الشق الأول

المعتقل

١

في ظهيرة قائظة، عند عطلة نهاية أسبوع من صيف لاهب، وتحديدًا الأسبوع الأخير من شهر آب، ومن على مقعدٍ خلفيٍّ لسيارة إيطالية سرقت لون السماء، وُلدت حكايتي.

كان شهرًا ساخنًا بكل ما فيه؛ طقس جهنمي وحرب مستعرة اشتد أُوارها، حيث تزداد ضراوة المعارك على الحدود الشرقية بين جيش الدولتَين الجارتَين. وَقْع الهزائم العسكرية في الأسابيع الأخيرة، وفقدان مساحات واسعة من أراضي الخصم — كانت إلى وقت قريب تسيطر عليها وحدات من الجيش العراقي — قد أخذ مأخذه الكبير من معنويات النظام، وبدأ إثر ذلك حملةً واسعة لتصفية كلِّ مَن له أي علاقة مع المعارضة السياسية، ولو كانت هذه العلاقة المفترضة مستندة إلى شبهات وشكوك، بل حتى وإن كانت أوهامًا. أي شخص يجهر برأيٍ معارض للحرب أو يُبدي قلقًا لانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت قد أصبحت أمرًا شائعًا حينها، بل كل فرد عراقي بات يخشى من الوقوع تحت عجلة القمع والاضطهاد الجبارة التي لو قُدر لها السير فوق أيِّ أحد، لكان أشبهَ بسير حادلة فوق طريقٍ عُبِّد بالقير للتوِّ، لا تخلف بعدها غير صفحة سوداء لا أثر فيها ولا ندوب كما لو أن شيئًا لم يكن.

عُصبَت عيناي بحشر كومة قطن بينها وبين زجاج نظارتي الطبية، وأُنزل رأسي إلى الأسفل، وسارَت بي العربة مسرعةً إلى حيث لا أدري من الأمكنة، سوى عنوان طالما اخترعَته مخيلتي. إنه بيت قابيل قاتل جدي الشهيد بجرم براءَته، بيتٌ سلخت فيه ما يقارب العشر سنوات من عمري، وكابدتُ فيه من العناء الشديد والحرمان من كل شيء، والأهم من ذلك هو الحرمان من أيِّ عاطفة إنسانية، وقاسيتُ فيه من الأهوال والعذابات ما لا يمكن لي أنا شخصيًّا أن أتصورها، فكيف بمَن سيقرأ هذه الأسطر!

إنه بيتٌ، بل عالمٌ مظلم مزدحم بالحوادث والانفعالات وكذلك بالناس، إلى حدِّ أني لم أحظَ ولا حتى بفرصة واحدة لأكون بمفردي مختليًا بنفسي، إلَّا عندما كنت أكون في بيت الخلاء، وحتى هذا الموضع الفريد كنت أضطرُّ لمشاركته في بعض الأحيان. إنه لأمرٌ فيه من الصعوبة الكثيرة كي يتصورَه أحد أو يصدقَ وقوعه. إنه أشبه بأسطورة اخترعَتها مخيلةُ كاتب أفلام رعب من زخم فوضى كوابيس مرعبة تسكن رأسَه ليلَ نهار.

آخر مشهد لمحَته عيناي قبل أن أُحشر بين جثَّتَي رجُلَي أمن قويَّين في تلك العربة، هو وجه شقيقي العائد للتوِّ من نزهة قصيرة بسيارته البولندية البيضاء. رأيتُ علاماتِ فزعٍ ودهشة ارتسمَت على محيَّاه وهو يشهد السرعة الفائقة التي تمَّ اختطافي بها. كانت تعابيرُ وجهه تحكي إحساسه بأيِّ معضلة وقعتُ فيها، ونظراتُه تُرسل كلماتِ وداع ألْجَم الموقفُ لسانَه عن النطق بها، كلمات وداع لمغادرٍ لن يعود، وإن عاد فسوف يرجع بحمولة ثقيلة من الحزن والهموم لكل مَن يعرفه، وسيكون ذلك بعد انتظار صعب لزمن طويل وثقيل مشبع بالليالي الحزينة الطويلة.

قلَّدوني أساورَ هي مهرُ عُرسِ الحرية الذي سوف أُزَفُّ له، وقبلها أرجعوا المِعْصمَين إلى ما وراء ظهري، ثم طلبوا مني أن أسير على هُدى كلماتهم حين أُنزلتُ من العربة بعد فترة وجيزة: «سِر يمينًا … اذهب إلى اليسار … اخفض رأسك.»

لا أعلم حتى اليوم هل كانت كلماتهم فعلًا فيها أيُّ موضع لنيَّة صادقة لإرشادي إلى الطريق؟ طريقٌ متعرجٌ ملتوٍ ما زلتُ أجهل أبعادَه وتضاريسه ولم يتسنَّ لي التعرُّف عليها أبدًا، أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها كلَّ السنوات المقبلة؟ نعم، كانت هي فعلًا كذلك على الأرجح، كما كان هناك من بعدها ما يُقارب العقد الكامل من السخرية اللاذعة. انتهى المسار بي إلى حُجرة ما زلت أذكر — بل أعرف — كلَّ تفاصيلها، وأستطيع وصْفَها بمنتهى الدقة، كما أني أيضًا في المقابل ما زلتُ أجهلها بالمطلق؛ لأنها لم تكن سوى ظلامٍ دامسٍ ومقعد خشبي لعله كان مصطبةً طويلةً تتسع لآخرين، لم أجرؤ على التحقق منه فقد كنتُ مرعوبًا ومرتبكًا إلى حدٍّ كبير. لم ينقضِ الكثير من زمن ثقيل كانت كل لحظة فيه تسحقني بحمولتها من الخوف الشديد والقلق الكبير، حتى غطس وجهي في سَيل صفعات، ثم توالَت عليَّ شلالًا غزيرًا. غرقتُ في وَحْلها وعلقَت بي مخاوفُ شتى وهواجس. كان يخترق سمعي صُراخ مَن بدأت حكايتُه قبلي، صوتُ ألمٍ مبرح وعذاب شديد يخرج منه ليستقر في جسدي العشريني الغض. شُرَطيُّ أمنٍ يجلس بالقرب مني كان يضحك متشفيًا وهو يستمع لتلك الصرخات، ويدسُّ في روحي رعبًا جديدًا وهو يقول ساخرًا: مَن ذاك المسكين الذي لم ألتقِ إلَّا صوتَه المُعذَّب: «هل حان زمن الولادة أم أنها لا زالت متعسِّرة؟»

كان صدَى صراخه وسخرية الحارس ينبعثان خوفًا وارتجافًا في ثيابي التي ابتلَّت بعرقِ فزعِ المواجهة الأولى، وما كان يعوزني لمزيد من التعرُّق مع قيظِ آب اللاهب وطبيعة جسدي الخاصة الذي يتعرَّق حتى في أيام الشتاء الباردة سوى هذا الرعب.

سُحبتُ بعد هنيئة إلى غرفة باردة بكل ما فيها، أُجلست على كرسي حديدي ورُفعَت العصابة عن عيني لأرى قابيل منتصبًا أمامي لأول مرة بزيٍّ عسكري، وقد رُسمت على كتفَيه نجمة يتيمة. هذه المرة هكذا رأيته وسوف أراه كلَّ مرة بهيئة وصورة جديدة، وفي كل المرات ومهما تعدَّدت الصور فإن له حقيقة واحدة لا تتغير، حقيقة شيطان. صور سوف تتكاثر مثل قنبلة انشطارية تأبى أن تتوقف عن التزايد والتكاثر حتى هذا اليوم. ويبدو أن لن يُصرَع الشيطان إلَّا في وقت معلوم حين نرحل عن داره إلى أرض ليس فيها غريزة.

ضحك الضابط الصغير برتبتِه وسِنِّه وكل شيء فيه، ساخرًا وهو يُشير إلى هيئتي التي بعثرَتها كفوفٌ غليظة، ولمَّح بكلمات مقتضبة إلى تُهمة تنتظرني. تهمة ترحل بصاحبها سريعًا إلى موتٍ شاعَ انتشارُه بين الهامسين بحلم الحرية مثل طاعون أسود. لحظاتٌ قليلة مرَّت بعد بدء هذه المقابلة الأولى لأجد نفسي تحت الكرسي الذي كنت أجلس عليه، تمسك به يدَا هذا الضابط الصغير، وبدأ يوزِّعه على جسمي النحيل بضربات متنوعة بكل ما أُوتي من قوةٍ لا يعبأ أين تقع.

في تلك اللحظة بالذات بدأتُ أجمع أجزائي التي فرَّقَتها مفاجأة الوهلة الأولى وأستعيد وَعْيي الغائب. نَفيتُ كلَّ تهمة ألقاها عليَّ، إلَّا أنه لم يكن معنيًّا بالأمر كثيرًا؛ إذ ما كان كل هذا سوى ممرٍّ قصير إلى أماكن أخرى أشد رعبًا وأكثر ظلامًا، سوف أتنقل بينها قسرًا. سوف تتغير مثل تغيير أحذية قديمة مُهْترئة بالية لا تصلح للانتعال، لكن أُرغم على استعمالها مع اهترائها المفضوح وعدم جدواها السافر على الخوض بها في مستنقعٍ شديد الوحولة.

قبل أن يُكمل عقرب الساعة دورةً واحدة كاملة ليُنهيَ الساعة الأولى على ما قدَّرتُه حينها، اقتادَتني زنود شديدة جديدة، وهذه المرة غلَّفت عينيَّ عصابةٌ جلدية سوداء في طرفَيها قطعة بلاستيكية لتكتم الرؤية عنِّي بالكامل، إلى أن وصلنا إلى بناية عالية متعددة الطوابق تسلَّقنا أدوارها الكثيرة بمصعد كهربائي. العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمِّرة في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعيَّ وقُيدتُ به إلى عمود أو شيء يُشبهه، لا أدري ما هو، ولم يتسنَّ لي أن أراه أو أن أتحسَّسه أبدًا ولا حتى لوهلة واحدة، فقد حذَّرني أحدهم من الحركة أو أن أنبس ببنت شفةٍ، وكنت فتًى مطيعًا، على أن حجب بصري لم يمنعني من تحديد الوقت بدقة، إنه ما بعد الساعة الرابعة عصرًا. دلَّني على ذلك صوتُ مغنٍّ مشهور لا يجهله أحد، كان يُلقَّب بالعندليب الأسمر، وكنت معجبًا بصوته. كان يشدو مغنيًا في فيلم الأسبوع الذي يُعرَض من بعد ظُهْرِ كلِّ جمعة كالعادة الجارية حينها. كان يشدو بألمٍ رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي، ويفوح عطر الوجع من تلفاز قريب، مردِّدًا:

أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير.
أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير.
أين أحلامي وكانت كيفما سِرت تسير.
كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت.
لست أدري.

انتابني وقتها شعورٌ عميق وإحساس غريب بأن ما أسمعه هو نبوءة وليس أغنيةً أو شِعرًا. إنها نبوءة لعاصفة مدارية من ليالٍ حزينةٍ طويلة، سوف تلفُّني بعمودها الفارع في طوله كأنه يتحدَّى السماء، وتأخذني بعيدًا إلى قلبها المظلم تائهًا حائرًا لا أجد فيه سوى الفراغ لأتشبَّث به. لا، إنها ليست موجةً من تشاؤم ولا هي نوبة تطيُّرٍ تمرُّ على مسكين بائس قد بلغ به اليأسُ الزُّبَى، ولا إنها نبات طفيلي لا جذْرَ له نبَتَ للتوِّ على بركة الحزن. إنها نبوءة. هذا الشعور الغامض مثل شبح يرتدي قناعًا، آمنَ وصدَّق بالنبوءة واستقرَّ راسخًا في داخلي، وما زلتُ أتلمَّسه حتى اليوم في حناياي.

كان تصديقًا مثل مكاشفة صوفي، بأن سنوات من ضياع طويل في غيبوبة جُبٍّ عميق تنتظرني، بانتظار دلو ينزل عليَّ من سيارة يسحبني ثانية إلى أرض الأخوة التي استحَت من أفعالها الذئاب. لن تكون هذه النبوءة وحيدة، ولن تبقى مصادفة فريدة، بل ستظهر أكثر من واحدة تمدُّ برأسها في عالم سريالي. عالم سريالي إنما ليس وهمًا ولا خيالًا، بل هو الحقيقة الوحيدة التي سوف أعيشها وإن كنت لا أفهم مجراها ولا منطقها، وسيأتي الكلام عنها كلٌّ في حينه. قد لا أكون علميًّا أو واقعيًّا بنظرِ كثيرٍ، وحتى على خلاف طبعي في تفسير الأشياء وتعقُّلها، لكن لا يمكن لي أن أتجاوز هذه الوقائع الغريبة والمشاعر العجيبة فقط، لأني لا أريد أن أومن بالغيبيات أو بأحداث منتزعة من عالم الباراسايكولوجي. وجودها هو أدلُّ دليل على حدوثها، ولْأَكن أكثر دقة وأقول: إنها قد حصلت مع هذه التفسيرات غير المنطقية مني وبهذه الأحاسيس الغريبة، لربما كلُّ شيء وقع في صدفة محيرة، ومع ذلك فإنه قد وقع بالفعل، وحينما وقع آمنتُ به كما كنت أراه، وليس كما يجب أن أراه، ولأني عاهدتُ نفسي أن أكون صادقًا فيما أروي وأقول، لا بد لي من الاعتراف وبغاية الصراحة: أني لا أقوى على تكذيب هذه الوقائع والمشاعر، وأعجز عن رميها بالصدفة والخرافة حتى هذا اليوم، رغم أن عقلي الرياضي يجحد التلازم بينها وبين ما جرى. الأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من نفسي المضطربة الحائرة حينها لتفسيرها ولإصابة علَّتها الحقيقية، وأكثر من برودة المعادلات الرياضية التي لا تُدرك سرَّ العشوائية التي أنتجت بديع النظام.

جلستُ طويلًا هناك إلى جوار العمود المفترض بسكون وهدوء تامَّين، ثم بعد تحقيق شكلي من تسجيل اسم ومعلومات أولية عن السن والوضع الاجتماعي والدراسي، قام باستجوابي عنها شخصٌ لم أتعرَّف عليه. يبدو أنه لم يكن معنيًّا بنوع التهمة المزمع توجيهها إليَّ؛ لأنه كان يعمل بشكل إداري روتيني ليس إلَّا. أتى بعد ذلك شخصٌ آخر اقتادني إلى أسفل البناية في المصعد الكهربائي نفسه. دخلتُ إلى معتقل يتكون من قاعة كبيرة وغرفتين وفسحة بين كل ذلك. بالطبع لم أرَ هذه الحُجر حين دخولي لأول مرة؛ لأني كنت معصوبَ العينين، إلَّا أني رأيتُها لاحقًا. أُركنت إلى حائط واتكأتُ عليه وصار موضعٌ صغير مقابل باب إحدى الزنزانات محلًّا ليقظتي ومهجعي.

يداي سوف تستمر مقيدة للخلف ويحول بين النور وعيني تلك العصابةُ ذاتها، التي التصقَت بها من هذا اليوم، ولأحد عشر يومًا كاملة قادمة بلياليها. حتى عندما كان يُقدِّم لي الطعام كنت أسحبه من الصحن في مشهد مدهش. كفَّاي مقيدتان إلى الخلف ترفعان ملعقةً من حديدٍ رخيص، وبالكاد تلامس شفتيَّ أو تغرف شيئًا من صحن الطعام، في عملية معقدة جدًّا لا يمكن تصورها وَفْق قوانين مرونة عضلات الجسم، إلَّا أن الحظ لم يكن سيئًا تمامًا فقد كانت الوجبات مشبعة وجيدة الطبخ؛ طعمها ومذاقها لا بأس بهما، ولا يمكن لي أن أشكوَ منها، لم أقرف منها أبدًا كما سأفعل بعد ذلك لدهرٍ طويل مع الوجبات التي سوف أُكره نفسي التي تعافها على تناوُلها مع أني في قادم الأيام سوف أتضوَّر جوعًا.

أيُّ وجبة ستكون لذيذة المذاق تُسكر الطاوي بريحها العطر، لكن رغم ذلك القحط والجوع لن أستسيغَها، بينما وجبات هذا المعتقل الأول ومع أني كنت في أوائل أيامي من رحلة الخوف، ولا يخفى ما للأيام الأولى من خصائص أولها فقدان الشهية، بيدَ أني كنت أرى الطعام بحقٍّ لذيذًا. المرة الوحيدة التي كنت أتحرر فيها من هذا المشهد الغريب، وأعني به ضم الأذرع إلى الوراء والعينين المعصوبتَين كانت فقط حين يسمح لي بمراجعة الخلاء، أما ما عدا ذلك فلا. القيد والعصابة أصبحتا مفردتَين ثابتتَين في حياتي الجديدة.

الاستحمام كان ممنوعًا، أو لنقل الحقيقة بوضوح أكثر أني لم أجرؤ على التفكير فيه فضلًا عن طلبه، لم يكن معلومًا عندي ما الذي يغضب الحراس الحانقين بلا سبب طيلة الوقت عما يرضيهم؛ لذا صار السكوت عندي وقتها معدنًا غاليًا للغاية، بل أنفس من كل المعادن والفلزات. صراعاتهم وشجاراتهم المستمرة فيما بينهم منعَتني من التفكير في طلب أي شيء منهم، وحتى يُفهم تردُّدي أكثر أذكر واحدًا من أسباب شجاراتهم السخيفة التي كانت تَصِل إلى تبادُلِ أقذعِ السباب وأفحش الشتائم. في أحد الأيام سحل أحدهم كيسًا للخبز، واعترض عليه آخرُ رافضًا أسلوب السحل؛ لأنه يريد أن يرفعه. اندلع بينهما شجار لم ينته إلَّا بوساطات من زملاء لهم وجهود تهدئة من آخرين، بعد أن وصل الأمر بينهم إلى حدِّ الاشتباك بالأيدي، وامتلأ المعتقل صخبًا بكل أنواع سبِّ الآلهة والأديان. بالطبع في تلك اللحظات من الأفضل لأيِّ معتقل أن يتحول إلى حجر صامت بلا حَراك؛ لأن أيَّ تأوُّه منه قد يجعله هدفًا في مرمى النيران، ويتحول إلى كيس ملاكمة ينفسوا به عن غضبهم ويفضوا به اشتباكهم.

في يومٍ ما — وبلا سابق إنذار وبدون أيِّ مقدمات — أغدق عليَّ أحدُهم إبريق ماء لأزيح عرقًا تراكم عليَّ من الخوف وحرِّ الصيف وخنقة المكان المغلق الرطب لأكثر من أسبوع. لربما أزعجَته عفونة ملابسي برائحة العرق المشبعة فيها في ذاك الصيف القائظ الذي ابتدأت به رحلتي. لا أدري ما الذي دفَعه لهذا السخاء لربما تكون نفحةً إنسانية منه، أو واجبًا روتينيًّا عليه أن يقوم به. لم يستغرق الاستحمام سوى دقائق معدودة، لا تتجاوز حتى أصابع الكف الواحدة، كانت تكفي لإراقة الإبريق الصغير بعناية واقتصاد على كل زوايا جسمي وفي جميع الاتجاهات، بيدَ أني استغرقت بعدها وقتًا أطول حين وقفت عاريًا، حائرًا بسؤالٍ عسير الجواب، كشفَته اللحظة ولم يَرِد بخاطري قبلها: كيف سوف أجفف قطرات الماء الملتصقة بجسدي الآن؟ طلبتُ منشفًا من الحارس لفعل ذلك متشجعًا بتسامحه وبكرمه المفترض، غير أنه ردَّ عليَّ بالضحك مقهقهًا باقتضاب، ضحكة اختلطت فيها الشفقة مع السخرية: هنا لا يوجد شيء اسمه منشفة.

كان يُدرك جهلي المدقع للأبجدية الجديدة، التي ما علمَتني إياها أعوامُ المواظبة على الدروس، ولا الاستغراق في مطالعة أيِّ حرفٍ مسطور على قرطاس يقع بين يدي أو أمام ناظريَّ. بعد الآن سوف تحتويني مدرسةٌ أخرى تُعلِّمني دروسًا مقررةً في منهج الصراع من أجل البقاء، دروسًا سيفهمها كلٌّ بما يشاء، ستُنتج مرةً عريًا فاجرًا وتارةً أخرى دثارًا للأنبياء. دروس تسحق الكسالى البُلَداء وتسمو بغيرهم من أضدادهم فوقُ بعيدًا إلى حيث تتوحد الأشياء بالأحلام.

كنت أسمع أصواتًا عديدة لمعتقلين آخرين لا أرى أحدًا منهم، وأجهل الذي يجري بينهم وعليهم. لم أكن أدري حتى أين أنا تحديدًا (عرفت بعدئذٍ أنها مديرية أمن بغداد)، ولا أعرف شيئًا عن تُهمتي التي اعتُقلت بسببها. وفي ضُحى يوم سمعت جلبةً وصخبًا، أقدامٌ حافية كثيرة تمرُّ مسرعةً مهرولةً بالقرب مني، أبوابٌ تُفتَح وأخرى تُوصَد، وفحيح سلاسل يقرقع صوتها وهي تُرمى على الأرض تارة وتارة أخرى تُزمجر غاضبة حين تصك أسنانها على المعاصم. أعقب ذلك صمتٌ مُطبق وسكونٌ قاتل طويل، بددهما زعيقُ حارس أمني بلهجة نَهْر وحنَق وبطريقة فظَّة تنمُّ عن خشونة صاحبها وقسوته: قم!

وقفت ممتثلًا وشعرت بصوت مفتاح من ورائي يدور في القيد لتُطلق يداي لأول مرة منذ اعتقالي، طلب مني أن أرفع العصابة عن عيني لأجد أمامي بابًا مفتوحًا يؤدي إلى زنزانة صغيرة خالية تمامًا، إلَّا من مجموعة بطانيات رُكِنت في زاوية وأخريات مفروشات على الأرضية الإسمنتية: ادخُل!

أغلق الباب خلفي ورحل. شرعتُ أتلمس المكان مستمتعًا بيديَّ الطليقتَين مثل طفل ينتشي برؤية لعبة جديدة لأول مرة، عيوني ساهية تسرح في فضاء صغير، لكنه بعد أيام سيكون من أرحب ما سوف تراه عيناي لسنوات عديدة. كان الوقت طويلًا ثقيلًا مملًّا جدًّا؛ إذ كان عليَّ أن أنتظر فقط، وماذا أنتظر؟ لا شيء. الأمر يبدو مثل حبل سائب لا نهاية له أبدًا، وأصبح رأسي خاويًا من الأفكار تمامًا، إنهم لا يتحدثون معي بأيِّ شيء أبدًا، ولا حتى يتهموني بشيء، صار الأمر كأنه لُعبة عبثية قاسية. صرتُ أذرعُ الغرفة في كل الاتجاهات، أجول بنظري على الجدران، أتفحَّص أيَّ شيء فيها، وأحدِّق طويلًا في الأرض والسقف. قرأتُ كلَّ أبيات الشعر والأسماء المحفورة على الجدران؛ ومنها عرفت أفكار بعضهم وتهمة آخرين ممن سكن هذه الزنزانة قبلي.

كنت أشم رائحة الموت الذي ابتلعهم، كانت كلماتهم تنمُّ عن تحدٍّ لمستقبل مجهول تشاءَموا من ملاقاته ولم يجدوا بدًّا من مواجهته بشجاعة بدلًا من الهزيمة والانكسار. لربما هناك آخرون أُحبطوا وانكسروا أو عجزوا أن يتركوا أثرًا، وهذا هو حال الدنيا هي وكل ما فيها يفنى. إنما يخلد الشجعان، والمهزومون لن يتبقَّى منهم شيء، بل يصيرون عدمًا لأنهم خواء.

٢

بعد أحد عشر يومًا بالتمام والكمال وبدون أن أعرف منهم لماذا اعتقلوني، ولماذا لم يتحدث معي أحدٌ طيلة هذه المدة، بدأ فصل جديد. هذا الفصل سبقَته رؤيا غريبة رأيتُها. فزعتُ من نومي هلعًا في إحدى الليالي بعد أن رأيت إحدى شقيقاتي تبكي وهي تودِّعني؛ لأنه قد حُكم عليَّ بالسجن المؤبد لمدة عشرين عامًا. عندها انتابني شعورٌ ملأ تمامَ رُوحي بأن ما رأيتُه لم يكن أضغاثَ أحلام، بل نبوءة مستقبلية قوَّضت كل أحلامي باستعادة الحرية. لست أدري هل هي نوع من المصادفات أو أنها تدخل في علم الباراسيكولوجي، لست متأكدًا من أيِّ شيء، إلَّا من أمرٍ واحد، إحساسي بصِدْقها كان تامًّا في شعورٍ غريبٍ لم أجد له تفسيرًا أبدًا.

بعد انقضاء هذه المدة، أعني الأحد عشر يومًا، اقتادوني في نهارٍ مُعصَّبًا مكبَّلًا إلى الخلف كالعادة إلى مركبة حديثة ذات دفْعٍ رباعي، طلبوا منَّا أن نخفض رءوسنا وأن نجلس راكعين، ومن أصوات الزجر الفاحش وبذيء القول المستدام على ألسُن مَن يَقتادنا، علمت أن هناك مَن يقاسمني الرحلة هذه المرة، وأننا نتَّجه للمرور بمخاض صعب جديد.

المسير في هذه العربة كان بعيدًا هذه المرة، وما إن تجاوزنا بوابة كبيرة عالية بُنيت حديثًا شمال العاصمة العريقة التي طالما تغنَّى بها الشعراء وامتدحوا سِحرها، إلَّا أنهم لم يذكروا يومًا في قصائدهم هذا العالم السفلي الذي ابتدأتُ أخوضُ في بحر ظلماته؛ بحرٌ لجيٌّ كنت أعمل بالضد منه خشيةَ الطوفان القادم منذ وقت مبكر في مقتبل عمري، منذ أن كنت تلميذًا حاولت جاهدًا أن أكشف الغطاء عن خطره الداهم في كل فرصة تسنح لي سواء مع زملائي في الدراسة أو مع مَن كنت أتعرف إليهم. كان التحذير من كارثة أمواج خطره العالية القادمة لا محالة، يشكِّل هاجسًا رئيسيًّا في كل أحاديثي الشخصية. لم أكن معنيًّا كثيرًا بنشر فكرٍ معين رغم انتمائي له بقَدْر ما كان محور عملي واهتمامي الأساسي هو رفض سياسة القمع وتكميم الأفواه وحساب الأنفاس التي كان يتبعها النظام بأسلوب قمع فاشيٍّ.

كنت أرى — وما أزال — في ذلك التيار السياسي فكرًا يحمل صرخةً تعبِّر عن ضمير الإنسانية المعذَّب، ويسعى لحل مشاكل هذا العالم بما يحقق من إنسانية الإنسان، إنما لسوء الحظ لم ولن يخلو أيُّ تيار إصلاحي يرفعُ راية الإنسانية من جموع الانتهازيين وطلاب السُّلطة ومن الضعفاء وقليلي الإدراك والوعي لقيمة ما يحملونه وينتسبون إليه. وجود هؤلاء بالتأكيد يشوِّه جمال الأفكار في كل مرة عبر التاريخ، ويُحبط نوايا الثوار ويصادر أحلامهم بعالمٍ حرٍّ تتساوى الفرص أمام جميع أفراده. أحلامٌ يناضل لأجلها الثوار ويقدِّمون في سبيلها التضحيات بلا تردد، ويسترخصون دماءَهم لها ويجعلون من رقابهم جسورًا تعبُر الإنسانية عليها إلى شاطئ أكثر أمنًا ورفاهًا.

لم يكن انضمامي للعمل السياسي الحزبي تأثرًا بالآراء السياسية أو الفلسفية إلَّا هامشيًّا، الدافع الحقيقي كان توفري على خاصية لعلها تميزني عن بعضٍ ليس بالقليل من أقراني، وهي الحساسية الشديدة من غياب الحرية؛ حساسية لم تزَل تؤرِّقني وهي سبب رئيس لكل مواقفي تجاه الأحداث والجهات والذوات والأفكار.

أريد أن أعيش كإنسان حر وأرفض بقوة كلَّ ما ومَن يمنعني من ذلك، ولربما أصدق ما ينطبق على سلوكي وتصرفاتي هو ما قاله مكسيم غوركي: «جئت لهذا العالم كي أحتجَّ.» وبالفعل هذا كان سببًا مزمنًا لانخراطي في كل النشاطات السياسية، وأيضًا كان سببًا حاسمًا في مروري بهذه التجربة المريرة. لم أزل غير آسفٍ على مروري بها ولا أشعر بالندم عليها بالمطلق، ولن أُبالغ لو قلت: لو قُدِّر لي أن أعود بالزمن ثانية أو صادفني موقفٌ مماثل مستقبلًا لوقفتُ الموقفَ نفسه بلا أي تردد. الفارق الوحيد سوف يكون في زيادة الخبرة التي منحَتني إياها الأيام الطويلة التي عِشْتها لحدِّ الآن ومع ذلك لم تقوَ على قطع رأسي رغم فداحة آلام التجربة الكبيرة والمريرة. خبرة بلا شك يمكنها أن تُجنبني كثيرًا من فخاخ رجال الأمن السياسي وأيضًا سوف تعفيني من مصاحبة الخونة والضعفاء.

ما إن تجاوزنا بوابة بغداد الكبيرة حتى سُمح لنا بأن نرفع رءوسنا وأُزيحت كاتمات النور عن بواصرنا. تبادَلْنا نظراتٍ في دهشة وحيرة معًا؛ إذ لم يكن هذا اللقاء الأول بين هؤلاء المكبَّلين بالقيود المحشورين في هذه العربة، ولا هو القاسم المشترك الأول بين بعضٍ منَّا، بل سبقه في ذلك عدة لقاءات؛ لقاءات إما كانت جلسات فِكْر واحد يجمع بعضنا، أو لقاءات أخرى خاصة كان يسودها جوُّ التمرد على الأعراف والمألوف من التقاليد والعادات، جو الثورة على الأوضاع السائدة.

انطلقَت أسئلة كثيرة في سرِّنا مثل حِمَم بركان هائج: لماذا نحن هنا؟! وما الذي يجري؟ كيف تمكنوا من جَمْعنا هكذا بدون أن يتنبه أحدٌ لمخططهم؟ كنَّا نتوقع الاعتقال في يومٍ ما، وأعددنا لذلك خطة سهلة تحسُّبًا لذلك اليوم الموعود، إذا ما تعرَّض أحدُ رفاقنا للاعتقال. ولتجنيب الآخرين المصير نفسه، يُمنح المعتقل فرصة ثلاثة أيام بلياليها للصمود أمام المحقِّقين الأمنيِّين، ريثما يجد رفاقُه ملاذًا آمنًا للاختباء فيه أو الهروب. لكن ما يحصل الآن هو أننا وقعنا في شرَك جماعي بلا أيِّ تنبيه أو جرس إنذار.

السؤال ظل حائرًا يتنقل بيننا في نظرات مشتتة نختلسها بعضنا من البعض الآخر لمئات الكيلومترات، على طوال تلك المسافة بين مدينتَي المدورة عاصمة وطني التي ترعرَعتُ فيها أنا وآبائي؛ مدينة تحتضن ألمًا أزليًّا منذ يوم نشوئها، وبين مدينة أخرى قضيتُ فيها بعضًا من سنوات طفولتي ودراستي الجامعية، مدينة حدباء لعلها احدودبَت حُزنًا على العاصمة المعجونة بالألم طوال الدهر.

لم يوقف تشتُّت الأفكار ولحاقها العبثي بسراب الإجابة، حتى تلك الوقفة القصيرة عند مطعم شعبي على قارعة طريق عام في مدينة الملوية الشهيرة سامراء. وقفةٌ كانت تكفي لتناول وجبة غداء أتى بها نادلٌ شابٌّ. ما زلتُ حتى هذا اليوم أحفظ الدهشة التي ارتسمَت على وجهه، وكيف جمدت كلُّ عروق وجهه في وجل وانبهار، وهو يرى ملاعقَ تُمسكها معاصم مقيدة من خلف الظهور ترفع الرز المخلوط بالفاصوليا العراقية (يابسة)، ثم تنحني إلى هذه الملاعق أفواهٌ تسحب ما فيها في مشهدٍ من كوميديا سوداء.

عندما وصلنا إلى حيث كانوا يريدون لنا أن نصل من المعتقلات — وهو مديرية أمن نينوَى — كان طرف الليل قد امتدَّ وغطَّى كلَّ أحياء المدينة التي تجوَّلنا كثيرًا في شوارعها وأزِقَّتها الصغيرة، وارتدنا مقاهيها وملاهيها ومسارحها ومكتباتها يملؤنا صخبُ الشباب وحيوية الثوار. عندما اقتربنا من مشارف المدينة كانت عتَمَة الليل قد نزلت بثقلها على الشوارع، ومع عودة الخرق من جديد تضاعفت ظلمة الدنيا حلكة وزادتها اسودادًا، لتغطِّي العيون الهائمة والنظرات التائهة التي كانت تواصل إبحارها في يَمِّ المجهول والتِّيه بحثًا عن تفسير لما يجري.

ارتقينا سلالمَ كثيرةً بحثٍّ كثير ونهر لا يتوقف من رجال الأمن إلى أن بلغنا فسحةً في طابق علوي، رأيتها فيما بعد وكانت شاهدًا للحظة كان يمكن لها أن تكون نقطة تاريخية وعلامة فارقة سوف يأتي الكلام عنها لاحقًا. الردهة كانت تتوسط غُرفًا ضيقة كما رأيتها فيما بعد وتعرفت على جغرافيتها، أما الآن فلم أكن أُدرك أبعادها ولا أين نحن بالتحديد؟ باعدوا المسافات بيننا قليلًا على خلاف مشينا السابق، حيث كان يُمسك أحدُنا بالآخر ونحن نسير صعودًا على السُّلَّم. أُمرنا بالبقاء وقوفًا، وفي أيِّ حال لم يكن لنا أن نختار هيئة سواء من وقوف أو جلوس ولا حتى النوم، ليس في هذه اللحظة فقط، بل لسنوات طويلة متوالية، سيكون ذلك بمشيئة غيرنا في أغلب الأحيان وتبعًا لتعليمات جائرة لا يحكمها قانون ولا نظام تتغير بحسب تغيُّر مزاج شرطي يعاني مللًا من علاقة عاطفية أو فشلًا بها أو مصاعب في العمل لا يعرف حيلة لتيسيرها.

وقفنا بصمتٍ في الردهة لدقيقة أو دقيقتين أو أكثر بقليل من وقتٍ لا أذكر مقداره الآن، لكنه كان قصيرًا جدًّا لم يستغرق سوى انتظامنا في الوقوف لا أكثر من ذلك. ثم فجأة تحوَّلَت أجسادنا إلى كيس ملاكمة يتلقَّى مهارات رجال الأمن المدربين جيدًا على فنون القتال. لم يكن بإمكان أحد منَّا توقُّع الضربات القادمة إليه بقصدٍ أو التائهة منها، ولا رؤيتها. ولم تكن أمامي من وسيلة للدفاع سوى تكوير جسمي، إلَّا أن ذلك لم يساعدني كثيرًا ولا أَوْقف ترنُّحي بسبب زخَم الضربات وقوتها. الأرض بدأت تدور بي وصارت هشَّة لا يمكن الوقوف عليها وتحوَّل الترنح إلى نوبات سقوط متكرر.

كنت أحاول في كل مرة أن أعاود النهوض لكن ببطءٍ لعل ذلك يؤخر من اندفاعهم نحوي، قبل أن أهويَ تمامًا في مرة أخيرة منزوعًا من أيِّ قدرة أو قابلية على القيام مجددًا؛ سقطتُ على بلاط بارد لتبدأ بتقليبي عليه أحذية صُلبة رفسًا برءوسها المُدببة. لا أظن أن أيًّا من أصحابي كان وضْعُه أفضلَ مما كنت عليه، لكن لم يكن لي شغلٌ بهم ولا كنت حتى أشعر حينها بوجودهم، اللهم إلَّا حين تندُّ منهم صرخاتُ فزعٍ وألمٍ. كان الأمر باختصار كلٌّ في شغلٍ عن غيره وكلٌّ يصارع لوحده وحوشًا ضارية كاسرة انفلتت من عقالها فجأة. أحسست أن الكون خلا من كل شيء حتى من صانعه، ولم يتبقَّ فيه إلَّا أنا وهؤلاء القتَلة، لم يكن هناك من شيء يمكن التقاطه والتشبُّث به، رأسي أصبح خاويًا تمامًا كأنه قطعة فضاء خارجي لا يمكن له حتى أن يُرجِّع الصَّدى.

