نصف اللغز

قال «تختخ»: من المؤكَّد أن هذا الإنسان المجهول، ولْنُسمِّه شبح الحديقة، كان موجودًا بالمتحف ليلًا، أمَّا كيف استطاع أن يدخل برغم أن الأبواب والنوافذ سليمة ولم تُكسر، فليس هناك سوى تفسير واحد … هو أنه كان موجودًا في المتحف قبل إغلاقه … ثم استطاع بشكل ما أن يختفي عن عينَي الحارس خلف تمثال أو في دورة المياه، حتى أغلق المتحف أبوابه … وظل في مكانه حتى الساعة الثانية صباحًا … ولستُ أدري لماذا انتظر كل هذه المدة؛ أي من الخامسة، وهو موعد إغلاق المتحف، إلى الثانية صباحًا، أي نحو عشر ساعات.

وصمت «تختخ» قليلًا، ثم عاد إلى حديثه قائلًا: وفي الساعة الثانية صباحًا رفع النور ليُطفئ أنوار الحديقة، ثم فتح أحد نوافذ المتحف وقفز إلى الحديقة وأغلق النافذة من الخارج … ثم أسرع ليقفز السور، ولكن لسوء حظِّه كان حارس المتحف قد عاد — كما قال — ليأخذ شيئًا من حجرته، فشاهده وأطلق عليه الرصاص وأصابه.

محب: بدليل آثار الدماء التي وجدناها قرب السور وعلى المنديل.

تختخ: صحيح … ولكن قد يكون قد جُرح في أثناء القفز أو في أثناء محاولته تسلُّق السور … ولكن دليل الإصابة أنه بقي في مكانه في حوض الزهور فترةً طويلة، دخَّن فيها هذا العدد الكبير من السجائر … لقد كان عاجزًا عن الحركة … وانتظر فترةً طويلةً حتى استردَّ قواه، ثم قفز السور.

عاطف: وهناك رأي آخر … ربما خشي أن يسير ليلًا وهو مصاب فيلفت الأنظار.

نوسة: أو أنه كان يحمل شيئًا يخشى أن يراه أحد معه … فانتظر إلى قرب الصباح حيث تنشط حركة الشوارع وغادر المكان.

تختخ: كل هذه الأسباب معقولة … وبقي شيء … إن هذا الشبح رسَّام أو له مهنة متعلِّقة بالألوان … بدليل آثار الألوان التي وجدناها على المنديل، والآثار التي وجدتها على أكباس النور.

لوزة: ولكن السؤال الهام هو: لماذا فعل كل هذا ما دام لم يسرق شيئًا؟! لقد تأكَّدتْ لجنة الجرد من أن شيئًا من محتويات المتحف لم ينقص … فماذا كان هذا المجهول يفعل هناك؟!

قال «عاطف»: لعله كان يتمتَّع بمشاهدة المتحف وحده.

ضحك الأصدقاء … للنكتة … ولكن السؤال بقي معلَّقًا … وفجأةً قال «محب»: إنني أظن أن هذا الشبح من المتردِّدين على المتحف … فهو يعرف عادات الحارس، وأن الحارس يذهب للجلوس مع زميله أمام باب الحديقة، وإلَّا لما غامر بفتح النافذة والحارس يجلس أمام باب المتحف نفسه.

تختخ: هذا ممكن … وفي هذه الحالة يكون أمامنا خيط نسير خلفه.

محب: بل عدة خيوط … فعندنا أولًا: أنه رسَّام، وهذا يُضيِّق نطاق البحث، فبدلًا من البحث عن شخص بين ملايين الأشخاص في القاهرة، يمكن البحث عنه في نطاق الرسَّامين … ثانيًا: هو يُدخِّن سجائر من نوع خاص، ليست مصريةً وليست من الماركات العالمية المعروفة عندنا، وقد نسيت اسمها.

تختخ: «جولواز»!

