الألوف والملايين

دخل الأصدقاء إلى المتحف أخيرًا … كان مكوَّنًا من دورَين بسلم داخلي يصل بينهما … وأخذوا يطوفون باللوحات واحدةً واحدة … يتأمَّلون في إعجاب ما أثمرته أنامل أعظم الرسَّامين … وقفوا أمام لوحة «رئيس عربي» للرسَّام «ديلاكروا»، فقالت «نوسة»: إنني لا أفهم كثيرًا في الرسم، ولكن هذه اللوحة جميلة حقًّا.

عاطف: أعتقد أنها تُساوي بضعة ألوف من الجنيهات.

وسمع الأصدقاء صوتًا يأتي من خلفهم قائلًا: أكثر من مائة ألف جنيه.

والتفت الأصدقاء إلى الصوت، فوجدوا شابًّا قدَّم لهم نفسه على أنه الفنَّان «مأمون»، وكانوا يسمعون بهذا الاسم من المجلَّات. وعاد «مأمون» إلى الحديث قائلًا: إن «ديلاكروا» من أشهر الفنَّانين الفرنسيين في القرن التاسع عشر … ويُعد من خير من استخدم اللون في الرسم، وهو الذي وضع أُسس تقسيم درجات اللون … ممَّا يجعل للوحاته وألوانه شكل الحرير الناعم، وهو من الفنَّانين الفرنسيين القلائل الذين زاروا الشرق … فقد زار المغرب عام ١٨٢٣م وتأثَّر بالألوان الشرقية، وانعكست بعد ذلك في أعماله، وله في هذا المتحف ثماني لوحات، منها ثلاث تحمل توقيعه … أكبرها لوحة «حوريات تستحم»، ومقاسها ٦٠ × ٤٨، وقد اشتراها المرحوم «محمد محمود خليل» من مزاد في باريس عام ١٩٤٧م، ودفع قيمتها نحو خمسين ألف جنيه.

قالت «لوزة»: هل هناك فنَّانون آخرون من المشاهير لهم لوحات في هذا المتحف؟

ردَّ «مأمون»: نعم … هنا لوحات لأشهر الفنَّانين الفرنسيين بالذات، ومنهم؛ «دومييه»، و«ديجا»، و«جوجان»، و«فانيه»، و«رينوار»، و«تولوز» … وغيرهم. ومن المصريين «محمود سعيد».

محب: وكم تُساوي هذه اللوحات؟

مأمون: رقم كبير جدًّا … ومن الصعب تقدير قيمتها، ولكن بالتأكيد يزيد ثمنها على بضعة ملايين من الجنيهات.

عاطف: ملايين؟!

مأمون: طبعًا … إن بعض اللوحات العالمية بيعت في الشهور الماضية بمبالغ تصل إلى أكثر من مليون جنيه للوحة الواحدة … وفي هذا المتحف ١٢٣ لوحة … فتصوَّر كم يكون الثمن!

وأخذ الأصدقاء يتنقَّلون بين غرف المتحف المختلفة … و«مأمون» يصحبهم ويشرح لهم … وهو سعيد أن هؤلاء الصغار يزورون المتاحف، ويتزوَّدون بالمعلومات الفنية بدلًا من قضاء الوقت كله في اللعب والجري.

وافترق «مأمون» عنهم بعد أن أعطاهم عنوانه ورقم تليفونه … وعرفوا أنه يسكن في فيلا في المقطم، وقد دعاهم لقضاء يوم عنده في الفيلا ليتحدَّث إليهم حديثًا أطول عن فن التصوير الزيتي.

قضى الأصدقاء وقتًا طيِّبًا في المتحف، ثم قرَّروا الانصراف لاقتراب موعد الغداء، وعندما وصلوا الباب قالت «لوزة»: هل نعود إلى المعادي دون أن نحل اللغز؟

عاطف: أي لغز؟

لوزة: لغز الآثار التي وجدناها في الحديقة.

عاطف: إن هذا شيء مضحك حقًّا؛ ففي العادة تقع الجريمة، ثم نبحث عن أدلة لحل غموضها، أمَّا أن نجد الأدلة، ثم نبحث عن جريمة، فشيء لم أسمع عنه!

لوزة: ألم يقل الحارس إنه شاهد شبحًا في الظلام وأطلق عليه الرصاص؟

عاطف: وماذا في هذا؟

لوزة: ماذا كان يفعل هذا الشبح في الحديقة؟

عاطف: يفعل ما يشاء! لقد ثبت أن شيئًا من المتحف لم يُسرق، ومعنى ذلك أنه ليس هناك جريمة على الإطلاق، ووجود شخص في الحديقة لا يدل على حدوث شيء.

كان بقية الأصدقاء يُتابعون الحوار بين «لوزة» وشقيقها «عاطف» باهتمام؛ فقد كان «عاطف» يتضايق من إلحاح أخته «لوزة»، ومحاولتها البحث عن لغز في كل شيء.

وفجأةً قال «محب»: إنني أرى في الحديقة أعمدةً كثيرةً للإنارة، فكيف يقول الحارس إن الحديقة كانت مظلمة؟

تختخ: هذه ملاحظة معقولة … تعالَوا نسأل الحارس.

كان الحارس يجلس على كرسي أمام باب القصر … فاتجه إليه الأصدقاء، وبعد أن حيَّوه قال «تختخ» مفتتحًا الحديث في براعة: الحمد لله على أن شيئًا لم يُسرق من المتحف.

الحارس: فعلًا الحمد لله … وإلَّا وقعتُ في مشكلة خطيرة.