التصق جسدي تمامًا بالبلاط ولم أَعُد أملك شيئًا من قوة أو قابلية، سوى التقلُّب عليه حين يضطرني الأمرُ تفاديًا للركلات المتلاحقة، مضافًا إلى انهيار قواي بالكامل. كان القيد الجامع قد شلَّ يديَّ بالكامل؛ فقد انزلقَت السلسلة إلى الآخر أثناء العراك من طرف واحد، واستحكم التصاقها بالمِعصمَين حتى صار ذراعاي كأنهما جزء من ظهري. لم تتوقف الحفلة السادية هنا، بل وثبت فوقي أجسادٌ بعضها كان ثقيلًا جدًّا وأخرى ليست كذلك مع أنها جميعًا كانت تتميز برشاقة الحركة وخفَّتها. كانوا يقفزون بشكل متناوب فوق أيِّ موطأ تجده أقدامهم على جسدي، لا يميزون بين وجه لي أو قَفا. أكاد أجزم، رغم كلِّ ما سوف يُقرأ من هذه الأسطر ويُستعظم حصوله عليَّ، وقد لا يصدقه البعض أو يظنه مبالغة أو أمرًا لا يمكن لبشر أن يتحمله. أجزم بأني كنت محظوظًا جدًّا فكثير ممن عرفتهم في تلك الزنزانات ورأيتهم فيما بعد قد نالوا أضعاف ما نِلت من الأذى والعذاب، إنما للأسف لم يَرْووا حكايتهم بعد.

تمرُّ ساعات طويلة ولا تكفُّ الأحذية عن الاصطدام بجسدي ركلًا وتقليبًا بين الحين والآخر. أوشكتُ تمامًا على الانهيار وبلوغ مرحلة الإغماء لولا بعض استراحات قصيرة بين فينة وأخرى. بالتأكيد لم تكن هذه الاستراحات لخاطرنا، بل لخاطر أصحاب الأحذية المدببة ليشربوا شايًا ويأكلوا معه كعكًا أو بسكويتًا. كنت أسمع صوت جرشه تصكُّه أسنانهم وهو يختلط بسباب وشتائم لم تتوقف أبدًا، كأنها جزء من زادهم اليومي أو هي الأوكسجين الذي يستنشقونه ليبقوا على قيد الحياة. هوسهم السادي لم يَفتُر حتى في هذه الفواصل القصيرة من الاستراحة كما كنت آمُل وقتها بتوقفه؛ مثلًا لم يعجب أحدهم أن يستمرَّ في شرب الشاي وإكمال القدح الذي يُمسكه بيده فسألني: «هل تريد شايًا؟»

لم أردَّ عليه لأني كنت أعلم يقينًا أنه لا يسألني، بل يدبِّر أمرًا ما استهزاءً بي. لم يَخِب حدسي ولا كذبَ ظني؛ فقد سكب بكل هدوء ما تبقَّى من شاي ساخن في قدحه على فروة رأسي. ولسوء الحظ كنت قد زرتُ الحلاق قريبًا جدًّا قبل حفلة العبث هذه، ومن عادتي — كما هي حتى اليوم — أن أخفف شعر رأسي كثيرًا. الشاي يقدَّم عادة في بلدي في قدحٍ والسكر يكاد يملأ نصفه، لم تكن هذه العادة تعجبني أبدًا من قبل ولا الآن وهو ينزل على رأسي. الشاي سوف يبرد بعد ذلك مهما كان ساخنًا، لكن ماذا سوف أفعل بكمية السكر الكبيرة التي تغلغلت في فروة رأسي. بقيت أشعر بالدبق واللزوجة منها لوقت طويل جدًّا ثم صارت موئلًا مثاليًّا لكثيرٍ من الهوام والحشرات التي يزخر بها المعتقل، خصوصًا أن الاستحمام غدَا واحدًا من الأمنيات المستحيلة لزمن طويل، بل لدهور.

بعد انتظار طويل، وكم كان من انتظار مقرف؛ لأني كنت أنتظر أن يأتيَ اللاشيء أو الأسوأ. أنتظر مجهولًا إن أتى لن يحلَّ مشكلة، بل سوف يُفاقمها ويزيدها تعقيدًا وسوءًا. ومع ذلك كنت أُوهم نفسي أنه من المحتَّم عليَّ ترقُّب المجهول وانتظاره؛ لأن قدومه سيضع نهاية لهذا الإرزاء والازدراء الذي غُمرتُ به وغطستُ فيه عميقًا نحو قاعٍ بلا قرار. وهْمٌ شبيه بانتظار مَن لا يأتي أبدًا رغم كلِّ أوهام المنتظرين له، انتظار ابتدع صورته العجز حين يتملك صاحبه، ويقرف منه فيتذاكى على نفسه ويشحن ذهنه بخيالات وإبداعات من صُنع أوهامه، ويبحر فيها بعيدًا بلا شراع ولا دليل يتبع خُطاه مصدقًا واثقًا أنه بها يُمسك حبل نجاة ينتهي طرفُه الآخر عند برِّ النجاة والأمان، ولا يدري أنه طرف حبل سائب يسحبه إلى عرضِ يمٍّ لا متناهي الأطراف من العجز والشلل والانغماس في فضاء أحلام وهمية. أبواب النجاة لن تُفتح لوحدها، ولن تسير إلى أيِّ أحد، مَن يُرِد بلوغها فعليه أن يسعى إليها ويطرقها ويفتحها عنوةً إن أبَت، وبالتأكيد لن يصلَ إلى باب الخلاص عاجزٌ مشلول، بل يبلغها الساعون إليها ويطرق بابها السائرون نحوها وهم فقط مَن يفتحها.

وصل ضابط كبير (ع. ع.)، وبدأ يطلب الموجودين بالأسماء واحدًا تلو الآخر. رأيته كتلة لحم ضخمة تشوبها حُمرة مختلطة ببياض ترشح عُنفًا وتقطر قوة وتفيض قسوة. سألني بضعة أسئلة تقليدية: اسمك، عمرك، تحصيلك الدراسي، ومن أيِّ محافظة أنت، وأسئلة أخرى لا قيمة لها نسيتها الآن، وبادرني بسؤال يستدعي الضحك والخوف معًا: «هل آذاك أحد؟»

لم أعرف بماذا أجيب عن هذا السؤال، هل يجهل جوابه فعلًا وهو يرى حالي المبعثر بعد معركة خاسرة آثارها ترتسم على كل شيء فيَّ وعليَّ؟ أم أنه يبالغ في السخرية، أم أنه يستفزني لخوض نزال جديد؟ أم هو سؤال عبثي هكذا درج على لسانه بلا تفكير؟ وأيًّا كان الجواب فقد كان من الأجدى، بل من اللازم والواجب عليَّ تجاهل مثل هذه الأسئلة؛ لأن الإجابة عليها قد تُحوِّل المسار إلى سكة جديدة لا تُحمد خواتيمها ولا تحسن عقباها، وأيُّ عقبى تُؤمل بعد هذا الاستقبال الحار؟!

ويبدو أنه بالفعل لم يكن معنيًّا بالإجابة؛ لذا لم يعلِّق على وجومي وإطراقي، بل أمرني هادرًا بالانصراف بلهجة وعيد ببطش وتهديد بأزرَى مما لقيتُ حتى الآن.

– اذهب ارتح اليوم وغدًا سنبدأ معك الكلام.

لم أفهم أيَّ شيء من كل ما حصل رغم نشوتي الداخلية بأمر الانصراف، والتي ربما ارتسمَت على محيَّاي المبعزق. وفي طريق الانصراف ألححت على نفسي بسؤال ساذج كنت أحسبه جوهريًّا، أين هو الاتهام الموجَّه لي؟ ولماذا إذن كان تسونامي الرفس واللكم والهراوات؟ هل حقًّا ستكون التهمة الموجهة لي كما كنا نقول ويقال لنا كثيرًا: أن النزوة المجنونة في أن تكون إنسانًا هي من أكبر الجرائم وأخطر التُّهم في جمهوريات الخوف؟

إنهم لا يبحثون عن شيء، بل يريدون وأْدَ الفطرة الإنسانية التي إن طلَّت على صخب هذا العالم ونما برعمُها قليلًا، استفزَّ تجبُّرهم وتيقَّظ استكبارهم وارتجف الطغاة وعبيدهم جنونًا، وطفقوا يغرفون من ظُلمة بئر الموت أنواع القسوة لمحوها. لو أصاب العثُّ الشجر وفسد الثمر فإن الزاد والقوت لا يؤخذ إلَّا من السليم، وبهذا النزر القليل من الثمر تُواصِل قافلة الوجود سيرَها السرمدي، وسيذهب العثُّ مهما كثر إلى المزابل هو وجميع الثمر الفاسد.

٣

على سلالم كثيرة أُنزلت إلى سرداب تحت الطابق الأرضي في زنزانة انفرادية، عرضُها أقل من ثلاثة أرباع المتر، وطولها يكاد يضاهي طولي ذا الأقدام الستة، كنت وأنا أفترشها متمددًا تصل أطراف أصابعي إلى الباب، ورأسي يلتصق بآخر الجدار، ارتفاعها لم يكن يُجدي المرور من تحته إلَّا بانحناءة قصيرة مني لأدخل مسكني الجديد، انخفاضها الشديد دون غيرها سببه سوء طالعي؛ إذ إنها واحدة من زنزانتَين تقعان تحت سُلَّم.

زنزانتي هذه كانت نُزُلَ الحرية الوحيد في هذا العالم المستعبد من أباطرة القوة والجشع؛ إذ كنت أختلي فيها بعيدًا عنهم وأعتكف معيدًا ترتيبَ أفكاري. فضاؤها كان مملوءًا حدَّ التخمة المفرطة بالظُّلمة ومعه صار الليل كسوتي وردائي. ليل لم يَعُد ينجلي ويهبط كما كان، بل صار مكتنفًا هناك معي يأبى المغادرة، لكنه جاء لا قمر معه ولا نجوم. عيوني تتنقل في الظُّلمة وتأخذ من خيوطها شعاعًا أُبصر به الأشياء. باب الزنزانة الحديدي السميك يقيده أكثر من مزلاج وتُغْلقه أقفال ثقيلة من الخارج. في الجزء العلوي من الباب توجد كُوَّة صغيرة موصدة هي الأخرى دائما إلَّا حين يدلف منها صحنٌ عميق أو بالأصح إنه طشت بلاستيكي صغير مخصصٌ للأكل رسميًّا، وسوف أكتشف له استعمالات أخرى لم تكن لتخطر على بالي بالمرة، ولن يمكن لأحد توقُّعها أبدًا لأنها مفاجأة عجيبة في زمن الثورة الجميل. الزمن الجميل! كما يسميه فاقدو الذاكرة، يتبعون في ذلك مرضى القلوب ومروِّجي الجريمة.

صرير صرصور لا يفتر كان يمزِّق سكون الظلام الذي يغطِّيني، وبسذاجة بالغة فتَّشتُ كثيرًا عن هذا الصرصور المزعج بالغ الثرثرة، متحسسًا في الظلام كلَّ زوايا الزنزانة لعلِّي أحظى بساعة نوم بعد هذه الرحلة الشاقة الطويلة، ومن سخونة الاستقبال العنيف الذي لقيتُه. في النهاية لم أجد الصرصار ولكن اكتشفتُ أني أبْلَه كبير كما ظهر لي خُبْث الجلاد؛ إذ لم يكن هناك أصلًا من صرصار. لم يكن سوى صوت لا أعرف من أين كان يُطلَق ولا كيف. كل ما خمنته — وصحيح كان حدسي هذه المرة — أنه موكلٌ رسميًّا بأن يقضَّ مضجعي ويسلب راحتي.

إيهٍ، إني لأبْلَه حقًّا إلى حدِّ الضحك فعلًا! كيف لي أن أتحدث عن شيء اسمه الراحة في هذا الثقب الأسود. لو قلت كُلِّف بأن يجعلني في توترٍ لا يسكن لأنصفتُه؛ لأنه قد فعَل.

التقيتُ فيما بعد ذلك أشخاصًا آخرين صادفوا أساليب أخرى تجعلهم مستيقظين دائمًا مفتوحي الأعين، لا تجرؤ أجفانهم أن تُسدَل على بواصرهم وإنْ لهُنَيهة واحدة. روى لي أحدهم أنهم كانوا يُدخلون معه في الزنزانة عقربًا صغيرًا، ويهددونه بالويل والثبور وأنه سيرى نجوم الظهيرة إن مسَّه بأذًى أو قتَله. فسخَّر كلَّ اهتمامه لتجنُّب الاحتكاك به. وكان يدور حوله مثل ثور في ساقية طوال الوقت في الزنزانة، إلى أن اكتشف فيما بعد حين لم تَعُد قيمة لاكتشافه أنه عقربٌ لا يلدغ، وإن فعل فإن لدغته غير ضارة ويستعمل لإرهاق المعتقلين وتدمير أعصابهم. هذا الاكتشاف المتأخر من قِبَلي كان مثل اكتشاف صاحبي غير ذي نفع، بل كان مضرًّا؛ لأنه لم يُقلل من توتري، بل أعطاه زخمًا أشد ودفعًا أقوى، لأني صرتُ أراهم بعين اليقين يتلاعبون بي، وأن كل الأشياء مسخرة لهم مثل سليمان، حتى الشياطين تجثوا عند قدمَيه وتتملقه للفتك بأعدائه، وصرتُ أرى ملكهم عظيمًا كبيرًا كأنه بحر ظلمات، لست فيه سوى ورقة ذابلة أصابها البلل.

افترشتُ الأرض الإسمنتية بعد أن أنهكني التعب تمامًا والتحفتُ الظلام متوسدًا حذاءً رياضيًّا كنت انتعلتُه. جفناي عجزَا عن الإغماض قلقًا، وحين كانَا يسهوان عن هذا القلق لوهلة أنزلق بغفوة قصيرة، سرعان ما يذبحها طنينُ الصرصور ويوقظها تداركُ الغفلة عن القلق.

اقتحم النهارُ الزنزانةَ من فتحة الباب العلوية وهي تنفرج ليلجَ منها صحنٌ يضمُّ حساء عدس. دقائق قليلة بُعَيْدها فُتِحَ الباب وهذه المرة سبقَت فتْحَه أصواتُ قرع رهيب لسلسلة مفاتيح ضخمة، وانتصب أمامي رجل أمن (أبو أ.) بزيٍّ عسكري وسُمرة لافحة من صُنع شمس صحراوية خلَّفت على وجهه قسوة وغلظة وجفاء. أمرني — بزجر وبقليل من كلمات فاحشة — بالخروج لقضاء حاجتي وغسل طشت الطعام، حتى تلك اللحظة لم أكن قد توصَّلتُ إلى إدراك المدى الذي بلغَته القسوة، ولهذا واصلتُ بلاهتي وسِرتُ الهوينَى كعادتي المألوفة وعادة البشر بالمشي. إلَّا أن هراوة متصلبة في كفوف وحشية ترعد مزمجرة هوَت عليَّ بقسوة. بهتُّ حينها مثل تلميذ بليدٍ حتى صرخة الوجع لم تكَن منها كلها، بل منبعها الحقيقي كان الفزع من المفاجأة، وهو أكثر بكثير من الألم من قساوتها. مفاجأة لقَّنَتني درسًا جديدًا في كيفية السير الحثيث في معتقلات دولتنا الثورية.

عدتُ إلى زنزانتي — وطني الجديد — خائبًا، فلا أنا الذي غسلت الطشت ولا أنا فعلت ما كان عليَّ فعله من قضاء حاجتي، إلَّا بتساؤل أحمق جديد، هل حقًّا أنهم يظنون هذا الوقت القصير يكفي لأداء كل هذه الوظائف؟ عليَّ أن أعترف الآن أني كنت حتى تلك اللحظة أحمق شديد البلاهة ومثلًا قياسيًّا في الغباوة. كنت أسأل نفسي أسئلة تُثير الضحك والشفقة لسخافتها وسذاجتها. كل شيء كان معدًّا ليُذِيقوا المُعتقل السياسي به الذلَّ ويحاولوا تحطيم شخصيته، سحقها، وإشعاره بأنه لا شيء. لم يكن الحرس يفعلون ذلك لفطنة عندهم أو لأنهم يتوفرون على قدرة في ممارسة الحرب النفسية. كانوا أغبياء جدًّا لا مواربة في ذلك ولا شك، إنما الطريقة التي رُسمت لهم لأداء أدوارهم كانت تُحقق ذلك، حتى هم أنفسهم لم يكونوا يدرون ماذا يفعلون. مثلًا سلسلة المفاتيح كانت تُصدر أصواتًا مزعجة مهما جهد حاملها في التكتم عليها، لكن صوتها عندما يقترب كان يُشبه فَحيح أفعى سامة تنتصب أمامك وتُحملق فيك بعيون جامدة استعدادًا لافتراسك، وأنت تقف أمامها تنتظر أن تبتلعك في أحشائها مشلولًا من نظراتها حتى قبل أن تلدغك ويسري سُمُّها في جسدك.

دقيقتان ليس غير، هو الحد الأقصى لقضاء الحاجة حين يُسمَح بخروج المعتقل لممارستها، ويقف على منحنيات الطريق المؤدي إلى المرحاض رجالُ أمن بعِصِيٍّ غليظة يضربون بها أيَّ سجين يمرُّ؛ زعيقهم متواصل عليه، إن ركض في الممر أو صَعِد السُّلَّم القصير الموصل إلى خلاء ضيق بلا باب. وحتى إن كان داخل المرحاض يقضي حاجته لا يتوقف الزعيق والسباب، مما جعلني ويجعل أيَّ معتقل في توترٍ دائمٍ وإحساسٍ كاملٍ بالضياع، أضحيت مثل تائه يدور ويدور ليسقط دائخًا وينهض ثانية ليعاود الدوران حول عمود التلاشي، وهكذا إلى حدٍّ لانهاية له كأنه سيزيف يدفع صخرة زيوس.

والداي كانَا يفخران بي دومًا بأني ذكيٌّ سريعُ التعلُّم ولم أُخيِّب ظنَّهم هذه المرة أيضًا، فقد هضمت الدرس حتى الثمالة، وانفجرَت البراغماتية والانتهازية عندي بأبشع صورها داخلي لاستثمار الفرصة الزمنية الخاطفة لاحقًا. كان قراري سريعًا وجريئًا أيضًا؛ قرار طويت معه كل ترف العالم الخارجي في كونٍ ميتافيزيقي لا يُشبه ذاك الذي كنت أسكنه قبل أسبوعين بأيِّ وجه. عالم ولَجت فيه بغتةً كالموت الذي يرحل بالأرواح إلى عالم آخر لا يمتُّ لعالم الدنيا بشيء إلَّا في مسألة واحدة، إن الروح سكنت فيهما معًا. أبحرت سريعًا في هذا العالم السريالي الجديد وصارت خُطَّتي بعد الأكل في الوجبات اللاحقة أن أقضيَ حاجتي في الصحن ذاته إن كنت مضطرًّا لذلك، ثم أغسله منها ومن بقايا الطعام حين يطلب مني الخروج لقضاء الحاجة في تلك الدقيقتين، وبذلك أهزم جلادي وأستغفله. كانت خطة ناجحة بالفعل وكافية لأن أغسل الطشت حين فعلت ذلك فيما بعد، بل حتى إني كنت أغسله وأنا أترنم بأغنية قديمة حفظتها من أيام المراهقة. شعرت بالزهو لقراري وقلت لهم في ضميري: سأنتصر عليكم أيها الأوباش، ولن أخيب صديقي ناظم حكمت.

إنهم لا يدعوننا نغنِّي، يا روبسون.
يا كناري، الذي له أجنحة النسر.
يا أخي الأسود ذو الأسنان اللؤلئية.
إنهم لا يدعوننا نُجلجل أغانينا.
إنهم في خوف يا روبسون.
إنهم يخافون الفجر، يخافون أن يُبصروا.
يخافون أن يسمعوا، يخافون أن يلمسوا.
إنهم يخافون أن يحبوا.

٤

في الليل عندما تكفُّ الشمس عن ملاحقة الوقائع وأشخاصها، تدخل العتمة بكل ثقل ظلمتها لتفتح أبوابًا لأحداث رهيبة تجري في غرفة معزولة في الطبقة الثانية، لمبنًى كان يُدير قفاه لقاعة جميلة يجتمع فيها الكثير من الحالمين. قاعة «ابن الأثير» عند الساحل الأيمن من الموصل، كنت أرتادها مع صحبي كثيرًا، نحضر فيها عروضًا مسرحية وحفلات موسيقية أو غنائية، ولم يَدُرْ بخلدي يومًا أني سأقابلها في بناية جيَّاشة بكل هذا العبث المجنون.

لم يتسنَّ لي أن أتفحَّص ملامح هذه الحجرة الرهيبة أبدًا؛ إذ حالَ عنِّي ذلك عوازل غلَّفت عيناي كالمعتاد، لكني لمستُ كلَّ ركن وزاوية فيها بآلامي وصرخاتي، وبدمائي التي صادفت جدرانها تروي لها شيئًا من مشاعر متلاطمة كانت تتوزع بين ألمٍ من عذابات تجرَّعتها، ومن شفقةٍ على جلَّاد كان يُرهق من إيقاع العقوبة بي لجُرم ارتكبتُه بإدمان، وما زلت أفعل حتى اليوم بالزخم عينه؛ جُرْم شبَق الحرية والإصرار على بلوغ قيم الإنسانية إن لم يكن في حدود العالم الذي أقطن فيه، فعلى الأقل في حدود نفسي. لم ولن أتنازل عن ذلك أبدًا، وإن قُدِّر لي التنازل يومًا ما عنه، فالموت حينها خيرٌ لي من الحياة؛ لأني أكون قد متُّ فعلًا.

في الليل اقتادوا أحد الرفاق إلى حيث لا أدري (وقتها لم أكن قد تعرَّفتُ بعدُ عليها ولا هي عرفتني)، وتبيَّن فيما بعد أنها الغرفة العلوية المقصودة التي سوف أكون ضيفًا مدمنًا عليها. بعد ساعات عادوا به ثانية، كان صدى ألمه يشقُّ كُثبان الظلام، ويحفر أُخدودًا في صخر الضمير الإنساني المُعطَّل. انتابَتني رعشةُ خوف غريزي من مواجهة الألم وتزايدَ خوفي وهلعي، وأنا أُنصت إليه وهو يطلب من السجَّان أن يرفع عن عينَيه الخِرْقة التي تعصب عينَيه؛ لأنه بات عاجزًا عن رفعها. يا لَلهول! ماذا فعلوا به فأضحى لا يقوى على إزاحة عصابة يمكن حتى للطفل الرضيع أن يرفعها؟ سؤال وجَّهتُه لنفسي، لخَّص كلَّ الخوف الذي انتابني وقتئذٍ، حينها سرَت فيَّ قشعريرة أرجفَتني وصرتُ مثل سَعْفة صغيرة وقعَت في مجرى ريح مدارية.

ازدحمَت مخيلتي بصور لم أشاهدها بعدُ، يكسوها ثوبٌ واحد هو القسوة المفرطة؛ قسوة استحكم الفشل في إيجاد أيِّ عذر لها أو تبريرها، وإن وجد أصحاب السفسطة والجدل الفارغ ذريعة في كل مرة لهذا العنف البهيمي الذي يتمثل على أيدي مَن يعدُّونه بشرًا، أو ينسبونه ظلمًا زيفًا وزورًا للبشر، وهو فعل لا يليق إلَّا بوحوش أسطورية من صُنْع ساحرة شمطاء تسكن خربة مهجورة مأوًى للخفافيش طيور الظلام.

جاء دوري أخيرًا، صَعِدت سلالم متعددة، وطلب مني مُرافقي من الحرس أن أُحصيَ ثلاث عشرة درجة في كل مرة حين أرتقيها، كنت أظنه يسخر بي كالعادة، لكن عندما تعثَّرتُ في آخر درجة بعد أن أخطأت الحساب وهوَت قدمي في الفراغ تبحث عن الرقم المفقود في عدد درجات السُّلم وبَّخني على ذلك بوكزة في خاصرتي.

أُدخلت على الضابط «ع. ع.» وهو رجل كما به بدانة واضحة فكذلك به قسوة مثلها وأكثر. عرفتُ أوصافه من اللقاء الأول. هذه المرة تعرفتُ عليه من صوته المميز، بتُّ أنظر إلى العالم من أُذُني.

بادرني بسؤال قصير وبلا مقدمات: «مَن مسئولك في التنظيم؟»

– «مستقل …» بلا تردد وبحسم سريع رددتُ له الجواب.

وقبل أن تصلَ كلماتُ جوابي إلى أُذُنه الصماء عن سماع هذه الأجوبة، كانت قبضة كأنها من الفولاذ ترتطم بمعدتي بعنف شمشوني، سحبني الوجع إلى الأرض وهويت سريعًا مثل حجر يصدم الأرض نازلًا من برجٍ عالٍ بسقوطٍ حرٍّ، وتكوَّمتُ عليها مثل كيس رمل بهيئة إنسان، لترفعني في الحال ذراعان كانتَا تُمسكان بي من الجانبين.

صاح بهم آمرًا بغضبٍ: «خذوه!»

أصْعَدوني سُلَّمًا صغيرًا، وارتكب الحديد معي خطيئة أخرى؛ إذ لم يكفَّه قيد المعاصم كما فعل من قبلُ، بل علَّقني هذه المرة إلى سقف غرفة متشبثًا بجامعة القيد التي حبَست ذراعيَّ من الخلف، واتكأت قدماي على الفضاء وفوقها كان يقف جسدي تؤرجحه فنون التعذيب.

حلَّت لحظةُ مواجهة مع الذات عادَت بي إلى بواكير قصة الإنسانية الأولى، عندما جرَّدوني من الثياب تمامًا. لم يعترِني الخجلُ كما أرادوا لي ذلك من فِعْلهم وقلت لنفسي مشجعًا: الملابس هي ورق جنة آدم المزيفة، وأولئك الملتحفون بالكثير منها إنما يفعلون ذلك ليُخفوا قُبحَ سوءة الخطيئة التي تغمرهم، ومَن كان بريئًا لم تُدنسه الخطايا فلا تعوزه وليس بحاجة لها.

أرادوا اقتحام عِفَّتي وحيائي وما عرفوا أنهم فجَّروا فيَّ براءة الإنسان قبل أن يفقد عُذريَّته حينما نالَت منه ثمار شجرة الخطيئة والرذيلة. هذه أسمال الفضيحة، لن يعيبَني التجرد منها، وهل يعيب المِرآة أن ترتدَّ إلى فطرتها الأولى وأن تُزاحَ منها الشوائب والأكدار؟ خذوها كلها لا حاجة لي بها، إنما يحتاج إلى الستر مَن به عيب، ومن عيوبكم كلِّها أنا بريءٌ.

رشُّوا عليَّ سائلًا سريعَ الاشتعال غمرني باللهب مرات عديدة، وبين لهب حريق وآخر كانوا لا يجدون منفضة لجمر سجائرهم إلَّا في جسدي الأسمر السابح ألمًا في الفضاء، مختنقًا بدخان سجائرهم وفُحش أقوالهم. هراوات خشبية وأخرى حديدية كانت تترك بصماتها على أعضائي بتناوب مجنون، استحال تدريجًا ثوب الألم المزمن إلى درعٍ واقٍ يصدُّ موجاتِ عنفهم. كثرة الألم أفقدَتني الإحساس به.

دمٌ حارٌّ حدَّ اللسع كان يجري على غير ما أعتادُ عليه بين أنسجة ممزقة عند الكتفين المخلوعتَين بفعل التعليق. بدأتُ أستجمع كلَّ قواي الكامنة في مجهول عقلي حتى أُلاحِقَ سموَّ الروح. الندوب والجروح بعضها سيلتئم يومًا ما، وأخرى ستبقى نياشينَ لذكرى المواجهة محفورة أبدًا في جسدي، ليفوح منها في كل حين عطرُ الدم الذي يصرع السيف في كل منازلة له معهن ومتى ما التقيَا.

سرَى خَدَرٌ في كل أنحاء جسدي، قُتل الألم فيه وبدأ يعطِّل الحواس شيئًا فشيئًا، كلما تصاعد زمن المواجهة سائبة النهاية، لكنها في ذاك اليوم انتهَت وكانت جولة أولى سوف تتبعها جولات عديدة.

قال لي أحدهم بعد حفلة السَّمر هذه التي تجرَّعتُ فيها كثيرًا من ساديَّتهم، إنه قد أُرهق وعليَّ أن أعترف وكفى صمودًا ومقاومة لأنها بلا جدوى، صدمتُه بردٍّ لم يتوقعه حين قلت له بكل بداهة وبلا أدنى تردد: «إني لم أنوِ ولا أُريد أن أسبِّب لك تعبًا.»

أشفقتُ عليه كثيرًا لكنه قهقهَ ساخرًا ولربما مستغربًا، ظل يُردِّد مقولتي لوهلة وهو يضحك، إنما بدَا لي وهو يستعيدها أنه صدَّق نيتي بعمق، لكن للأسف بدَا أيضًا أنه لم يفهمها جيدًا كما كنت أريد. كنت أتمنى له أن يفقه ما أقول، لكن أنَّى لمن خاض في وحل حظيرة خنازير أن يشمَّ شذًى طيِّبًا أو عبيرًا فوَّاحًا. ليس باليد من حيلة الآن، لكن ما عليَّ إلَّا فعْل ذلك، ولن أتوقف عن فعله لا الآن ولا من بعد، وسوف يفهم هو ونظراؤه أغنيتي في يومٍ ما.

٥

توالت ليالي التعذيب متواصلة لأربعة أسابيع، تقطعها استراحات اضطرارية كانوا يحرصون على تمتُّعي بها، لمنح جسدي فرصة للتهيؤ والاستعداد لتلقِّي مزيدٍ من التعذيب عندما يصبح هزيلًا جدًّا لا يقوَى على تحمُّلِه، وبالأخص ذراعيَّ اللتين كانتَا تُصابان بخَدَرٍ تامٍّ جرَّاء التعليق إلى السقف.

بعد أن تهدأ قليلًا بعضُ جراحاتي تتكرر الحكاية من جديد، ليس لمرةٍ واحدة، بل لمرات كثيرة، وفي كل مرة كانوا يسقونني غضب غرائزهم من جوارحَ هائجةٍ تنفلت تمامًا من عِقالها كما هو حال الضواري المسعورة، كنت أسقيهم بالمقابل خمرة الصمت التي تطيح برءوسهم، وتجعلهم أكثر جنونًا يتقيئون الشر المتجمد في صدورهم. أرجع إلى زنزانتي متوجِّعًا لا تتحمل أعضائي أن يحتكَّ أحدها بالآخر وجلدي صُبِغ بحُمرةٍ قانية إمَّا من دمٍ أو من أثر السِّياط بعد كل حفلة تعذيب، وهم يعودون سُكارى حيارى لا يجدون حلًّا لمعضِلتي ولا فكًّا لأُحْجيَتي.

كنت أودِّعهم هادئًا في قرارتي رغم ألمِ الجراح، وهم في انكسار وخيبة يزبِدون ويُعربدون. صخبُ الصمتِ الذي أُذيقه لهم كان يقتلع الأصابع الغبية التي يدسُّونها في آذانهم كي يصمُّوها عن سماع رعد الحقيقة، وهو يمزِّق الأسمال البالية التي يدفن بها البلهاء رءوسهم. طرقٌ شتى حاولوها لإرغامي على البوح بأشياء لم ولن يعرفوها أبدًا، حتى يومنا هذا بقيَت سرًّا مخبوءًا ما زلتُ أحتفظ به للساعة في صدري. صدري قبرٌ لأسرار كثيرة حتى لمن شاركني السجن ولمن كان أقرب الناس إليَّ من قبل أو حتى من بعد، ولليوم لم يزَل يجهل ما كنت أقوم به فعلًا من مناهضة سلطة القمع البوليسية وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات قبل دخولي للسجن. القليل جدًّا — وربما هو شخص واحد فقط — كان يعرف مهمتي الحقيقية والدور الأساس الذي كُلِّفت به. ومع أن كل هذا أضحى الآن بلا أهمية حقيقية إلَّا أني لا أجد مسوِّغًا للبوح به، إنها خصوصية أعتز بها؛ لأن كل مهارتي وبراعتي كانت في هذا التكتُّم البالغ وحفظ سرية العمل. ليس من السهل أن تكشف سرَّ التفوق بالمهنة خصوصًا لمن لا يعرف قيمة ما تُخبِّئ وتُواري. العمل الثوري دُرَّة غالية وجوهرة ثمينة لا ثمن لها، وأربأُ بنفسي أن أعرضه في السوق، فكيف به إذا كان سوقًا للأشياء الرخيصة؟

في وسيلة جديدة لإرغامي على الاعتراف هدَّدوني بأن يجلبوا عائلتي للمعتقل، لم أُبدِ أيَّ اكتراث، حتى إن «م. ع.» عندما لاحظ ردَّ فعلي وكمية اللامبالاة التي يحتويها، قال: «يا قواد، يبدو أنك لا تصدق أننا سنفعل ذلك.»

وبالفعل لم يكن ذلك مزاحًا منهم ولا تهديدًا فارغًا، بل كانوا قولًا وفعلًا في هذه الأمور بلا أدنى تردُّدٍ يخامرهم أو شكٍّ يساورهم. في أحد الأيام جلبوا والدَ أحد المعتقلين السياسيِّين وهو صديقٌ شخصي لي وأيضًا زميل جامعي. والده كان فلاحًا بسيطًا ثمانينيًّا في أواخر العمر، أذاقوه من الإهانة والأذى ما أجبر صاحبي على إعطائهم دليلًا مزيفًا، كان هذا سببًا كافيًا لأن يقودَه هذا الدليل فيما بعد إلى حبل المشنقة ليفتديَ والدَه المنهك من عذابات جديدة تُضاف إلى آلام السنين، وعناء فِلاحة أرض ضمَّته إليها سريعًا بعد ابنه لتجفف دمعه وتمنحه أمنًا وحنانًا افتقدهما فوقها.

أصبحَت مواجهة قسوتهم عملًا روتينيًّا شبهَ يومي فيه الكثير من الملل والرتابة، وأصعب ما فيه كان الانتظار الذي طالما كرهتُه في كل الأحوال، أنتظرهم في حُفرتي المعتمة مضمَّخًا بالدم والجراح، محاولًا أن أتصلب وأُفرغ رأسي من الماضي القريب وأُبعد كلَّ صوره عنِّي، لكن كنت أترقَّب بقلق وخوف تضطرب له كلُّ أعضائي موعدَ زيارتهم الليلية، وعندما تضعف الأقفال أمام المفاتيح وتُرخي صلابتها ويتحرك الباب المصفَّح بصريره المفزع، كان القلق يستبدُّ بي ويبلغ ذروته وتصير الأولوية عندي أن أخرج من دائرة الخوف هذه، ولم يكن أمامي من بُدٍّ إلَّا استفزازهم حتى يكسروا حلقة الانتظار ويبدءوا بممارسة القسوة التي لا بد منها، تجنُّبًا لهذا الانتظار المزعج ولما هو قادم بلا محالة، فعلامَ الهروب منه، ولماذا التأخير؟

سألني «ع. ع.» يومًا: «هل صفيتَ عقلك؟»

دفعتُ الجواب إليه سريعًا بتحدٍّ ممزوج بالسخرية: «ذهني صافٍ أساسًا.»

ردٌّ، لم يكن يتحسبه ولا ينتظره، إنما أنا الذي كنت أنتظر ردَّه المتوقع وأتلهف إليه للخلاص من دائرة السؤال والجواب التي كانت تستنزف قواي في الصمود أكثر من التعذيب نفسه بكثير جدًّا. ولو قلت إني كنت أوشك أن أسقط في لحظات الانتظار كثيرًا، لكني لم أكن معرَّضًا لهذا الاحتمال خلال حفلات التعذيب أبدًا لما أوردت أحدًا إلَّا إلى عين الحقيقة.

ردُّه كان غضبًا بهيميًّا، فجَّره كالعادة بنصب أرجوحة لجسدي من السقف وتركه يسبح في الفضاء يتكئ على الفراغ. أشياء كثيرة كانت تزور جسدي بعضها يحفر ثقوبًا فيه لتعدم كثيرًا من خلايا شاء حظُّها النحس أن تكون في جسدي على خط المواجهة الأولى خط التماس، تماس حتى مع أسلاك الكهرباء.

