في الطرقات، بغير حاجة إلى تسمية أو تعريف …

•••

وخاصة أخرى من خواص الإمامة، ينفرد بها عليٌّ ولا يجاريه فيها إمام غيره، وهي اتصاله بكل مذهب من مذاهب الفرق الإسلامية منذ وجدت في صدر الإسلام، فهو منشئ هذه الفرق أو قطبها الذي تدور عليه، وندرت فرقة في الإسلام لم يكن عليٌّ معلمًا لها منذ نشأتها، أو لم يكن موضوعًا لها ومحورًا لمباحثها، تقول فيه وترد على قائلين.

وقد اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الكلام والتوحيد، كما اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الفقه والشريعة، وعلماء الأدب والبلاغة … فهو أستاذ هؤلاء جميعًا بالسند الموصول …

أما الفرق التي جعلته موضوعًا لها ومحورًا لمباحثها، فحسبك أن تذكر الخوارج والروافض والشيعة والناصبين وأهل السنَّة، فتكون قد ذكرت جميع الفرق الإسلامية بلا استثناء أو باستثناء جد يسير.

وهنا تشتبك الفروع وتتأشب الأفانين، فترى الفرقة الواحدة مزيجًا من التصوف والسياسة، كالباطنة على اختلافها … وقد تترامى بها الفروع حتى تصل إلى القائلين بمذهب الباب أو مذهب البهاء، وهم طرف مقطوع أو موصول، من بعض تلك الأصول …

فالإمام أحق لقب به، وهو أحق الأئمة بلقب الإمام! …

ولقد كانت له آية من آيات الشهداء في كثير من صفاته، وكثير من معارض حياته، وطوارئ أوقاته …

وكانت له في الإمامة آية أخرى من هذه الآيات …

فآية الشهداء أنهم يبخسون حقهم في الحياة، ثم يعطون فوق حقوقهم بعد الممات …

أو هم يعرضون لنا عجائب الدنيا في إقبالها وإدبارها، كما قال الإمام — رضي الله عنه: «إنها إذا أدبرت عن إنسان سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه أعارته محاسن غيره.»

وكذلك اتفق للإمام في صفة الإمامة، كما اتفق له في معظم الصفات …

فقلَّ أن سمعنا بعلم من العلوم الإسلامية أو العلوم القديمة لم ينسب إليه، وقلَّ أن تحدث الناس بفضل لم ينحلوه إياه، وقلَّ أن توجه الثناء بالعلم إلى أحد من الأوائل إلا كانت له مساهمة فيه …

نحلوه ديوانًا من الشعر فيه عشرات من القصائد، وليس بينها إلا عشرات من الأبيات تصح نسبتها إليه …

ونحلوه علمًا سموه علم «الجفر» وزعموا أنه علم النجوم والأزياج، الذي يكشف عن حوادث الغيب إلى آخر الزمان.

ونحلوه مقامات تخلو من أشيع الحروف في الكلمات وهي حرف الألف، ولا يعقل أن تظهر أشباه هذه المقامات قبل عصر الصناعة في أيام العباسيين وما تلاها …

ونحلوه من مصطلحات علم الكلام أقوالًا لم تعرف، ولا يعقل أن تعرف قبل ترجمة المفردات الإغريقية بما لها من غرائب النحت والاشتقاق.

وبعض ما نحلوه يزيده قدرًا ويرفعه شأنًا، ألَّا تصح نسبته إليه …!

وبعض ما بقي له غير مشكوك فيه ولا مختلف عليه … كاف لتعظيم قدره وإثبات إمامته في عصره، وبعد عصره.

وعندنا أنه — رضي الله عنه — كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقد عليم بصير، يعرف اختلاف مذاهب القول، واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب، ومن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنه سئل: «من أشعر الناس؟» قال: «إن القوم لم يجروا في حلقة تعرف الغاية عند قصبتها … فإن كان ولا بد فالملك الضليل.»