تختخ: وهل تحرس القصر وحدك؟

الحارس: هناك حارس آخر يجلس أمام باب الحديقة، وعادةً نجلس معًا … ولكن حدث أمس حوالي الثانية بعد منتصف الليل أن تركت مقعدي أمام الحديقة وعدت إلى غرفتي أمام القصر لأُحضر شيئًا … وفجأةً وجدتُ النور ينطفئ، وسمعت صوت أقدام تتحرَّك في الحديقة … واستطاعت عيناي أن تألفا الظلام بعد ثوانٍ قليلة، وعلى ضوء الشارع استطعت أن أرى شبحًا يجري في طرف الحديقة، فأطلقت عليه النار … ثم أسرعت إليه ولكنني لم أجد شيئًا؛ فالأشجار كثيفة قرب السور، وخشيت أن يكون له شركاء داخل القصر فعدت إلى القصر … وحضر زميلي وانتظرت أن يعود النور، ولكنه ظل مطفأً … ولاحظنا أن بقية المنازل حولنا مضاءة، ومعنى هذا أن الضوء انقطع عن المتحف وحده … وليس معنا مفتاح؛ لأن المفتاح مع أمين المتحف الذي يأتي في الصباح … فطفنا حول القصر واختبرنا الأبواب والنوافذ، ولكنها كانت جميعًا مغلقة … فرجَّحنا أن شبح الحديقة متشرِّد حاول النوم في الحديقة … وقد حدث ذلك من قبل، فسكتنا ولم نجِد فائدةً من إزعاج أمين المتحف في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل … وانتظرنا حتى الصباح وخاصةً والنور مطفأ وليس من الممكن إصلاحه ليلًا. وعندما حضر وأخبرناه، قرَّر الاتصال بالشرطة وتكوين لجنة للجرد … والحمد لله فإنهم لم يجدوا شيئًا ناقصًا من المتحف.

تختخ: وهل عرفتَ لماذا انطفأ النور في القصر؟

هبَّ الحارس واقفًا وهو يضرب رأسه بيده قائلًا: لقد نسيت هذه المسألة تمامًا وانشغلت باللجنة، خاصةً بعد أن جاء النهار، ونسيت مسألة النور تمامًا!

وأسرع الحارس إلى داخل المتحف، فأشار «تختخ» إلى الأصدقاء أن ينتظروه وأسرع خلفه … اتجه الرجل إلى الحديقة حيث كان مطبخ القصر سابقًا وقد أصبح مخزنًا، وفتح الباب ودخل، وأطلَّ على اللوحة التي تخرج منها أسلاك الكهرباء إلى بقية القصر … ودُهش أن وجد أن الأكباس التي توصل التيار إلى القصر مرفوعة من مكانها، وموضوعة فوق اللوحة!

قال الحارس في دهشة شديدة: إن شخصًا قد رفع هذه الأكباس من مكانها … لقد كان شخص داخل القصر … ولكن من هو؟!

قال «تختخ»: لعله شبح الحديقة.

الحارس: ولكن كيف خرج؟! لقد كانت الأبواب كلها مغلقة!

تختخ: ربما كان له شريك داخل المتحف.

الحارس: لا أحد يوجد في المتحف بعد إغلاقه مطلقًا.

تختخ: وماذا ستفعل الآن.

الحارس: لا أدرى … على كل حال ما دامت نتيجة الجرد أثبتت أن شيئًا لم يُسرق من المتحف؛ فلا داعي لإثارة المشاكل.

ثم أخذ يضع الأكباس مكانها … فقال «تختخ»: هل تسمح لي أن أرى هذا الكبس؟

وناوله الحارس أحد الأكباس مكانه، ففحصه «تختخ» بدقة، ورأى آثار ألوان خفيفة عليه، كان واضحًا أنها من آثار أصابع الذي رفعها.

انصرف «تختخ» إلى الأصدقاء، وسرعان ما استقلُّوا تاكسيًا حملهم إلى محطة باب اللوق، حيث استقلُّوا القطار إلى المعادي.

كان «تختخ» صامتًا طول الوقت، فسأله «محب»: لماذا أنت صامت يا «تختخ»؟ … هل تُفكِّر في شيء هام؟

تختخ: لقد وجدت آثار ألوان على الكبس من نفس الألوان التي وجدناها على المنديل.

كان «تختخ» قد نسي المنديل تمامًا، وتذكَّره في هذه اللحظة، فأخرجه بسرعة من جيبه وأخذ يتأمَّله، ثم قال: نفس الألوان تقريبًا … الأحمر والأصفر … لقد كان شبح الحديقة داخل المتحف! … ولكن كيف؟! وماذا فعل؟! ولماذا لم يسرق شيئًا؟! فكلها أسئلة لا أملك الإجابة عنها!

وصل القطار إلى المعادي وتفرَّق الأصدقاء على أن يلتقوا في المساء في حديقة «عاطف» كالمعتاد.

وفي الموعد اجتمع الأصدقاء في حديقة «عاطف» عدا «تختخ». كانت الشمس قد بدأت تغيب … ونسمة باردة تهب على الحديقة الجميلة … وجلسوا جميعًا في انتظار «تختخ» الذي حضر متأخِّرًا عن موعده بنصف ساعة، فقال معتذرًا: آسف جدًّا لتأخيري … لقد جلست أُفكِّر في شبح حديقة المتحف فترةً طويلة.

لوزة: وهل وجدت لغزًا؟

تختخ: لقد وجدت نصف لغز … وعلينا أن نجد النصف الآخر.

عاطف: هل تحكي لنا نصف اللغز؟

تختخ: نعم … فقد نصل عن طريق التفكير معًا إلى النصف الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