طالما سمعت جدلًا في أيام الدراسة الثانوية بين تقليديِّين ومتنوِّرين يسألون سؤالًا، هل يُعقل أن توماس إديسون يذهب إلى الجحيم وهو الذي خدم البشريةَ كلَّها ونفعَها باكتشاف الكهرباء؟ كنت دومًا إلى جانب الفريق المدافع عن إديسون في كل مرة جرى فيها هذا النقاش؛ لأن خلود الإنسان بما يقدِّم من خدمة للإنسانية وينفعها، لا بما يُثرثره من كلام أو يرسمه من بورتريهات مزيفة للإله. بيدَ أني في تلك الليالي صرتُ أرى إديسون رجلًا شريرًا ارتكب خطيئة لا تُغتفر بفعلته الشنعاء هذه. أيُّ إثم قد اجترح عندما اكتشف الكهرباء؟ هل يرى الآن من جنته أو من جحيمه ما عاد يهمني أين استقر به المقام، هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب؟ ألا يرى كيف أرتجفُ مصعوقًا؟ وهل هو نفسه الذي علَّمهم أيضًا أن الكهرباء يزداد شرُّها عندما تُعلَّق الأسلاك في أطراف الأصابع وعند الحلمتَين وأماكن حساسة أخرى لا أخدش الحياء بها كما فعل إديسون باكتشافه المقرف؟ ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا إديسون؟ وماذا كان سيحصل لو أن لي جلدَ سلحفاة فلا آبَه لغلاظةِ العصِيِّ؟ أو لو أني كنت طويلًا مثل عوج بن عنق؟ أو نبَتَ لي عنقُ زرافة؟ كيف كانوا سيجدون سقفًا ليعلقوني منه؟

أمنيات مستحيلة كثيرة أخرى، لم تكن هراءً. كانت جديةً للغاية آنذاك والأمر لم يكن مضحكًا ولا عبثيًّا، بل كان بحثًا عن مخرج خرافي من أزمة لا مخرج منها. كنت تمامًا مثل غريق تتقاذفه أمواجٌ متلاطمة في بحر هائج ينتظر معجزةً تُخرجه من البحر اللجي، وأين هي هذه المعجزات؟ لقد ولَّى زمنُ المعجزات؛ لأنها صُنْع الجهل والأوهام، أما في الواقع فلا توجد إلَّا قوانين الفيزياء. إنها أحلام ولا عيب في الأحلام وإن لم تحدث لأنها ليست أوهامًا، وإن بدَت كذلك أحيانًا. الحلم هو النهاية السعيدة لحاجة واقعية ولو لم تكن حقيقة موجودة لَمَا اندفع إليها تفكيرنا وتاقَت إليها نفوسنا.

ألسنا ما زلنا نحلُم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق شيء منها حتى الآن؟ الأحلام منفذ الخلاص الوحيد حين توصد كلُّ الأبواب، وإذا لم تؤدِّ إلى الخلاص فإنها على الأقل سوف تمنع اليأس والقنوط من التمدد إذا لم تقتله بالفعل.

بكل صدق يمكن أن يحتويَه قلبُ القدِّيسين، تمنيتُ حينها ألَّا يجلس في محلي ذاك أحدٌ من بعدي.

٦

في ليلةٍ طال صبرُهم كثيرًا شعرتُ بقرارهم المسبق أنها سوف تكون ليلة للتأريخ، توسَّلتُ فيها بشدة للشمس أن تُشرقَ لكنها أضاعَت الاتجاهات فظلَّت تدور في صحراء الظُّلمة تائهةً كتِيهِ بني إسرائيل. تركَتني معلَّقًا في الهواء لأكثر من أربع ساعات كما خمنتُ ذلك فيما بعد، يُنزلون بي صنوفَ العذاب بلا كللٍ ولا ملل، لم يهدءوا ولا فتروا ولا لهنيهة واحدة. صِرتُ واثقًا من إرادتهم وتصميمهم على وَضْع خاتمة لقضيتي هذه الليلة بأيِّ طريقة تَصِل إليها أيديهم، ولو كلَّفهم ذلك القضاء عليَّ وإزهاق روحي. لن أرجع وأُكرِّر شرح وسائل التعذيب التي استعملوها معي، لكن أقول ليلتَئذٍ أعلنَت التحالفَ بينها واتفقَت في تلك الأمسية الطويلة أن تزورني جميعها. أصبحتُ عاجزًا حتى عن الصراخ من الألم، وفقدتُ الشعور بالكثير من أجزاء جسدي بما أصابها من خَدَر، إلَّا رأسي كان نشطًا فعالًا لأقصى ما يمكن له كما لو أنه كان يستمد طاقته من العذاب الذي عطَّل كلَّ شيء غيره. واصلتُ الاستمرار بالتركيز الشديد والتفكير بعمق، كيف لي أن أتخلصَ من عصفهم القاتل في هذه الليلة التي لا فجر في آخرها؟

وأنا على هذا الحال تذكرتُ كراس لينين «ما العمل؟»

سألتُ نفسي: «ما العمل الآن؟» الأمر لا يحتاج إلى الصمود فقط، ولا الأحلام هي منقذي الأسطوري؛ لأني اقتنعتُ حينها أن لا أحدَ معنيٌّ بي حتى السماء هربَت من وظيفتها، لا بد من حلٍّ سحري للخروج من هذه الحفرة التي وُضعتُ فيها، وأيُّ حفرة هي؟ كأنها جرابٌ محكمُ الشدِّ مملوءٌ حدَّ الطفح بضحكات سخريتهم المدوية وثورات غضبهم العارمة.

لا أعرف بالتحديد مَن الذي قال: «أعطني مسرحًا أُعطيك شعبًا مثقَّفًا.» إنما هذا هو أوانها بالضبط، لماذا لا يكون المسرح هو المفر من هذا الكابوس المتسلسل بلا نهاية؟ هكذا كنت أُحدِّث نفسي وأقول لجسدي: تماسَك وتحمَّل مزيدًا من العذاب، ولنجرِّب لُعبة الفرار من الموت بادِّعاء الموت. سوف يُكلِّف ذلك مزيدًا من الألم، لا تخَف منه، ولِمَ الخوف؟ أوَلسنا غارقين فيه؟ فما الضَّير من سحابة أخرى تُمطر على البحر، هل ستزيده بللًا؟ ما عدتُ أُصدِّق أن هناك جسدًا يقوى على ما قويتُ عليه حتى الساعة من تحمُّلِ كلِّ هذه الآلام، وإذا كان بمقدوري تجرُّع كل هذا، فلماذا لا أحاول تجرُّعَ المزيد منه لعل في ثمالة الكأس الخلاص؟ بدأتُ بتركيز كلِّ قواي العقلية استعدادًا لأداء دور المحتضر عسى أن تنجح المسرحية ويتوقف هذا العبث، وأنتهي من نزيف الوحشية. استجمعتُ تركيزي، رُفِعت الستارة وبدأ العرض.

المشهد الأول: لم أَعُد أستجيب للأذى الذي كانوا يُلحقونه بي؛ كلُّ همجيتهم وقسوتهم المنصبَّة التي كنتُ أواجهها بالصراخ استبدلتُ الردَّ عليها بكتمان الألم، عندما أقول كتمان الألم فإني أعنيه حرفيًّا؛ إذ ابتلعت الألم تمامًا وحفرت في داخلي أخدودًا عميقًا لابتلاعه كاملًا بلا مضغ، كما يفتح الحوت فاهَه ويبتلع أسرابًا من السمك، وهناك في أحشائه تدور معركةُ الطحن ويسحق فريسته، يكتم هذا عن كل العالم، وهكذا فعلتُ. لم أَعُد أستجيب لأيِّ ضربة هراوة تجلدني، ولم تَعُد تلسعني أيُّ سيجارة تُطفأ في أليتي وكأني فقدت الإحساس.

المشهد الثاني: أُطلِقُ أنينًا خافتًا، وأتوجَّه بآهاتٍ بنسَقٍ واحد لا يتغير، سواء شنُّوا غزوةً على جسدي أو تركوه ينعم بسلام هدنة هم مَن يُحدد وقتها. لم يُصدقوا في البدء ما كنت أؤديه من تمثيلٍ استنادًا لخبرتهم الواسعة في التعذيب، حاولوا كثيرًا استفزازي للخروج من هذا العرض المسرحي بوسائلَ شتى، حتى إنهم جاءوا بآلة كأنها خازوق كهربائي، لكن لم أستجب لكل إغراءات الصراخ بصوتٍ عالٍ. أشَحْتُ بأعصابي، بل بكل عقلي عنها خشيةَ أن أعيش جوَّها وأسقط في الكمين، رُحْت أحاول التفكير في أشياء أخرى بعيدة جدًّا عما كنت فيه، أشياء أخجل الآن أن أكتبها حتى لا أُتَّهم بالسفاهة أو الجنون، لكن هذا ما حصل، بل إني انغمست في تأمُّلِها لدرجة أنا لحد الآن لا أُصدِّق نفسي كيف جرى كلُّ ذلك!

تململ البعضُ منهم من الوضع الجديد الذي بتُّ فيه، وارتعش آخرون خوفًا من أن أكون فعلًا على وشك الفراق الأبدي لهذه الدنيا، وأن أكون صِرتُ ضحيةً لعِصيِّهم بدون أمرٍ من جهة مخولة بتصفيتي. هنا فهمتُ أن قرار الموت تحت التعذيب لم يكن مسموحًا به بشكل جُزافي، واستنتجت أنه لا يحصل إلَّا بأمر من الضابط الكبير المسئول عن ملف القضية. دارَ نقاشٌ بينهم كنتُ أُصغي له بتركيز شديد، حتى قال أحدهم: «أنا غير مسئول بعد الآن عما يحصل، لنُبلغ السيد الضابط وهو يتخذ القرار.»

زادني هذا الحوارُ تصميمًا وعزمًا، وقلتُ في سرِّي: هيَّا امضِ قُدُمًا في اللعبة أكثر وأكثر؛ إنها تُؤتي أكُلَها. إذن ها هو المسرح يُنتج فكرةً تُخرِج واقعًا جديدًا. الهمس الدائر بينهم صار حوارًا مرتفعًا، ثم غدَا أشبهَ ما يكون بالشِّجار، عاد عليَّ ذلك بالراحة، ليس النفسية فقط وارتفاع المعنويات، بل براحة جسدية أيضًا؛ حيث توقَّف الركلُ والضرب بالكامل. لم يستمرَّ الخصامُ بينهم طويلًا؛ إذ كان لا بد من مرجع يفصل فيما تنازعوا به، وجاء مَن يفضُّ النزاع بكلمةٍ فيصل منه بعد أن وصله الخبر عن طريق أحدهم.

هزَّني بعنفٍ عدة مرات ثم كلَّمني برفق، كان يُناديني باسمي طالبًا مني أن أُكلمَه بأيِّ شيء، وأقسمَ لي مغلِّظًا أنه لن يُؤذيَني أحدٌ بعد الآن، فقط إن رددتُ عليه. إلَّا أني كنت موقنًا على الدوام أن للمسرح دورًا كبيرًا وخطيرًا، ولا ينبغي التنازل عن هذا العرض الكبير الذي أقوم به لأجل شخص تافه من النظارة لا يفهم ما يدور حوله. ذهبَت كلُّ محاولات استدراجي عبثًا، وانتهى الأمر به إلى يأسٍ تامٍّ من استجابتي، وأن ما يراه ليس تمثيلًا، بل واقع وحقيقة ليُصدر فرمانه قاطعًا النزاع: «نزلوه! هذا قد انتهى.»

لم أُعِنْ جسدي على النزول من الحلقة المعقوفة المفتوحة المثبتة بسقف الغرفة رغم محاولاتهم إقناعي بذلك، أحدهم كان يطلب ذلك مني بما يُشبه لهجةَ المتوسل. رفْضي التعاونَ اضطرَّهم إلى التعاون الجماعي على رَفْعي إلى الأعلى وتخليص القَيد الجامع من الحلقة المعقوفة في السقف. كنت أواصل الحديث مع نفسي: عليَّ أن أستمرَّ في أداء الدور إلى النهاية.

«أنت ممثلٌ بامتياز.» سرَى في داخلي شعورٌ نرجسيٌّ بالتباهي والإعجاب وكذلك بالفخر. بدأت ألوم نفسي كثيرًا، وأسلب منها شعورَ الانتصار، وأقول لها لماذا لم تفعلي ذلك مبكرًا؟

حتى إنه وردَت حينها في بالي خاطرةٌ؛ عندما كنت أذهب إلى المسرح، وكنت أذهب إلى هناك مرارًا لم أَكُن أختار الجلوس إلَّا في مقاعد الحضور، مع أنه ثبت الآن أنه كان بالإمكان جدًّا أن أصعد على المنصة وأُحدِّق في النظارة ببرود وأؤدي أفضل الأدوار. إيهٍ قد فاتَتني هذه الفرصة أيضًا، واكتشافي لمواهبي جاء متأخرًا. قلت لنفسي: لا تهتمَّ كثيرًا، لم يَفُتْك الشيءُ الكثير؛ فالعالم كلُّه مسرحٌ كما يقول شكسبير.

أُهبطْتُ على الأرض ثانيةً بعد التحليق الطويل. أمسك بي من كل ذراع واحدٌ من الجلادين، ويبدو أنهم قرروا إجراء اختبار سريع لكشف الكذب لم يكن في حساباتي أبدًا؛ لذا لم أكن مستعدًّا للتملُّص منه بأيِّ حيلة أو وسيلة. فجأةً تركوا ذراعيَّ وحرَّروني من قبضاتهم القوية التي كنت أتَّكئُ عليها. بُغِتُّ بتصرُّفِهم الذي لم يَرِدْ على خاطري، ولكن ما صعقني أكثر من هذه المفاجأة، أني هوَيتُ إلى الأرض مثل حجر يسقط من علوٍ، ولم أستطع النهوض ولا حتى الجلوس.

«ما هذا؟ هل فعلًا قدماي عاجزتان أن تحملَا جسدي النحيل؟!»

تكوَّمتُ بلا انتظام على البلاط البارد عاريًا، أمسحُه بعرقي، وأُلامسه بالحروق وآثار أعقاب السكائر والكدمات والجروح الموزعة بعشوائية في كل مكان من جسدي المتعب المنهك.

أية أُكذوبة تلك التي كنتُ أُحدِّث بها نفسي، وأيُّ هراء هذا الذي كنت سأصدقه حينما ظننت أني نجمٌ مسرحي، ذاك الأداء التمثيلي الرائع لم يكن إلَّا وهمًا جديدًا وخيالًا سخيفًا، وسوف يتبيَّن بعد قليل أن كذبتي على نفسي كانت كبيرةً جدًّا وأكبر مما يتصوره أيُّ أحد، عليَّ أن أضعَ كلَّ هذا الهراء الفارغ في خانة مقفلة وأنتزعَه من تفكيري. استبدَّ بي الضَّحك سخريةً، بل عصبية، وعلَت قهقهة في أرجائي وأنا أتأمل حالي وما صِرتُ إليه. انفضت كلُّ الأفكار عني كأنَّ مغناطيسًا هائلًا سحبها، وأصبحتُ أجوفَ فارغًا تمامًا مثل قطعة من فضاء خارجي لا يسكنه إلَّا أثيرٌ لا حقيقة له ولا واقع.

رفعوني مثل كومة لحم من الأرض وجرجروني في ممرٍّ قصير يقع إلى جوار غرفة التعذيب «غرفة العمليات بحسب اصطلاحهم.» بدَا لي حينها أنه ممرٌّ طويل لا نهاية له، يسيرون بي فيه بسرعة لم تكن تُناسب كومة اللحم المتهالكة التي صِرتُ إليها. قفزَت حينها في بالي خاطرةٌ سخيفة فعلًا، لكنها لا تُناقض ميلي الدائم للمزاح حتى في أعسر المواقف وأكثرها جدية.

كم هو مضحكٌ منظري الآن وأنا أمشي عاريًا! تُرى كيف سيكون ردُّ فعل زملائي في الجامعة وبالأخص الطالبات منهم لو رأينني هكذا؟ هل هذا وقته؟! لماذا لا تتوقف عن المزاح؟ ماذا بك؟ هل جُننتَ؟

كنت أُحدِّث نفسي بهكذا حوارات فوضوية لا رابطَ بينها ولا نظام في لحظات خاطفة أسرع من الضوء. لكن بصراحة كنت أضحك في داخلي لهذا الحوار، وبدَا لي أنه شيءٌ قريب لحد الملامسة من همس الجنون أو اكتشاف متأخر لعبثية الحياة التي لم أَعُد أحفل بقيمتها في تلك اللحظة بالكامل. حتى إن الابتسامة غلبَتني وأنا أُحدِّث نفسي. ولحسن الحظ لم ينتبهوا إليها، وحتى لو انتبهوا لها لم يكن بإمكانهم تمييزها؛ لأن وجهي بل كياني كله بالتأكيد كان مريعًا لا يُساعد أحدًا على تصوُّر وجود ابتسامة فوقه، وكيف لها أن تعلوَ هذا الخراب العارم. الأمر الأكيد أني أصبحتُ فوضى شاملة تتوارد عليَّ الأفكار وتتضارب فيَّ المشاعر وتمرُّ فوقي الخواطر كأنها أمواج بحر هائج. سارعتُ لإيقافِ خواطري أو لَجْمِها قليلًا؛ لأني كنت سأنفجر ضاحكًا، وكان يمكن أن أضحك بهستيرية لو فلتَت ضحكةٌ واحدة مني. أقولها مرة ثانية أصبحت فوضى عارمة شاملة في المظهر والجوهر.

في هذه الأثناء واصلَ اثنان من رجال الأمن السيرَ بي رواحًا ومجيئًا في الممر البارد، يرفعانِني بين الحين والآخر عن الأرض حين أعجز عن مجاراتهم في المشي. كنت في تلك اللحظة قد قطعتُ علاقتي بكل محتويات العالم ولا أفكِّر إلَّا بهذه النزهة الإجبارية التي لم أفهم سرَّها ولا المغزى منها. بدَوتُ بينهم وهم يسيرون مسرعين مثل طفل صغير يلهو مرحًا برفع قدمَيه من على الأرض حين يُمسك والداه ذراعَيه.

كنت أشعر أن الممرَّ باردٌ جدًّا، كأنه مفروش بالصقيع مع أنه لم يكن باردًا كما عرفتُه فيما بعد. صارت برودتُه زمهريرًا؛ لأني كنت عاريًا مجرَّدًا من أيِّ قطعة على الإطلاق، غارقًا في عرَقٍ تصبَّب مني بغزارة أثناء التعذيب، وأيضًا لأني بلغتُ من الضعف منتهاه، وخارَت قواي للآخر، فصار كلُّ شيء باردًا عندي وإن لم يكن في واقعه ونفس أمره كذلك، وهكذا هو العالم، ليس هناك من حقيقة واحدة فيه ثابتة. كل الأشياء فيه لها صورٌ متعددة لا عدَّ لها ولا حدَّ، كلُّ واحدة منها تُناسب مَن يراها، صورٌ بعددِ أنفاس الخلائق.

٧

لم أعرف بالضبط لماذا كانوا يسيرون بي هكذا مسرعين في الممر البارد ولفترة لم تكن قصيرة؟ هل كان جزءًا من علاج طبيعي لإعادة الوعي خوفًا من سقوطي في غيبوبة، وتحفيزًا للجسد المتهالك للعودة إلى وضعه الطبيعي؟ لا أدري، ثم ألقَوا بي إلى حائط أَستندُ إليه وأنا معصوب العينَين مشلول اليدين تمامًا لا أقدر حتى على تحريك إصبع واحد مع أنهما كانتَا طليقتَين من القيود لأول مرة في تلك الليلة الدامية. عاريًا من أيِّ خرقة ملابس تُغطِّيني، يُحيط بي صمتٌ بارد، بعد أن تلاشَت كلُّ الأصوات التي كانَت تتنافس على إصدار الصخب وإنزال العذاب. ثم تناهَى لسمعي بعد برهة وَقْعُ أقدام تتقدم بخفة ولكن بسرعة لا تُحدث صوتًا إلَّا بما يُشبه الهمس، جلس صاحبُها أمامي مباشرةً وأغلق فمي برقة وطلب مني ألَّا أنبِسَ ببنت شفةٍ وهو يُطبق سبابتَه على شفتي. بدأ بتحريك يديَّ المشلولتَين يُثنيهما بقوة أوجعَتني جدًّا، كِدتُ أصرخُ من شدة الألم. وبدلًا من الصراخ أعلنتُ احتجاجي على هذا الوجع بتأوُّهٍ ضعيف احترامًا لطلبه الرقيق مني بالصمت، وأسكتني هذه المرة بحنان أكثر. صِدْقُه كان يشعُّ عليَّ وينفذ بلا حواجزَ إلى كياني وأنا ألمسُ رحمةً تنساب منه مثل النسيم تنعش روحي، وشفقةً تفيض عليَّ تُسكِّن ألمي. قال لي: «إذا لم تتحمَّل هذا الألم الآن فسوف تفقد قابليةَ تحريك ذراعَيك لمَا تبقَّى من عمرك، إني أفعل ذلك لصالحك.»

استسلمتُ له مصدِّقًا ولم يكن بالإمكان إلَّا أن أفعل ذلك؛ فقد جاء متطوعًا ليُساعدَني في تجاوُزِ لحظةٍ كانت ستُغيِّر وظيفةَ بعضِ أعضائي إلى الأبد. حينها لاح لي حنَّا مينا في إحدى رواياته وهو يقصُّ عليَّ كيف أن والده السِّكير الذي كان يظنه حنَّا مينا شرًّا محضًا تحوَّل إلى كتلة مشاعر إنسانية صادقة تحمل حنَّا الطفل المريض، وهو يركض به حافيًا في البيداء هائمًا على وجهه باكيًا يبحث عن علاج يخلص ابنه الصغير من حمَّى شديدة أصابَته. يقول حنَّا مينا معقِّبًا على تلك الحادثة: «في كل إنسان بقعة مضيئة.»

مِثْل وحيٍ ظهَر لي حنَّا مينا في هذا الغار، وقال لي: هذه هي البقعة المضيئة التي حدَّثتُك عنها تشعُّ عليك الآن من هذا الرجل قبالك. قُم بَشِّرْ بها كلَّ مَن آمن بالإنسان.

مع أني لم أرَ وجهَ هذا الرجل أبدًا، ولم أستطع التعرُّفَ عليه بعدها رغم بعضِ شكوكٍ ساورَتني في تشخيصه من صوته من بين أشخاصٍ واجهتُهم لاحقًا من رجال الأمن، إلَّا أني لم أستطع أن أُحدِّدَه بدقة ويقين حتى الآن. لكن هذا الجميل لم أَنسَه يومًا ولن أنساه. حادثةٌ أكَّدَت لي ما أومنُ به دومًا، إنه حتى عدوك يمكن أن يكون صديقَك، وفي كلِّ إنسان هناك منفذٌ للخير يمكن للنور أن ينفذَ منه ويطردَ الظلامَ كلَّه ويملأ كلَّ أرجاء النفس بالخير ويمسح الشرَّ كلَّه.

يومًا ما سألتقي هذا الرجلَ، إما على هذه الأرض — ربما بعد أن يقرأَ شهادتي هذه — أو بعد أن نعبرَ حاجزَ الدنيا إلى عالم الحقيقة والتجرُّد من الأشياء. وفي كل الأحوال سوف أشكره كثيرًا وأكثر بكثير من كل الكلمات التي سطَّرْتُها الآن. سوف أشهد له الآن وبعدئذٍ أنه علَّمني أن ما أحفظه من قِيَم عُليا كنت أقرؤها في الكتب لم تكن كذبةً أبدًا؛ علَّمني أن الإنسان يمكن له أن يكون إنسانًا لو أراد ذلك، قد تكون هناك صعوبة في إنجاز الأمر لكن لا استحالة فيه أبدًا، علَّمني هذا الرجل أن أُحبَّ عدوي أو ألَّا أُبغضَه على الأقل، وتيقَّنتُ أن الحبَّ قيمةٌ واقعية وليست مثاليةً كما يُصورها الشعراء، ولا يحتاج أن يكون المرءُ نبيًّا أو قدِّيسًا ليفعل هذا. كلُّ ما عليه فعْله أن يعود لفطرته وسوف يرجع إنسانًا ليس أكثر من هذا. أُصلِّي لصديقي المجهول باستمرار، وأرجو أن تكون هذه البقعة المضيئة التي سطعَت أمامي يومئذٍ قد ملأَت روحَه الآن وطردَت كلَّ الظلام. أتمنَّى هذا له كما أتمناه لنفسي، وآمل أن أطردَ كلَّ ظلام في حشاشتي من كرْهٍ وغلٍّ لأخي الإنسان مهما كان موقفه مني.

بعد استراحة الحائط هذه التي لا أذكر كم من الوقت قد أخذَت، تشوَّش ذهني كثيرًا ولم أَعُد حينها بقادرٍ على تخمين الأوقات ولا أيِّ شيء آخر، أخذوني إلى الضابط المحقق. كنت قد استعدتُ قليلًا من قواي، عيناي بدأَت تتنفَّس بعضًا من نور شاحب من خلال العصابة المتهدلة قليلًا عنها، ثم أزاحوها تمامًا بأمرٍ منه لأتلقَّى مفاجأة جديدة أخرى. ما الذي يحدث بحقِّ آلهة الغضب والجحيم؟ أين هو النور الذي ينعكس من الأشياء كما يقول علماء الفيزياء؟ ما لَه لا يَصِل إلى عيني، هل أصابه الكساح؟ أم هل مات الضوء وصار الكونُ رماديًّا غائمًا؟ أم أن عينيَّ تحتضران؟

مشهدٌ رمادي معتم بدأ يستحيل تدريجيًّا إلى أشباح بلا معالم هنا وهناك. وقفتُ وسط الغرفة كما خمنته، في الحقيقة لم أكن أعرف أين أقف في هذا الكون كلِّه، ضاعَت كلُّ الاتجاهات مني وصِرْتُ بوصلةً بلا مؤشر. بقيتُ واقفًا لمدة ليست بالقصيرة ويقف إلى جنبي رجلُ أمنٍ واحد على الأقل أَستندُ إليه يُمسكني من زندي لئلا أقعَ. لم أعرف وقتئذٍ كم كان عدد الموجودين بالغرفة، كنت أسمع أصواتًا لا أرى أصحابَها، وشوَّش عقلي الخبرُ السيِّئُ الذي تلقَّيتُه للتوِّ بأني أضحيتُ لا أُجيد النظر؛ ولهذا السبب لم أتمكن من حصر العدد ولا حتى محاولة تخمينه؛ لأني أصبحتُ في شغل عن هذه الأشياء.

قال الضابط موجِّهًا كلامَه لي: «اجلس.»

تلمَّستُ المكان ببصري المشوش ولمحتُ شيئًا ما يُشبه مقعدًا دائريًّا، تقدَّمتُ لأجلس عليه، وما إن وَطِئَتْه أَلْيتي حتى صرختُ من سخونة المقعد الذي لم يكن سوى مدفأة نفطية. قفزتُ فزعًا متوجعًا وسِبابٌ من الضابط المسئول عن التحقيق ينهمر عليَّ: «غبيٌّ، هل هناك أحد يجلس على مدفأة؟»

امتلأ المكان برائحة ألم، غضب وسخرية، وقليل من رائحة جلد بشري لسعَته نار. والأهم من ذلك كلِّه ولدَت قناعةٌ راسخة عند المحقق بأني أصبحتُ في وضعٍ مثالي لعدم جدوى أيِّ استجواب معي، وفعلًا انتهى التحقيق رسميًّا في تلك اللحظة. وباشروا بإلقاء ما تبقَّى من ملابسي عليَّ، وقبل أن يدفعوني في حُجرة المصعد وليس نزولًا على السلالم كما هي كل مرة في الطريق الطويل إلى الزنزانة الانفرادية، شعرت أكثر ببرودة الأرض وتذكرتُ حذائي، فطلبتُه، لم يعبأ أحد بسؤالي، طلبتُه ثانية، وهذه المرة بإلحاح استفزَّ أحدَهم، فقال بغضب: «عجيبٌ أمرك! أنت تموت وما زلت تبحث عن حذائك؟!»

عند تلك اللحظة رجع التحدِّي إليَّ بعد أن شعرتُ بنوع من الأمان من انتهاء حفلة الليلة، حاولتُ السخرية منهم كما سخروا مني بسؤالي هذا. كنتُ مصرًّا على ألَّا أعيشَ شعورَ الهزيمة وأظل متمسكًا بيقيني بأن الفجر سيطلع يومًا ما، وسوف يطرد كلَّ هذا الظلام المخيم عليَّ وعلى وطني.

ليالٍ دامَت على ما يزيد عن أربعة أسابيع بقليل يمكن لي أن أُلخِّصَها بعبارةٍ واحدة، نفيٌ قاطع لكل أنواع التُّهَم التي وُجِّهَت لي، مصحوبٌ بألمٍ رهيب. وبدَا لي أني في طريق الانتصار على تلك المعاناة، وسرَى فيَّ شعورٌ من الزهو. بدأتُ أنتظرُ ذاك اليوم الذي تفتح الأبوابُ فيه مغاليقها لأعانقَ الحرية من جديد، وأعود لما كنت عليه وأَدلَع بلساني إليهم ساخرًا. أول تباشير النصر جاءت حين أخلوني من الزنزانة الانفرادية في القبو إلى زنزانة فوقية جماعية يدخلها نورٌ من فتحة صغيرة.

التقيتُ في هذه الزنزانة لأول مرة بمعتقلين سياسيِّين من طلبة جامعيِّين عرفتُ بعضًا منهم، كنت أراهم في أروقة الجامعة وآخرين التقيتُهم لأول مرة. التحقيق قد انتهى تقريبًا إلَّا من بعض الحالات التي لا تُقارَن بما عِشتُه في الزنزانة الانفرادية، وأصبحتُ أنام مسترخيًا بعضَ الشيء ليلًا لا أنتظر فيه زائرًا يدعوني إلى حفلة تعذيب تنتهي عند بزوغ الفجر.

كنت حذرًا كما يتطلب الموقف من شركاء الزنزانة، ولم أردَّ على أسئلتهم الفضولية عن تهمتي، بل نفيتُ أن تكون سياسيةً أصلًا. اخترعتُ تهمةً أخرى بعيدةً كلَّ البعد لأقطعَ الأسئلة، وادَّعيتُ فيما بعد أني كنت أُعاكس فتياتٍ لهن وضعٌ خاصٌّ، وجيءَ بي إلى المعتقل لتأديبي. لكنَّ جوَّ الزنزانة وشعوري بالألفة والثقة والتعاطف مع سكان الزنزانة وما خُيِّل لي من انتهاء التحقيق، حثَّني كلُّ ذلك إلى أداء الدور الذي أهوى القيام به دومًا بكل شغف، وهو الحديث في الممنوع من الكلام. صِرتُ أتحدَّث معهم بكثير من الأمور التي بالعادة مَن يخوض فيها ينتهي به المطاف إلى السجن، لكن أليس نحن الآن في سجن؟ فلا ضيرَ إذن من الكلام. وصِرتُ في بعض الأحيان أستعرضُ ثقافتي على بعضٍ منهم ممن لم يَخُض في هذا المضمار وتورَّط بالصدفة في هذا المأزق الذي نحن جميعًا فيه. بدأنا نخوض النقاشات وكنت أُسيِّرُها أحيانًا، أُكمل معلومة ناقصة هنا وأُصحِّح أخرى هناك، تسرَّب اطمئنانٌ إلى داخلي وصِرتُ أستعدُّ لأنسى هذا الشهر الاستثنائي وأرجع ثانية إلى دوري الذي اختطتُه لنفسي وأَشرع بالدعوة لما أومنُ به ولو كان ذلك في زنزانة الآن، وغدًا سأفعل ذلك في كل أرجاء البلد، وسوف أعود محمَّلًا بخبرة عظيمة في مواجهة الخصوم بعد هذه التجربة المثيرة والمريرة.

كنَّا نتكاثر رويدًا رويدًا في الزنزانة وأصبحنا نُضايق الجدران بزحمة أنفاسنا وأجسادنا، ومع ذلك لم يكُن ذلك مدعاةً للإزعاج بالنسبة لنا، ولم أسمع أحدًا تأفَّف من ذلك. تنوُّعُنا المتعدد الاتجاهات في الانحدارات الطبقية والاجتماعية والفكرية والعِرقية لم يُسبِّب أيَّ تنافر أو فُرقة بيننا، وحَّدَتنا المحنةُ والهدف الواحد، كما هو حال كل الحالمين بالحرية، الحلم المشترك يلغي كلَّ الفروقات بينهم. مرة أخرى، أَثبتَت وقائعُ الأمور أن الإنسانية والحرية ليست حلمًا أمميًّا وحسب، بل إنها الحقيقة الخالصة التي تتجلَّى برَّاقة حين تُزال كلُّ الشوائب. كلُّ دين أو فِكْر أو عِرْق يلغي أممية الإنسانية فهو كذبةٌ وزَيف مهما قيل عنه ومهما بلغ عددُ المصدقين به، وكثرة الكذابين ليس بمقدورها أن تجعل من الكذب حقيقة.

٨

في ليلةٍ من كلِّ عام تضيع ساعةٌ فيها بين توقيت صيفي وآخر شتوي، جاء مَن يُوقظني من أحلامي ويهدُّ قوسَ النصر الذي كنت بنيتُه فوق رأسي. أُزيحت ستارة كانت تُغطِّي القضبان القصيرة في باب الزنزانة، وإذا بأحدهم ينادي باسمي وصوت المفاتيح يُصلصل في يد حارس آخر يقف إلى جنبه، أصابتني الدهشة كما الآخرين في الزنزانة؛ إذ كان زائرًا لم يُعهَد أن جاء في مثل هذا الوقت المتأخر. كل الموجودين في الزنزانة حُسم أمرُهم ولا يَتوقع أحدٌ منهم أن يُستدعَى للتحقيق من جديد؛ لذا لم يفهم أحدٌ سبب هذا الاستدعاء في هذا الوقت المتأخر، الدهشة والوجوم ارتسمَا على وجوه الكل. صَعِدتُ ثانيةً إلى مسرح الجريمة ووقفتُ في غرفة ما مقيدًا من الخلف لكن مفتوح العينَين وأطنان من سِباب وشتائم وتهديد ووعيد تُلقَى عليَّ من كل حدب وصوب. ألف سؤال واستفهام مرَّ في رأسي في ثوانٍ قليلة، وظلَّت كلها تدور حائرةً بلا جوابٍ. ماذا حصل وما الذي اكتشفوه لينهال عليَّ كلُّ هذا الغضب من جديد؟ دخل معتقلٌ معصوب العينين حافي القدمين يرتدي بيجاما صيفية، لم أتعرَّف عليه في البدء؛ لأن منظره كان مبعثرًا جدًّا، إلَّا حين أزاحوا العصابة عن عينَيه ليبدأ المشهد المثير.

سأله شرطيُّ أمنٍ برتبة مفوض (م. س): «مَن هذا؟»

– «فلان بن فلان.» ذكَر اسمي كاملًا.

– «وماذا تعرف عنه؟»

سرد كلَّ ما يمكن له أن يُلقيَني في غيابة الجُبِّ العميق وأنا أنظر إليه فاغرًا فمي وكل شيء فيَّ أصابه الجمود، تلاشَى كلُّ شيء فيَّ ومن أمامي، واستحال أمري إلى خواء، بل إلى عدم. اختفى هذا المعتقل كما جاء بسرعة خاطفة لكنه لم يغادر هذه الغرفة وحسب، بل خرج من كل حياتي وطويتُه إلى الأبد في خانة المهملات.

بِمَ سأحدثك الآن يا صاحبي؟ هل أقول لك إن جرح الخيانة لا يمكن له أن يندمل ولو جئتَه بكل عقاقير الأرض والسماء؟ لن تنفع يا صاحبي مع الخيانة القرابين والنذور التي سوف تُقدِّمها للآلهة، ومهما زين لك رضاها فلن أرضى والأمر يَعنيني أنا وحدي ولا يَعنيها، إلَّا بمقدار ما انتهكْتَ من سرٍّ وخنْتَ عهدًا وخرقْتَ موثقًا كانت السماءُ شاهدةً عليه. هل أقول لك: إن الخيانةَ ذنبٌ غير قابل للتكرار؛ لأن صاحبه به يموت ولن يقوم بعدها أبدًا ولو لمسه يسوع الناصري بكل سلطانه. ألم يَقُل لك أحدٌ من قبل: إن عشبةَ أتونابشتم الحكيم وسرَّ الخلود فيها لا تمنح الحياة لأحد، إلَّا للأفاعي؟ ألم يقولوا لك إن بناء أوروك وحده هو الذي يمنح البشر الخلود؟ لماذا مِعْولك يهدم أوروك يا صديقي؟ هل تفعل كلَّ ذلك حقًّا لأجل عشبة ستفقدها في أول استراحة وتُسرق منك مع أول إغماضة جفن وغفلة عين؟ كم أُشفق عليك! لن أحقد عليك أبدًا، ولا أحاول أن أكرهك ولو للحظة واحدة، فتلك مشاعرُ تليق بالأنداد، أما أنت فقد حزمتَ حقائبَك ورحلتَ عنهم اليوم إلى أرض لا إياب منها أبدًا. الذي كان يجمعنا انفرط، وطرف الحبل الذي ما يزال معقودًا في فؤادي يمدُّه بالدم أنت فككته، كيف أوهمتَ نفسك أم أوهمك آخرون أن الفؤاد يمكنه العيش بلا دماء؟

قد مات قلبُك يا عزيزي، ومَن مات قلبُه ما عاد إنسانًا وإن عمَّر ألف سنة أو يزيد. وداعًا يا مَن كنت صاحبي، لن يصلَ إليك صوتي، ولن تحمل الكلماتُ أيًّا من مشاعري إليك، لا حبًّا ولا بُغضًا ولا أيَّ شيء، تهاوَت كلُّ القناطر والجسور بيننا وصِرْنا على ضفَّتَين متباعدتَين ما بينهما هُوَّة سحيقة بحجم لا نهائية الكون المتباعد والمتوسع في كل حين.