وهذا فيما نعتقد أول تقسيم لمقاييس الشعر على حسب «المدارس» والأغراض الشعرية بين العرب، فلا تكون المقابلة إلا بين أشباه وأمثال، ولا يكون التعميم بالتفضيل إلا على التغليب.

لكنه — رضي الله عنه — لم يرزق ملكة الإجادة في شعره، والنبي — عليه السلام — يرى ذلك حيث سألوه أن يأذن لعليٍّ في هجاء المشركين، فقال: «ليس بذاك» … وأحالهم إلى حسان بن ثابت، وندب له من يبصره بمثالب القوم …

وكل شعره الذي رجحت نسبته إليه من قبيل هذه الأبيات، التي وصف فيها قبيلة همدان في وقعة صفين:

ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا
فوارسها حمر النحور دوام
وأعرض نقع في السماء كأنه
عجاجة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند في الكلاع وحمير
وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هم هم
إذا ناب دهر جنتي وسهامي
فجاوبني من خيل همدان عصبة
فوارس من همدان غير لئام
فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها
وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام
فلو كنت رضوانًا على باب جنة
لقلت لهمدان: ادخلوا بسلام

أو من قبيل هذه الأبيات:

محمد النبي أخي وصهري
وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحي
يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي
منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها
فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرًّا
صغيرًا ما بلغت أوان حلمي
وصليت الصلاة وكنت فردًا
فمن ذا يدعي يومًا كيومي

وقد نظم شعرًا ولا ريب، كما يدل سؤالهم النبي — عليه السلام — أن يأذن له في هجاء من هجاهم، ولم ينسب إليه شعر … صح أو لم يصح، أجود مما قدمناه، وليس فيه ما يسلكه بين المجودين من الشعراء، أو يلحق بطبقته بين الكتاب والخطباء …

•••

أما كتاب الجفر أو علم الجفر، فالقول الفصل فيه أقرب من القول الفصل في جميع ما نحلوه وأضافوا إليه … فمثل عليٍّ في تقواه وفضله، لا يشتغل بعلم مزعوم هو السحر القديم بعينه، وليس هو مما يليق بورعه ولا ذكائه، وقد نهى وشدد النهي عن تعلم النجوم واستطلاع الغيب بأمثال هذه العلوم، ومن المحقق الذي لا خلجة فيه من الشك عندنا أن النبوءات التي جاءت في نهج البلاغة عن الحجاج بن يوسف، وفتنة الزنج وغارات التتار وما إليها، هي من مدخول الكلام عليه …

ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أو طويل … ولا نجزم مثل هذا الجزم في أمر المقامات التي خلت من بعض الحروف؛ لأن العقل لا يمنعها قطعًا كما يمنع استطلاع الغيب المفصل من أزياج النجوم، ولكننا نستبعد جدًّا أن تكون هذه المقامات من كلام الإمام لاختلاف الأسلوب واختلاف الزمن، وحاجة النسبة هنا إلى سند أقوى من السند الميسر لنا بكثير.

وكذلك نستبعد أنه قال لكاتبه ليظهر علمه بغريب اللغة: «ألصق روانفك بالجبوب وخذ المزبر بشناترك، واجعل حندورتيك إلى قيهلي حتى لا أنفي نفية إلا أودعتها بحماطة جلجلانك.»

أي: «ألصق مقعدك بالأرض وخذ القلم بما بين أصابعك، واجعل عينيك إلى وجهي حتى لا ألفظ بلفظة إلا وعيتها في سواد قلبك.»

فإن الولع بإظهار العلم بالغريب بدعة لم تعرف في صدر الإسلام، ولم يلتفت الناس إلى ادعائها إلا بعد استعجام العرب وندرة العارفين بفصيح العربية وغيرها على السواء.