محب: إنه رسَّام يُدخِّن سجائر «جولواز»، هو يتردَّد على المتحف.

نوسة: وهو مصاب أيضًا.

تختخ: إنها استنتاجات ممتازة حقًّا.

محب: بقي السؤال الهام هو: لماذا دخل المتحف، واختبأ فيه، وعرَّض نفسه للموت ما دام لم يسرق شيئًا؟

عاطف: هذا هو النصف الآخر من اللغز … النصف الهام.

تختخ: إن الفنَّانين عمومًا ليسوا كالأشخاص العاديين؛ فلهم بعض النواحي الشاذة في تصرُّفاتهم لا يتصوَّرها الشخص العادي … وقد يكون لهذا الفنَّان هواية خاصة لا نعرفها.

محب: من المؤكَّد أنها ليست هواية المبيت في المتاحف.

تختخ: من يدري؟

نوسة: ولكن لماذا يُطفئ النور، برغم أن انطفاء النور يمكن أن يلفت إليه الأنظار؟

تختخ: لأنه كان يخشى أن يراه الحارسان وهما يجلسان أمام الحديقة، وقد اعتمد على أن الحارسَين سيظنان أن النور انطفأ من تلقاء نفسه لعطل ما … وهو شيء يمكن حدوثه.

عاطف: هناك شيء آخر … أو سؤال آخر … هو: لماذا بقي تسع ساعات حتى يخرج من المتحف؟

تختخ: لا أدري … على كل حال … لقد استطعنا أن نصل إلى استنتاجات محدَّدة … وسنرى ماذا يفعل رجال الشرطة.

لوزة: تعالَوا نسأل المتفش «سامي».

تختخ: المفتش «سامي» سافر في مهمة خارج القاهرة منذ ثلاثة أيام، وعندما يعود سنعرض عليه الموضوع.

محب: وما هي خطوتنا التالية؟

تختخ: أرى أن نزور الرسَّام «مأمون» في المقطم. إن المقطم مرتفع عن القاهرة، ودرجة الحرارة فيه أقل، ويمكن أن نقضي يومًا جميلًا عنده … ومنازل الرسَّامين عادةً تُشبه المتاحف، فيمكن أن نُشاهد لوحاته ولوحات غيره من الرسَّامين التي يحتفظ بها، وفي الوقت نفسه فإن حديثنا معه سيكون مفيدًا لنا جدًّا، ويمكن أن يفتح لنا آفاقًا من المعرفة في عالم الفن والألوان، وهو ما نحتاج إليه في ثقافتنا الفنية.

وافق الأصدقاء جميعًا على الاقتراح بحماس … وافترقوا على أن يلتقوا في اليوم التالي ليذهبوا إلى «مأمون» في المقطم … وقال لهم «تختخ»: إنه سيتصل بالرسَّام هذا المساء ليستأذنه في زيارته.

رحَّب الفنَّان «مأمون» بحضورهم. وهكذا اجتمعوا في الصباح التالي وبدءوا رحلتهم. كانت رحلةً طوليةً بين المعادي والمقطم … ولكنها كانت رحلةً ممتعة … وقالت «لوزة»: هذه أول مرة نزور فيها المقطم دون أن نكون في مغامرة، فهل تذكرون متى جئنا إلى المقطم قبلًا؟

نوسة: أذكر عند مطاردتنا للعصابة التي خطفت الأمير «كريم» في لغز الأمير المخطوف … ومرةً ثانية في لغز الرسالة الطائرة … ولكن «عاطف» وحده هو الذي دخل وكر العصابة.

عاطف: ثم حضرتم جميعًا بعدي، وشاهدتم زعيم العصابة العاجز عن الحركة.

لوزة: كانت مغامرةً رهيبة.

تختخ: لعلنا نعثر في المقطم على لغز ثالث.