بعد أن خرج صاحبي الذي أدلى باعتراف كشَف فيه المستور وأزاح الحجاب عن المخبوء، التفت إليَّ مفوضُ الأمن، وقال بنبرة تهديد مرعبة: «الآن ماذا تقول؟»

جمدَت الدماءُ في عروقي من هول المفاجأة وحجم الخيانة التي لم أجد لها مبررًا حتى اليوم؛ فكلُّ شيء كان بالإمكان تجنُّبه، بل أصلًا لم يكن هناك شيءٌ موجود حتى يتجنَّبَه. تطوَّع مجانًا لإلحاق الهزيمة، وهكذا تخسر المعارك، عندما يملأ الرعبُ قلوبًا خاوية تشمُّ الوحوش رعبَ ضحاياها وتنقضُّ عليها تنهشُ لحمها وعظمها وتتركها جيفةً في العَراء.

حفلات التعذيب التي راقصتُ فيها بمهارة كلَّ براعة الجلادين انتهَت الآن بجلسة صغيرة، وأضحيتُ عاجزًا حتى عن مراوغة سلحفاة ميتة. خارَت قواي دون أن يمسَّني أحدٌ، مادَت بي الأرض ولم تَعُد قدماي تحملاني وهنَّ اللاتي حملاني وأنا معلَّق في الفضاء. بلغ بي الوهن مداه والضعف غايته فانحنيتُ خاضعًا ذليلًا منكسرًا، ولأول مرة سألتُ جلادي شربةَ ماء بعد أن جفَّ حلقي وتيبَّسَت حنجرتي. اختنق صوتي ولم يسمح لي حتى برشفة ماء واحدة؛ فقدتُ توازني بالكامل، ولم أَعُد أُسيطر على عقلي. طلبتُ منه هذه المرة أن يسمح لي بالجلوس، فأبى مستنكرًا ذلك عليَّ. عرف أنها فرصتُه المثالية لتوجيه الضربة القاضية فاستغلها حتى الثمالة.

– «اعترفْ أنك منهم وسوف أعطيك ما تريد وإلَّا …» (كلمات نابية).

– «نعم، عملتُ معهم.»

بالغَ في إذلالي وأنا أضحيتُ ذليلًا بذاتي بلا حاجة لمن يذلُّني، أصبحتُ خاويًا تمامًا من الأفكار والمشاعر، وصار القبر أحلى أمنية لي في تلك اللحظة، ليت الأرض تفعل ذلك فتبتلعني أو السماء تستعجل أمري. ما الحياة إلَّا الحرية والعزة وخلَا ذلك موت، واليوم تجردتُ منهما. تلك اللحظة التي لا يمكن لي نسيانها؛ لأنها كانت أشدَّ اللحظات وقعًا عليَّ وأكثرها إيلامًا في كل سنوات السجن العشر. كنت أرى نفسي قبل سويعات مثل أخيل لا تنال منه السيوفُ ولا الرماح، والآن سهمٌ واحدٌ يقتلني وهكتور الذي صرعتُه بصمودي يضحك ساخرًا مني، فقد بان كعبي ونال سهم باريس المبتغى. ها قد نفذ السمُّ فما عادت تحملني قدماي، طلبتُ ماءً أروي به عطشًا لا يُروَى فأعطوني قلمًا وورقة تقيَّأتُ عليها إمضاءً مرتبكًا يمحو نفيًا وإصرارًا عمرُه خمسة أسابيع.

كتب المفوض كلماتٍ لم أقرأها وطلب مني التوقيع، لا أدري ماذا كتب، ولم أكن بحاجة لذلك؛ لأنها كيفما كانت فهي لن تكون سوى صكِّ إعدام مؤكد. فكيف لك أن تبقى على سطح الأرض وأنت تعترف أنك في خلية حزب معارض في بلد لا يؤمن حكَّامُه إلَّا بحزبٍ واحد وفِكْر واحد وقائد واحد؟ وما خلا ذلك فهو حثالة لا يؤمن بها إلَّا متآمرٌ أو خائن.

دخلتُ على أصحابي متلاشيًا، لكن أيضًا على وجهي ضحكةٌ تُشبه ضحكَ أبلهٍ مجنون. وقف أمامي واحدٌ من الذين كان يشاركونني الزنزانة، وبعد أن استفهم عما جرى وفَهِم الذي حصل سألني باستغراب وحيرة: «كيف تضحك وقد أعطيتهم صك الإعدام؟»

لم يفهم ضحكتي الحنظل وشعرتُ بالأسى مرتين، مرة عليه لأنه كان ضحية لا ناقة له ولا جمل فيما أنا وصحبي فيه، ومن العسير جدًّا عليَّ أن أُعطيَه درسًا عن الشعور بالهزيمة التي تحلُّ بثائرٍ رومانسي حالم في لحظة نشوة بخمرة الانتصار، ومرة أخرى على نفسي فكيف سوف أزدرد كلَّ هذا الحنظل وحدي؟ إن مرارته أقسى من كل ما قرأتُ وسمعت وحتى أكثر مرارة من لحظة فراق الروح للجسد والعبور إلى ضفة المجهول على كل ما يتحدثون عن مرارتها ويقولون. لعل الموت كان شُهدًا لو قُورن بما حصل لي للتوِّ.

كانت ساعة غريبة بكل ما فيها؛ حصل كلُّ هذا في ساعة تغيير الوقت الصيفي إلى شتوي، كنت أسمع ذلك من صوت تلفاز قريب. ما كان له أن يحصل في زمن حقيقي، لا بد أن يقع في نقطة خارج الزمن حيث اللاشيء، وكأن التاريخ يقول: إنكِ لا تصلحين أن يكون لك مكان في خط الزمن، أنت لحظة تائهة لا تنتمي لتاريخ الإنسان ولا يحق لها أن تتكرر من جديد ولا يجوز.

٩

الآن بدأتُ مرحلة انتظار النهاية، ولا يُدرَى متى تأتي الساعة بغتةً، تملَّكني رعبٌ هائل من النهاية المتوقعة. إبَّان الأيام الأولى لاعتقالي، استيقظت يومًا على رؤيا أشكو فيها لإحدى شقيقاتي وهي تودِّعني بحزنٍ وقد حُكم عليَّ بالسجن المؤبد عشرين عامًا. الآن يبدو أن الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة، بل إن الأمور عادت تُوحي بأكثر من تلك الرؤيا التي استرجعتُها في تلك اللحظة، كانت هاجسًا فأصبحَت نقشًا محفورًا في الذاكرة لا تنفكُّ عنها ولا أستطيع التخلص من ذِكْراها. المؤشرات جميعًا تتجه نحو نهاية واحدة، الإعدام شنقًا، وعزَّز ذلك الشعورَ المتعاظم حادثٌ صغير حصل في أحد الأيام عند بداية حلول فصل الشتاء. ففي أحد الأيام اقتادونا إلى مخزنٍ في البناية نفسها ليعطونا قطعة شتوية (بلوز)، بعد أن تهرَّأَت جميع ملابسنا تقريبًا، وهي ثياب صيفية — بالأصل كنَّا نرتديها ساعة اعتقالنا — شديدة القيظ، ولم تَعُد الآن قادرةً على مقاومة برد الشتاء، حتى إن البعض كان يرتدي ملابس نوم واقتِيدَ من حجرة نومه بها. لم يكن رجال الأمن يسمحون لأحد أثناء الاعتقال بارتداء أيِّ قطعة إضافية أو تغيير ما يرتديه، يأخذون مَن يريدونه بما هو عليه وبأيِّ زيٍّ كان عليه ولا يراعون أيَّ وضعٍ هو فيه.

أحد المعتقلين ممن كان معنا في الزنزانة كان نائمًا مثل عادة العوائل العراقية آنذاك في موسم الصيف على سطح الدار، وداهم رجالُ الأمن الدارَ ليلًا وصَعِدوا إلى السطح يصوبون أسلحتهم إليه وهو في فراشه سحبوه منه بملابس نوم خفيفة جدًّا أقرب ما تكون لملابس داخلية، وهكذا كان حال المعتقلين الآخرين وهم يرتدون ثيابَ راحة وما شابه ذلك. المهم أثناء تسلُّمنا لتلك البلوزات قال ضابط أسمر قبيح متجهم الوجه عابس الهيئة ذو خلق سيِّئ فوق العادة (ح. ب.): «أعطِهم بلوزاتٍ سودًا حتى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون.»

الأمر صار واضحًا جدًّا وما علينا إذن الآن إلَّا أن نتسلَّى بما تبقَّى لنا من أيام في هذه الدنيا، وبات حالنا مثل نبتة تذوي في نسيان تام. هنا عليَّ أن أعترف بأن شعورًا جارفًا من اليأس تملَّكني في هذه المرحلة وأصبحتُ عبثيًّا في تفكيري وأحاسيسي الداخلية، رُحْت أتساءل عن جدوى العقل في مدفن كهذا الذي نحن فيه. كنت ألوم نفسي بشدة متناهية، أحس بالعار يلبسني ويشي بكل سوءاتي، ولا يفتأ سؤال يقرعني ليل نهار: لماذا لم أقاوم وأرفض الاعتراف حتى مع حصول الخيانة؟ ماذا كان سيحصل لو قاومتُ؟ هل كنت سأموت تحت التعذيب؟ كما مات زميلي الطالب في كلية الهندسة الكهربائية الذي شاركنا المعتقلَ إلَّا أني لم أرَه فيه. وسمعت عن موته تحت التعذيب من آخرين.

كان قد سبقني إلى الزنزانات الفردية، وروى لي أحدهم آخر أيامه: أنه رآه أثناء التحقيق وهو على الأرض يرتدي دشداشة، عاجزًا تمامًا عن الحركة شلَّت ذراعاه وأُلقيَ على الأرض بإهمال لتتكشف عورته بعد تهرُّؤِ ما كان يكتسي به وتمزُّقها جراء التعذيب المتواصل. كان رجال الأمن قد عرَّوه من ملابسه الداخلية كما فعلوا بنا جميعًا. يقول الشاهد: إنه رآه ضعيفًا منهكًا لا يقوى على الكلام إلَّا بصوتٍ واهٍ خافت ضعيف كأنه همسٌ مبحوح، وطلب منه أن يعدل له وضْعَ دشداشته كي يستُرَ نفسه؛ لأنه عجز عن فعل ذلك.

في صباح يوم عندما كان الحرس يوزعون شوربة الصباح طلبوا منه النهوض لاستلامها لم يردَّ، صاحوا به عدة مرات ولا يرجع لهم سوى صدَى صراخهم. اضطروا لفتح باب الزنزانة الانفرادية، ليجدوه جثة هامدة، سحبوه في بطانية وأخذوه إلى مكان مجهول. لم يعثر أحدٌ على جثته ولا رفاته إلى هذا اليوم، مثله مثل عشرات الآلاف من أمثاله، ولم يكن تغييبُ جثث القتلى والمعدومين حالةً استثنائية، بل إجراء نمطي تقوم به السلطة، أعرف كثيرًا ممن مات في السجن أو أُعدم ولم تسلَّم جثته. سألنا عنهم عوائلَهم لاحقًا عقب خروجنا من السجن أو بعد سقوط النظام الفاشي كانوا يجهلون كلَّ شيء ولا يعرفون مصير أبنائهم المغيَّبين.

كنت أقرع نفسي لماذا لم تصمد وتقاوم؟ ما الذي دهاك، ومِمَّ خفت؟ وماذا ستكون النتيجة، أليس الموت في أسوأ احتمالاتها؟ الآن سوف تموت أيضًا، ولكنْ أيُّ موت؟ الموت محبطًا كمَن يجلس في ساعة رمل محبوسًا في زجاجة يعجزه الخروجُ من عُنُقها الضيق ويستمر تساقُط ذرَّات الرمل عليه ليُدفن تحته بلا أيِّ مقاومة. كنت سأبلغ مرتعي المظلم نفسه في المقبرة لكن في خلو من هذا الشعور المزري، وربما كنت سوف أردُّ نهايتي بإحساسٍ من البطولة والتحدي وأترك المرارة في نفوس الجناة وليس كما الحال الآن، فهم الذين انتصروا وأنا الذي أشعر بالخيبة ومرارة الهزيمة. مواقع كان لنا أن نتبادلها لو واصلتُ الصمود؟ الشجاع يموت مرة والجبان في كل يوم مرة، لا بل ألف مرة.

وعلى عكس طبعي السابق المتفائل المحب للحياة والأشياء الجميلة التي أتابعها من أدب وموسيقى ورياضة، واهتمامي بها يصل حدَّ الهَوَس أحيانًا، وهو طبعٌ لم أتخلَّ عنه حتى اليوم، صِرتُ في تلك الأيام شخصًا محبطًا يائسًا من الحياة وصار العيش فيها بنظري عبثًا لا طائل منه، وإن هي إلَّا جرعات قليلة من هواءٍ أتنفسه وبعدها سوف أتوارى في الغور العميق حيث أرض لا إياب منها ولا رجوع.

مع كل هذا الضعف والمقت الشديد لذاتي حينئذٍ، غير أني رمقتُ السماء في ديجور إحدى الليالي من دجنة زنزانة انفرادية تحت الأرض بقلبي؛ إذ لم يكن هناك من سبيل حقيقي لرؤيتها، وأطلقت أمنية مخلصة، أمنية خرجت من قرارة نفسي من أعمق ما فيها: «لا أريد أن أغادر الحياة الآن، سأقنع بأيِّ الحلول إلَّا هجر هذه الدنيا عبر المقصلة.»

أكملتُ حديثي مع مَن كانت تُخاطبه روحي: «إن حصل ذلك فسوف أستبدل ذاتي المهزومة المأزومة بأخرى تستعيد البصر حتى في كل هذا الظلام الدامس وأُحيله نورًا ساطعًا.»

لا أدري لماذا حدَّثتُ نفسي هكذا، ولا كيف اتخذت هذا القرار؟! كان طلبًا مخلصًا وقرارًا صادقًا أتى من منطقة لم أتعامل معها من قبل وأجهل انتماءَها، هل كانت من الوعي أو من اللاوعي؟ لا أدري، مع ذلك يبدو أن القدَر صنع قراره وفقًا لهذه اللحظة، ورأى من غير المناسب أن أشدَّ الرحيل إلى العالم الآخر حينها. لعله رأى أنه ما زالت تعوزني أشياء كثيرة ولربما وجد القدر أيضًا أني لا أصلح إلَّا أن أكون شاهدًا على الجريمة فقط، لأني لا أُحسن فعل شيء إلَّا قصَّ الحكايا وحسب. أما الرحيل مع الأنقياء الذين يكتبون التاريخ ويَرْوون شجرة الحياة بدمائهم؛ فهذا ثوب قد لا أستحقه مثلهم. ومهما كان السبب سواء ما ذكرت أو غيره فالنتيجة التي وقعت أن أمنيتي الصوفية قد تحققت وبقيت إلى هذا اليوم لأروي حكايتي التي لم تنتهِ بعدُ كلُّ فصولها.

إذن، صار عليَّ الآن أن أنتظر مع الآخرين موعد المحاكمة التي تقرر مصيرنا، في زنزانة لم تكن تزيد على اثنَي عشر مترًا مربعًا. عددُنا في أقل الأحوال ثلاثة عشر شخصًا ونزيد عن ذلك أحيانًا، يأتي البعض ويروح لكن نحن كنا سكانًا دائمين قد استوطنَّا الزنزانة وأَلِفناها جيدًا وحفظنا كل أركانها وزواياها. بابٌ حديدي ثلثُه العلوي قضبان حديدية تغطيها ستارة من قماش بشكلٍ دائم من الخارج لا يرفعها إلَّا رجل أمن ساعة يريد الحديث معنا.

في الغرفة شبَّاكان؛ أحدهما شباك طويل وضيق جدًّا لعل عرضه نصف قدم تقريبًا، وآخر على شكل مربع صغير جدًّا لا يتجاوز ثلاثة أرباع القدم المربع، لكنهما كانَا جيدَين لمرور الهواء والشمس بمقدارٍ كافٍ بالنسبة لمعتقل كالذي نحن فيه؛ الأرض إسمنتية خشنة والجدران صفراء لا تسرُّ الناظرين، والحقيقة أني لم أفهم أبدًا كيف أن الأصفر لونٌ يسرُّ الناظرين سواء كان فاقعًا أو باهتًا، حتى قبل أن أرى هذه الجدران. كنت لا أستسيغ اللون الأصفر بخلاف الأزرق أو الرمادي اللذَين كانَا يشكِّلان لونَين رئيسيَّين في أغلب ما أرتديه. بعد أن رأيت هذه الجُدُر الصفراء القبيحة ازدادت ثقتي بذائقتي في الألوان، ونأى أكثر وأكثر عني هذا اللون البشع الذميم.

أثاثُ الغرفة كان بطانيَّتَين خضراوَين رقيقتَين لكنهما واسعتان، تكفي كلُّ واحدة منهما لنفرَين فُرِشَتا على الأرض، وثلاث مثلها كانت تُستعمل كغطاء، يدخل تحت كلِّ واحدة منها أربعةٌ إلى خمسة أنفار اعتمادًا على العدد الموجود. أما الوسائد فكانت تتراوح ما بين نعل أو حذاء لم يُصادَر، أو أشياء أخرى لها ارتفاع لا بأس به يصلح أن يكون متكَأً للرءوس. عند الباب وُضع جردل ماء يطفو دائمًا على سطحه قدَحُ لبن فارغ ليكون بمثابة الكأس الذي به نغرف ونشرب. ولحسن الحظ كان اللبن يَصِلنا بصورة دورية فكان خزينُنا من هذه الكئوس جيدًا وتوفُّرُه مضمونًا بصورة مريحة. في حالات طارئة جدًّا استُعمل هذا الجردل كمبولة حين كانت تطول الفترة كثيرًا بين فرصة وأخرى لمراجعة دورة المياه، وعلى أيِّ حال لم يحدث الأمر كثيرًا، ولم يعترض أحدٌ من المعتقلين في الزنزانة على هذا الانتفاع المقزز من الجردل؛ إدراكًا من الجميع أن الحلول البديلة الأخرى غير متوفرة وأن التذمُّر لا ينفع في كل الأحوال. التذمر والشكوى لم يكونَا مخرجًا من أيِّ أزمة على طوال التاريخ ولن يكونا كذلك اليوم؛ لذا الأمور كانت تعتبر جيدة وربما مثالية قياسًا لغيرنا ممن كان يعيش في زنزانات أخرى وفي معتقلاتٍ بالغةِ السوء. قد تشمئز النفس من هذا الوصف للزنزانة، ولها كل الحق في ذلك كما أن لنا الحق كله في أن نعتبر هذا الوضع الغريب ظرفًا مثاليًّا. الأمور نسبية وليس هناك من مطلق، وكلٌّ يرى الأشياء بهيئة تناسب موقعه، لا توجد حقيقة واحدة ولا صورة ثابتة ولا وصف مطلق لأيِّ شيء في الوجود إن كان ذاتًا أو معنًى.

كنَّا نحظى بثلاث فُرَص للخروج من الزنزانة لقضاء حاجتنا بعد كل وجبة طعام، لكن هذا كان سببًا للإزعاج المستمر؛ لأن مع كل وجبة من المحتمل جدًّا أن ننال حصتنا من الهراوة. وفي الحقيقة هو كيبل كهربائي صُلْب وليس هراوة، لكن نسميها هكذا مراعاة لما يظنه الناس عنها أو ما يسمونه باللهجة العراقية «صوندة». وفي الحقيقة إني لم أرَ صوندة تُستعمل للتعذيب في أيٍّ من المعتقلات التي زُرْتها، بل كانت دائمًا إما كيبلًا كهربائيًّا أو مواسيرَ معدنيةً، وفي حالات خاصة كانوا يستخدمون «حديد زاوية» كما يسميه العراقيون، وهو الحديد المستخدم عادة في صنْع الأبواب والشبابيك.

ربما كان الأمر حتى أكثر من ضربة واحدة، هذا بخلاف السباب والشتم والزعيق والصراخ غير المبرر، ومنغصات أخرى بعضها يأتي بلا أوامر من مرءوسيهم، بل هو مجردُ مزاجِ حارسٍ أمني قد يكون مُنِع من التمتع بإجازته العادية فيصبُّ تعكُّرَ مزاجِه وتكدُّرَ نفسِه علينا بأنواع الإهانة والإذلال.

بدأنا فصلًا جديدًا نُشكِّل فيه عالمًا آخرَ جديدًا خاصًّا بنا، نصنعه بطريقة بدائية لكنها كانت تحكي قصةَ إنسان يحاول أن يُباعد جدرانًا متدانية، وإن استمرت بالوقوف في محلها. امتدَّ إلينا الشتاء حاملًا معه لياليَ طويلةً في وقتٍ كنَّا نعجز فيه عن العبور بين ضفَّتَي النهار بلا مللٍ.

كيف لنا أن نغتالَ كلَّ هذا الزمن الثقيل؟ لا كتابَ نقرؤه ولا مِذْياع نسمعه ولا تلفاز نشاهده، كلها أضحَت محظورات، بل من المستحيلات. هذه الأشياء تقع هناك بعيدًا في ذاك العالم العجيب حيث الضوء والحرية والألوان، عالم صار حلمًا، خيالًا وأوهامًا. واظَبنا لبرهة من الزمن على ازدراد ما حصل لنا في التحقيق وظروفه في أحاديث طويلة عريضة بتكرارٍ كنَّا لا نُخفي تأفُّفَنا منه؛ لذلك بدأ يتسرَّب ضجرٌ وسأمٌ منها، وصِرنا نمقت هذه القصص؛ لأنها أحاديث غير ذات بالٍ ولا أهمية لها، لا نجني منها شيئًا سوى تكريس الهمِّ الذي نحن نتوفر على قدر كبير جدًّا منه. إلى أن قُدحت شرارةُ فكرة للتسلية، فكرة كانت جيدة وجديدة، لا أعرف برأس مَن لمعت ولا كيف قُدحت في ذهنه أو من أين اقتبسها.

لِمَ لا نحاول صُنْعَ شيءٍ ما من بقايا الخبز يكون لنا تصبيرًا وتلهيةً ولربما أيضًا يواسينا؟ على الفور ازداد اكتراثُنا بلب الصمون وغدا محطَّ اهتمامنا وبِتْنا نُولي له عنايةً فائقةً حينما نتناول أيًّا من وجباتنا الثلاث، كنَّا نعزله في حرصٍ حتى لا يضيعَ منه شيء ثم نُرجعه عجينًا، ومن بعد ذلك نُعيد تشكيلَ هيئته بصنع خرزات نحاول أن تكون كرويةَ الشكل قدر الإمكان، ومن ثَم نتركها في مكان آمن بعيدًا عن قدمٍ تطؤها بالخطأ، وفي العادة كانت حافةُ الشباك الرفيعة الموضعَ المفضل لحفظها بعيدًا عن هذا الدهس غير المتعمد. نتركها تجفُّ هناك؛ لأنه المكان الوحيد الذي يمكن لها أن تتعرض فيه لأشعة الشمس في الزنزانة، ثم ننظمها بعد ذلك في خيطٍ نستلُّهُ من البطانيات الخضراوات التي نفترشها، وبذلك ننتهي من صُنْع مِسْبحة عجينية. إلَّا أنه — وبصراحة — لم يكن أحدٌ يستخدم هذه المسبحة لأغراض دينية أو ترفيهية إلَّا القليل وفي أوقات نادرة؛ لأنها كانت صناعةً رديئة سريعة التلف، وبالرغم من ذلك فإنها كانت مفيدة وتمثِّل انعطافًا وتحوُّلًا مهمًّا في حياتنا؛ لأن صُنعَها كان يبتلع الزمن بشراهة، وهو أمر رائع كنَّا نبحث عنه ووجدنا ضالتنا فيه. تقضية الوقت في اللاشيء كان يُشكِّل عاملَ ضجَرٍ مزعج لنا، وظهور شيء يُبدِّد هذا الملل لا بد أن يكون موضع ترحيب حقيقي من الجميع. كما تطلَّب صنْعها منَّا أيضًا الصبر؛ كان يُولِّد فينا صبرًا عجيبًا في وقت نحن بأمسِّ الحاجة لمزيد من الصبر، صبرٌ يقوينا على ما نحن فيه.

انهماكنا في إنتاج شيء ما خلق فينا إحساسًا رائعًا بأننا لا زلنا على قيد الحياة، ولم نزل نملك القدرة على الإبداع والإنتاج والخلق. قد يكون المنتج أمرًا تافهًا ليس بذي قيمة لكن مع ملاحظة الظرف الذي نعيشه، كانت عمليةُ إنتاجه وإبداعه أمرًا حيويًّا بالنسبة لمعتقلٍ جهد جلَّادوه على تحطيمه نفسيًّا، ونزْع كل رغبةٍ عنده في الحياة. قد لا يُدرك أهمية ذلك إلَّا مَن عاش الاعتقال في هذه الظروف المزرية. إن محاولة تجاوز المحنة بالتأقلم معها يُشكل منعطفًا نفسيًّا استراتيجيًّا مهمًّا، بدلًا من العيش في الواقع المر والاستسلام له والخضوع لظله الثقيل، وهو حال يؤدي حتمًا إلى الكآبة التي تُعَدُّ انتحارًا مؤجلًا. تجاوُزُ ذلك والتعاملُ مع المحنة كأنها أمرٌ عاديٌّ سوف يُقلل من آثار السجن كثيرًا. وهذا ما حصل بوضوح بعدئذٍ عند كثير من السجناء غيَّروا حال السجن إلى واقعٍ آخرَ سوف يأتي وقتٌ للحديث عنه، وسوف تنكشف وقتَها القيمةُ المعنوية الكبيرة لعملية صُنع المسبحة العجينية. كم من حدثٍ غيَّر مجرى التاريخ يُعَدُّ تافهًا بمقاييسنا الآن؛ لذلك لا يصح الحكم على الأشياء والأحداث بقيمة مطلقة، قيمة الأشياء تأتي من قراءة السياق الذي وُلدت فيه.

استهوَتْنا فكرةُ عملِ المسابح وانتقلنا من العجين الذي كانت صناعتُه رديئةً في أغلب الأحيان لهشاشته وتكسُّره السريع، ولأنه أيضًا لم يكن ينجو من سحقٍ إما بالأقدام أو بالأجساد في تقلُّباتها أو احتكاكها أثناء النوم في مكان ضيق يزدحم بساكنيه. فكان قرارُنا التحولَ إلى صناعة أخرى أكثر تطورًا وأجود نوعيةً، هذه المرة من نوَى التمر الذي كان يَصِلنا بين الحين والآخر. كان جمعُ النوى يحتاج وقتًا طويلًا؛ لأن التمر لم يكن يَصِلنا بشكل دوري كما هو الخبز قوتنا اليومي. كنَّا نستهلُّ مرحلةً جديدةً من التطور الصناعي، مرحلةً صعبة أحياها العجينُ ونفخ فيها الروح لمواصلة الحياة.

تشذيبُ النوى على الأرض الإسمنتية التي نفترشها كان يستغرق ذلك منَّا أحيانًا شهرًا كاملًا وربما أكثر من ذلك، هذا الوقتُ كلُّه لأجل صُنْع مسبحة واحدة ليس غير. لم يكن الأمر بالنسبة لي عملًا يسيرًا؛ فقد كنت دومًا متلكِّئًا في سائر الحِرَف اليدوية، وما أزال لسوء الحظ مواظبًا على هذه الخصلة السيئة حتى اليوم؛ إذ لم أشهد أيَّ تحسُّن فيها ولم تنفعني سنواتُ السجن في تطوير مهاراتي اليدوية، بل يمكن اعتباري بلا تردد مزمن الفشل فيها. أما كيف نثقب تلك النوى ونمرر منها الخيط الذي تنتظم بها فذاك وحده حكاية أخرى.

١٠

ما علينا من ملابس بدأ يتهرَّأ أكثر مما هو عليه فعلًا، وباتَت أرديتُنا ممزقةً يكاد نسيجها يتفتَّت لوحده، وغدَت أسمالًا بالية بالمعنى الحرفي للكلمة. كان لا بد من خيطٍ وإبرة لعلاج بعض التشققات، فما عادت ثيابنا تستر أماكنَ لا يصح التغاضي عنها لحساسيتها الشديدة. وكان السؤال الكبير: ما هو السبيل إلى الإبرة والخيط في زمن الممنوعات الكثيرة؟ كنت كلما صادفني ممنوعٌ تذكَّرت قصيدة أحمد فؤاد نجم، وُأردِّدُها بلحن شيخ إمام:

ممنوع من السفر.
ممنوع من الغُنا.
ممنوع من الكلام.
ممنوع من الاشتياق.
ممنوع من الاستياء.
ممنوع من الابتسام.
وكل يوم في حبِّك.
تزيد الممنوعات.
وكل يوم بحبك.
أكثر من اللي فات.

كنت أُردِّد المقطع الأخير كثيرًا: «وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات، وكل يوم بحبك أكثر من اللي فات.» صوتُ الضمير والفطرة كان يقاوم داخلي ويرفض الاستسلام رغمَ كلِّ ما كنت أعيشه من اضطرابٍ وتراجُعٍ نفسيٍّ هائل.

لم نكن نعدم حيلةً للوصول إلى ضالتنا من الإبَر فيما كان يُقدَّم إلينا في فترات متباعدة من عظام الدجاج. كنا نفتش بين العظام عن أدقِّه ونصنع منه إبرة بعد معالجة دقيقة بالأرض الإسمنتية أحيانًا. أما الخيط فكان أمرُه هينًا جدًّا؛ إذ لم يكن علينا إلَّا سَحْبه من واحدة من البطانيات سواء التي نفترشها أو نلتحف بها. إنما كانت عملية انتزاع الخيوط المتواصلة بالتأكيد لها عاملٌ كبير وتأثير مباشر في تقليل عمر هذه البطانيات، بصراحة لم نكن نُبالي بهذا كثيرًا؛ لأنه مهما حصل وسوف يحصل وحتى لو تكرَّر انتهاكُنا لتماسُكِ نسيجِها مرات ومرات، فإن عمرها في كل الأحوال سوف يكون أطولَ من أعمارنا، بهذا كنا نُحدِّث أنفسنا ولربما أحيانًا يهمس بعضنا للبعض الآخر به؛ إذ كنَّا نتحاشى التصريح بالنهاية المروعة التي تنتظرنا كما يتحاشى أهل بلدي في تسمية السرطان عندما يُصيب أحدهم، فيقولون أُصيب بذاك المرض. كأنهم يخافون من بطشه السريع أو أنهم يعترفون بأنه جبار لا قِبَلَ لهم به، وأنه ملك عظيم وصاحب جلالة مقدسة. ولا يصح للعامة من الناس أن تذكر أسماء الآلهة والملوك إلَّا بالألقاب الكبيرة وبالصفات العُليا والتبجيل العظيم.

نجحَت تلك الإبر الدقيقة في رَتْق ثيابنا لكن بطريقة هزلية، إلَّا أنها بالرغم من ذلك كانت نافعةً جدًّا وتفي كثيرًا بالغرض المطلوب، بل ونفعتنا أيضًا في خرم النوى الذي صنعنا منه مسابحَ ولو بصعوبة ومشقة أكثر؛ إذ كان علينا أن ننقع النوى في الماء لعدة أيام ليغدوَ لينًا، بينما نحاول في هذا الوقت تجفيفَ عظام الدجاج المقترح ليكون إبرة ويصير أكثرَ صلابة.

الزمن كان طويلًا ثقيلًا؛ ولذا كنا نحاول اختراع ممارسات شتى للخلاص من ظلِّه السمج، بانتظار موعد يُنهي هذه الحقبةَ والخروج من هذه الزنزانة إلى مكان ما. من جملة ما فعلناه خلقنا من العجين أحجارَ شطرنج وقِطَعًا للعبة الداما وحتى صنَعنا منه نردَ طاولة. وصارت أغطيةُ عُلَب اللبن بعد تنظيفها بالطبع مما عَلِق فيها من اللبن قِطعَ دومينو، كنَّا نتسلَّى بها أثناء ذلك، غيرَ آبهين بالموت الذي ينتظرنا. أما في الأمسيات فكنَّا نتحدث كثيرًا في السياسة والثقافة؛ لأن ترددَ الحرس فيها يصبح نادرًا، ومع وجود بوابة حديدية كبيرة تفصل الزنزانة عن غرفة الحرس، كان اقترابُ أيِّ واحد منهم سوف يتزامن مع صلصلة المفاتيح الثقيلة التي يحملها، وكان ذلك يُشكِّل صفارةَ إنذارٍ وجرسَ تنبيهٍ لنا خصوصًا مع هدوء الليل وسكونه. لا يمكن لأيِّ حرس أن يتسلل في غفلة إلينا أبدًا مهما بالغ في تحفُّظِه وكتم خطواته، فلا بد من إصدار جلبة وضوضاء مسموعة بشكلٍ كافٍ لنا مع حذرنا المستمر منهم؛ لهذا السبب صار النهار وقتًا لممارسة الألعاب واللهو الذي لن يحاسبَنا كثيرًا عليها لو رصدنا بالجرم المشهود، أما الليل فهو وقت الأحاديث الجادة. غير أن هذا ليس بمسوغٍ لأن يخامرَ أحدًا ما إحساسٌ خاطئ بأن الألعاب كانت مسموحة، أو أن صُنْعَ كلِّ هذه الأشياء من مسابحَ وغيرِها كان أمرًا متغاضيًا عنه. أبدًا لم يكن الأمر كذلك، كلُّها كانت تندرج في خانة المحظورات. إنما هناك أمور تكون العقوبة عليها يسيرة لا تتعدَّى صياحًا وزعيقًا وكومة من شتائم أو ضربات خفيفة مفردة من كيبل أو هراوة، وهذه أمورٌ عادَت روتينًا يوميًّا لا نأبَهُ له بالعادة؛ لأنها صارت جزءًا من القوت اليومي.

شكَّلنا حلقة دورية نتناوب فيها ليُلقيَ بعضُنا محاضرات؛ كأن تكون المحاضرة استذكارًا لكتاب كان قد قرأه المحاضِر من قبل، أو مادةً له اطِّلاع عليها بصورة جيدة، أو خبرةً في أمر يُجيده أحسن من الآخرين. وساعد في نجاح تلك الأمسيات وإثرائها هو وجود أكثر من واحد بيننا ممن كان يهوى المطالعة. وأغلبُ مَن تواجد في الزنزانة في أكثر الأوقات كانوا من المتعلمين الجامعيِّين. البعض كان يتبارَى الشعر ويجعلها بين فريقَين. ومن المصادفات الحسنة كان بيننا أشخاصٌ بارعون في هذا المجال من الأدب، بل حتى كان بيننا شاعرٌ مثقفٌ مهتمٌّ بمطالعة الفلسفة وحتى دراستها. كان يعمل مصرفيًّا قبل اعتقاله إلَّا أنَّ كلَّ ثقافته ونجاحه الباهر في عمله الذي تمكَّن فيه لبراعته أن يصيرَ مديرًا لأحد المصارف الكبيرة رغم صغر سنِّه (لم يكن يتجاوز الثماني والعشرين سنة) لم يشفع له فيما بعد. لم تُقدَّر مواهبه، بل العكس هو الذي جرى، هذه المواهب الرائعة نفسها هي التي أودَت به إلى مقصلة الإعدام مع زميلَين آخرَين من زملاء الزنزانة وآخرين كانوا في زنازين مجاورة لم أتعرَّف عليهم، بل لم ألتقِهم أصلًا سوى أني كنت أسمع أصواتهم أحيانًا حين يُناديهم حرسٌ أو يتحدث إليهم آخرُ عند توزيع الطعام، أو عند السماح لهم بمراجعة دورة المياه.

حاولتُ حفظَ بعض الأبيات الشعرية بلغاتٍ محلية غير العربية التي أتحدث بها؛ لأننا كنَّا مزيجًا مختلفًا من قوميات مختلفة وخليطًا غير متجانس من توجهات وأفكار متباينة بشدة أحيانًا، إلَّا أن ما كان يوحِّدنا قضية واحدة. همُّنا في مواجهة الظلم والسعي إلى وطنٍ حرٍّ خالٍ من الفاشية والدكتاتورية، وطنٌ نعيش به بهناءٍ وسعادة نتحدث فيه ولا نخشى من حائط يسترق السمع فيه إلينا، وطنٌ نفكر على أرضه وفي سمائه بصوتٍ عالٍ لا نخشى أن تُقطَع رءوسنا فيه؛ لأنها فقط مارسَت التفكير بلا قيود، وطنٌ لا يخوض مغامرات دون كيشوتية تسفك فيها دماء أبنائه من أجل إرضاء نزوة حاكم بقرار اتخذه ولم يراعِ فيه مصلحةً لشعبه ولا استمع لرأيه فيه. همُّنا كان الحرية، أن نعيش أحرارًا نحن ووطننا كما جئنا لهذه الدنيا قبل أن يمارس طغاةٌ مستكبرون جهلة يمقتون العلم والحياة مهمة الحكم فيه يحاولون استعباد الناس وتجهيلهم.