ومثل هذا، ما نسبوه إليه حيث زعموا أنه قال: «ما تربعلبنت قط.» أي: ما شربت اللبن يوم الأربعاء، و«ما تسبتسمكت قط.» أي: ما أكلت السمك يوم السبت «وما تسرولقمت قط.» أي: ما لبست السراويل قائمًا … إلى أشباه هذه المخترعات التي تستغرب لفظًا ومعنًى واعتقادًا من رجل كالإمام في صدر الإسلام.

•••

إلا أننا نسقطها جميعًا، فلا نسقط بها فضلًا ترجح به موازين الإمام في حساب الثقافة … بل نحسبها فضلًا — إن شئنا — ونسقطها، فيبقى له بعدها السهم الراجح في تلك الموازين …

تبقى له الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي، والقضاء الإسلامي، والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي، وفن الكتابة العربية … مما يجوز لنا أن نسميه أساسًا صالحًا لموسوعة المعارف الإسلامية في جميع العصور، أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول من الإسلام.

وتبقى له مع هذا فرائد الحكمة التي تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور …

ففي كتاب نهج البلاغة، فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكمة التوحيد، وربما تشكك الباحث في نسبة بعضها إلى الإمام لغلبة الصيغة الفلسفية عليها، وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات، ولكن الذي يقرؤه الباحث ولا يشك في نسبته إلى الإمام، أو في جواز نسبته إليه، قسط واف لتحقيق رأي القائلين بسبق الإمام في مضمار علم الكلام، واعتراف المعترفين له بالأستاذية الرشيدة لكل من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات. وهو على جملته خير ما يعرف به المؤمن ربه وينزه به الخالق في كماله، ومن أمثلته قوله: «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالًا، فيكون أولًا قبل أن يكون آخرًا، ويكون ظاهرًا قبل أن يكون باطنًا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد عنها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره باطن، وكل باطن غيره ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوف من عواقب زمان، ولا استعانة على من شاور، ولا شريك مكاثر، ولا ضد منافر، ولكن خلائق مربوبون وعباد داخرون — أي: ضارعون — لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن، لم يؤده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقف به عجز عما خلق، ولا ولجت عليه شبهة فيما مضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم وأمر مبرم …»

أما القضاء والفقه، فالمشهور عنه أنه كان أقضى أهل زمانه، وأعلمهم بالفقه والشريعة … أو لم يكن بينهم من هو أقضى منه وأفقه وأقدر على إخراج الأحكام من القرآن والحديث والعرف المأثور. وكان عمر بن الخطاب يقول كلما استعظم مسألة من مسائل القضاء العويصة: قضية ولا أبا الحسن لها؛ لأنه كان في هذه المسائل يتجاوز التفسير إلى التشريع، كلما وجب الاجتهاد بالرأي الصائب والقياس الصحيح …

وفي أخباره، ما يدل على علمه بأدوات الفقه كعلمه بنصوصه وأحكامه … ومن هذه الأدوات علم الحساب، الذي كانت معرفته به أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث؛ لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازًا تكد في حلها العقول، فيقال: إن امرأة جاءت إليه وشكت إليه أن أخاها مات عن ستمائة دينار، ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد … فقال لها: لعله ترك زوجة وابنتين وأمًّا واثني عشر أخًا وأنت؟ … فكان كما قال.

وسئل يومًا في أثناء الخطبة عن ميت ترك زوجة وأبوين وابنتين، فأجاب من فوره: صار ثمنها تسعًا، وسميت هذه الفريضة بالفريضة المنبرية؛ لأنه أفتى بها وهو على منبر الكوفة …

وفي هذه الإجابات، دليل على الذكاء وسرعة البديهة … فضلًا عن الدلالة الظاهرة على العلم بالمواريث والحساب …

وإذا قيل في قضائه: إنه لم يكن أقضى منه بين أهل زمانه، صح أن يقال في علم النحو: إنه لم يكن أحد أوفر سهمًا في إنشاء هذا العلم من سهمه. وقد تواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب، فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولًا منها: أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل … وأن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر … وإنما تتفاوت العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر … يعني اسم الإشارة على قول بعض النحاة، ثم قال لأبي الأسود: انح هذا النحو يا أبا الأسود … فعرف العلم باسم النحو من يومها.

وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية، ولا سيما السريانية واليونانية … ولكن الروايات العربية لا تنتهي بنا إلى مصدر أرجح من هذا المصدر، وغيرها من الروايات الأجنبية والفروض العلمية لا يمنع عقلًا أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم، التي تغشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم، وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية.

وليس الإمام عليٌّ أول من كتب الرسائل، وألقى العظات، وأطال الخطب على المنابر في الأمة الإسلامية …

ولكنه ولا ريب أول من عالج هذه الفنون معالجة أديب، وأول من أضفى عليها صبغة الإنشاء الذي يقتدى به في الأساليب … لأن الذين سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلغين لا صياغة منشئين، ويقصدون إلى أداء ما أرادوه ولا يقصدون إلى فن الأداء وصناعة التعبير، ولكن الإمام عليًّا تعلم الكتابة صغيرًا، ودرس الكلام البليغ من روايات الألسن، وتدوين الأوراق، وانتظر بالبلاغة حتى خرجت من طور البداهة الأولى إلى طور التفنن والتجويد … فاستقام له أسلوب مطبوع مصنوع، هو فيما نرى أول أساليب الإنشاء الفني في اللغة العربية، وأول أسلوب ظهرت فيه آثار دراسة القرآن، والاستفادة من قدوته وسياقه، وتأتى له بسليقته الأدبية أن يأخذ من فحولة البداوة، ومن تهذيب الحضارة، ومن أنماط التفكير الجديد الذي أبدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية … فديوانه الذي سمي «نهج البلاغة» أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية، واشتماله على جزء مشكوك فيه لا يمنع اشتماله على جزء صحيح النسبة إليه صحيح الدلالة على أسلوبه، وربما كانت دلالة الأخلاق والمزاج فيه أقوى، وأقرب إلى الإقناع من دلالة الأسانيد التاريخية؛ لأن طابع «الشخصية العلوية» فيه ظاهر من وراء السطور ومن ثنايا الحروف، يوحي إليك حيثما وعيته أنك تسمع الإمام ولا تسمع أحدًا غير الإمام، ويعز عليك أن تلمح فيه غرابة بين صاحب التاريخ وصاحب الكلام …

على أننا نبالغ ما نبالغ في تمحيص المنحول وغير المنحول من أقوال الإمام، ومن فنون ثقافته العامة، ثم تبقى لنا بقية تسمح لنا — بل توجب علينا — أن نسأل: كيف يتسنى العلم بهذا لأي كان من الناس في مثل ذلك الزمان؟ …

والسؤال لا بد منه، ولا نظن قارئًا من قراء تاريخ الإمام لم يخطر هذا السؤال بباله ولم يرد على لسانه.

ولكن لا بد معه من تصحيح الباعث عليه؛ لتصحيح الجواب عنه بعد ذلك …

فالباعث عليه أننا نبالغ في تجريد البداوة العربية من الصلات المعقولة بالثقافة العالمية، سواء كانت من ثقافة العلم والدرس أو ثقافة التواتر والتلقين …

لكن البداوة العربية لم تكن في الواقع معزولة عن ثقافة الأمم المحيطة بها تلك العزلة التي تخطر لنا للوهلة الأولى، فقد كانت على اتصال بعقائد الهند وفارس والروم، وكانت للمعارف الإنسانية أشعتها التي تتخلل الجزيرة العربية من قديم العصور.