ردَّت «لوزة» بحماس: إنني أُحس بذلك …

وكانت السيارة تدور بين الصخور العالية في طرقات المقطم صاعدة … والهواء منعشًا لارتفاع المقطم عن القاهرة … والأصدقاء جميعًا يُحسون بالسعادة لأنهم سيقضون فترةً ممتعةً في ضيافة الرسَّام «مأمون».

وبعد أن سألوا عن العنوان، وصلوا إلى فيلا الفنَّان، حيث كان في انتظارهم على باب الحديقة، وقد أمسك بآلة لتشذيب الحشائش … وعندما شاهدهم صاح: تعالَوا ساعدوني.

وبعد أن تبادلوا التحية معه، دخلوا الحديقة، حيث كان الفنَّان يقوم بريِّها، وسرعان ما اشتركوا معه … وأمسكت «نوسة» بالخرطوم … ترش الزهور الجميلة، ثم تعبث مع الأصدقاء أحيانًا برشهم برذاذ خفيف.

وبعد أن انتهوا من رش الحديقة، جلسوا يتناولون الشاي ومعهم زوجة الفنَّان وطفلته الصغيرة … وسرعان ما اتجه حديثهم إلى الفنَّانين واللوحات، فأخذ «مأمون» يروي لهم قصصًا شيقةً عن حياة الفنَّانين … قال «مأمون»: إن أكثر الفنَّانين قابلوا في بداية حياتهم الفنية متاعب ومشاق هائلة … خاصةً الذين حاولوا أن يشقوا طريقًا جديدًا في الفن. وروى لهم قصة الفنان «فان جوخ» الهولندي، الذي كانت مشاعره النبيلة تتساوى مع مقدرته الفنية … وكيف كان يُعاني من نوبات من الصرع، حتى إنه قطع أذنه وأهداها إلى حبيبته إعلانًا عن حبه … ثم وُضع في مصح للأمراض العقلية … وانتحر وهو في السابعة والثلاثين بعد أن أضاف لفن الرسم الكثير … وأثَّر فيمن جاء بعده من الرسَّامين.

قال «تختخ»: إن لهذا الفنَّان لوحةً في متحف «محمد محمود خليل» الذي زرناه.

مأمون: نعم، وهي لوحة «أزهار الخشخاش» … وهي مرسومة على القماش، وقد رسمها الفنان حوالي عام ١٨٨٦م.

محب: وهل تُساوي هذه اللوحة كثيرًا؟

مأمون: طبعًا … إنها لا تُقدَّر بمال … ولكن يمكن تقدير قيمتها بمائة ألف جنيه.

عاطف: مائة ألف؟! يا له من مبلغ هائل!

مأمون: هناك لوحات بيعت بأكثر من مليون جنيه، وهذا ما يدفع بعض الفنَّانين الفاشلين إلى تقليد لوحات لكبار الفنَّانين وبيعها بأسعار خيالية لمن لا يعرف حقيقتها.

تختخ: وهل هناك قصص مشهورة عن هذا التزييف؟

مأمون: هناك قصة رسام هولندي انتهز فرصة الاضطراب الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية … واللوحات التي سُرقت من متاحف الدول المشهورة، خاصةً فرنسا … وقام بتزوير عدد كبير من اللوحات لمشاهير الفنَّانين تزويرًا متقنًا فات على كثير من الأخصائيين في فحص اللوحات … وباع ما رسمه بمبالغ خيالية حتى اكتُشف أمره … وقُدِّم للمحاكمة.

وانتقل الأصدقاء إلى داخل الفيلا، وفي المرسم الواسع المشمس قضوا وقتًا ممتعًا في حديث مع «مأمون» ومشاهدة لوحاته وطريقته في الرسم … وعندما استأذنوا للعودة قال «مأمون»: كنت أتمنَّى أن تقضوا معي اليوم كله … لولا أني مضطر إلى الذهاب لزيارة صديق أُصيب في حادث منذ يومَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