الشاعر المصرفي كانت له قصةٌ خاصة؛ إذ اعتُقل بوشايةِ خائنٍ، ولم يكن اعتقالُه علنيًّا، بل جرى اختطافُه بكمينٍ بشكلٍ سريٍّ للغاية. ولم يكن يعرف أحدٌ بأمره، لا من أهله ولا من رفاقه. كانوا يجهلون أنه يقبع في إحدى الزنزانات المظلمة الانفرادية في القبو الذي سكنتُ فيه طوال فترة التحقيق بظروفه الرهيبة. كان رجال الأمن يُوهمون أهلَه ومتعلِّقيه بطُرُق شتى أنه هاربٌ من السلطة خارجَ البلد، وهي تبحث عنه وتفتِّش أيضًا عن أخباره. كانوا يُشيعون عنه أخبارًا عبرَ مندسٍّ خائنٍ يعمل لصالح السلطة القمعية: بأنه استقرَّ في دولة عربية مجاورة، ويتسلَّل بين حينٍ وآخر عبر الحدود ويُرسل رسائلَ من هناك. كان الأمن يصنعون هذه الرسائل بطُرُق احتيالية بالطلب منه كتابةَ مقاطع بحجة مطابقة الخطوط، أو اعترافات عليه أن يدوِّنَها بنفسه، وطُرُق أخرى، إيهامًا منهم لرفاقه بأنها فعلًا منه للإيقاع بأفراد التنظيم. وبعد ما يُقارب السنة الكاملة أو يزيد من الإخفاء في زنزانة انفرادية في هذا القبو المرعب، تم إلقاءُ القبض على كامل المجموعة تقريبًا، واكتشف رفاقُه حقيقةَ اختفائه عندما التقَوه للمرة الأولى أثناء التحقيق معهم. كان لونُ وجهه قد غدَا أصفرَ شاحبًا بعد أن حُجبت الشمس عنه تمامًا طوال هذه السنة، وصار نحيلًا جدًّا يتقيَّأ دمًا من جرَّاء مرض التدرن الذي أُصيب به جراء عتمة وعفونة الزنزانة التي كان يقطنها، كان سيموت حتمًا حتى لو تركوه لحاله لكنهم أبوَا إلَّا أن يضعوا بصمتهم المقرفة على خاتمته، فقتلوه شنقًا هو وبعض رفاقه.

كان يُحدِّثني هو ورفيق له في المجموعة التي اعتُقلت لاحقًا له، عن العيشِ المرِّ لأشهُرٍ عديدة في تلك الزنازين المظلمة، وكيف أن أجسادهم تتقرَّح من جروح تملؤها بسبب التعذيب المتواصل. هذه الجروح لم تكن تجد مَن يداويها ولا من سبيل لأن تبرَأَ، للظروف بالغة السوء في تلك الزنازين التي استعرضتُها سابقًا والتي سكنتُها لفترة وجيزة. ظروف لا يتخيل أحدٌ أنها تحصل لإنسان وربما حتى الذي يعرف وحشية النظام الدكتاتوري أيضًا لم يكن ليصدق أنها تحصل. كانت أحداثُها أشبهَ بلوحةٍ سريالية سوداء، وهذه قصة واحدة من تلك اللوحات السريالية.

أسرابٌ من الديدان تستوطن الزنزانات الانفرادية تعيش على جروحِ وقروحِ المعتقلين فيها تمتصُّ دماءَهم، ولا من حيلة لهم للخلاص منها لغزارتها أولًا، ولحال الجسد المنهك ثانيًا. إذ لا يمكن الاهتمام بنظافة الجسد بالمطلق كما شرحت من قبل عن ظروف هذه الزنزانات. كان في إحدى الزنزانات رفيقٌ له يملك محلًّا لبيع المجوهرات والحُلَى الذهبية ولا يشكو عوزًا ماديًّا، وهو من أوضح الأمثلة. إن مَن كان يُعارض النظام الدكتاتوري لم يكن يفعل ذلك بسبب عوزٍ مادي أو حاجة تنقصه أو فقر يدفعه للثورة، بل كانت معارضةً طلبًا للحرية ورفضًا للدكتاتورية وتحدِّيًا للقمع والتسلط.

تلك الديدان كانت تعيش على قروحِ وجروحِ صاحب محل المجوهرات، وكان معها كما هو مع كل الناس والدنيا رقيقًا لدرجة أقرب من الخيال وصبورًا بطريقة عجائبية. كان يُشفق على تلك الديدان عندما تسقط من بعض جروحه ويعود ليلتقطها ثانيةً من الأرض ويُرجعها إلى جُرحه، قائلًا لها: كُلي من رزقك. الحياة عنده انتهت، والخاتمة باتت معروفة، فلماذا لا يساعد هذه الديدان على الحياة. لم يكن هذا يأسًا منه ولا إحباطًا كما قد يظنه البعض، بل كان على خلاف ذلك بالتمام، كان قويًّا جدًّا، ويتحمل صنوف التعذيب بطريقةٍ عجيبة وصبرٍ لا يُوصف. صبرُه واستعدادُه للموت كان حافزًا له لأن يهبَ الحياة لمن بعده حتى لو كان من هوام الأرض وديدانها. لا أستطيع أبدًا — حتى هذه اللحظة — أن أصفَ مقدارَ رقَّتِهما وإنسانيَّتهما هو وصاحبه المصرفي، وصدقًا لو رويت لي شخصيًّا هذه القصة من ألف ناقل ثقة ما كنت أُصدِّقها لولا أني رأيت بعيني جروحَ الرجل وندوبه، وإني نفسي عشتُ في المكان نفسه ولو لفترة وجيزة ورأيتُ فيه ما يُشبه الخيال مما أعجز الآن عن سردِه أو وصفِه. كان أحدنا يقول: لو روينا ما يحصل هنا لقال الناس عنَّا كلمتَين ليس غير: إنكم إما كذَبة أو أنتم مجانين.

لكن هذا الذي لا يُصدَّق قد حصل فعلًا، وحصل مضافًا لهذا كلِّه أنهم قطعوا رأس صاحبيَّ؛ المصرفي البارع والصائغ الرقيق مطعم الديدان.

١١

في زنزانتنا كان الوضعُ أفضلَ من وضْع الزنزانة الانفرادية؛ لأننا كنا نقوم بزيارات سريعة للاستحمام وإن كان لا يعدو عن جردل ماء يُسكَب على أجسادنا، ويحصل ذلك بطريقة كوميدية؛ حيث كنا نخرج كل اثنين سوية إلى دورة المياه، يجلس أحدُنا لقضاء حاجته بعد أن يزويَ كلَّ ثيابه عنه متجرِّدًا منها، فيما يقوم الآخر في هذه الأثناء بملْءِ جردل ماء ويسكبه على صاحبه، خلال ذلك تُوضَع الملابس التي يُنوَى غسلها في حوض مغسلة الأيدي، ونمنع تسرُّبَ الماء منها إلى المجرى بحشرِ أيِّ شيء في فُتْحتِها؛ لكي تأخذَ ملابسُنا فرصةً كافية لتُغمَر تمامًا في الماء، وبالطبع كنا ننقعها دون أيِّ مسحوق غسيل، بيدَ أنه في بعض المرات قد يصدف هناك وجود بقايا لقطعة صابون نُسارع لاستخدامها بحكِّها بالثياب. لكن هذا لم يُحسِّن الوضع كثيرًا؛ إذ سرعان ما اكتشفنا أيَّ مأزق نحن الذي فيه، خصوصًا مع حكَّةٍ كانت تهرشنا في أماكن شتى من جسمنا، ولنكتشف بعد ذلك أن خلف هذه الحكة أسرابًا بأعداد هائلة من قمل يُزاحمنا العيشَ في هذه الزنزانة الضيقة بل يعتاش علينا.

كنا نخوض مع جمهورية القمل معركةً لم ننتصر فيها أبدًا، رغم حجم الخسائر الكبيرة التي نُوقعها فيه. ولم تكن هذه المعارك خيارًا تطوعيًّا، بل واجبًا إلزاميًّا لا بد من خوضه بشكلٍ شبهِ يومي. كانت تتجمع أسرابٌ سوداء في حواشي ملابسنا بصورة كثيفة تتغذَّى على ما تبقَّى لدينا من دماء.

كان للصراع مع القمل طقوسٌ خاصة لا بد أن يتحصل منها بالنتيجة خلعُ ما نكتسي به كلية. في البدء ننزع الملابس الخارجية ونُبقي الداخلية منها علينا، ثم نعود لنستبدل الخارجية بالداخلية بعد الانتهاء من المرحلة الأولى أو العكس بالعكس، كلٌّ بحسب مزاجه إلَّا أن تقديم نزع الخارجية على الداخلية هو التقليد السائد والأكثر عملية، ثم نملأ أكوابًا من ماء، هذه الأكواب كنَّا نحظَى بها من لبن خاثر يُعطَى إلينا في مناسبات متفرقة كثيرة. تبدأ عملية الاصطياد التي نسمِّيها «قصع» في جلسات طويلة نسحق القمل فيها بين أظافرنا بما سرقه من دمائنا وادَّخره في أحشائه. أظافرُنا تتسخ بدمائنا ونحن نحسب أننا قتلنا عدوَّنا، وهكذا هي المعارك الفاشلة.

كنت أُردِّد في داخلي وأحيانًا بصوتٍ عالٍ وأنا أرى المشهد: «دمٌ مسفوحٌ اليوم من رقاب القمل، وغدًا يُسفَح من رقابنا.»

كان هذا المشهد يزيد من درجة الاضطراب عندي ويُفاقم الحزن والأسى في داخلي على هزيمتي التي لم أستطع تجرُّعَها لتسعة شهور كاملة. لم تُفلح كثرةُ المواساة التي كنت أسمعها من بعض رفاقي، ولا مقولة بات يُكرِّرها بعضهم: إن جسدي النحيف يزداد اضمحلالًا ويتوغل فيه المرض. من إيقاف سيل مشاعر التشاؤم وحُزْني الداخلي الذي ضجَّت به روحي وطفح منها. بات البعض منهم لا يُخفي شعورَه حتى بالتصريح العلني ومواجهتي بأن خطر الموت قادمٌ إليَّ أسرع حتى من أوان وُرودِي المقصلة.

كنت أتأمل القمل صريعًا سابحًا في الدماء، وأسأل نفسي: مَن ذا الذي يمنحني الحق في سلْبِ حياةِ كائنٍ آخر وتحت أيِّ عذر فُوِّضت بذلك؟ أم هي رغبة في اللهو لأني أمتلك قوة باطشة لا تملكها الضحية؟ هل هذا يُعطي لكل ذي قوة الحقَّ والمشروعية لإرداء منافسيه وأن يسحقَ كلَّ مَن يتحرك بغريزته نحو ما يُعتاش عليه ليبقى على قيد الحياة ولا يطمع بغير ذلك؟ هل يملك القمل من خيار آخر لقُوتِه اليومي حتى أعدَّه معتديًا؟ معركتي مع القمل تمامًا هي المعركة نفسها التي يخوضها البشرُ فيما بينهم فقط، تتغير الأسماء والعناوين. كلٌّ يبحث عن سببٍ يُبرِّر بها فعْلَه، طرفٌ يملك القوةَ ويُزعِجه وجودُ كائن آخر بجواره أضعف منه يطالب فقط بالعيش كما جاء لهذه الدنيا، فيقود القويُّ حملةً دعائيةً ضده ويسميه كائنًا معتديًا ضارًّا، ويقول بعدها وفقًا لدعايته وتنظيراته الفكرية الخاصة: إن هذا كائنٌ مضرٌّ يجب سحقُه وإنهاء حياته، وينبغي أن يُبادَ هو ونسلُه ويُشتَّتَ جمْعُه ليعيش العالم بسلام، وهل يُبنَى السلام بالقتل والدماء؟!

كنت أُردِّد في حوار داخلي: إن قوتي التي أسحق بها أسرابَ القمل سوف تزول قريبًا؛ لأن ما أحسبه وحشًا ينتظر قطْعَ رقبتي هو عين ما ينظره القمل لي الآن، وسوف يمارس ذاك الوحش معي فعلي ذاته الذي أفعله مع القمل. حوار داخلي كان يذهب عميقًا وينتهي بي إلى سلوكٍ غريب، ربما بلا معنًى حقيقيٍّ، لكنه كان يعكس حيرتي وتيهاني آنذاك. كنت إثرَ ذلك أتجنَّب — وبحرص شديد — قتْلَ القمل بالقدر الذي أخشاه وأمقته، مصيري الماثل أمام عيني ليلَ نهارَ جعلني أتعايش معه وأقبَل حقَّه بالبقاء؛ لذا كنت بدلًا من قتله سحقًا صرتُ أنقله حيًّا إلى داخل كوب ماء مملوء ليموت غرقًا. طريقة كانت أكثرَ سخفًا لأنها أقسى تعذيبًا له، إنما بها كنت في الحقيقة أحاول التشبُّثَ بالحياة وليس إنقاذًا له، كما كنت أحاول أن أخدع نفسي وأبرِّر عملي هذا.

تصرفاتٌ غريبة تعكس الفوضى والتشتُّتَ الداخلي الذي كنت أعيشه؛ فمحاولة الخلاص من تأنيب الضمير من جريرة قتل القمل بفلسفةٍ كانت تبدو أشبهَ بأحاديث جنون مبكر. فلسفة قد تكون أقربَ إلى العبث والسفسطة وبسببها ما عدتُ قادرًا حتى على اعتراض نملة صغيرة تسير إلى جوار حائط هي وسربٌ من رفيقاتها. أضحيتُ أنظر بأسًى مبالغٍ فيه إلى خنفساء سوداء تعبُر الزنزانة وتتقلب على ظهرها فجأةً، ولا تقوى على الاعتدال، فأهبُّ لمساعدتها على النهوض ثانية بعناية وحنان. كنت أتشبَّث بالحياة بحياةِ غيري، وأكثر ما كان يُضايقني هو تلك الرغبة الغريزية في قتل الهوام عندما تسري على جسدي، كان يُراودني شعورٌ تصحبه كآبةٌ شديدة أحسُّ معه أني جلَّاد متنكِّر، شعور لم أتخلص منه.

١٢

في أحد الأيام حُشر عددٌ كبير من المعتقلين في زنزانتنا بعد أن تمَّ نقلُ مجموعة كاملة من زنزانة مجاورة ولم نفهم سببَ هذا الإفراغ المفاجئ وبصورة كاملة للزنزانة المجاورة. توقَّعنا كالعادة وصولَ وجبة جديدة من المعتقلين السياسيِّين لا يُراد لهم أن يختلطوا مع مَن أكمل التحقيق من مثلنا لدواعٍ أمنية؛ إذ قد تُنقل إليهم خبرتهم في التعامل مع المحققين. لم يحدث أيُّ شيء وطال ترقُّبُنا لتفسير هذا التصرف المفاجئ، إلى أن سمعنا فحيح مفاتيح الزنزانات الثقيل يُصلصل بحقدٍ من بعيد وبات قريبًا جدًّا ليفتح حرسُ المعتقل بابَ الزنزانة المجاورة التي ابتلعت ضحيةً جديدة، لم نكن بحاجة إلى عناء كبير لنكتشف جنسها. صوتُها الأنثوي هو الهوية الواضحة والعلامة الفارقة.

هذه هي المرة الأولى واليتيمة التي عاصرتُ فيها شخصيًّا اعتقالًا سياسيًّا لأنثى في المعتقل نفسه. ماجدات وحرائر، وحفظ شرفهن من الأعداء والغزاة ترنيمة روتينية تتردَّد صباح مساء في وسائل الإعلام الحكومي، ولا يفترُ الحزب ومناضلوه على تذكيرنا بها. ها قد جاء اليوم كي نختبرها في معمل إنتاج الأمن الثوري. في المساء جاء الرفاق حماةُ الحرائر وصائنو أعراضهن من المتآمرين والخونة ومن الأعداء الغزاة، جاءوا بكل قيافتهم وهمتهم وذهبوا بها هناك إلى الطابق العلوي إلى حيث ذهبنا من قبل لتبدأ فصول حكايتها.

على الرغم من كل الذي حصل لنا، ومع كل مرارة تجربتنا إلَّا أننا كنَّا نأمل بأنها ستحظى بمعاملة أحسن من التي أذاقونا إياها. إنها أنثى وامرأة شابة ورجال الأمن في الأول والآخر شرقيون مثلنا وسيمنعهم الحياء وشيمتهم القبلية العربية من اجتراح أفعال مخزية وسوف يعاملونها بالتأكيد بما أنها امرأة على أنها كائن ضعيف الجسد وإن كانت معتقلة سياسية، ولو اضطروا لمعاقبتها فسوف يكون من جنس التعذيب العادي المتوقع إنزاله بكل معتقل سياسي.

لم نكن نطمع بأكثر من هذا لها، لم يكن هذا توقعًا بقدر ما كانت أمنيةً ساذجة من نفوس لم تتعرف بعدُ جيدًا إلى أيِّ مدًى يمكن أن تصل إليه البهيمية في المخلوق البشري عندما يواصل ركوب عربة الانحطاط. تمنَّينا لها ليلة لا تسبح فيها عاريةً في الفضاء معلقةً بأحد السقوف كما فعلوا بنا. لم نكن نجرؤ حتى في أحلامنا الوردية لا في يقظة أو في منام أن نبعد الهراوات عنها؛ لأننا كنا على يقين أن الرَّكْل والصفع والكيبلات زادٌ يومي لكل معتقل، ولن يدخرَها رجالُ الأمن لأيِّ أحد مهما كان عمره أو جنسه. لم نتخيل أبدًا أيضًا أنَّا كنَّا نختزن حلمًا سخيفًا آخر ستُبَعثر أشلاؤه حين تندُّ صرخات سيدة شابة بموته. سيدة ما عرفنا لها اسمًا ولا عنوانًا إلَّا كونها كائنًا اختار الحياة، وقررت أن تفكر بحريةٍ ممنوعة في بلد تزدحم فيه الممنوعات أكثر من ازدحام القمل على ياقةِ سجينٍ.

بقامةٍ متوسطة ووجهٍ يتراوح بين استدارة قليلة واستطالة تعلوه سُمرةٌ حنطية مشوبةٌ بخوفٍ ووجوم كثير، يلتفُّ عليه شعرٌ أسودُ فاحمٌ ينسدل بنعومة إلى حد الكتفين تقريبًا أو يتجاوزه قليلًا، هو كلُّ ما بقيَ في الذاكرة من نظرة متلصصة طويلة سرقتها من كُوَّة الزنزانة وهم يقتادونها إلى غرفة التعذيب. عرفنا فيما بعد من كلام بعض الحراس الأمنيِّين الذين عقدنا معهم صداقات دردشة بسبب طول الإقامة كيف أنها عُذِّبت مثلنا تمامًا. رواياتهم كانت تؤيدها الصرخات المرعبة وهي تشقُّ سكون الليل من على بُعد عدة طوابق، تصدَع أركان قلوبنا، ونُنصت لها خاشعين لا ننبِسُ ببنت شفة حين تنزل علينا كالصاعقة. نغيب في الصمت كأنما الطير يقف على رءوسنا وتتجمد مآقينا حتى عن ذرف الدموع، كل شيء يصبح باردًا كالموت لا نجسر على النظر إلَّا إلى أسفل، إلى ما تحت أقدامنا حيث يسكن الذل والهوان.

تتوسَّل صرخاتها رحمةً ورأفة من قلوبهم الأقسى في صلابتها من كل الجدران التي حُبست فيها، ومرة أخرى كانت تنادي السماء أن تغيثَها وتفكَّ كربتها، الصمم أصاب الكونَ كلَّه حتى نحن كنا نحاول أن نحشوَ آذانَنا بالصمت بإغماض عيوننا وإخراس ألسنتنا. العجز والعار كان يطوف فوق رءوسنا يُظلِّلنا بكومة من سحابه الثقيل من الدهشة لما يجري بإحساس هائل من ضياعٍ وعدمٍ وخواءٍ كامل، خواء لو قُرعت فيه كلُّ طبول الاحتجاج لن يُسمَع لها صوتٌ فيه ولا صدًى. مشاعرُ غطسنا فيها وانتحرَت على عتبتها خرافةٌ أخرى من الخرافات التي كنَّا نأمل أن يكون لبعضها — وليس لكلها — أيُّ نصيب من الصحة أو حظٍّ من الحقيقة. لو كان لذرَّة رمل تطيح بها رياح خمسينية أيُّ أمل في الثبات بين الكثبان، لكان لخرافة القبيلة التي تصون أعراض النساء حينئذٍ فرصة للنجاة بعد هذه الحادثة المروعة.

حرائر وأعراض ماجدات وقبيلة تفخر بسكانها ولو كانوا يملئون المقابر، وحضارة سبعة آلاف عام، ودين سماحة وعفَّة وشيمة وغض الأبصار، وعروبة وسخافات كثيرة أخرى كلها انتحرت؛ لأني لستُ جريئًا بما فيه الكفاية للقول إنها لم تكن حية في يوم من الأيام لتموت الآن، إنها أساطير لا أصل لها سوى أوهام كبرياء أجوف. وطن يعشق وَأْد الحرية ويقتل كلَّ مَن قرر أن يختار إنسانيته باسم أشياء كثيرة؛ دين، شرف ومبادئ الحزب والثورة.

صديقتي التي لم أتعرَّف عليك ولم ألمح من صورتك ولا قوامك إلَّا النزر اليسير، لكنه كان كافيًا لأن يُنقش في ذاكرتي أبدًا كما يُنقش على الحجر. صديقتي التي لم أرَكِ تسيرين على أرض بلدي إلَّا وأنتِ مكبَّلة بالقيود تُحيط بك ذئابٌ مفترسة جائعة شرهة لشرب دم الضحايا، أقول لكِ ولكل صديقاتك اللواتي سمعنا بقصصهن كثيرًا: إن شرفكِ وعفتكِ هي عشقكِ للحرية الذي صارعتِ به الوحوش الكاسرة، وبه انتصرتِ عليهم، أنتِ ما زلتِ خالدة في قلب وعقل كلِّ مَن مررتِ به ويفخر بمعرفتكِ حين يذكركِ أو ساعة يروي قصتك، أما هم فيكفيهم من العار أنهم لا يجرءون على ذِكْر أفعالهم معك ويشعرون بالحرج من قصتك، أراهن على ذلك، إنهم يخشَون ذكركِ ولو كانوا يضطجعون في مخادعهم مع زوجاتهم، فهل هناك عارٌ يُلصَق بهم أكثر من هذا العار؟!

١٣

دلَف إلينا في نهار شتوي بجسمٍ ضئيل وذقنٍ كثٍّ وسذاجة مفرطة تُغذِّيها براءَتُه، وبلغة غريبة عن مسامعنا كما هو دينه مجهول التفاصيل من قِبَل كثير من الناس ونحن منهم إلَّا بعنوانه العام. ما إن أخذ وقته حتى راح يُحدِّثنا بحماسة عن أجداده العظام وعن حدَّة سيوفهم ورهافة نِصالها التي حصدوا بها الأعداء، كما يحصد هو سنابل القمح في أرض الجزيرة. كان يحفظ أسماء سبعة أجداد بالترتيب لأحد أبطال حكاياته، وعندما كنَّا نسأله عن أسماء أجداده، لم يكن بوسعه تجاوُز ما هو أبعد من جدِّه الثاني إلَّا بمشقةٍ وعناء، ويبقى مترددًا كثيرًا في تأكيد صحة جوابه إن تعدَّى جدَّه الثالث، بل يعتذر عن الوصول إليه ويُقرُّ بجهله.

كان الرجل يعيش في ماضٍ موهوم، يجهل حاضرَه ويتمسك بأساطير وخيالات ينسبها للدين. يظن بل يجزم أنها حقيقة لا ريب فيها ويحسب أنها محضُ خيرٍ وومضة جمال لن يجود الزمانُ بمثلها، أما الذي سوف يجري بالغد له ولأطفاله ولأجيال لاحقة لهم، فكانت عنده قصة مفككة تشظَّت أجزاؤها، لا تماسكَ فيها ولا تكامل ألبتة. كان الرجل بما يختزنه من بساطة ووضوح في مشاعره وأحاسيسه نموذجًا لنوع ليس بغريب عن بيئتنا من قبل ولا من بعد، بل هو النوع الأكثر شيوعًا ويمثِّل في طريقة تفكيره ومعيشته ومعتقداته نوعًا يتجسد بمظاهر شتى ولكن بجوهر واحد. جوهرٌ لمشكلة حقيقية وعقبة كَأْداء لا يقوى الكثير على ارتقائها. نموذجٌ يخال الأوهام التي يحملها بظلمتها والتي يعيش فيها سقف العالم والمعرفة، وما من شيء بعده إلَّا الهلاك والخراب والضياع وغضب الآلهة والسماء التي تحتويها. والواقع أن البقاء فيها هو الهلاك الحقيقي لا في مغادرتها. أما متى سوف يجرؤ على اقتحام ممنوعاته فلا أحد يدري، لكنه إن عاجلًا أو آجلًا فسوف يدرك أيَّ ذنب ارتكب بحق نفسه وسيكون على الأغلب قد فات الأوان لإصلاح ما أفسده الزمان.

إلَّا أن حكايات الرجل القصيرة في سردها، الغريبة في أحداثها والمعجزات الخيالية التي تجترحها شخصياتُها الأسطورية، كسرت بعضًا من جمود الحياة التي نعيشها وأحدثَت خللًا في الروتين المهيمن علينا لطرافتها. كان الرجل طيبًا جدًّا إلى حدِّ الإفراط، لم يلامس جسدَه ماءٌ؛ لا بارد ولا دافئ منذ دهر بعيد لأمر من وحي دينه الغريب. كان يحمل مع طيبته المبالغ بها رائحةً أيضًا بالغ فيها جدًّا وأضحَت بمنسوب يبعث على الغثيان. وهكذا يفعل إرث العقيدة الفاسدة بالإنسان إن أخذها بلا تعقُّل وسار بها وراء القطيع واتبع بها مَن اتبع بلا نظرٍ ولا تدبُّر، أو أسلم نفسه لأصنام ادَّعى زيفًا أنها ظلال لإله يحتجب وراءها.

ومع أنَّا كنَّا نستحمُّ بطريقة مضحكة وتفوح من أجسادنا هي الأخرى رائحةٌ ثقيلة، إلَّا أنَّا لم نستطع — رغم ذلك — تحمُّلَ رائحته التي كانت عفونةً حقيقية، وكان علينا أن نفكر بطريقة للتخلص من هذا المأزق. الأغطية القليلة نتقاسمها بحرج في المنام وإن كنَّا حصلنا على بطانيات إضافية قبل فترة قصيرة، إلَّا أن ذلك لم يُغيِّر من حقيقة أن يكون شخصان تحت بطانية واحدة هو ذروة في الرفاهية التي ننعم بها عندما يتقلص عددُنا في الزنزانة، أما الوضع الطبيعي أن يكون العدد أكثر من ذلك مع أن حجم بعضها مخصصٌ لشخصٍ واحد فقط، فسؤال مُلحٌّ صار يتردد الآن: مَن ذا الذي يقدر على مشاركته بلحاف واحد؟ بسبب رائحته، وعذر إضافي تعلَّل آخرون به لمعتقدٍ دينيٍّ خاصٍّ بهم، انتهى بنا النقاش إلى قرار عدم محاولة تجربة مساكنة الرجل ولا حتى لليلة واحدة.

كان قرارًا صعبًا أن يُعطَى لوحده مستقلًّا بطانية مع قلة عددها وكثرتنا. وكان علينا أن نتحمل جرعة إضافية من البرد وضيقًا في المنام. وهذه هي ضريبة قرار التعالي أو الاشمئزاز. هكذا يكون مجرى الأمور كلما رُفض خيارٌ تزداد الحياة مع هذا الاستثناء مشقةً وصعوبة؛ فالانتقاء والانتخاب له مُحصلة تتبعه وليس من العدل للتذمُّر وإلقاء اللوم على غيره.

انتُدبتُ وشخصًا آخر معنا في الزنزانة كان يتكلم لغةً قريبة منه لإبلاغه القرارَ بطريقة سمحة لا تُؤذيه متجنِّبين الإشارةَ والتلميح إلى الدوافع الحقيقية لهذا القرار؛ لأن الجميع بالفعل أحبَّه منذ اليوم الأول بالمقدار نفسه، بل أكثر من مقتنا لرائحة جسده. جلستُ إلى جواره مع زميلي نُحدِّثه عن أهمية الصبر في هذا الموقف الصعب الذي يمرُّ به، وأن الفرج قريب ولن يطول به الوقتُ كثيرًا حتى يعودَ ثانيةً إلى مرعاه ومزرعته، وسوف يعيش حياتَه الوادعة المسالمة من جديد بعيدًا عن هذه الحال التعِسة. سار بنا الحديث رويدًا من الحديث عن الواقع الجديد الذي دخل فيه إلى تجربة التكيُّف معه، وبأن لا طائلَ من التذمُّر والضجر، وأنهما لن يحلَّا معضلةً ولا يفكَّا عقدة. ثم قلنا له: إننا مع ذلك ننظر بعين الاعتبار والتقدير لانتقاله المفاجئ لهذا العالم الصعب، وتهوينًا منَّا لهذا الوضع حتى يألفَه، واحترامًا لكِبَر سنِّه (كان أكبرَ من أسنِّنا بما يقارب عشر سنوات وربما أكثر)، نقترح أن ينفردَ هو لوحده بالمنام في بطانية واحدة.

ارتسم الامتنانُ على غضناتِ وجنتِه وعلى تجاعيدَ مبكرةٍ صنعَتها شمسٌ لافحةٌ في وجهه الأسمر، ولمعَ بريقُ شكرٍ في عينَيه لعثَم خُطَى كلماته وأربكها كثيرًا. فقدَ الإحساسَ بالغربة، وانقشع الحزنُ، واندثرَت غيومُ الأسى من عينَيه وبالأخص بعد أن قدَّمنا له ماءً وبقايا طعام كنَّا نحتفظ به للطوارئ. كان تقديمُنا له هذه الوجبة الاستثنائية وبعناية خاصة فعلًا أبهجه جدًّا.

حرصنا في الأيام التالية أن نُقدِّم له الطعام بإناء خاص له، ونُجنِّبه أيضًا المشاركة في بعض الأعمال اليومية التي كنَّا نقوم بها من تغيير سطل الماء أو غسل الأواني، وعلى الرغم من سهولة هذه الواجبات إلَّا أن عدم مشاركته فيها أشعره بمقدار كبير من الاحترام الذي نُكنُّه له وحجم مشاعر العطف والمواساة التي نُوليها له.

التهمة الرئيسية التي وُجِّهَت له أنه يعرف بعضَ مَن كان يحرك جمر الحرية في قريته الصغيرة، لم يكن يفهم معنى ذلك، ولا تهمُّه هذه الأفعال — لا من بعيد ولا قريب — سوى أن بعض المطلوبين كانوا من أقاربه أو من سكان قريته. على الرغم من أن هؤلاء الثوار لا يرتبطون بعلاقة مباشرة معه، مع أن القرية التي كان يسكنها تكاد تكون كلها عشيرة واحدة إذا لم تكن هي كذلك بالفعل؛ ولذا تهمةُ كونِه من العشيرة أو العائلة نفسها تهمةٌ سخيفةٌ جدًّا ومضحكة ولا معنًى لها، إلَّا أنهم كما يبدو كانوا يريدون استئصال هذا المكون من الخارطة؛ لأنه أعلن التمرد عليهم، وما عجزوا عن فعله حينئذٍ فعلوه لاحقًا يوم اجتاحوا الموصل بجيوش الهمجية، وكادوا أن يُبيدوا شعبًا بأكمله، وارتكبوا فضائحَ وجرائمَ سوف تَذكرُها الإنسانية كثيرًا ويُدوِّنها التاريخ بحبره الذي لا يُمحَى.

كانت أفكار الرجل ما بين فوضى وسراب لا تتعدَّى محاولةً للعيش بسلام وأمان هو وأغنامه، دون أن يُعكِّر صفوَها عواءُ الذئاب. حاول ضباط الأمن ومساعدوهم أن يستدرجوه بوسائل شتى لينتزعوا منه معلوماتٍ لا يملكها، ولا حتى كان بمقدوره أن يفقهَ شيئًا من أسئلتهم الأمنية والسياسية. يمكن القول إن قرار اعتقاله غبيٌّ بامتياز لو كان الهدف منه فعلًا الحصول على معلومات أمنية، ولكن يبدو أن الهدف الحقيقي منه كان إثارةَ الرعب في القرية أكثر من الحصول على إخبارات حقيقية عن المتمردين على النظام من سكنَة هذه القرية، وما هذا التحقيق إلَّا محاولة عبثية قد ينالون بها شيئًا لم يكن في الحسبان. حاول الأمن مغازلة الرجل حينًا، وحينًا آخر كانوا ينقلبون عليه ليبصقوا كلَّ أنواع همجيتهم والغضب الوحشي المستوطن فيهم، وفي كلا الحالين لم يقدِّم لهم سوى صمتٍ محشوٍّ بأنين وآهاتٍ، وإجابات هي أسئلة أخرى تبحث عن جواب.

لم يكن يُدرك الرجل أبجدياتِ المعارضة، بل لم يسمع بها أصلًا ولا يعرف عن ماذا يتحدثون. إنه راعي أغنام يزرع الحنطة أحيانًا لا أكثر من هذا ولا أقل، مهما حاول المتحذلقون أن يُغيِّروا من هويته.

بعد أن أيقنوا أن ما يبحثون عنه ما هو إلَّا مطاردة للسراب، وأن الرجل أخذ من العقوبة ما يكفيه، وسوف يُحدِّث بها كلَّ أبناء القرية، فلا يجسر أحدٌ بعدها على تقديم أيِّ عونٍ لثائر، ولو كان ذلك العونُ وجبةَ عشاء ليس أكثر. حسمت دائرةُ التحقيق أمرَها ونبذَته في الزنزانة لا أحدَ يسأل عنه ولا يدري ما المطلوب منه ولا يعرف مصيره. كنَّا نُلاطفه كثيرًا ونستخرج منه ألوان البراءة وكان يُقهقه بملْءِ شِدْقَيه كثيرًا، ويُخرج ضحكاتِه من أبعد نقطة في قلبه الأبيض، وكنَّا بالمقابل نبعث فيه الأمل بكلمات الحماسة، عندما كان يتألم من سِيَاطهم ومن إهاناتهم التي يوجهونها لمعتقده وديانته العنصر الأهم عنده. كان بعض الحرس يحاول إذلالَه بتصرُّف فردي على ما يبدو؛ لأنهم يريدون أن يتسلَّوا بعذابات غيرهم، أو لأنهم يريدون صبَّ جامَ غضبِهم على أيِّ أحدٍ بعد يومِ نكدٍ عليهم لم ينالوا فيه ما يبتغون ويريدون.

«أنت لستَ وحدك، إن أجدادك الأبطال ينظرون إليك من جنَّاتهم العالية ويراقبونك فلا تخيِّبْهم.»

بهكذا كلمات كنَّا نُواسيه ونُؤازره ونُقدِّم له الدعم؛ لأنه لم يكن هناك شيءٌ أكثر من ذلك في حياتنا لنقدِّمَه له. كنَّا نُبشِّرُه بأن الفرج بات قريبًا جدًّا منه فليبتسمْ لمقدمِه وليُزِح الانكشار من وجهه الذي خلَّفه هؤلاء التافهون السخفاء. وبعد تطمينات كثيرة له عن فرَجِه القريب سألَنا يومًا عن موعد فرجِنا متى يحلُّ بعد أن صلَّى لأجلنا في صلواتٍ خاصة.

«إننا سنغادر هذا الباب ونترك الألم والأحزان وراءَنا في هذه الدنيا، ونذهب هناك إلى حيث الراحة الأبدية.»

ردَدنا على سؤاله ضاحكين مبتسمين.

اغتمَّ كثيرًا لهذا النبأ غير المتوقع، لكنَّه ازداد قربًا منَّا وتعاظَم ودُّه لنا، وصار الذي بيننا أكثر من محبة علاقة طارئة، إنها محبة إخوة لا تندرس مهما تعاقَب الزمانُ عليها، تُوثقها عُرَى صداقة لا تضمحل وآصرة أخوَّة لا تفنى.

وفي مساء قرروا أن يُرجعوه إلى مرعاه الذي أخذوه منه، وكعادتهم عندما يصير في نيَّتِهم إطلاق سراح أحد ما، فإنهم يحاولون استرضاءَه بإبداء مرونة في التعامل معه، ولم يشذوا عن ذلك معه فأعَطوه علبة دخان.

– «إنها لا تكفي.» (قال لهم).

– «لا تكن طمَّاعًا، ستُغادر بعد يوم واحد فقط.» (هكذا قال له ضابط التحقيق).

– «أنا لا أتحدَّث عن نفسي، إنها لا تكفي أصحابي الذين معي في الزنزانة.»

– «خُذْها واتركْهم أنت لا علاقة لك بهم.»