وحسبنا من أمثلة ذلك مثال واحد في معسكر الإمام نفسه يغني عن الأمثلة من قبيله …

وذلك هو مثال عبد الله بن سبأ المشهور بابن السوداء، وهو يهودي ابن زنجية مولود في بلاد اليمن، ومذهبه الذي اشتهر به هو مذهب الرجعة، الذي يجمع فيه بين قول اليهود بظهور المنقذ من أبناء داود، وقول أهل الهند بظهور الإله الذي يتقمص جسم إنسان، وقول النصارى بظهور المسيح، وقول أهل فارس بتقديس الأوصياء من أقرباء الملوك والأمراء …

فهذه عقيدة لا تظهر من رجل يمني من أهل الجزيرة، إذا تخيلنا أن الجزيرة في حضارتها أو بداوتها بمعزل عن ثقافات الهند والفرس والروم وبني إسرائيل، وأن الأمة العربية تخلو من أناس سمعوا بالعقائد والفلسفات من طريق القدوة الدينية، أو طريق المحاكاة الاجتماعية، أو طريق الدراسة والسماع …

وقد كانت عاصمة الإمام في الكوفة … وكانت مثابة الغادين والرائحين من أبناء الحضارات المعروفة في العالم بأسره، ومن المسلمين الذين عاشوا بها أو بجوارها أناس كانوا ينظرون في كتب الفرس، ويعجبون بحكمتها كما جاء في سيرة عمر بن الخطاب، ومنهم من كان ينظر في النجوم على طريقة الفرس والروم، وحذر بعض هؤلاء الإمام أن يسير إلى حرب الخوارج في طالع كوكب من الكواكب المنحوسة، فقال له: «أتزعم أنك تهدى إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء؟ … فمن صدق بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه» …

•••

ثم أقبل على الناس بالنصح والموعظة، قائلًا: «إياكم وتعلم النجوم، إلا ما يهتدى به في بر أو بحر … فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار!»

وقد لبث عليُّ بن أبي طالب زهاء ثلاثين سنة منقطعًا، أو يكاد ينقطع عن جهاد الحكم والسياسة، متفرغًا أو يكاد يتفرغ لفنون البحث والدراسة … يتأمل كل ما سمع، ويراجع كل ما قرأ، ويعرف كل ما يعرف، ممن يلقاه، ويستطلع أنباءه وآراءه وقضاياه … فمهما يكن قسط الثقافة العالمية قليلًا في بلاد الإسلام على تلك الأيام … ففيه ولا ريب الكفاية للعقل اليقظان، والبصيرة الواعية أن تفهم ما قد فهمه الإمام، وأن يثبت ما أثبته نهج البلاغة من الخواطر والأحكام …

على أن هذه الفنون من الثقافة — أو جلتها — إنما تعظم بالقياس إلى عصرها، والجهود التي بذلت في بدايتها.

فحصة الإمام من علم النحو — مثلًا — عظيمة؛ لأن الابتداء بها أصعب من تحصيل المجلدات الضخام، التي دونها النحاة بعد تقدم العلم، وتكاثر الناظرين فيه …

•••

وهكذا يقال في الحساب والمسائل العلمية التي من قبيله، فلا يجوز لنا أن نقيسها بمقياس العصر الحاضر … وهي في ابتدائها أصعب جدًّا منها في أطوارها، التي لحقت بها بعد نمائها واستفاضة البحث فيها …

أما فن الثقافة الذي يقاس بمقياس كل زمن، فإذا هو عظيم في جميع هذه المقاييس، قليل الفوارق بين البدايات منه والنهايات، فذلك هو فن الكلم الجامعة أو فرائد الحكمة التي قلنا آنفًا: إنها تسجل له في ثقافة الأمم عامة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور.

فالكلم الجوامع التي رويت للإمام طراز لا يفوقه طراز في حكمة السلوك على أسلوب الأمثال السائرة.

وقد قال النبي — عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.»

فهذا الحديث الشريف أصدق ما يكون على الإمام علي في حكمته، التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء.

فهي من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر، وهو سليمان بن داود.

