رائحة لغز

كانت السيارة التاكسي التي تحمل الأصدقاء الخمسة؛ «لوزة» و«نوسة» و«عاطف» و«تختخ» و«محب، قد عبرت كوبري الجلاء وانحرفت خلف فندق «الشيراتون»، ثم عرجت يسارًا متجهةً إلى شارع النيل، فقال «تختخ» موجِّهًا حديثه إلى السائق: هنا من فضلك.

وأخذت السيارة تقترب من العنوان المطلوب، وقال «عاطف»: هذا ثالث متحف نزوره خلال الأسبوعَين الماضيَين … إنها فكرة رائعة حقًّا التي اقترحها «محب»، أن نقوم بزيارة جميع متاحف بلدنا في العطلة بدلًا من إضاعتها في اللعب.

لوزة: وهل متحف «محمد محمود خليل» الذي سنزوره الآن كبير مثل المتحف المصري أو متحف القلعة؟

تختخ: لا، إنه متحف صغير في قصر … وصاحبه المرحوم «محمد محمود خليل» كان من كبار الأثرياء، وكان هو وزوجته يُحبَّان اقتناء التحف الثمينة واللوحات النادرة … وقد جمعا معًا مجموعةً ممتازةً من اللوحات والتماثيل تُساوي ملايين الجنيهات …

عاطف: ملايين الجنيهات؟!

تختخ: نعم … فهناك ١٣٣ لوحةً كبيرةً لمشاهير الرسَّامين العالميين، عدا ٥٨ لوحةً صغيرة، و٤٢ تمثالًا.

لوزة: ومن أين عرفتَ هذه المعلومات؟

تختخ: من الدليل؛ فلكل متحف دليل، ومعي دليل المتحف الذي أعدَّته وزارة الثقافة، وبه كل المعلومات اللازمة عن المتحف.

ووقف التاكسي ونزل الأصدقاء الخمسة، ونفذوا من باب الحديقة الواسع متجهين إلى المتحف … ولكن كانت في انتظارهم مفاجأة سخيفة؛ فقد كان المتحف مغلق الأبواب … يقف ببابه الرئيسي بعض الناس يتحدَّثون، فاقترب الأصدقاء منهم … ولاحظوا أن بينهم عددًا من رجال الشرطة، فسأل «تختخ» أقرب الواقفين إليه: ماذا حدث؟ ولماذا يقف رجال الشرطة هنا؟

ردَّ الرجل في ضيق: إنهم يقومون بجرد المتحف.

تختخ: لماذا؟

الرجل: لقد حاول أحد اللصوص سرقة المتحف أمس ليلًا، وقد استطاع الحارس رؤيته في الظلام، فأطلق عليه الرصاص، ولكن اللص استطاع أن يهرب.

تختخ: وهل عرفوا ما سرقه؟

الرجل: لقد جاءت لجنة من وزارة الثقافة والإرشاد هذا الصباح لجرد المتحف بشكل عاجل … ولا أحد يدري ماذا وجدوا.

قال «عاطف»: هيا بنا نخرج إلى كورنيش النيل، ونجلس في كازينو «كليوباترا»؛ فهو قريب من هنا، بدلًا من العودة إلى المعادي.

لوزة: من الأفضل أن ننتظر نتيجة الجرد … فقد تكون هناك سرقة فنُشارك في البحث عن اللص.

نوسة: إننا لم نحضر للبحث عن لصوص، لقد جئنا لمشاهدة ما في المتحف من لوحات وتماثيل يا «لوزة»، فدعكِ من الألغاز والمطاردات.

لوزة: إن المغامرين الخمسة لا ينسَون عملهم، وما دام هناك لغز فلا بد من حله.

عاطف: ومن أين عرفتِ أن هناك لغزًا؟

لوزة: إنني أشم رائحة الألغاز والمغامرات، وأؤكد لكم أن في هذا القصر لغزًا في انتظارنا.

وفي تلك اللحظة خرج عدد من الرجال من باب القصر وهم يبتسمون، وسمع الأصدقاء أحدهم يقول: ليس هناك شيء ناقص على الإطلاق … إن التماثيل واللوحات كلها موجودة كاملةً لم يمسَّها أحد.

قال الأخر: وليس هناك أثر في الأبواب أو النوافذ لمحاولة دخول القصر … إن الحارس كان واهمًا … أو لعل أحد المتشرِّدين حاول النوم في حديقة القصر فرآه الحارس وظنَّه لصًّا.

نظر الأصدقاء جميعًا إلى «لوزة» التي نكست رأسها في خجل؛ فقد ثبت أنه ليس هناك لغز ولا مغامرة في القصر … وقال «عاطف» ساخرًا: يبدو أنك مصابة بزكام يا «لوزة»؛ فليس هناك رائحة لغز ولا حتى رائحة كولونيا.

اقترب «محب» من أحد الرجال سائلًا: هل يمكننا دخول المتحف الآن؟

الرجل: بعد ربع ساعة.

محب: ما رأيكم؟ هل نذهب إلى الكازينو ثم نعود؟

تختخ: لا داعي لإضاعة الوقت، الساعة الآن الحادية عشرة ونُريد أن نعود في موعد الغذاء إلى المعادي. تعالَوا نتمشَّى في الحديقة حتى يأتي وقت الدخول.