– «لا أريدها، إما أن تُعطيَهم مثل ما تُعطيني أو لا أريد أيَّ شيء منك.»

كلمةٌ لطمَ بها الجلاد، لكنها حرَّكَت الإنسان في قلب هذا الجلاد، وانتفضَت الفطرة فيه، وأزاحت القسوة عنه بشكل مطلق في تلك اللحظة.

نزل إلينا الضابط ووقف أمام الزنزانة مذهولًا يُحدِّثنا: «ماذا فعلتم بالرجل؟»

جاءنا الجلادُ هذه المرة إنسانًا قد هدَّه التعبُ ونبتَت في قلبه من جديد زهرةُ الإنسانية النائمة، كان يحمل إلينا بيدَيه المجردتَين كثيرًا من عُلَب الدخان، وأكثر منها قهقهة صادقة واعتراف لاحب أبلج بالهزيمة. أصرَّ ضابط التحقيق على أن يأتيَ بنفسه ليقدِّم لنا عُلَب السجائر بيدَيه مثنيًا على تعاملنا الإنساني مع الرجل ومبديًا إعجابَه بنا، ذليلًا منكسرًا أمام موعظة قروي ساذج لقَّنَته درسًا بليغًا في الشهامة والمروءة. موعظة جعلته يعترف بأن أواصر الإنسانية أقوى من كل الأسلحة التي يملكها هو ومَن معه من الجلادين.

١٤

في مساءٍ شتوي بارد طُلب منَّا الاستعداد لمقابلة مهمة مع مدير المعتقل (مديرية أمن نينوى) الذي كنَّا نُحتَجز فيه، وهو شقيقُ جنرال عسكري كبير معروف، اسمه «ﻫ. ص. ف». تمت إزالة الروائح الكريهة من أجسادنا بالسماح لنا بالاستحمام بشكل جيد، وترتيب ما يمكن ترتيبه من هندامنا المضحك الذي عاد في شأنٍ لا يمكن أن يُصلحَه أشطرُ دراز في المدينة. البعض منَّا كان يُعوِّل كثيرًا على هذه المقابلة واستعدَّ للانتفاض أمام مدير المعتقل بإنكار كلِّ التُّهَم المنسوبة إلينا، وشرْح السبب الحقيقي وراء هذه الإفادات المزيفة بأنها منتزعة تحت التعذيب الجسدي والنفسي القاسي. كنت أشعرُ بعدمِ اكتراثٍ شديد من هذا الحدث المرتقب من غيري، ولم أُعوِّل عليه تمامًا، ولم يُشكِّل عندي أيَّ أهمية بالمرة. كنت أتعامل مع الحدث بحالة من لا أبالية منقطعة النظير؛ لأني وبكلِّ صدقٍ وصراحة كنت أعيش حالةَ يأسٍ تامٍّ من تغيير ما يجري، ويتملَّكني في الوقت عينه شعورٌ مريرٌ بالهزيمة وإحساس بأنه لم يتبقَّ إلَّا النزر اليسير في مساحة هذه الدنيا التي ضاقت جدًّا وأصبحت بحجم حبة رمل.

كنتُ مؤمنًا بأنهم يريدون قتْلَنا عن ترصُّدٍ وسَبْقِ إصرارٍ، ولا يخفى على أيِّ واحدٍ منهم حجمُ الظلم الذي تعرضنا له أو مقدار الهمجية والوحشية التي عوملنا بها؛ لأنهم كانوا مستمرِّين عليها بشكل نمطي وكلما سنحَت لهم فرصة أو لاحَت لهم قناة، يضعون فيها مركبَ حقدهم على الإنسانية. كيف لي أن آمل بعد ذلك من مجرم كبير، بل من كبيرهم أن يكون منصفًا وعادلًا ويصير محلًّا لشكوى مظلوم؟ منطق خلاف العقل كمَن يستعين بالشيطان لدفع شرِّه.

إنها سذاجةٌ مفرطة وحماقة كبيرة وغباوة منقطعة النظير أن تهرب من الظلم إلى الظالم، هكذا قدرتُها وحسبتُها، وفي الوقت عينه كنت أختلق لأصحابي عذرًا في داخلي، إنهم غرقَى والغريق يبحث عن قشة، وهل نسيتُ أحلامي يوم كنت أتلقَّى التعذيب؟ إنها كانت سخيفة هي الأخرى ومضحكة بالقدر نفسه أو أكثر.

كان يراودني شعورٌ من نوع آخر — ولو بدرجة أقل — وهو شعور الكبرياء والتعالي؛ لأني كنت أستنكف أن أطلب من هؤلاء المجرمين أيَّ طلب. إحساسي بالفخر والعزة أخذتُه بالوراثة أو بالتربية. كنت أرى والدي لا يذلُّ نفسَه ولا يطلب من أيِّ أحدٍ شيئًا حتى إنه امتنع عن التدخين؛ لأنه طلب يومًا سيجارة من صديقٍ له، فكيف لي أن أُنزلَ نفسي موضعَ الذِّلة ومنزلة الإهانة أمام هؤلاء الذين لا يليق بي أن أتحدَّثَ إليهم، فكيف بالتفكير بالطلب منهم أو التوسل! موضعي الصحيح الاصطدام بهم وليس مهادنتهم، فكيف لي أن أترجَّاهم بشيء حتى لو كان ذلك الشيء حريتي وكان به خلاصي من سجونهم ومعتقلاتهم.

الحرية وكل الحقوق تُنال بالنضال والصراع، ولا تأخذ منحةً من أحد، أيًّا كان محله وموضعه ومنصبه في كل هذا الكون. الكسالى العجزة والأغبياء ينتظرون السماء تمطر رزقًا لهم، أما الحاملون لمسيح الطهر حتى في يوم ضعف الولادة يهزُّون جذع النخل ليستمطروا قُوتَهم، وهل يهزُّ النخلَ إلَّا الأقوياء؟

قابلنا الضابط الكبير على انفراد، وسألَنا أسئلةً عادية لا تنمُّ عن أيِّ اهتمام بنا، بل كانت الزيارة تبدو وكأنها الإمضاء الأخير على مكافأة ينالها فريقُ التحقيق ثمنًا لجهوده في قَطْع رقابنا المنتظر. إلَّا أنه مع ذلك ورغم هذه الأجواء المزيفة المخادعة بالتعامل الدبلوماسي الهادئ الناعم الذي يطرح به المدير أسئلتَه الباردة الخالية من كل روح، إلَّا أن النوايا الخبيثة كانت سافرةً جدًّا في الوقت نفسه تفضحها نظراتُه الماكرة هو وفريقه. وكما كان مقررًا فقد شكَا البعض منَّا للمدير الظروفَ القاسية التي دفعَتْه كمعتقل لتقديم إفادات مزيفة، ومع كل الشفافية المدعاة إلَّا أنه حتى هذه الشكوى لم تَنَل رضاه ولا رضا ضابط التحقيق (ع. ع.)، وتحوَّلَت المقابلات من لقاءات منفردة مع المدير إلى لقاء جماعي بحضور ضابط التحقيق لكبح هذه الجرأة على الإنكار من تكرارها ثانية. وبالطبع لم يتغير أيُّ شيء بعدها كما كنت واثقًا متيقنًا، ومع كل ذلك لم يغيِّر ما حصل من عرض مسرحي سخيف قناعةَ معتقلين آخرين كانوا مصرِّين على أن هذه فرصة يجب استثمارها، واختلفنا في ذلك بحوارات ونقاشات لم تَخلُ من عتب وربما في بعض النوبات كانت تحمل تلميحًا لي بالجبن والضعف، مع أنهم كانوا يعرفون إلى أيِّ حدٍّ تحملتُ التعذيب، بل إني كنت واحدًا من أكثر الموجودين ممن صمد بوجه التعذيب والتحقيق إلى آخر المطاف، إذا لم أكن فعلًا الأكثر صبرًا على التعذيب بينهم. لم أَشِ بأيِّ أحدٍ على الإطلاق ولم أقدِّم للمحققين شيئًا ذا نفع في كل مراحل التحقيق، وظلَّت أسرارُ عملي الحقيقي حبيسةَ صدري، بالمقابل غيري ممن كان يُعاتبني ويتهَّكم على تصرُّفي مع مدير الأمن قد فعل الكثير جدًّا مما يجب أن يخجل منه أمام نفسه أولًا قبل أن يستحييَ من الآخرين.

لم أكُ بحاجة لأُثبتَ لأحد ما أنا عليه ولربما غيري وجد في هذه المقابلة فرصةً سانحة ليُكفِّر فيها عن انهياره الشامل أثناء التحقيق، وصار الآن متحمِّسًا يملك جرأة كبيرة ليُقنع نفسه أولًا بأنه لم يكن ضعيفًا. كانت ريادةُ الاحتجاج أمام زعيم ضباط التعذيب فرصةً وهمية منه لجبر ما كُسر أو محاولة ترضية داخلية وإصلاح ذاتي نفسي هو في حاجة إليه وليس أحدٌ غيرَه. للأسف كانت صحوة متأخرة جدًّا فات وقتُها وجاء القطار ليس متأخرًا، بل حين كانت السكة قد رُفعت وما عاد له أن يسيرَ ولا حتى نصف خطوة. هذا الموقف وهذه الحادثة قدَّمت لي درسًا لما تبقَّى من عمري تعلَّمتُ منه أن الصراخ بصوتٍ عالٍ لا يكشف إلَّا عن ضعف مثله أو لربما أكبر في خبيئة صاحبه.

انتابني حينئذٍ شعورٌ مرير؛ لأني كنت أعْيَا في الإقناع، فاشلًا في التبرير، عاجزًا عن مواجهة هذا الهجوم بردٍّ قوي. لم أكن أريد أن أُعكِّر العلاقات بيننا، إلَّا أنه عليَّ الاعتراف بأني كنت ضعيفًا حتى في هذه ولم أتضامن مع موقفهم الجماعي كما تقتضي المصلحة العامة، لربما حالتي النفسية وعدم اكتراثي كانَا وراء ضعفي هذا، بيدَ أني على أيِّ حال لم أقدر على تغيير رأيي ولا بوارد انتقاده رغم كلِّ الضغوط النفسية الكبيرة آنذاك. كنت واثقًا من عدم جدوى الشكوى لأيٍّ من هؤلاء الجلادين الوحوش؛ لأنها لم تكن لتُغيِّر شيئًا أبدًا حتى بحسابات المصلحة النفعية.

كنت متيقنًا أن قرار الحكم علينا بالموت قد صدر من لحظة انتهاء التحقيق، والتوقيعُ أمام قاضي التحقيق صادقٌ عليه بالختم الرسمي بشكل نهائي. وهذه المقابلة ما كانت إلَّا بمثابة نظرة أخيرة على جثمان مسجًّى ينتظر الدفن بعد برهة قصيرة. وستُثبت الأيام ذلك قريبًا، وقريبًا جدًّا. وحسنًا فعلت حين لم أسْتجدِ من قلوبٍ خُتم عليها بصُنعها القبيح وفي أسماعها حُشِر حجرٌ صمَّها، وأُسدلت على أبصارها ستائر غشاوة لا يتسرب منها نور الحقيقة فأضحوا يعيشون في ظلماتِ قاعِ بحرٍ لُجِّيٍّ، فأنَّى لهم مع كل هذا النظر إلى شمس الحقيقة ولو كانت تسطع مشرقةً فوق يمِّ الحياة والإنسانية.

١٥

على ذكر قاضي التحقيق، هناك قصةٌ لو تمَّت لاختلفَت الأمور كلها ولسارَت في مسار آخر. قلت في بواكير هذه الحكاية: «إننا بلغنا فسحةً في طابق علوي، رأيتُها فيما بعد وكانت شاهدًا للحظة كان يمكن أن تكون تاريخية.» جاء الآن دورُ هذه الحكاية لأرويَها. كانت أجهزة الأمن رغم كلِّ أعمالها التعسفية وممارساتها الخارجة عن القانون، الشبيهة بعمل العصابات الإجرامية، بل هي كذلك فعلًا، إلَّا أنها كانت تحرص جدًّا على منح كلِّ إجراءَاتها شكلًا قانونيًّا صوريًّا، حتى وإن لم يطبق بالمرة. فمثلًا الإعدامات تُنفذ بحضور ممثِّلين عن التنفيذ من جهات معنية به، وإذا قُتل شخص أثناء التعذيب تُصدَر له ورقة يُدعَى فيها أنه قد حُكم عليه بالإعدام من محكمة الثورة ونفذ به الحكم. قريبٌ لي قُتل في التعذيب وتسلَّمَت عائلتُه جثتَه ودفنَته. وبعد سقوط النظام الفاشي وجدنا ورقة رسمية تتحدث عن تنفيذ حُكم الإعدام به لكن بعد أربع سنوات من يوم مواراته التراب. إذا أرادوا إعدام صبي لم يبلغ سنَّ البلوغ يأخذونه إلى مستشفى لمقابلة لجنة طبية خاصة تقرِّر أن عمره الحقيقي غير عمره المثبت رسميًّا، ثم يُقدَّم إلى محكمة الثورة على أنه رجل بالغ تجاوز السنَّ القانونية ويصدر عليه حكمُ الإعدام أو المؤبد وفقًا للقانون.

التقيتُ كثيرًا ممن قابلوا هذه اللجنة ممن رُفعت سنُّهم القانونية وحُكم عليهم كبالغين راشدين وأخذوا أحكامًا بالمؤبد، ورأيت بعيني وسكنت مع آخرين في الزنزانة ذاتها مع مجموعة سجناء أعمارُهم تحت السن القانونية، حتى إن بعضهم لم يكُ يتجاوز الثلاثة عشر عامًا، وقضَوا مُدَدًا طويلة في السجن بالظروف نفسها التي كنَّا نعيشها، كانوا مثل الصِّبية والأطفال، بل هم كذلك وكنَّا نرعاهم رعاية خاصة.

ومن ضمن هذه الإجراءات الشكلية بحسب القانون: تحقيقان؛ تحقيقٌ أوَّلي وآخر قضائي. الأول كانت تُنتزع الاعترافات فيه تحت التعذيب، أما التحقيق القضائي فيعرض المتهم مع إفادته أمام قاضي تحقيق، ويسأله القاضي بعد أن يقرأ إفادته عليه: هل توافق على هذه الإفادة؟ وإذا أقرَّ المتهم بها يُوقِّع عليها وتُصبح رسمية. وطبعًا هذا إجراء صوري أما الحقيقة فشيءٌ آخر. إذ كانوا يعرضون المتهم على القاضي. فإن قال نعم، مرَّت الأمور كما هي، وأما إن أنكر الاعترافات فإنهم يعرضونه لجولة جديدة من التعذيب القاسي المرير ويعاد عرضه ثانية أمام قاضي التحقيق ولا سبيل له لإنكار الإفادة مطلقًا شاء أم أبى. في بعض الأحيان يتجاوزون حتى هذا الشكل الصوري ويعتبرون التحقيق الأولي تحقيقًا قضائيًّا، وكانوا يلجئون لهذا الإجراء مع المتهمين الذين حُسم أمرهم بمجرد اعتقالهم؛ لأنهم مطلوبون بشدة من قِبَل الأجهزة الأمنية. السلطة القمعية كانت قد قررت قتلهم مسبقًا حتى قبل إلقاء القبض عليهم؛ لذا كل ما كان يحصل هو جولة قاسية من التعذيب لانتزاع المعلومات منهم فقط، ثم يقسر على التوقيع على إفادة تعتبر تحقيقًا قضائيًّا ويرسل إلى الإعدام بأسرع ما يمكن، حتى لو لم يعترف أو رفض التوقيع على الإفادة المفبركة، تُعدُّ أوراق تحقيق مزيفة في غرفة خاصة بهذا ويعدم على أيِّ حال.

في نهارِ يومٍ شتائي استُدعيتُ إلى قاضي التحقيق كالعادة، وصَعِدتُ مع حارس أمني واحد عبر المصعد. وعندما وصلنا الردهة العلوية تُرِكتُ هناك واقفًا بانتظار وصولِ قاضي التحقيق، تأملتُ الردهة وعرفتُ أنها المكان الأول الذي شَهِد بدايةَ جولات التعذيب. كانت ردهةً واسعة بين مجموعةِ غُرَف، إلى اليمين هناك غرفة التقيتُ فيها ضابطَ التحقيق (ع. ع.) لأول مرة وإلى اليسار يوجد ممرٌّ فيه أكثر من غرفة، إلَّا أن ما لفت انتباهي أن لهذه الردهة الواسعة شبَّاكًا كبيرًا جدًّا تمامًا بحجم الجدار، تنسدلُ عليه ستائرُ من قماش سميك رصاصية اللون متراصة بكثافة. لعل الشبَّاك كان عرضُه يوازي الخمسة أمتار تقريبًا، وكان منظرًا غريبًا فعلًا أن تكون ردهة في طابق ثالث تحتوي على شبَّاك واسع بهذا الحجم، وبدَا لي كما لو أنه كان جدارًا من زجاج.

كنت أقف في منتصف الردهة وَحْدي طليقَ اليدين مفتوحَ العينين، لا يوجد بالقرب مني سوى شرطيِّ أمنٍ واحد ضخم الجثة، يقف تمامًا بملاصقة الحائط الزجاجي، وهنا خطرَت لي فكرة: ماذا يحصل لو أني ركضتُ بغتةً بسرعةٍ كبيرة باتجاه هذا الشرطي وداهمتُه بكل قوتي؟ إنه بالتأكيد لن يستطيعَ تدارُكَ الموقف. سآخذُه على حين غِرَّة وسوف نحطِّم الزجاج باندفاعتي نحوه وبثقل جسدَينا، وننزل معًا من الطابق الثالث إلى الأرض تُهشَّم عظامُنا وتُكسَر جمجمتانا، ونُقتل سوية، وأكون بذلك عاقبتُهم على قتلْي المقرر لاحقًا بقتل واحد منهم.

أنا ميتٌ — لا محال — في كلا الحالتَين، في هذا اليوم أو بعد صدور الحكم بالإعدام شنقًا، وهو ليس ببعيد. لم يخطر على بالي بالمطلق أنه قد يكون زجاجًا مدرعًا، ولا أنه من الممكن أن يكون سميكًا جدًّا؛ إذ لم يكن في وقتها هذا النوع من الزجاج شائعًا ولا أنا أعرف بوجوده؛ لذا لم أفكِّر بهذا الاحتمال. بدأت أستعدُّ لتنفيذ الفكرة التي وصلَت عندي لمرحلة القرار النهائي، وتجاوزَت كلَّ المراجعات النفسية الداخلية، كنت أنتظر فقط لحظة لا ينتبه فيها الشرطي لحركتي، لمباغتته وتحقيق نجاح مثالي كامل للخطة. إلَّا أنه في هذه اللحظة بالذات اقترب الرجل كثيرًا من الحائط الزجاجي، وكنت قد سمَّرتُ نظري عليه استعدادًا للوثبة الأخيرة نحو الخاتمة التاريخية، وإذا به وهو يزيح الستارة بتأنٍّ لينظر من خلال الشباك إلى أمر ما في الخارج، أرى أن هذا الشبَّاك الزجاجي الكبير محميٌّ بشبكةٍ حديدية ق«ية نُطلق عليها في العراق تسميةَ «الكتيبة». صُعقت وتخيلتُ كم كان للمشهد أن يكون داميًا لكن من جانبي فقط. إذ لو نفذت خاطرتي لكنت أوقعتُه أرضًا وربما تكسر الزجاج ليس غير، أما أنا فسوف تُكسر عظامي بعدها تحت هراوات رجال الأمن، ومن الممكن أن أموت تحتها حتى قبل صدور حكم الإعدام. وُئِدَت الخطة قبل تنفيذها، لكن قرارًا كهذا مني — وإن لم يُنفَّذ — يَشي بأيِّ درجةِ يأسٍ كنت أحملُه من تلك الحياة التي أعيش فيها حينئذٍ، وإلى أيِّ حدٍّ كنت أخاطر بمواجهة هذا اليأس.

اليائسون حينما يرتكبون أفعالًا انتحارية إنما يفعلون ذلك لأن كلَّ سُبُلِ النجاة أُوصِدَت أمامهم، وحينها يرَون أن لا قيمةَ لاستمرارهم في مواصلة كفاح محتوم الخسارة، والخطورة الأشد والأعظم أنهم لن يجدوا من ثمن مهم أو قيمة ذي بال لحياة أيٍّ من خصومهم. المنتحرون لا يفعلون شيئًا سوى أنهم ينتقلون من موت إلى موت آخر.

بعد أن انتهى التحقيق تمامًا وتمَّت كلُّ الإجراءات الشكلية، توجَّهَت قضيتُنا إلى صالة الانتظار الأخير تمهيدًا ليوم المرافعة النهائية في محكمة الثورة. إنما فوجئنا بحدث غريب جدًّا لم نَكُ نتخيَّل وقوعَه أبدًا نظرًا لتلك الظروف المريعة التي مررنا بها وكنَّا لم نزَل نعيشها. وقَع حادثٌ خارج سياق الأحداث وعكس منطقها بالكامل، فلم يكن بحساب أيٍّ منَّا أنه سوف يظفر بفرصة للقاء أسرته بينما هو ما يزال معتقلًا في هذا المحبس، لكن بلا أيِّ سببٍ منطقي أو مقدمات ممهدة فوجئنا يومًا بخبرٍ غريب من ضباط التحقيق بأننا سوف نحظَى بفرصة للقاء عوائلنا في القريب العاجل.

وجاء دوري في مواجهة أهلي لأول مرة منذ اعتقالي، وصَعِدتُ إلى غرفة ضابط التحقيق طليقَ اليدين مفتوحَ العينين، يرافقني في صعود السلالم رجلُ أمنٍ واحد أعرفه بالاسم، وكان الرجل متساهلًا جدًّا معي ليس الآن فقط، بل في كل الأحوال التي أكون فيها معه على انفراد. وللإنصاف إنه كان من العناصر التي تُبدي تعاطفًا مع المعتقلين، ويبدو من تصرفاته أنه كان يشعر في قرارة نفسه بظلامتنا، لكن طبيعة عمله تجعله حذرًا للغاية، لم يكن هذا رأيًا شخصيًّا منِّي فيه، بل سمعتُه من أكثر من واحد من المعتقلين الذين كانوا يُكِنُّون له محبةً واحترامًا. وهذه المشاعر الصادقة الودية تجاه عنصر أمني يُظهر معدنَ المعارضين السياسيِّين آنذاك، فإنهم كانوا يتخذون مواقفهم ليس ضدَّ أحدٍ لشخصه وعنصره وفكره، بل بناء على سلوكه ومواقفه؛ لذا وعلى الرغم من أن الرجل يعمل في أحقر جهاز أمني إلَّا أنه كان موضعَ ترحيب ومحبة من المعتقلين لمواقفه وأفعاله مع أنها لم تُغيِّر من نتيجة المعادلة بشيء.

المعارضة السياسية تكون ضدَّ المواقف المناهضة للإنسانية والحرية، وليست ضد الأفكار والانحدارات العِرقية كما رأينا فيما بعد من جهات تفعل ذلك، وبأفعالها شُوهت معنى المعارضة وأصبحَت في نزاعاتها ليست سوى جزءٍ من قطيع ذئاب يتقاتل على فريسة.

في الحقيقة هناك أشخاص كنَّا نراهم في ورطة حقيقية في هذا العمل التافه، لم يكونوا من قُساةِ القلوب أو خبثاء السريرة ولا هم بمندفعين لإيقاع الأذى بالمعتقلين حتى وإن فعلوا ذلك، ويبدو أن اختيارهم لهذه المهنة الحقيرة كان سببه الحقيقي هو التهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية والفرار من الذهاب إلى جبهات الحرب التي اشتعل أُوارها حينئذٍ، وبدأت بحصاد أرواح الشباب بشكل جماعي لافت مع وقوع عشرات الآلاف منهم أسرى في أيدي القوات الإيرانية. الخوف من هذين الاحتمالَين السيِّئَين كان أمرًا شائعًا جدًّا بعد موجة معارك خاسرة ابتدأ تواليها سريعًا ربيع ذاك العام. لكن على كل حال، هذا النوع من رجال الأمن لم يكن كثيرًا للأسف الشديد، بل كان نادرًا جدًّا، والغلبة بشكل ساحق كانت للعناصر السيئة التي تحمل خصائص أقرب للبهيمية المتوحشة من أيِّ شيء آخر.

لأول مرة كنت أرى المكان بتفاصيله الدقيقة، تطلَّعتُ إلى جدران المبنى بنظرات فاحصة، حتى إنه وأنا أرتقي درجات السلالم مُسرعًا محاولًا اللحاق بمرافقي منتشيًا باللقاء المرتقب، لمحتُ على حائطٍ لوحةً معلَّقة فيها توقيعٌ لصديق لي كان رسامًا بارعًا. تملَّكني شعورٌ بمقتٍ شديد له، وغضبٌ عارمٌ انفجر في حشاشتي، حين رأيتُ توقيعَه على لوحته.

بدأتُ أصرخُ بغضب في داخلي: كيف يسمح هذا المعتوه أن تُعلَّق لوحتُه في هذا المبنى القذر وهو الذي كنَّا نعتبره من طليعة الثوريِّين ومن المثقفين الداعين إلى النزعة الإنسانية في الفكر والتعامل مع الآخر؟! إلَّا أني سرعان ما استرجعتُ وعْيِي موبِّخًا نفسي: ما الذي دهاك؟ هل جننت؟ وما يدري الرجل بما يُفعل برسومه حين تُباع؟ هل عليه أن يتابعَها واحدةً تلوَ الأخرى؟ ثم كيف له أن يعرف أنها أُخذت إلى مديرية أمن؟ إذا كانت الناس عندما تدخل إليها تختفي آثارها مثل ملح يذوب في ماء، فهل تبقى من آثار للوحة فنية حتى يمكن له أن يقتفيَها؟

وأنا أصعد تكاثرَت أمام ناظريَّ صورُ صعودي الوئيد حين كانوا يقتادونني على هذه السلالم نفسها، وكيف كنت أُحصي ثلاث عشرة درجة، وإنْ أخطأتُ في حسابها تثور حفيظتهم عليَّ ليُنزلوا بي قصاصًا عاجلًا من صفع أو شتم. لا أذكر كم من خاطرة مرَّت عليَّ حينها، إنما بكل يقين لو حاولتُ عدَّها لعجزت عن إحصائها، لا حين مرقَت بسرعة البرق وقتئذٍ ولا الآن عندما أحاول استرجاعَ شريطها.

كانت أوصالي ساكنةً ورأسي ترتعد فرائصُه خشيةَ اللحظة المرتقبة؛ أمواج هائجة من خواطر متضاربة وأفكار متناقضة وأسئلة حائرة وردود عليها كانت تنهمر، فتُصيب لُبَّها وتُطفئ ظمأَها بشكل عجيب. كلُّ هذا كان يحصل في تلك الدقيقتَين أو حتى الثلاث دقائق؛ المدة الكافية لاستغراق طيِّ كلِّ السلالم وصولًا إلى غرفة اللقاء المنتظر. انبثقَت وسط هذه الثورة العارمة خاطرةٌ غريبة مرقَت بسرعة البرق، كأنها صاعقة نزلَت لتُميتَ كلَّ شيء وأذهبَت كلَّ فورة خواطري في سكون عميق. خاطرة كانت خارجَ نسقِ الأفكار وأثارَت ذهولي وقتَها، ولا أصدِّق حتى وأنا أكتبها الآن كيف أخرجَت عنقَها من بين هذا الركام الهائل من تلاطُمِ بحرِ المشاعر واضطرابها؟ ومضةٌ كانت مثل سنَا البرق قالت لي: كيف يمكن لعقل الإنسان أن يحتويَ كلَّ هذه الأفكار ويُجريَ هذا الكم العجيب من الحوارات الداخلية في لحظات معدودة؟ تملَّكني انبهارٌ غريب بقدرة العقل وصِرتُ أتأمل المسألة برَوِيَّة وهدوء مثلما يفعل أيُّ فيلسوف يفكِّر سارحًا متأملًا فيها، وهو يمشي على ساحل بحر هادئ، وتطير من فوقه نوارسُ بيضاء في نهار تُظلِّل فيه الأرصفةَ سحبٌ بيضاء تحجبُ عنه حرقةَ الشمس لا نورها، سرحتُ بعيدًا في عالم آخر بعيد يقع في الصفحة الثانية من الكون. ومثلُ وحيِ الشعراء اندلق عليَّ فجأةً فيضٌ من ثقة بما حبوت به كإنسان من قدرات عجيبة تدعو للفخر والإعجاب كما تستدعي التقديرَ والتأمل، أصابَتْني حينها رعدةٌ من فخرٍ وتواضعٍ في آنٍ واحد.

دخلتُ غرفةً جوُّها ثقيلٌ بدخان السجائر والأحاديث السابقة، مشبعة بالدفء، وفي قعرها حيث النافذة الوحيدة منضدةٌ صغيرة نسبيًّا يجلس خلفها ضابطٌ بزيٍّ مدنيةٍ، في حين كان هناك رجال آخرون واقفين طوال الوقت تحسُّبًا لأيِّ حدثٍ طارئ على ما يبدو؛ لأن عيونهم كانت تُتابع كلَّ حركاتي وأنا أدخل عليهم بلا قيود. على اليمين كانت هناك أريكة صغيرة يجلس عليها والداي في انتظاري.

مشاعر الأسى والحزن تُظلِّل وجهَيهما، وعيونهما الشاحبة أمطرَت نهرَ دموع لا يمكن وصف شدة جريانه ولا حرارته، نظرَا إليَّ مشدوهَين مبهوتَين إلى أقصى الحدود؛ والدي يحدِّق فيَّ بنظرة تَشِي باضطراب شديد، بينما أمي يغزو مُحيَّاها الوجومُ وظلَّت طائشةَ اللب طوال المقابلة، ولم تقوَ على التفوُّهِ إلَّا بنزرٍ يسيرٍ جدًّا من كلمات يمكن إحصاؤها بسهولة. استجمعتُ كلَّ قواي وأضمرتُ ضعفي وإحباطي أمامهم. كان همِّي الشديد أن أفهم ما الذي يجري في الخارج، واستفهمتُ بطريقةٍ مشفرة بعضَ الشيء عن شخصٍ يهمُّني اعتُقل بسببي، وتأكَّد لي عبرهما خروجه من المعتقل، وكان خبرًا مفاجئًا وسارًّا في الوقت نفسه. كانت مواجهة قصيرة سريعة لم تُغيِّر شيئًا من الواقع الذي نعيشه، ولم تكن أيضًا محلَّ تفاؤل كبير كما يتوقع لها أن تكون، برغم أن حصولها كان أمرًا غيرَ مطروق في معسكرات الاعتقال السياسي.

حصلتُ من هذه المواجهة على بطانية وفيرة منحَتْني ورفاقي دفئًا بصورةٍ مثالية وعلى ثياب جديدة حسَّنَت قليلًا من هيئتي، وإن علمتُ بعدها أن رجال الأمن سرقوا الجزء الأفضل والأجمل منها، وحصلتُ كذلك على سجائر ووجبة طعام منزلي صُنعَت خصيصًا لي والأكثر من ذلك قليل من سكينة وطمأنينة هدأَت من روعي.

إلَّا أن هذه الزيارة لم تشعَّ جوًّا للتفاؤل، بل على العكس من ذلك سادَنا تشاؤمٌ كبير بعدها. كانت زيارةً غريبة في حصولها وأغرب في نتائجها؛ فقد علمنا أن مديرية الأمن هذه تُعطي لأهل المعتقلين السياسيِّين فيها فرصةً لإلقاء نظرة أخيرة عليهم قبل إيقاع حكم الموت بهم. عزَّز هذا التشاؤم استذكارُ حادثة وقعَت من قبل لطلبةٍ زملاء من جامعتنا (جامعة الموصل) سبقونا في زمن الاعتقال. لا أدري كم واحد مثلي من قاطني الزنزانة ازداد يقينُه بأننا ننزلق سريعًا إلى الهاوية التي سوف تبتلع الكل. أحد المعتقلين كان متيقِّنًا من هذه النتيجة المنتظرة من هذه الزيارة، وهو نفسه كان رائدًا في سَبْر غور تاريخ هذه الحادثة بهذه النظرة التشاؤمية، بل إنه هو مَن نقل أحداثها لنا بالتفصيل وكانت بالفعل مطابقةً لحالتنا. توقُّعُه لهذه النهاية طابقَ خاتمتَه المفجعة بالفعل فيما بعد مع آخرين التقَوا أهاليهم وكانوا معنا في الزنزانة ذاتها أو في المعتقل نفسه.

راودني إحساسٌ بأن الأرض ستنشقُّ يومًا بغتة وتبتلعنا إلى حيث لا رجعة، وشعور الاطمئنان الذي بدَا على محيَّانا بُعَيد الزيارة بدأ بالانحدار سريعًا وانتهى إلى وجوم. نعم، كانت الأمور تسير فعلًا نحو هذه النهاية التراجيدية؛ إذ بعد زيارة الأهل المفاجئة والغريبة تم نقلُ مجموعة من سكنة الزنزانة إلى معتقل آخر يحتجز فيه بالعادة مَن حان وقتُ محاكمته. واستُبدل شعورُ الارتياح والاطمئنان بشعورٍ آخر من عدمٍ وتلاشٍ حين جاء فجرَ يومِ أربعاء بضعةُ حرسٍ لم نرَهم من قبل بمزاج قاتم وطَبْع غليظ، ساقوا نفرًا منَّا إلى معتقل آخر تمهيدًا لنطق الحكم عليهم في محكمة صورية، تستلم قراراتِها من ضباط التحقيق في دوائر الأمن. ها إذن قد أزفت الآزفة وقربت ساعة إسدال الستار على المشهد الأخير من فصول هذه الملهاة المأساوية.

خرجوا فجرًا وغابوا ما يُناهز الأسبوعين أو أكثر، لا أذكر ذلك تحديدًا الآن؛ فقد مضى زمنٌ طويل، ولم يَعُد الوقتُ مهمًّا حينها لأنشغلَ بحسابه، ولم أعبأ وقتَها ولا بعدها بعملية إحصاء الأيام التي سوف أقضيها في السجن فهي كلها متشابهة. كنَّا نترقب فجر أربعاء جديد وهو الموعد الدوري لنقل المعتقلين من مديرية الأمن إلى محكمة الثورة، غير أنَّا دخلنا في نفقٍ من انتظار مقلق، وما كنَّا نخاله أمرًا دوريًّا تحوَّل إلى ترقُّب عشوائي وَلَّد في كوامن نفوسنا مدًّا عاليًا من القلق والحيرة.

غرقنا في تحليلات الموقف بفرضيات تخرجُ من بحر حيرة نخوض فيها ونخرج منها بعدم، ثم نضع هذا العدم على شاطئ حواراتنا بعناية فائقة كأنه صيدٌ ثمين، كما لو كنَّا غواصين ماهرين استخرَجنا للتوِّ لؤلؤًا نادرًا من بطن حوت. وهذا حال مَن يعدم كلَّ حيلة لكنه يأبى البلادة والكسل فيبني ولو من أوهامه عملًا ربما يعاجله الحظُّ بضربة لم تكن في الحسبان ويخلق من الخيال حقيقة. وفي غفلةٍ من إحدى الأماسي اندفع إلى الزنزانة عينُ مَن افترضنا أنهم قد حوكموا. اعترَتنا الدهشة! ومثل مطر غيمة استوائية هطلَت عليهم أسئلتُنا ولم نجنِ منها إلَّا حيرةً وخيبةَ أمل؛ لأنها كانت ترجع بلا أجوبة. أسئلتُنا كانت مثلَ غيثٍ ينهمر على نهر فلا نبتَ يستتبع هطوله ولا يزيد النهر إلَّا بما هو كائن فيه. كنَّا وإياهم في محلٍّ واحد وفي الموضع ذاته لكن بصفَّين متقابلَين فكما نحن كانوا هم أيضًا، لا يعرفون حقيقةَ ما جرى، سوى حكاية موجزة يكررونها بلا أيِّ معنًى. أُخذوا إلى معتقلٍ خاصٍّ تمهيدًا للمحاكمة كالعادة المتبعة، وفي يومها ظلوا حبيسِي شاحنة مغلقة أمام مبنى المحكمة ثم عادت الشاحنة بهم بعد سويعات إلى المعتقل الخاص نفسه، وظلوا طوال الفترة المنصرمة هناك في ظروف عجيبة سأرويها لاحقًا. وها هم عادوا وانتهَت الحكاية بلا نهاية مفهومة أو حتى بلا نهاية ولا تُفسِّر أيَّ شيء مما جرى أو سوف يجري.