•••

ويزيد عليها أنها أبدع في التعبير، وأوفر نصيبًا من ذوق الجمال، كقوله مثلًا: «نفس المرء خطاه إلى أجله» … أو قوله: «من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة» … أو قوله: «المرء مخبوء تحت لسانه.» أو قوله: «الحلم عشيرة» … أو قوله: «من لان عوده كثفت أغصانه.» أو قوله: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع.» إلى أشباه هذه التعبيرات الحسان، التي تحار فيها أي مزاياها أفضل وأقوم: صدق المعنى، أو بلاغة الأداء، أو جودة الصناعة …

وبعض أقواله ينضح بدلائل «الشخصية» التي تلازم صاحب الفن الأصيل، فتلبس معانيه لباسًا من خوالج نفسه وأحداث زمانه، كما قال: «صواب الرأي بالدول، يقبل بإقبالها ويذهب بذهابها.» أو كما قال: «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار» … أو كما قال: «شاركوا الذي أقبل عليه الرزق، فإنه أخلق للغنى وأجدر بإقبال الحظ عليه» … أو كما قال: «إذا هبت أمرًا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما نخاف منه» … أو كما قال: «لا يقيم أمر الله — سبحانه — إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.»

وله عدا هذه الحكم التي تلونت بألوان نفسه أو ألوان زمانه، حكم كثيرة تصدر من كل قائل يقدر عليها، وتنفذ إلى كل سامع يفطن لها كقوله: «كل معدود منقض وكل متوقع آت.» أو قوله: «إذا كثرت القدرة قلت الشهوة.» أو قوله: «أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه» … أو قوله: «من نصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره … وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم.» أو قوله: «الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يوئسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله» … أو قوله: «قيمة كل امرئ ما يحسنه.» أو قوله: «العاقل هو الذي يضع الشيء مواضعه.» أو قوله: «الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر على ما تحب.» أو قوله: «من ملك استأثر.» أو قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» … أو قوله: «القرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة» …

•••

وله في المواقف المرتجلة كلمات هي أشبه الكلمات بأسلوب الحكمة السائرة … فلما خرج وحده لبعض المهام، التي تردد فيها أنصاره، قالوا له يشيرون إلى أعدائه: «يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم.» فقال: «ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم؟ … إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي، كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة.»

ورثى محمد بن أبي بكر حين بلغه مقتله على أيدي أصحاب معاوية فقال: «إن حزننا عليه قدر سرورهم به، إلا أنهم نقصوا بغيضًا ونقصنا حبيبًا» …

فكل نمط من أنماط كلامه، شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير … فهو ولا شك من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأوتوا الحكمة، وفصل الخطاب.

وقد أخطأ «موير» Muir المؤرخ الإنجليزي حين قال: إن عليًّا حكيم كسليمان، وهو مثله حكمته لغيره … يعني أنه ينصح الناس ولا ينتفع بالنصيحة، فإن «موير» أحجى أن يفرق بين عمل الإنسان بنصحه وبين انتفاعه بنصحه، ولا شك أن عليًّا كان من العاملين بما يقولون، ومن المنتصحين بما ينصح به الناس، أما أنه ينتفع بحكمته، فالطبيب لا يقدح في علمه أنه قد أعياه علاج نفسه بطبه … فقد يكون الإخفاق من استعصاء الداء لا من صحة الدواء.