وهكذا سار الأصدقاء في أرجاء الحديقة الواسعة … واقتربوا من السور الذي يفصل بين المتحف والمنزل المجاور … كانت الأشجار الضخمة تقف في صفٍّ طويل بجوار السور، والنباتات المتسلِّقة تُغطِّيه بكثافة شديدة، وقالت «لوزة» وهي تنحني إلى الأرض بجوار السور: لقد سقط منديل من أحدهم في هذا المكان.

ثم التقطت منديلًا أبيض، ولكنها ألقته فجأةً من يدها قائلة: إن به آثار دماء!

أثارت كلمة دماء انتباه الأصدقاء جميعًا، وقال «تختخ» وهو ينحني ويأخذ المنديل: إن الألغاز والمغامرات قد أثَّرت في أعصابك وخيالك يا «لوزة»؛ فكل لون أحمر تظنين أنه دم.

وفرد «تختخ» المنديل، وكان واضحًا فيه آثار دماء، فقال «محب»: إنها دماء فعلًا، و«لوزة» لم تتخيَّل شيئًا.

وأحاط الأصدقاء بالمنديل وأخذوا يتأمَّلونه. لم يكن اللون الأحمر هو اللون الوحيد، ولو أنه كان اللون الغالب؛ فقد كانت هناك ألوان أخرى زرقاء وصفراء … فقالت «نوسة»: إن على المنديل كما هو واضح ألوانًا أخرى … وليس من المعقول أن تكون آثار دماء بهذه الألوان.

قرَّب «تختخ» المنديل من أنفه وقال: إنها آثار ألوان زيتية.

نوسة: إن صاحب المنديل إذن نقَّاش ممن يدهنون الجدران.

عاطف: المعقول أن يكون رسَّامًا مثلًا، وهنا قرب المتحف.

أخذ «تختخ» يتأمَّل المنديل طويلًا، ثم قال: إن هناك آثار بصمات على المنديل، ومن الواضح أن الرسَّام أو النقَّاش كان يمسح أصابعه فيه.

نوسة: ولكن من أين أتت آثار الدماء؟

لوزة: لعله وهو يرسم قد جرح أصبعه ومسحه في المنديل … ولو أن كمية الدماء تدل على أكثر من مجرَّد جرح بسيط …!

تختخ: هذا ممكن.

ثم أخرج «تختخ» ورقةً لفَّ فيها المنديل ووضعه في جيبه.

فقال «محب»: لماذا تحتفظ بهذا المنديل القذر؟

تختخ: لا أدري. لقد شممت مع رائحة الزيت رائحة مغامرة كما قالت «لوزة». انظروا حولكم فقد تجدون شيئًا آخر.

وانتشر الأصدقاء حول السور يبحثون هنا وهناك، ومرةً أخرى قالت «لوزة»: تعالَوا هنا … إنني أجد آثار شخص كان نائمًا.

أسرع الأصدقاء حيث تقف «لوزة» بجوار السور مباشرة، وكان ثمة حوض من الزهور قد تكسَّر تمامًا بطول يُساوي طول رجل … ثم وجد «محب» عند طرف الحوض بعض أعقاب السجائر، فأخذ «تختخ» يجمعها ويعدها، ثم قال: تسع سجائر … إن هذا يعني أن الذي دخَّنها قضى وقتًا طويلًا في هذا المكان … ثم إنه يُدخِّن سجائر أجنبيةً من نوع «جولواز» الفرنسية.

قالت «لوزة»: هناك أيضًا آثار متعدِّدة متجهة إلى السور … إنها آثار خفيفة وعميقة متقاربة.

وأخذ الأصدقاء يتبعون آثار حتى السور … وكان هناك أثر لقدمَين غائرتَين في طين الحوض … وكانت الآثار متكرِّرة … وعلى ارتفاع السور كانت النباتات متكسِّرةً ومشوَّهة … وعلى الأرض كان هناك قلم رصاص من نوع «كوهينور» ممَّا يستعمله الرسَّامون، وبعض دبابيس الرسم.

قال «تختخ»: لقد كان هنا بلا شك رسَّام قضى فترةً طويلة، وحاول تسلُّق السور إلى الناحية الأخرى».

نوسة: رسَّام! … ولماذا رسَّام؟

تختخ: هذا واضح من كل الآثار التي تركها … منديل ملوَّث بالألوان، قلم رصاص من النوع الذي يشيع استخدامه بين الفنَّانين … دبابيس رسم … إنه بلا شك رسَّام.

عاطف: وماذا يعني هذا كله؟

تختخ: لا شيء حتى الآن … وليس هناك قانون لمعاقبة رسَّام حاول أن يقضي بعض الوقت في الحديقة … ولعله كان يُريد رسم منظر طبيعي منها وجرح أصبعه لسبب أو آخر.

محب: ولماذا حاول تسلُّق السور؟

تختخ: لا أدري … وهيا بنا إلى المتحف؛ فقد قضينا وقتًا طويلًا هنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