رُحْنا نتخبَّط بفوضى؛ حينًا تُثري فينا آمالًا كبارًا وتارة أخرى تخنقنا بقسوتها. نتأرجح بين صِوَر مزدحمة مشوشة تُوارينا ساعةً في طمر النسيان وأخرى تطوف فوقنا مثل شبحٍ تُعيد إلينا الحياة. كان ليلًا شتويًّا خيَّم علينا ببرده القارس يُذكِّرنا بهشاشتنا ويزيد مصيرنا المجهول غموضًا، كان علينا بعد عناء التفكير ومشقة الأسئلة السائبة أن نَجبَه هذه الحلكة المضاعفة إما بالقبول بأننا على وشكِ أن نفقدَ كلَّ شيء أو نظل نتشبَّث بسراب الواحة النائمة خلف التلِّ. لم يكن واردًا أبدًا زجرُ كلتا الصورتين عن أعيننا الشاحبة المنهكة فقد عَلِقنا بينهما بلا فكاكٍ، وفقدنا غريزة النسيان واستقرَّت شهوةُ القلق في قعرِ ذاكرتنا اليقظة أبدًا.

إلى أن أيقظنا من نومتنا وحيرتنا صوتُ ضابط في ساعة متأخرة، قال بضع كلمات باستعجال ورحل سريعًا، كلماتٌ تحمل نبرةً جديدة تخمد الحيرة وتُحيي أملًا في مواصلة الحياة ولو في زنزانة. كلماتٌ ما زلتُ أحفظها حرفيًّا قذفَها في داخلي عميقًا صخبُ تنازعِ الصور وتجاذُب أطراف القلق: «خفيفة إن شاء الله، السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.»

تغيَّر كلُّ شيء، وقرار الحكم علينا بالإعدام اندلف إلى زاويةٍ بعيدة منكفئًا وصار يحدونا أملٌ حقيقي بمواصلة البقاء، على الأقل أنا شخصيًّا صِرتُ متيقِّنًا من هذا في قرارة نفسي، ووَثبَت أمامي تلك الرؤيا الغريبة التي رأيتُها أولَ اعتقالي بأني سوف أحكم لعشرين سنة، لاحَت لنواظري صِوَرٌ تُجرجرني للأمام، وبِتُّ أتهيَّأ لأُخمدَ رغبة اليأس والعبث التي استوطنَتني لأشهر.

لم أقف على تبريرٍ واحد أُفسِّر به هذا التحول في الحكم علينا وظلَّ عصيًّا على الفهم أبدًا؛ لأن كلَّ شيء في البلد كان يجري بقرارات مزاجية لفردٍ واحد وليس من اليسير فهمُ دواعي صُنعِها، بل كانت كأنها أحجيةٌ ولغز في أكثر الأحيان، ولا يوجد وصفٌ ملائم لها إلَّا أنها نوباتُ انفعال وهلع تُصيب هذا الفرد المتسلط على كل شيء في البلد هو وجهازه الخاص. هذا التحول في مصيرنا تزامنَ مع أمر أستطيعُ جازمًا القطع بحصوله. سأرويه بأمانة كما وقع ولن أُعلِّق عليه حتى لا أوحيَ بشيء لا يمكنني نفيه ولا يمكنني أيضًا أن أجعله حقيقة فولاذية لا تخرق. ومع هذا لا يمكن أن أغفل حقيقة أخرى وهي أنه قد حفر أُخدودًا عميقًا فيَّ لا أملك نفسي عن الانجراف فيه مهما استجمعتُ كلَّ غرائزي وأيقظتُ سائرَ شهواتي وكلما ركنتُ إلى سُبُل الفرار منه كنت أعود إليه آيبًا وأقع فيه ثانية.

أجواءٌ من جزعٍ وإحباط كانت تسيطر علينا في ترقُّبِ المجهول تزامنًا مع موعد المحاكمة الملغاة، هواجسُ كانت تُهشِّم كلَّ صور العالم الخارجي التي بدأَت بدورها تتلاشى وتغرق في يمِّ النسيان. تورَّم رأسي حينها لفرط ما كان يحمل من الوجع في ملاحقة القادم وأصبح فارغًا خاويًا إلَّا منها. صارَت الزنزانة لُجَّةً تبتلع جسدي الذي بدأ يذوي متسارعًا يسابق الموتَ القادم تطرقه فظاعاتٌ ذهنية في كلِّ آنٍ.

اصطناعُ الرزانة والتجلُّد لم يقوَ بالمرة على أن يواريَ القلق ولا الرعب من المصير المتوقع قدومه عاجلًا؛ لذا صِرتُ كما الآخرين — على الأرجح — تنهش فيَّ كوابيس يقظة موحشة. وإذا تملَّك أحدًا يقينٌ من أن سيفًا قادمًا إليه قريبًا سينحر أوداجَه فإن حرارةَ حزِّه لأهون بكثير من لهب انتظاره. لشدة لوعتي في تلك الأيام تمنَّيتُ من صميم قلبي ألَّا ينزلَ بأحد وإن كان جلَّادي نفسه، ما كنت أعيشه من محنةٍ قاسية. إني لأعجز الآن عن بيان ما كابدتُ من الألم النفسي ومضاضة كلِّ لحظة كانت تمرُّ عليَّ، كنت أكتمُ هذه المضاضة حبيسةً في أحشائي فتبالغ في إيلامي أكثر مما هي موجعة بنفسها ولوحدها. وعلى الأغلب هذا كان يحصل للجميع، لا أدري قد يكون حتى أكثر مما كنت أقاسيه وأُكابده. لم نتشارك إبداءَ الوجع، بل حاوَلنا مواراتِه عن بعضنا حتى لا يُؤذيَ أحدُنا الآخر أو كنَّا نخشى أن ننكأَ الجرح فيتضاعف الألم علينا.

صورةٌ قاتمة لخروجنا من عنبرٍ باردٍ في صناديق خشبية يُحيط بها حرسٌ قساةٌ يحظرون البكاء ويمنعون العزاء، أمام نواظر أمهات ثَكْلى تُغطيهنَّ جلابيبُ سودٌ ما أذن لهن من البقاء في هذه الدنيا. هيئة تدفع بقتامتها إلى كل الأشياء اللاتي تُحيط بهنَّ وتُحيل أيامهن لياليَ، وآباءٌ لن يُفارقَهم عبوسٌ أزليٌّ، ويستعيضون بوجومٍ مقيم بدلًا عن دموعٍ لن يذرفوها علنًا، وحين يفعلون فسوف تكون دموعَ كمَدٍ في الخلوات فقط، هربًا من ملاحقة شماتة الآخرين ومن عيون رجال الأمن. شقيقات سوف يوصدن كلَّ النوافذ والشبابيك؛ لأن دروب العشاق ستحوِّل مسارَها بعيدًا عنهن خشيةً من مصيرٍ مشابهٍ لمصير أشقائهن، وفرسان أحلام سوف يستنكفون المرور تحت نوافذهن، فقد صِرْن منتمياتٍ لطبقة الداليت الهندية المنبوذة ولا يجوز للأشراف مصاهرتها. سيخرج أشقاؤنا كلَّ يوم إلى أعمال جديدة، على الأرجح سوف تكون حقيرةً بعد أن يُطردوا من وظائفهم الحكومية، يتحاشون نظراتِ الاتهام والريبة من الجيران وتتضاعف قتامة وحَلكة الأيام بنهاراتها الدامسة قبل لياليها أمامهم حين يتحاشاهم صديقٌ أو قريب كان يرتاد المقاهي والملاهي معهم. لا يمكن أن أصفَ جميعَ الصور الوخيمة؛ لأن حتى مجرد كتابتها الآن يقطعني بشفرات نَصْلها الحاد، وإني لأرأف بكل أحدٍ أن يتخيَّلَها. المهم أنها مرَّت عليَّ ولَيتها لا تعاود المرور على أيِّ إنسان.

– هل تعرفون أني سمعتُ قولًا دينيًّا مأثورًا عن النبي محمد أنه قال: «لو قُرِئت الفاتحة سبعين مرة على ميتٍ ونهض بعدها فلن أعجب لذلك؟» سألنا أحدَ الذين كان معنا في الزنزانة ممَّن كان يحفظ من أمور الدين ويُمارس طقوسه أكثر من الآخرين، وحثَّنا على فعلها.

لا أُخفي القول، عقلي لم يُصدِّق أبدًا ما كان يقوله صاحبُنا، ولا كنت أدري من قبل ولا الآن هل فعلًا هناك نقلٌ موثوق معتمد بمِثْل هذا القول عن النبيِّ محمد أم لا؟! رغم ذلك فإني لم أَنبِس ببنتِ شفة اعتراضًا عليه، ولا حتى جرَّبتُ إبداءَ أيِّ نوع من أنواع التلميح للرفض أو التعجب ولو بتقطيبِ وجهٍ أو رفعِ حاجبٍ أو نظرةٍ شزراء. بدَا ما يقوله غريبًا جدًّا وأقرب إلى الأسطورة المبالَغ فيها من أيِّ شيء آخر، لكني لم أُنكِر عليه قولَه ولربما لو قيل لي هذا القول في غير تلك الساعة لكنت تفحصتُه وقلَّبته ألف مرة ومرة ومن كل الوجوه كعادتي المألوفة في النظر والتدقيق وما كنت لأصدِّقه في النهاية. غير أن قوله نزل كقاربِ نجاةٍ لا مناصَ من التشبُّث به والعبور به للنجاة من خطر الغرق المحدق، وحلَّ قولُه عليَّ مثلَ غيثٍ يَطمِر ببرده لسعةَ نيران تكتوي بها حشاشتي. جلسنا مجتمعين هادئين بانكسار، كنت أسمع نشيجًا خفيًّا من بعض رفاق الزنزانة ونحن نقرأ سورة الفاتحة لسبعين مرة بإخباتٍ وفي صمتٍ مُحكم خبَت معه الآهات؛ كل الآهات. حين انتهينا تنفَّستُ عبقَ عطرٍ ملأ رئتيَّ بهواء نقي جاء من عالم آخر أشبعني بفيضٍ من شيء أجهله، مثله مثل نسيم ربيعي يهبُّ في ظهيرة يوم تموزي. انزوينا بعدها كلٌّ إلى محلِّه في مخدعنا المشترك المزدحم وقد هدأت طباعُنا كأننا قفلنا للتوِّ من حلقةِ ذكرٍ صوفي أنهكنا فيها الرقص عشقًا.

هذا الحادث الغريب حصل في عشيةِ اليوم الذي اقتادوا فيه بعضًا من رفاقنا إلى المحاكمة الملغاة والتي تغيَّر فيها الحكمُ بالإعدام إلى حكمٍ آخرَ. عندما سمعت الضابط يقول: «خفيفة إن شاء الله، السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.»

اندفعَت تلك الليلة الصوفية بكل ما فيها إلى كياني ولم تخرج منه أبدًا.

١٦

عُدْنا إلى الحياة من جديد بعد هذه الحادثة الغريبة أو المصادفة العجيبة وبدأتُ بعدها أحاول أن أرتِّب دواخلي لحياة طويلة في السجن، غير أنه صادفَتنا أمورٌ كثيرة كانت تُثير الغثيان والاشمئوهي ترى لهفتي وإعجابي بها زاز والقرف منها ومن سلوك رجال الأمن والحرس الحافل بالتناقض. فجوة شاسعة جدًّا بين بريق الشعارات وبهرجة الادعاءات التي يتظاهر بها الحزب الفاشي هو والمروِّجون له، وبين واقع حاله وهذا ليس حكرًا عليه، بل إنه عَينُ ما يفعله جلُّ أصحاب الجمعيات والأحزاب وحال مناصريهم الذين يقاتلون بشراسة لأجل السلطة، ولا يناضلون للفكرة كما يزعمون؛ لذا يستفرغون كلَّ ما في وسعهم ويبذلون أقصى جهدهم لبلوغ مآربهم الخبيثة، فيرى لأجل هذا قادةَ تلك الجهات يزوون جانبًا النظر في أخلاق أتباعهم الرذيلة وأصولهم المنحطة ما بلغوا بهم مآربهم في الجاه والسلطة والزعامة والثراء، بل إنهم يستعملون تلك الزُّمَر من الأوباش والأراذل عن علمٍ ودراية ولا يوفرون جهدًا من حثِّهم وتشجيعهم على ارتكاب كلِّ الموبقات ليُرهبوا بهم خصومهم ويختصروا المسالك لأمانيهم الخاطئة. في بعض الأحيان تبلغ تناقضاتهم من السخف حدًّا يُثير الشفقة على أصحابها ويبعث على الضحك ويدعو للسخرية من عفن عقولهم. وهذا كان حال العاملين في هذه الأجهزة القمعية فقد كانوا سيِّئي الطباع والأخلاق، لا ينطقون إلَّا سبابًا وشتائمَ كأنهم لم يعرفوا لغة غيرها من ساعة ولادتهم؛ لذا كنت أراهم متعجبًا يجيدون ألفاظها بطريقة فريدة لا تخطر على بال أحد ولم أسمع بها من قبل.

كنت أتساءل ونفسي عندما أُصغي لهذا السباب المقذع المتبادل بينهم، هل هؤلاء بعد العمل يعودون لبيوت يسكن فيها أطفال وترعاها زوجات فترقَّ قلوبهم لها وتحنوا عليهم، أم أنهم يسكنون صحراء قَفر من كل شيء، جرَّدَتهم من مشاعر وأخلاق البشر؟ كانوا فاسدين لدرجة فظيعة، وإني لواثق من أنهم كانوا فاسدين بالأصل، قضَوا أعمارهم سعيًا في البحث عن مهنةٍ يمارسون فيها رذائلهم فبلغوا مَرامَهم المطلق في هذه الحرفة الفظيعة بقبحها. كانت الدسائسُ والوشايات والنميمة زادَهم اليومي، يتشاتمون على كل شيء، بل ولأجل لا شيء أيضًا. من اليسير جدًّا أن تنشب المهاترات بينهم، ويكفي لحصولها مجردُ ريحٍ باردة تمرُّ من فتحة بابٍ موارب لينهمكوا في شجار لا يوفرون لفظًا قبيحًا إلَّا واستخرجوه من جعبتهم التي لا تنفد.

وأنا أسمعهم وأراهم على هذه الحال أحسب أنهم خُلقوا لأجل هذا وحسب؛ قساة غلاظ لحدٍّ مرعب، غير أني لاحظتُ عليهم سلوكًا غريبًا حين كان يُسمح لنا بمراجعة دورة المياه بعد كل وجبة طعام. كان يتناوب علينا حرسٌ مخصصون لهذا العمل، ومَن يأتي اليوم لا يأتي بالغد، ولم تكن تتغير مجموعة الحرس وحسب، بل تتغير الأخلاق معها أيضًا، يأتي الحرس اليوم بأسلوبٍ جافٍّ غليظ يُشبعوننا سبًّا ومهانة ويُثيرون حنقَنا وغضبنا، ويحلُّ محلَّهم في اليوم التالي آخرون على النقيض من أصحابهم متساهلون، ويسردون علينا أحاديثَ وقصصًا وقعَت لهم كأنهم يسلُّوننا ويُروِّحون عنَّا، يخالُ المرء بعدها أنهم لا ينتمون لهذا المكان، لولا زيُّهم العسكري والهراوات التي لا تفارق أياديَهم والسلاح المركون دائمًا إلى جنوبهم. ولولا أني كنت أعرف هذا الحارس الوديع نفسه عندما كنت في الزنزانات الانفرادية، وكيف كان يُظهر أنواع الفنون في إلحاق الأذى بالمعتقلين لصدَّقتُ أنه جاء بالخطأ لهذه المهنة لو رأيتُه لمرة واحدة فقط بهذه السماحة. هذان الوجهان المتضادان كان ترتيبًا معدًّا من رؤسائهم لترهيب المعتقلين من جهةٍ واحتواء غيظهم من جهة أخرى، وكانوا لا يُعيرون بالًا لتخالُف صِوَرِهم ولا لتبايُنِ سلوكهم، فهذا الحمَل الوديع نفسه بعد حينٍ يُصبح ذئبًا مفترسًا والعكس بالعكس، ويعرف كلُّ مَن كان بالمعتقل أنها حربٌ نفسية معدَّة بإحكام للتلاعب بالسجناء السياسيِّين. لا يوجد أيُّ سبيل لتغيير النظرة المستقرة عليهم بالعموم إنهم وحوش بمظاهر آدمية، إلَّا أن الحق لا بد أن يقال، واحدٌ منهم كان يبدو فعلًا أنه قد جاء لهذه الوظيفة لسوء حظه، وعلى الأرجح بفعل نصيحة حمقاء من صديق أو قريب دفعَته إلى هذه المهنة الساقطة هربًا من الحرب المشتعل أوارها حينها والتي كانت تلتهم أجسادَ الشباب ما إن يبلغوا السنة الثامنة عشرة من أعمارهم. يقينًا إن أمثال هذا الرجل نَكِدِ الحظِّ الذي جاء بالخطأ لهذه المهنة الساقطة ليس مستحيلًا تواجدُه، لكن في الغبراء مَن ذا الذي يمكنه أن يرى الأشياء الجميلة؟

رغم ذلك الاصطناع إلَّا أن طبائع الأشخاص وأمزجتهم الشتَّى وأفكارهم الخاصة كانت تنضح من تصرُّفِ كلِّ واحدٍ منهم؛ بعضهم كان يُظهر خلاعةً ومجونًا ولا يكفُّ عن الحديث عنها، وآخر كان يحمل مسبحة طويلة ويُبدي تدينًا كأنه درويش يُقيم في صومعة على قمة جبل. هذا الحارس بالذات كان يختصُّ ببلادةٍ حيوانية وفظاظة مفرطة بشكل متفرد. كانت البداوة والقساوة تشِعُّ من مُحيَّاه لكل مَن يراه ولو لبرهة واحدة ومن لهجتِه حتى لو سمعه شخص يتلفَّظ بضع كلمات لا معنًى لها. عيناه زائغتان بالخلقة، قبيح المنظر بلا حاجة لهذا القبح الإضافي وبمرافقة هذه العيون المتشاكسة فيما بينها ازداد قبحًا وبشاعة. قويٌّ، قصير، ذو جثة مملوءة، لا يتوقَّف لسانُه عن التسبيح والتهليل بينما كنَّا نخرج لقضاء حاجتنا. وفي يوم ما ولسبب مفرط في السخافة إلى الحد الذي لم أُوفَّق لاسترجاعه من ذاكرتي رغم محاولاتي الكثيرة اليائسة للعثور عليه انفجر غاضبًا مثل برميل بارود. لهذا السبب المفرط في التفاهة والمجتمع مع تلك البلادة، فَهِم هذا الحارسُ الغبي شيئًا لا يمكن فهمه بهذه الطريقة المعوجة إلَّا من معتوهٍ مثله فائق الغباوة وانفجر لأجل ذلك غضبُه الهستيري على أحد المعتقلين وأشبعه ضربًا وشتمًا بطريقة تُشبه فتكَ وحشٍ ضارٍ منفلت من عقاله. بالمقابل كان صاحبنا المعتقل على عكسه تمامًا من النوع الفاشل جدًّا في إقناع أيِّ أحدٍ في أيِّ أمرٍ حتى ولو كان يملك كاملَ حريته، فكيف به الآن وتقلبه على البلاط ركلات من أقدامِ وحشٍ أصم.

لم نملك خيارًا ساعتئذٍ لنصرته في هذه المواجهة غير المتكافئة ولو جربنا ذلك تهوُّرًا لانقلب الحال بلا ريب إلى مجزرةٍ حقيقية. ومع ذلك لم نقدر على التقوقع بالسكوت فانبرى أحدنا بطريقة رقيقة بعد أن لمس فتورًا في ثورة هذا الدرويش الوحش فأقنعه بكلماتٍ مختصرة لكنها كانت متماسكة وبليغة بأن الأمر لا يعدو سوء فهم، وأن هذا المعتقل لم يكن يقصد شيئًا سيِّئًا. حينها بدَت على الحارس البدوي علاماتُ تراجعٍ وندمٍ انعكسَت علينا فرحًا وبشرى بإنقاذ المعتقل المسكين من عقابٍ مجاني ظَفِر به لا يمكن لأيِّ أحد أن يُبررَه ولا بأيِّ معيار أو مقياس. ولم تكتمل فرحتنا لنواجه معضلة أشد بعد ذلك؛ إذ قال لنا هذا الحارس الأمني الورع: «ادخلوا الزنزانة، لا أقدر على السماح لكم بدخول المرحاض الآن.»

بُهتنا لذلك ولم نفهم، بعد أن ظنَّنا أن كل شيء قد عاد لمجراه، إلَّا أنه أردف بثقة وبيقين رجلٍ متدينٍ غاية في الورع موضحًا قراره الغريب.

– لأني بينما كنت غاضبًا أضرب صاحبكم، أقسمت يمينًا ألَّا تخرجوا لقضاء حاجتكم اليوم؛ ولذلك لا أستطيع كسر يميني الآن لأن ذلك حرام.

تبادلنا نظرات دهشة وكتمنا قهقهة استغراب، ومن حينها ازدادت سخريتي ممن ينصتون خاشعين لتلاوة بورع بعد نهارٍ طويل حرموا أنفسهم فيه من لذائذ الشراب والطعام ليهبوا بعدها لفعل أشد الموبقات. هذا الأمر تكرَّر حصوله من أولئك الحرس ورجال الآمن حيث كنَّا نراهم من كُوَّة الزنزانة يتحلقون على مائدة إفطار رمضاني ثم ينهضون بعدها مسرعين تملؤهم الحماسة لجلد امرئ لا يعرفونه ويُنزِلون به أشدَّ العذاب ولو قيض لهم افتراسه لفعلوا. من يومها سَخِرتُ ولم أندم على ذلك أبدًا من دين قوم يُجيز كلَّ هذه الفواحش والقبائح ولا يُجيز كسر يمين على دخول مرحاضٍ.

١٧

عليَّ الآن أن أرجع قليلًا للحديث عن أصحابنا الذين عادوا من المحكمة المُلغاة والتكلم عن الظروف الخارقة في غرابتها ونُدرة حصولها التي عاشوها في المعتقل وهي أقرب للخيال من الواقع، ولا أفهم كيف يمكن لأحدٍ أن يُبرِّرَها أو يتغاضى عنها وعمَّن وقَف وراءها أو يتهاون مع مرتكبيها. سوف أسرد بعضًا من هذه الحكايات العجيبة التي لم أشهدها بنفسي لكنها كانت متواترة، إلى حدِّ أنه يكاد لا يوجد سجين سياسي إلَّا ومرَّ بها إلَّا القليل جدًّا، ونحن لحسن الحظ — أقصد المجموعة التي كانت تعيش معي في الزنزانة — كنَّا من هذه القلة القليلة.

مديرية الأمن العامة أكبر مُعتقل سياسي وتضم الشُّعبة الخامسة الرهيبة المتكفلة بالشأن السياسي أو بالأحرى الشعبة المختصة بتصفية المعارضة السياسية؛ ولذا يُحتجز فيها أكبر عدد من السياسيِّين تمهيدًا لمحاكمتهم الصورية في محكمة الثورة. محكمة سأروي في حينه تجربتي معها، وهو على كل حال مع أنه كان مشهدًا زمنيًّا قصيرًا جدًّا لكنه كان ثقيلًا للغاية ينوء بعبءِ حملٍ، خلاصتُه تُمثِّل واقعَ حقبةٍ مظلمة امتدت لثلاثة عقود متوالية. سأترك هذا لوقته، أما الآن فلأقفل عائدًا إلى رواية مشهد آخر وإن كنت أنقله لا عن عيان إنما عن سماع من مئات الأشخاص ممن التقيتُهم أو عِشتُ معهم، ولفرط ما يُروى ويُسمع من أغلب المعتقلين السياسيِّين صار كأنه أغنية شعبية يحفظها جميع الأطفال.

ما إن ولَج رِفاقنا في الزنزانة قادمين من رحلتهم إلى جلسة المحاكمة الملغاة، وإذا بأبصارنا تشخص مباشرة إلى أقدامهم العارية وسِيقانهم المتورِّمة المنتفخة الغليظة جدًّا كأنها ساق شجرة معمرة بلا أغصان، لا ورق فيها ولا ثمر. هل رأيتم جذع سنديانة كم هو ضخم؟ كانت كذلك كما لو أنها مخصصة لتحمِلَ عملاقًا وليس أجسادًا نحيفة شاحبة. كان منظرًا يحمل تنافرًا مقززًا بين قاعدة عريضة متينة وبناء رفيع مثل خيط أوشك على الانقطاع؛ لهذا اختلطت المشاعر بعشوائية عندما صاروا في مرمى أبصارنا وتوزَّعت بين فرحة برؤيتهم أحياء من جديد، بين تعجُّبٍ لعودتهم واستفهام عن سببها؛ لأن مَن يغادر للمحكمة كان لا يعود، وبين مظهر الأرجل العملاقة والخوف من السبب الكامن وراءها. لأن ما نراه الآن في الغالب هو أعراض عقوبة جديدة لم نألفها وستَطالُنا عن قريب كما وصلت إليهم. منظرهم الغريب أضاف هاجسًا جديدًا لسلَّةِ قلقِنا التي تزداد ازدحامًا بالهموم والمخاوف. اختلطَت الأمور علينا كثيرًا وصار الغموضُ والإبهام سِمَتَها وباتَت أرواحنا لا تعرف أين تقف وإلى مَن تلجأ وتسكن في تلك اللحظات.

منَحْنا أنفسَنا جميعًا فرصةً لإيقاف ثورة الهلَع هذه ولكبح الأسئلة التي أمطرنا بها النزلاء الجُدد القدامى، وبعد أن انفرجَت الأسارير بمجيء الضابط وهو يحمل بُشرى إيقاف الإعدامات، بدأ أصحابنا يقصُّون علينا الرواية الغريبة بروِيَّة وهدوء عن رحلتهم إلى أرض العجائب: «كنا في مديرية الأمن العامة.» (هكذا استهلُّوا الحديث).

وبدأ الوصف المسهب وبيان التفسير لعِلَّة هذه الأقدام الضخمة في حديث طويل استمر أيامًا، إلَّا أني سوف أُوجز كلَّ ذلك كما أفعل مع سائر ما حصل وإلَّا لو فصلتُ كلَّ شيء فلن أنتهيَ أبدًا.

رفاقُنا الأربعة احتُجزوا هناك بعد إلغاء المحاكمة، في زنزانة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، وفيها دورة مياه بدون بابٍ مساحتُها متر مربع واحد؛ ولهذا المرحاض ثلاثة جُدُر يَصِل علوُّها لأكثر من مترٍ واحد بقليل. للزنزانة بابٌ حديدي محصَّن ضخم وموصد بأقفال كبيرة من الخارج، مغلقٌ على الدوام وفيه فتحة صغيرة في الأعلى يُمرَّر منها الطعام إلى القاطنين في الزنزانة. ولهذه الزنزانة فتحةٌ واحدة للتهوية بحجم خمسة وعشرين سنتمترًا طولًا وعرضًا تقريبًا، توجد فيها مفرغة هواء صغيرة تُناسب حجمها الصغير، وخلف تلك المفرغة وُضعَت صفيحة معدنية سميكة بها ثقوبٌ صغيرة كثيرة كي تسمحَ للهواء بالمرور منها وتحجُب أيضًا الرؤية كاملةً عن أيِّ مشهد في الخارج وتمنع أيَّ شعاع للشمس من الدخول إلى الزنزانة. يتدلَّى من السقف مصباحٌ باهت فيما الأرضية إسمنتية خشنة كما هي كل أرضيات المعتقلات والسجون التي مررنا بها. إلَّا أن كل هذا لم يكن هو الأمر الاستثنائي ولا حتى المثير للاشمئزاز في القصة بالنسبة لنا كما يبدو لغيرنا حتى الآن. هذا الوصف المُقرِف لهذه الزنازين سوف يُزعج وربما يُسبِّب بعضَ الآلام النفسية كما لا بد له أن يفعل بالعادة لكل إنسان أَلِف العيش في الفضاءات المفتوحة ويمارس حرية التنقل فيها، عندما يسمع قصصًا كئيبة كهذه. رأيتُ بنفسي بعضًا من آثار هذه الحكايات عندما كنت أرويها شفاهًا لبعض مَن أراد أن يسمع بعض الذي كان يجري. وعندما أقول: إنها تُسبِّب آلامًا نفسية، فإني أعني ما أقول لأني تعرَّفتُ على طبيب نفسي فرنسي متطوِّع حاول مساعدتي بمعالجتي من آثار السجن النفسية، إلَّا أن المسكين أُصيبَ بكآبة شديدة عندما سَمِع بهذه القصص وقرَّر أن يترك علاجي ويأخذ بعدها إجازةً طويلة من العمل لمعالجة وضْعِه النفسي وحالة كآبة أُصيب بها جراء هذه القصص. في الحقيقة لم أحدثه إلَّا عن نزرٍ يسيرٍ جدًّا وتأسفتُ كثيرًا لما حصل له، وهذا هو ما جعلني لاحقًا أحترس بشدة عندما أُحدِّث غرباء عمَّا حصل لي.

الأمر الخارق للعادة كان العدد الذي يسكن في هذه الزنزانة، ففي أحسن الأحوال يصل إلى سبعة وعشرين معتقلًا وفي مناسبات كثيرة يكون أكثر من هذا وقد يصل إلى ثمانية وثلاثين معتقلًا. أمرٌ لا يُصدَّق فعلًا، فكيف يمكن أن يعيش كلُّ هؤلاء في هذه الستة أمتار المربعة؟ ويجوز لي أن أقول: إنها خمسة فقط. إذا اقتطعنا منها مترَ دورة المياه. لكن الحقيقة لا ينبغي أن تُخفَى، فإنَّ أفضل الأماكن كانت دورةَ المياه. طبعًا ليس القصد عندما يختلي السجينُ فيها؛ لأنه بالأصل لا توجد هكذا خلوة إلَّا في الأحلام، بل لأنها أرحبُ الأماكن للجلوس والوصول إلى هذه البقعة الأثيرة يسير بالتناوب وفقَ نظام يشمل الجميع، وكم كان يسعد المرء حينما يصير من نصيبه السكن في مربع دورة المياه.

تُغطَّى فتحةُ المرحاض الشرقي بأيِّ شيء متوفر يمكن أن يُخفيَ الفتحة فقط، لتُصبحَ أرضًا مستوية، ليس استنكافا من محتوياتها؛ فإن هذه المحتويات تُعاصر سكَّانَ الزنزانات ليلَ نهار في كل مكان زرناه لاحقًا، ولم يَعُد أيُّ سجين بحاجة إلى الاستعلاء عن روائح هذه الأماكن. كل المطلوب من هذا الغطاء أن يجعل الفتحةَ مترًا مربعًا حقيقيًّا بلا تجاويفَ ويغدو بعدها نُزُلًا يتَّسع لأربعة أشخاص محظوظين. لعله الآن قد بانَت علةُ تضخم أقدام رفاقنا الذين عادوا إلينا من تلك الزنازين في رحلة المحكمة المُلْغاة، وإذا لم ينكشف ذلك لحدِّ الآن، فلنذهب إلى حكاية اللقلق وهي كفيلةٌ بتفسير كل شيء.

طائر اللقلق الذي عشعش في رأسي منذ ما يزيد عن ثلاثين عامًا، ليست حكايةً عذبة بريئة، كقصة اللقلق الذي يعرفه الأطفال الأوروبيُّون حين يسألون أهليهم كيف يأتي الأطفال إلى هذه الدنيا فيُشبِعوا فضول سؤالهم بأن لقلقًا قد جاء بهم. قصة ظريفة رأيتُها فيلمًا سينمائيًّا اسمه: «وداعًا أيها اللقلق». على كل حال هذه قصة عندما كانت الحشمة لها محلٌّ في العوائل الأوروبية، أما وقد مات اللقلق الأوروبي مع مصرع الحشمة في أوروبا وربما في العالم كله. فإن لقلقي لم يرحل بعيدًا، بل ما يزال يُعشعش في رأسي مثلما يستوطن برج كنيسة بغدادية، يبيض ويفرخ فيه وكلما رحل عنه يعود.

أراد العتاة بهذه الزنزانات الرهيبة أن يحطموا نفوس المعارضين ويسحقوا عزيمتهم قبل أن يُنزلوا العقاب الأخير بهم. كانت هذه الزنزانات ممرًّا إلى موت محتوم، في السنتين الأوليين من حرب الخليج الأولى، وكانت هذه الزنزانات — وعددها اثنتان وثلاثون زنزانة — تودِّع يوميًّا عشرات الشباب إلى محكمة الثورة حيث يتلقَّون أحكام الإعدام. وهو الحكم الوحيد الذي يناله المعتقلون السياسيُّون أيًّا كانت تهمتُهم أو السن الذي بلغوه ولو كانوا دون الثامنة عشرة إلَّا قليلًا جدًّا منهم ممن كان يأخذ الحكم بالسجن المؤبد إما بضربة حظ أو مشيئة قدَر لا يعرف أحدٌ مغزاها والحكمة منها.

بمعدل ثلاثين فردًا في ستة أمتار مربعة لا يرتدون إلَّا ملابس داخلية كان يتشكَّل المشهد الثابت؛ ولأن الجوَّ خانقٌ يكتم الأنفاس والحرَّ شديدٌ إلى حدِّ أن السقف كان يُمطر على مدار الساعة ما كان لهم أن يرتدوا غير هذه الملابس. المطر ينزل بفعل أنفاس المعتقلين التي لا تجد سبيلًا للخروج من هذه الزنزانة لا هي ولا العرق المتصبِّب من الأجساد المنهكة التعبى، وحتى أكثر الأيام قساوةً في برد الشتاء القارس لم تكن تعني شيئًا بالمرة لدى سكان الزنزانة؛ لأنهم لم يكونوا يشعرون به أبدًا جراء اكتظاظهم المتواصل. أكثر السجناء كانوا يفقدون ما عليهم من ثياب في التعذيب وعندما ينتهي التحقيق معهم يُعطَون أيَّ شيء يستر عورتَهم وعلى كل حال لم يكونوا بحاجة لأكثر من هذا فالمكان لم يكن يلائمه ارتداء أردية كثيرة.

لن أقول كم هو خانق ذلك المكان، بل أروي حادثةً واحدة فقط حصلت في هذه الزنزانات تُفسِّر كلَّ شيء. ففي أحد الأيام انقطعَت الكهرباء أو قُطعت وتوقَّفت مفرغةُ الهواء عن عملها، ولأن القصة مفرطة في القسوة تكاد نفسي تخرج من بدني حين أتذكَّرها؛ لأني أعرف بعضَ أبطالها فسوف أختصرها بكلمات موجزة جدًّا. نفد الهواء ومات بعضٌ من سكان الزنزانة اختناقًا؛ لأنه لم يَعُد هناك هواءٌ كافٍ يستنشقونه. لقد نفد الهواء في الزنزانة، نعم نفد الهواء، وأُعدموا شنقًا بلا حاجة لحبل مشنقة يفعل ذلك بهم، ومَن كان محظوظًا منهم دخل في غيبوبة وبعضهم أصبح لسانُه ثقيلًا من جرَّاء هذه الغيبوبة، وأصابت آخرين عللٌ استدعى الشفاء منها وقتًا طويلًا. أحد الضحايا كان زميلًا لي في المدرسة الثانوية وما يزال وجهُه يُطلُّ عليَّ بالخالِ الذي يزيِّن خدَّه كلما تذكرتُ هذه الزنزانات الفظيعة. هناك أفلَ نجمُه وغاب للأبد وما زال أهلُه ومحبُّوه يتشوقون للمعة خاله ويترقبون ظهوره.

توزيع المكان كان من أشد المعضلات التي واجهَت بواكيرَ طلائع المعتقلين السياسيِّين، إلَّا أنهم اكتسبوا خبرةً كبيرة بمرور الأيام أورثوها للأجيال اللاحقة منهم، وكان التقسيم المثالي كالتالي: بما أن عرض الزنزانة متران، إذن فهو يكفي ليمتدَّ به أيُّ شخص فيُصار إلى أن ينام أربعة عشر شخصًا بطريقة متعاكسة قَدَمُ أحدهم عند رأس الآخر، ينامون على جنوبهم بالطبع اقتصادًا للمسافة؛ لأنه من المستحيل أن يستلقيَ أحدُهم على ظَهْره، ويذهب أربعة إلى خمسة أشخاص على الأكثر إلى دورة المياه ليجلسوا فيها، فيما يقف متكئين على الحائط عشرة آخرون، ويبقى لدينا خمسة أشخاص أو عشرة حسب العدد الموجود؛ إذ قد يصل بعض المرات إلى ثمانية وثلاثين شخصًا كما قلت آنفًا، وهؤلاء البقية هم اللقالق؛ إذ يستحيل أن يجدوا مكانًا يقفون فيه، فمَن يقف على الحائط يجد فيه سندًا وداعمًا له بينما يحاول أن يجد لإحدى قدميه موضعًا يستبدلها مع الأخرى بين الحين والآخر. أما مَن يقف في الوسط فعليه أن يظلَّ واقفًا هناك لمدة أربع ساعات كاللقلق على ساقٍ واحدة، يستبدلها بالساق الأخرى عند التعب، ويظل مواظبًا على وقفتِه اللقلقية بلا أيِّ عون يسنده أو يتكئ عليه.