•••

ولا يفوتنا أن بعض هذه النصائح، قد نسب إلى قالة من الأوائل غير الإمام — رضي الله عنه — وهذا يستطرد بنا مرة أخرى إلى الصحيح والمنحول من كلام الإمام، الذي جمعه الشريف الرضي في «نهج البلاغة»، وفرغ من جمعه بعد مقتله بزهاء أربعة قرون، وهو بحث يخرج بنا من موضوع هذا الكتاب إلى دراسة أدبية ليست من أغراضنا الخاصة في التعريف بعبقرية الإمام … فحسبنا أن أسلوب الإمام معروف في بعض ما ثبت له من رسائله وخطبه، وأن طابع هذا الأسلوب شائع في الكتاب لا تقدح فيه كلمة ظاهرة التلفيق هنا، أو كلمة ظاهرة الإقحام هناك، أو كلمات يقع فيها الالتباس لاختلاف الصناعة أو اختلاف التفكير، فنحن لا نخطئ أن نرى في هذه الخطب والرسائل والأمثال وحدة تتصل حينًا، وتنقطع حينًا، كالوحدة التي نراها بغير انقطاع في كتب الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد … وهذه الوحدة وحدها مغنية لنا في تبيان ثقافة الإمام، أو تذوق أسلوبه الذي لا تخطئ فيه مرة جزالة البادية، وصقل الحاضرة، وحسن البداهة، وامتزاج الصناعة بالطبع الذي لا تكلف فيه …

ولا يتم القول في ثقافة الإمام علي — رضي الله عنه — ما لم تتممه بالقول في نصيبه من الثقافة العسكرية أو فن الحرب، الذي هو مضماره الأول ومناط شهرته التي تبرز فيها صفة الشجاعة قبل كل صفة، وكفاءة المناضل قبل كل كفاءة …

فجملة ما يقال في هذا الصدد، أن فن الإمام العسكري هو فن البطل المغوار الذي يناضل الأفراد، وينفع الجيش الذي هو فيه بقدوة الشجاعة، وإذكاء الحماسة، وتعزيز الثقة بين صفوفه، وأنه يعرف كيف يكون الهجوم حيث يجب الهجوم، وكيف يحتال على عدوه بما يخلع قلبه، ويفت في عضده … ومن حيله المشهورة في توهين عزم عدوه، أنه أمر بعقر الجمل في الوقعة المعروفة باسمه؛ لأنه كان علم القوم الذين كانوا يلتفون به ويثبتون بثبوته …

وهذا كله فن البطل المغوار الذي يفرق العسكريون بينه وبين خطط القيادة وفنون التعبئة وتحريك الجيوش …

•••

ولم يرد لنا من أنباء الإمام في هذا الباب ما نحكم به على قيادته العسكرية بهذا الاعتبار …

نعم … إنه كان يقسم جيشه إلى ميمنة وميسرة، وقلب وطليعة ومؤخرة، وأشباه ذلك من التقسيمات التي جرى عليها في وقعة صفين على التخصيص.

وكانت له وصاياه المحفوظة في تسيير الجيوش، وتأديب الجند ومعاملتهم لسكان البلاد، ومنها قوله: «إذا نزلتم بعدو أو نزل بكم، فليكن معسكركم من قبل الإشراف وسفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءًا ودونكم ردًّا، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب؛ لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعًا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعًا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة — أي: محيطة بكم — ولا تذوقوا النوم إلا غرارًا أو مضمضة» …

ومنها قوله: «ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنًا وقدره مقامًا لا ظعنًا.» ومنها قوله للولاة: «إني سيرت جنودًا هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهبًا إلى شبعه، فنكلوا من تناول منهم شيئًا ظلمًا عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم والتعرض لهم …»

وهذه وما هو من قبيلها، مناهج موروثة أو أدب هو أقرب إلى نظام الإدارة منه إلى خطط التعبئة، وقيادة الميدان …

وعلى كونه قد اتبع هذه التقسيمات والمناهج في وقعة صفين، لم تكن الوقعة كلها إلا مناوشات هجوم ودفاع بين طوائف متفرقة في أوقات متباعدة … كأنها ضرب آخر من ضروب فن الحرب على طريقة الفارس المناضل، والبطل المفرد في موقف المبارزة أو في غمار الصفوف.

•••

وخلاصة ذلك كله، أن ثقافة الإمام هي ثقافة العلم المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام …

وأنها هي ثقافة الفارس المجاهد في سبيل الله، يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه … لأنه بالبأس زاهد في الدنيا مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله …

فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه، وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