هذا الوضع كان يستمر لأربع ساعات كاملة وتحدث مناوبةٌ بين الواقفين مع النائمين، وهكذا دواليك. بعض المعتقلين كان يسقط مغشيًّا أحيانًا لشدة إرهاقه أو لحمَّى عارضة تُصيبه أو مرض يعتلُّ بجسده المنهك من جراء التعذيب، وبعض منهم فارق الحياة لهول ما تعرَّض له من تعذيب أو لتردِّي حاله جراء سوء التغذية؛ لأن الطعام المقدَّم للسجناء لم يكن يكفي لمقاومة هذه الظروف؛ إذ كانت تُقدَّم ثلاث وجبات في اليوم الواحد، في كل واحدة منها قطعةُ خبزٍ واحدة من صمون هش مصنوع من طحين الذرة يذوب سريعًا في الفم لا يسدُّ جوعَ أحد، ودجاجتين في العشاء يتقاسمها الجميع، وبضعة أكواب من الرز في منتصف النهار، وقطعة من جبن على شكل مثلثات في أول النهار مع ثمانية أقداح شاي تُوزَّع على الكل لمن أراد أن يشرب منها.

هذا المقدار الضئيل لم يساعد الأبدان على المقاومة، في وقتٍ كانت تتورم الأقدام من جراء الوقوف المستمر. المعاناة الأشد كانت دخول الخلاء؛ إذ ينبغي خروج الأشخاص الخمسة منه وعليهم أن يجدوا مكانًا مؤقتًا لأنفسهم وسط هذه الكتلة البشرية المتراصة، وكان هذا مصدرَ إزعاجٍ كبير جدًّا ومحنة حقيقية؛ إذ كيف تجد مكانًا لخمسة أشخاص مقابل واحد فقط دخل دورة المياه، وبسبب هذه المعاناة كان البعض لا يحبِّذ الجلوس في دورة المياه؛ لأنه عرضة لتهديد مستمر بإخلاء المكان، بينما يفضله آخرون رغم ذلك لأنه المكان الوحيد الذي يمكن الجلوس فيه والاستراحة من عناء الوقوف اللقلقي المستمر. وكم هو مُقرف أن يكون خيار المرء بين الوقوف لقلقًا أو الجلوس في مرحاض لا أمر ثالث بينهما. الحسنة الوحيدة في الزنزانة هو توفُّرُ ماءٍ جارٍ كثير؛ لأن هذه الوفرة لن يطول بقاؤها خصوصًا في السجن.

وبرغم هذا الضيق والأغلال التي تُقيد حركة المعتقلين؛ فإنهم كانوا يحملون في قلوبهم عزيمةً هائلة وإرادة جبارة. لم يمنعهم هذا العذابُ كلُّه من الجلوس في هذه الزنزانات نفسها، ويعقدون فيها ندوات يتحدثون فيها عن أمور ثقافية، ويتبادلون المعلومات، ويُجرون النقاشات والحوارات في أمور شتى حتى السياسية منها، وجعلوا من هذه الزنزانات مدارس ثقافية. لم يتوقف حسُّ المعارضة للظلم، بل كان يزداد ويترسَّخ في صدورهم كلما ازداد عذابُهم وعُرَى التضامن تتوثق فيما بينهم ولا يحسبنَّ أحدٌ أن خفة الدم قد غادرتهم أو أنهم فقدوا حسَّ الفكاهة والتندر، أبدًا بل كانت المزحة حاضرة دائمة حتى إن أحدهم أطلق كلمة تندرٍ خالدة، حين قال لو قُيض لي يومًا الخروج من هذا المعتقل فسوف أُصنِّف كتابًا يحكي يومياتي أُسمِّيه: «الوقفة اللقلقية في السجون العفلقية». وأنا أنقل مقولته هذه عسى أن يفيَ بوعده ويكتب كتابه المنتظر.

قبل أن يحين موعدُ محاكمتنا، انتثرَت كثيرٌ من القصص القصيرة لم أَعُد أتذكَّر الكثير منها؛ لأنه لم يكن هناك من قرطاس أُدوِّنها فيه سوى ذاكرة مشحونة بكثير من وقائع ثقيلة تحتل مساحة كبيرة منها، ولم يبقَ مع لطمات الدهر ما يسعني الاحتفاظ بكل هذه القصص القصيرة. إلَّا أن بعضها تمكن من النجاة ومنها ما سوف أسرده.

مثل سائر المعتقلات هناك أصناف متنوعة من المعتقلين لأسباب أمنية، ولا يمكن أن يُصنَّفوا جميعًا بالمعتقلين لأسباب سياسية، أو لأنهم ذوو نشاط معارض، بل حتى إن بعضهم كان من أتباع السلطة وأجهزتها القمعية. جاء إلى الزنزانة يومًا أحدُ المعتقلين ممن يسكن المنطقة القريبة من الحدود السورية وقصَّ علينا نشاطه التخريبي لصالح المخابرات العراقية في سوريا من تفجير بعض الأهداف المدنية هناك وبعض الأعمال الإجرامية الأخرى. اعتُقل بعد عودته من السجن في سوريا تحسُّبًا من كونه عميلًا مزدوجًا للمخابرات على طرفَي الحدود.

حدثَنا عن السجون السورية وطُرُق التعذيب فيها، مثل وضع المعتقل في عجلة ودحرجتها من علو بالسجين وهي طريقة لم نتعرف عليها في المعتقلات الأمنية العراقية، ربما لم تكن تُعجبهم؛ لأنها قد تكون متخلفة قياسًا لما عندهم من وسائل أكثر تطورًا أو لأنها أقل فعالية قياسًا بما يملكونه. وعلى ذِكْر وسائل التعذيب فإنها على — ما يبدو — كانت وفقَ مواصفات عالمية، فكما قيودنا كانت تحمل عبارةَ «صُنع في رومانيا»؛ فطُرُق التعذيب يبدو أنها حصيلة نصيحة من خبراء أجانب، فقد رأينا في أحد الأيام وفدًا يتجول في مديرية الأمن ويبدو من سحنهم أنهم من شرق آسيا، توقعنا أنهم قد يكونون من الصين لعلاقة النظام الجيدة مع الحكم الصيني آنذاك.

وبالعودة لهذا العميل المخابراتي الذي كان يبدو مرتاحًا مطمئنًّا غيرَ قلقٍ من وجوده معنا في الزنزانة، وفعلًا لم يتعرَّض لأيِّ أذًى جسدي، وعلى الأرجح أُطلق سراحه عندما أخذوه بعد أيام من الزنزانة بطريقة فيها احترام؛ لأن اعتقاله كان يبدو إجراءً احترازيًّا ليس إلَّا. تبادُلُنا الحديثَ معه كان من باب الفضول وحسب، ولم نُشركه في أيِّ نشاط خلال وجوده، وتحوطنا كثيرًا منه لسبب لا يخفى. وكما جاء غادر بلا أثر ولا مشاعر خلَّفها عقبَه. مرَّ علينا فلاحون ورعاة وطلبةٌ لأسباب كثيرة لكنها لم ترقَ لمستوى يُعرِّض أصحابها لخطر حقيقي مثل الذي كنَّا فيه.

زنزانة كبيرة بعيدة عن زنزانات المعتقلين السياسيِّين ضمَّت عددًا كبيرًا من المعتقلين لأسباب أغلبها غير سياسية بالصميم، وإن تعلَّقَت بها بنحو أو آخر في زمن كان كلُّ شيء ممكنَ أن يصير تهمة سياسية. كثير من هؤلاء المعتقلين كانوا قرويين بسطاء اعتُقلوا في حملة تأديبية جماعية في مسعى من السلطة لإنزال العقاب والقصاص بسكان القرى حتى وإن خرج منها رجل معارض واحد. هذه الحملة التأديبية القاسية كانت بسبب نشاطٍ معارضٍ مسلَّح كانت تقوم به جهاتٌ أيزيدية في مناطق شمال العراق متاخمة لسوريا. كان الحرس يعاملونهم بازدراء واحتقار وتكبُّر بغيض، ويسخرونهم بالقوة للقيام بأعمال التنظيف في مديرية الأمن رغم أن أغلبهم كانوا من كبار السن. كان مشهدًا مفجعًا أن ترى حارسًا طائشًا قد بلغ العشرين من عمره للتوِّ وهو يُذيق العذابَ المرَّ لرجل أربعيني ويسخر منه ويحثُّه للعمل بالركل على مؤخرته والصراخ عليه. ولأن القرويين يكونون أشد الناس تعلقًا بالدين ويحظى بقدسية كبيرة في نفوسهم أكثر من أيِّ أحد غيرهم من طبقات الشعب، خصوصًا مع الجهل السائد بينهم والسذاجة التي هم عليها، فقد وجد رجال الأمن ذلك فرصةً سانحة لأن يستغلوا هذه السِّمة الخاصة المتجذرة فيهم لإيذائهم بسب معتقداتهم ولعن مقدساتهم.

كنَّا نتطلع إليهم وهم في وجوم صادم يسمعون تلك الألفاظ البذيئة عاجزين عن إظهارِ أيٍّ من مشاعر الاعتراض حتى على قسمات وجوههم خشيةَ العقاب الجسدي الذي لا يوفره رجال الأمن لهم في أي مناسبة. كان منظرًا يفطر القلبَ حقًّا ويجلي بوضوح مستنقعَ الحقارة والنذالة الذي خرج منه رجال الأمن، وحجم الغل الكامن في صدورهم لكل ما يمتُّ بصلة للمشاعر الإنسانية.

لم تتوفر أمامنا حلولٌ كثيرة لتغيير هذا الواقع الصعب الذي يعيشونه، وبالمقابل لم نقوَ على البقاء ساكتين عليه. قدَّمنا اقتراحًا للحرس بأن الجزء الخاص بنا من ممشى صغير يؤدي إلى دورة المياه، نتطوع نحن لتنظيفه يوميًّا وإعفاء هؤلاء القرويين منه. لم يكن هذا الاقتراح يغيِّر من الواقع كثيرًا؛ فإنهم سوف يبقون هم ونساؤهم مسخرين لأداء هذه الأعمال الحقيرة في قلعة الخوف، ولن يُوقف فعلُنا عوضًا عنهم في تنظيف هذا الموضع الصغير سبُلَ الازدراء والاستكبار ولا فُحشَ الألفاظ والإهانات وربما أفعال أخرى أكثر قبحًا لم نَرَها ولا نستبعد حصولها من هذه الضواري البشرية. كلُّ ما سعينا إليه هو إبعاد المشهد المؤلم عن نواظرنا رحمةً بأنفسنا وليس شفقةً عليهم؛ لأننا لم نكن في حاجة لمزيد من الألم والضيم أكثر مما هو متوزع في أرجاء نفوسنا ويسكن جوانحنا.

كان من المتوقع أن نكبح مشاهد السخرية والإهانة وتسير الأمور سلسة، وهذا ما جرى فعلًا في الأيام الأولى؛ لأننا نقوم بعمل تطوعي ولا نتوقع مضايقةً من الحرس. غير أنه في أحد الأيام جاء شابٌّ نَزِق، وبينما كنت أحمل قطعةً مبللة من قماش خرق أمسح بها البلاط دفعني هذا الحارس النَّزِق بعنف مصحوب بلفظ سخيف يريد أن يُكرِّر معي ما كان يفعله مع القرويِّين البسطاء، إلَّا أنه فوجئ بردة الفعل الغاضبة مني. إذ استدرتُ إليه مباشرة ملقيًا قطعة القماش المبلل على الأرض في غضبٍ واضح تظهر علاماتُ الحدة عليَّ ومزمجرًا ببضع كلمات حادة متوعدًا ومتقدمًا نحوه بانفعال شديد. ولحسن الحظ كان باب الزنزانة مفتوحًا ويمكن لرفاقي التحرك بسهولة لنجدتي وهذا ما حصل، علَا صُراخٌ بيننا وحاول يائسًا أن يردعهم بالقوة فجرَّب رفع ساقه كي يركل أحدهم لكن رفيقي كان أسرع منه فأمسك بطرف قدمه وأطاح به على الأرض وسحَق كلَّ تجبره بمنظره المضحك وهو يتزحلق على الأرض المبللة.

عمَّت الفوضى المكان وملأ الرعبُ قلبَ الحارس من حجم الغضب والإصرار الذي انفجر عليه من زملائي مما اضطرَّه للهروب بعَجَلٍ مستعينًا بغيره من الحرس الذين هرعوا إليه والصدمة تعلو مُحيَّاهم وَجِلين محاولين احتواء الموقف خشيةَ تطورِه إلى ما قد يُعرِّضهم لمساءلة كبيرة من رؤسائهم. وبين لينٍ من الكلام وزعيق أعادوننا إلى الزنزانة التي لم نكن أصلًا في وارد الخروج منها؛ لأننا لم نفكر بذلك بالمرة، بل كان حادثًا عرضيًّا وردَّ فعلٍ صنعَته اللحظة وليس خطة معدَّة للتمرد أو العصيان. سارعوا لإبلاغ دائرة التحقيق كما هي عادتهم في الوشاية والسعي في كل صغيرة وكبيرة، وجاء موفدٌ منها مستفهمًا، فقلنا له نحن مُعتقلون سياسيون نقبل بالتحقيق الأمني على ما فيه، لكن لن نقبل أن يعاملنا أحدٌ كعبيد لأننا لسنا كذلك. مرَّ الأمر بسلام ويبدو أن تخفيف حكم الإعدام كان له أثر أيضًا في ردة الفعل المتعقلة والهادئة من دائرة التحقيق، وتفهم مفوض التحقيق (م. ع.) الأمر، بل إنه قال لنا كلمة كانت تحكي إقرارًا منه بخطأ الحارس الذي لم نرَه ثانية وكانت تحمل رجاءً منه لنا بالهدوء والتعاون على تمرير القضية بهدوء: «مهلًا، مهلًا بالحرس إنهم إخوانكم.»

كلمتُه زادتنا قوةً إلى صلابة عزيمتنا وإصرارًا على ألَّا تُثنيَنا أقسى المصاعب عن الفخر والاعتزاز بحريتنا وكبريائنا في كلِّ آنٍ وفي أيِّ مكان نكون فيه.

١٨

مثقلًا بمللٍ، أضحيتُ به كأني لفافة محشوة بسأم سمج قبيح، قضيتُ أشهرًا تسعة منتظرًا الخروجَ من هذه الحفرة التي صار الوقتُ فيها جامدًا بلا حَراك. سأمٌ رسمَ بريشة بشاعته تجاعيدَ على جسدي، وغرز في أحشائي كائنًا يتلوَّى في عروقي مقرضًا جفنيَّ في اليقظة والمنام ويتقلَّب معي في كل سكون وحركة. حركة! عذرًا، أيُّ حركة هذه التي أتحدث عنها؟ حتى مشاعر الألم أصابها الجمود وبدأت ذكريات العالم الآخر تغادرني مع أوجهِ الذين التقيتُهم من الغرباء، بل حتى الذين أعرفهم. نسيان مثل طميِ سيل جارف بدأ يطمر الأشياءَ كلَّها، وكان عليَّ أن أكفَّ عن التفكير بما وراء الجدران؛ لأنه كان كابوسًا يقضُّ مضجعي ويجرفني إلى سعير.

فقط مَن عاش في هذه الصناديق المغلقة — لا أحد سواه — يعلمُ ماذا يعني هبوب رياح الماضي العاتية. لن يرى أحدٌ غيرُه في هبوبها كيف تتطاير الأشياء في كل الأرجاء لا تجد مأوًى لها تلوذ به إلَّا أبوابًا مؤصدة وطرُقًا مسدودة، فترجع تدور وتدور حتى تفنى رهقًا ولا تسكن بسكون الريح، بل تخرُّ إلى القاع تتلوَّى ألمًا وتشكو داءً لا دواء له.

عند غبشٍ طرقَنا زوَّار الفَجْر مندفعين بصخبٍ لا يوائم إشراقةَ الفجر، وأجبرونا أن نرتقيَ سلالم كثيرة صعودًا ونزولًا، ثم حُشرنا في عربةٍ مغلقة ضمَّتنا إلى عتمتها، بعيون سُملَت بخِرَق قاتمة وأكُفٍّ شُبكت بالحديد واحدة إلى الأخرى، ومن ثَم إلى عمود أُفقي يمتد على طول العربة الصندوق. أُجلسنا على صفيح معدني يشعُّ ببرودة الموت في لهيب أواخر حزيران، وزحفت بنا — الزنزانة — السيارة في رحلة طويلة نحو مدينة متخمة بأسماء سلام لم تنعم بها أبدًا، ولم تخذل عادة العرب في تسمية الأشياء بضد حقيقتها. وصلنا إليها والشمس معلقة في كَبِد السماء تطرق الحديد بعنف كأنها تبحث عن الخبيئة التي يُواريها، وهو يصرخ من لفعِها سخونة. بينما كانت الشمس تواصل طرقَها المجنون كنَّا نأمل أن يُفتح الباب لكنه ظل موصدًا. يزداد الطَّرق منَّا هذه المرة بأقدامنا على أرضية العربة المصفحة مع تزايد ارتفاع حماوة الحديد ونحن نرنو بعيون مغمضة إلى أيِّ فرد منهم يولج مفتاحًا في الأقفال لنُغادر صخَب الشمس وصرخات الحديد.

كان هناك بابان في هذه الزنزانة الجديدة المتحركة؛ بابٌ مغلقٌ علينا وبابٌ آخر يجلس عنده الحرس. فتحوا كُوَّة صغيرة من أعلى الباب تسرَّب منها ضوءٌ سطع بشدة من وراء العصابة التي غلفت عيوننا، وصاحوا بنا: «ضاع المفتاح، انتظروا إلى أن نجده.»

عادوا وصفَّقوا الباب الخارجي بقوة وهم يُرعدون ويُزمجرون غضبًا علينا. ضاع الضوء وتلاشى الهواء مع اختفاء المفتاح، وبدأَت أنوفنا تُفتش عن بقاياه المندثرة بلا جدوى. فار العرق من أجسادنا بينما كان الحديد يستعرُ غضبًا من لسعات الشمس. ارتعشت أصواتنا موقنةً أننا قطعنا نصف تذكرة إلى الغربة الأخيرة. رحيل لم يكن يخطر على بالِنا أنه سيكون بهذه الطريقة الفظيعة.

لن أبالغ أبدًا لو قلت: إن أجسادنا تصبَّبت كلَّ السوائل التي فيها عرقٌ، وما زلت أذكر كيف أن العرق كان ينهمر من أرنبة أنفي، كأنها صنبورُ ماء مفتوح على آخره. حينها تمنَّينا كلُّنا أمنية واحدة وبصوتٍ عالٍ، الموت إعدامًا لا ضير فيه، لكن لنشمَّ جرعةَ هواء واحدة ولتُقطع بعدها الرقاب. اقتربنا من الإغماء وتلاشَى كلُّ شيء ولم نَعُد نقوى على الحركة، تمايلَت أجسادنا إلى الأمام تترنَّح من الضعف، بل أوشكت على كامل الانهيار.

فجأةً هبَّ علينا نسيمٌ ثلجي، أو هكذا حسبنا الهواء اللافح وهو يُلامس العرقَ الذي غطسنا به. نفخَت هذه النسمةُ الروح فينا من جديد، وأنهَت لذة قطيع وحوش ثملة برغبةٍ سادية، لم ينتهِ تعارفُنا بها بعد؛ فقد كان علينا أن نلتقيَها في قادم الأيام والسنوات لمرات ومرات في سلسلة طويلة، حلقاتُها وجعٌ وألمٌ شبعى بالنكد والأسى والأنين.

أُوقفنا بمواجهة حائط آخر من حيطان كثيرة تأملتنا بصمت وانكسار ونحن نُدير قفانا لهراوات في هذه المرة وفي غيرها وهي تنزل على أجسادنا بقسوة تتكسر ولا يرحمها حاملها، يدفعها مهشمة ويسحب أخرى، ومع ذلك كنَّا لم نزَل نملك الجرأة لنسأل أنفسنا والعجب يتملَّكُنا لماذا يحملون كل هذا الكم من الحقد والضغينة لأناسٍ لا يعرفون حتى أسماءهم. أكثر ما في الحروب مدعاةٌ للقرف أن ترَى عدوًّا يحاربك ويفتك بك بأقصى ما عنده من همة ونشاط فقط لكي يستمرَّ هو في الرزح تحت العبودية ليس غير.

زُجِجنا في زنزانة لا تكفي لأن يمتدَّ فيها أحد، وفي آخرها كان يوجد مرحاض ومثل طفل يحظى بلعبة جديدة انتشينا فرحًا به. فهذه أول مرة يصبح في قبضتنا مرحاض بعد أن حجزَتنا عنه طويلًا سلاسلُ وأقفالٌ وأبواب مصفَّحة. وسط هذه الدهشة والفرح اغتسلنا بماء وفير نراه لأول مرة أزاح عنَّا رهقَ الرحلة المرة. فتحتُ الأرض ذراعَيها، صارت هي الوسادة والغطاء والفراش واستقبلت غفوتنا عليها، تنتظر مخاضًا جديدًا بالشجى ولن يكون الأخير.

طرقَتنا شمسُ أربعاء حزيراني ولأول مرة على خلاف عادتها معنا بالاحتجاب وراء أسوار المعتقلات، أطلَّت علينا هذه المرة من نافذة سيارة الدورية التي راحَت تشقُّ الزحام وتاهت نظراتُنا في الشوارع لتنشرَ المِلح على الجروح وتسقيَنا مذاقَ ألمِ الفراق ممزوجًا بدموع تسرَّبت من المآقي بلا استئذان لترويَ ظمأَ النفوس.

أيتها المدينة التي طالما نثرنا عشقنا لك على أوراق سرية نرسم لوحةً جميلة فوق أسوارك التي كانت تخنق أنفاس ساكنيها. في طرقاتك سِحنا وَلِهين نبوح بهوًى تيَّم قلوبنا، همسنا به في آذان مَن أوشك أن يبلغ سنَّ الرشد ويقع في غرام أحلام الحرية والعيش الرغيد لكل الناس. كنا نخلط كل هذا بخلاصات الكتب وعصارة الأفكار نتبادلها في غُرَف مزوية صغيرة نرسم مستقبلًا جميلًا لا نعرف متى يحلُّ أوانه.

إيهٍ أيتها المدينة، ما لَكِ نسيتِ كلَّ هؤلاء العشاق وأشحتِ بوجهكِ عنهم بعيدًا، لمَ لا تقولين للمتسكِّعين على أرصفتك، إن قيسًا المفتون عشقًا بك ما عاد يراك إلَّا من خلف قضبان؟ وأنت أيتها العربة ما لكِ تندفعين بهذه الخطوات مستعجلة، لا تلتفتين يمينًا ولا شمالًا، تخوضين في بركة حزن يتطاير منها وحلُ الأسى فيغطي الوجوه الشاحبة؟ تأنِّي تمهَّلي تريَّثي فما بعد هذا الخلاء الواسع هُوَّةً من نسيان مجنون. شبحت نظراتُنا بعيدًا تلتهم كلَّ ما تراه ولم نكن بحاجة إلى نصيحة من ناصح لفعل هذا ومع ذلك لم أقدر على منع نفسي من القول لصحبي: «تمعَّنوا جيدًا وأطيلوا النظر فإنها آخر النظرات، نبوءةٌ عن دهرٍ عصيب قادمٍ أتى بها وحيُ العذابات المتواصلة.»

بلغنا مبنًى قذرًا في ثكنة عسكرية لننزل إلى صالةٍ مملوءة بكراسٍ خشبية على شكل أريكة طويلة لا مساند لها، لونُها أخضر كأنه مقتبسٌ من لون مخافر الشرطة. المصطبات موزعة في اتجاهات شتَّى كأعمار الجالسين عليها بلا جامع واحد ولا قاسم مشترك. شِيبًا وشُبَّانًا بملابس مدنية متهرئة وبعضها عسكرية، يجلسون طويلًا ينتظرون محكمة لن تدوم سوى دقائق يسيرة. اضمحل الخوف وانمحى الارتياب تمامًا من قلوبنا وأُفعِمنا بهمةٍ زائدة تتنفس ثمن الحرية وتهزأ بالظلام. نعم طمأنينة كاملة وسكون شامل حلَّ علينا ولم نَعُد نبالي بما ينتظرنا.

نزعنا ألبسة التوجُّس ونحن نتبادل الكلام مع حرسٍ انتشر في كل مكان من القاعة أو مع صحبة من معتقلين آخرين لم نقابلهم من قبل ولا أذكر أني رأيت أحدًا منهم بعدها أبدًا. ساعات من ترقُّبٍ ونحن نرى أفواجا تصعد وعندما تنزل تغيب منها وجوه سِيقت من باب جانبي إلى قسم الإعدام.

لأول مرة نسمع بمواد في قانون العقوبات ونسأل بعض الحاضرين عنها وعن الأحكام المتوقعة وفقها. فكان واحدًا من أغرب الأجوبة التي سمعتها طوال حياتي، إنها مادة قانونية تشمل أحكامًا من الإفراج إلى الإعدام!

جوابٌ كان يلخص حقيقة الإجراءات القضائية التي تتم في هذه المحكمة، لا منطق فيها تمامًا ولا تدري ماذا سيفعل بك لأنك باختصار لا تعرف عن تهمتك شيئًا سوى أنك عدو للحزب، للثورة، ولا يوجد أيُّ دليل ضدك على هذا الاتهام سوى الاتهام نفسه.

لحسن حظنا أننا قُدِّمنا للمحاكمة في حقبة جديدة قللت فيها أحكام الإعدام بشكل كبير. في الحقبة الأولى التي امتدت إلى نهاية السنة الثانية من الحرب. كان الإعدام يشمل كلَّ متَّهم بغضِّ النظر عن السن أو الفعل الذي ارتكبه، أو في الحقيقة بغض النظر عن التهمة التي وُجهت له سواء كانت عن وشاية أو نميمة أو اعتراف منتزع تحت التعذيب أراد صاحبه الخلاص منه فأوقعه على غيره ولم ينجُ منه لا هو ولا صاحبه الذي وشى به. في تلك الفترة الدموية كان مَن ينجو من الإعدام ثلة قليلة أغلبهم بأعمار دون الثامنة عشرة، بل إن بعض اليافعين كانوا يُنقلون إلى قسم طبي في أحد المستشفيات ليُعاد تقديرُ أعمارهم ويُرفَع سنُّهم إلى الثامنة عشرة بتوصية من لجنة خاصة ليُقدَّموا بعدها إلى المحاكمة ويُنفَّذ بهم حكم الإعدام. لن أقدر أن أقدِّم عددًا دقيقًا للذين حُكموا بالإعدام في تلك الفترة إنما أقدر أن أقدم صورة يمكن أن تقرِّب المشهد لمن لا يعرف خبايا محكمة الثورة.

المحكمة تنعقد ستة أيام في الأسبوع من الصباح وحتى منتصف الليل، وأطول مرافعة لم تكن تتجاوز الربع إلى نصف ساعة، هذا إذا كان عددُ المتهمين كبيرًا، ومن ثَم تتم تلاوة الأحكام في غضون دقائق، مثالٌ واحد على نوع الأحكام التي كانت تصدر، أذكر واحدة من القضايا تُشبه العشرات أو المئات من الدعاوى. صَعِد في هذه القضية لمواجهة الحاكم العسكري أربعةٌ وسبعون متَّهمًا عاد منهم خمسةٌ فقط بحكم السجن المؤبد والآخرون جميعًا خرجوا من الباب الجانبي إلى قاطع الإعدام.

صَعِدنا سُلَّمًا قصيرًا لنقف حُفاةً بمواجهة ثلاثة قضاة عسكريين، إلى اليسار جلس ضابط أشقر بوجه متجهم طويل، كان انطباعنا عنه واحدًا، إنه يُشبه عنصر غيستابو نازي كما كنا نراهم في السينما. بدأ يُلقي خطاب الادعاء يصفنا بالخونة العملاء المتعاونين مع الأعداء ضد القائد العظيم ومسيرة الثورة وقيادتها الحكيمة، والحق أننا لم نُصغِ إليه لأنه منذ أول الكلام أفصح عن مراده وطالب بإنزال أقصى العقوبات وأشد القصاص بنا، وباختصار طلب من الحاكم إصدار حكم الموت علينا.

سألنا الحاكم العسكري عن أسمائنا؛ ومن ثَم سؤال آخر: «هل أنت متهم أم بريء؟»

وعندما كنا نحاول توضيح شيء ما، كان يردُّ علينا مقاطعًا حازمًا بكلمة واحدة: «اخرس!»

هذا الحاكم تعرَّفتُ إليه للمرة الأولى هنا بزيٍّ عسكري ونحن نقف أمامه بملابس رثَّة حفاةَ الأقدام ممنوعين من توكيلِ محامٍ وممنوعين من الدفاع عن أنفسنا، وأنزل علينا هو ومعاونوه حفنةً من سِباب، فقط لأننا قلنا له: إن هذه اعترافات تحت التعذيب. رأيته مرة ثانية عندما وقف ذليلًا يدَّعي أن العقال العربي هويته ويطالب بحقوقه المدنية. لا أدري ما الذي كان يخطر بباله وهو يقف في هذا القفص، هل تذكَّر نهر الدماء الذي فجَّره من أعناق الشباب نساءً ورجالًا بأحكامه الجائرة الظالمة؟ وهل تذكَّر الجبروت والاستعلاء الذي كان عليه هو وزمرته؟ وهل مرَّ عليه طيفُ الأمهات الثكلى؟ وهل عبرَت من أمام ناظرَيه جموعُ أطفال قُصَّر ذاقوا عذاب السجن بأحكام هزلية أصدرَتها محكمتُه السخيفة؟ كم تمنيت لو كنت أقدر أن أرى عقله في تلك اللحظات وكيف كان يدور وهو يجلس في القفص ويواجه القاضي. أريد أن أعرف كيف يفكر هؤلاء عند مواجهة الموت في نهاية مسيرتهم الدامية، هل يردِّدون مقولة فرعون الخائبة وهو يغرق في يمِّ موسى، وهل يداخلهم ندمٌ وهم يرَون الهاربين الخائفين منهم الذين كان يستعبدونهم ويقتلونهم لأنهم مستضعفون فقط وليس لهم ذنبٌ آخر. اليوم ضحاياهم يمشون على البر بأمان، أما هو وأسياده القَتَلة فإنهم يدورون مثل جيفة نتنة لا تجد لها موئلًا تستريح فيه لا في برٍّ ولا في بحر.

ومن بابٍ على اليسار خرج علينا رجلٌ أعرج يلبس جُبةَ محامي دفاع سمعت فيما بعدُ عبارةً كان يُكرِّرها في المرافعات وهي كالآتي كما جاءت على لسانه: «إني فتَّشتُ طويلًا في قوانين الأرض والسماء فلم أجد مادة قانونية ترحم هذه الحفنة من العملاء، وأطالب بإنزال أقصى العقوبات بهم.»

للتاريخ والحقيقة، فإنه في قضيتنا طالب بملاحظة أعمار بعضنا ممن كان دون العشرين عامًا، والرأفة بهم، أما الآخرون — وطبعًا أنا منهم — فقد تبرَّع بنا مجانًا لأقسى قصاص.

لم تَدُم كلُّ المرافعة أكثر من عشر دقائق على الأكثر، ونزلنا ثانية إلى القاعة بحسب ادِّعاء الحاكم للمداولة، ثم نُوديَ علينا ثانية لننتقل إلى رحلة عذاب جديدة، ونذهب هناك بعيدين عن الحياة منسيِّين تحت الأرض تحت عنوان السجن المؤبد وراء أسوار عالية تحجب عنَّا كلَّ شيء.

في ذلك المبنى القذر بكل ما فيه، جرَت أحداث كثيرة في دقائق قليلة لا يمكن لي مغادرتها سريعًا، فكلُّ واحد منها يصلح أن يكون نافذة كبيرة تُشرف على تلك الحقبة المظلمة، ولا يحتاج أحد إلى تأمل أو فلسفة ليستبين الذي جرى. فقط عليه أن ينظر من هذه النوافذ المشرعة وسيَفْهم بسهولة ما جرى، بل وحتى ما يجري الآن فالأمر لم يتغير كثيرًا بعدُ.

وجوهٌ شاحبة يَكتظُّ بها المكان، مُتوزِّعةٌ على مقاعدَ خشبيةٍ، تحمل تنوُّعًا بشكلٍ غريب في كل الملامح والأعمار، وقَطعًا في الأفكار والانتماءات، لم يَكُن يُوحِّدها شيءٌ سوى الظُّلم الواقع عليها. عيونُها شاخصةٌ إلى اللاشيء، حائرة تنتظر مستقبلًا مجهولًا، بل ولا تدري لماذا هي هنا بالأصل؟! وهذا ما لفت انتباهي بشدة في ذاك اليوم الرمضاني القائظ، فلم أكن أتوقع أنَّ جمعًا بهذا الحجم — ممن لا دخلَ له بأيِّ شأنٍ سياسي — سوف يكون حاضرًا بهذا الكم في هذه المحكمة المختصة بمحاربة أصحاب الرأي.

نعم، كنت أعرف أن الظلم فاحش لكن المشهد كان أكثر مما يستوعبه خيالي، وسوف يكون واحدًا من معاناة الأيام القادمة، بل السنين القادمة بكلمة أدق. ورغم الأحاديث القصيرة التي أجريتُها أو سمعتُها في فناء تلك القاعة المنخفضة عن مستوى أرض المعسكر الذي كانت فيه، إلَّا أني أدركتُ أننا سوف نقف أمام قاضٍ لا يُفرِّق بين أعمى وبصير، وليس له من الأمر شيء سوى النطق بجُمَلٍ كتَبها غيرُه وتبرَّع هو للتلفظ بها سعيًا للوقوع يومًا تحت واحدة منها من حيث لا يشعر وقد حصل له ذلك بالفعل.

ومع أن رائحة الظلم كانت في كل زاوية تخنق فضاءَ القاعة الجرداء من الأثاث إلَّا من مروحتَين معلَّقتَين على علوٍّ شاهق، إلَّا أن الأنانية وعدم الإحساس كان يمكن أن يُرَى ماثلًا في كثير من حركات وإيقاعات بعض الحمقى والضعفاء ممن كان يُحسَب على المعارضة السياسية، وهو لا يفقه حرفًا واحدًا من أبجديتها. فبينما كانت الأحكام تُصدَر تباعًا وتُرسِل إلى الموت المعتقلين زرافاتٍ ووُحْدانًا، وفِرقًا أخرى إلى السجن بلا ذنبٍ مقترَفٍ. كانت هناك مجموعة من المعتقلين تقفز مهلِّلة بمجد القائد، وهي تهبط طائرة من باب المحكمة الداخلي المطل على الفناء الداخلي وهي تصرخ يحيَا العدل. أيُّ عدلٍ هذا الذي رأيتموه وأنتم ترَون إخوة معكم يُساقون للموت أو السجن؟!

هل ينتصب ميزان العدل مستويًا فقط لأنكم ظللتم أحياء، ولو غرق الكونُ كلُّه في بحر الظلام. لم يُخفِ أحدُ رفاقي استنكارَه الشديد وانزعاجه المفرط من تلك الصرخة الحمقاء وعلَّق بصوتٍ عالٍ مستهجِنًا هذا الذل المقرف. كان أمرًا مريعًا فعلًا أن تسمع هذه الصيحة من شخص صَعِد للتوِّ حافي القدمين مجرَّدًا من كل حقٍّ مدني وإنساني، بل ومن كل شيءٍ يملكه، حتى ملابسه الداخلية سلبوها منه ويرجع إليك من عَين المكان الذي اغتُصب فيه يترنَّم ويتغنَّى بعدله. إن هذا المنادي بهذا التملُّق الغبي ليس بأحمق وحسب، بل إنه وأمثاله هم مَن مكَّن العُتاة المجرمين؛ لأنهم كانوا جيوشَ الذلِّ التي يحارب الطغاةُ بها الأحرار.

أذكر أن الحاكم العسكري كان يحاول أن يُضفيَ على جلسته الصورية شكليات قانونية ليُظهرها وفقَ المقاييس؛ فسألَنا، وبالتأكيد سأل كلَّ المتهمين الذين مرُّوا عليه قبلنا وبعدنا هذا السؤال نفسه: «هل عندك محامٍ؟»

والإجابة المعتادة تكون بالنفي! فمن أين يتأتَّى لمتَّهمٍ محروم حتى من رؤية الشمس أن يُوكِّل محاميًا. لكن عندما سأل الحاكمُ أحدَنا ردَّ عليه بغير المعتاد، بل بجوابٍ ساخر: «سيدي، هو آني نعال ما عندي، من أين آتي بمحامٍ؟»

وطبعًا امتلأت بعدها أُذُنَا صاحبنا — كما آذاننا — بحفنة ألفاظ كلُّها زجرٌ وسِباب.

الثياب الرثَّة والإعياء والشحوب وآثار التعذيب البادية على كلِّ أحد لم تكن تحتاج إلى نباهةٍ كثيرة للتعرُّف عليها، بل حتى أغفل مغفَّلِي الدنيا كان له أن يعرفها من أول لمحة. ولا يحتاج لإدراك ذلك ولا حتى إلى نظرة واحدة، ليعرف أيَّ قسوة بالغة تعرَّض لها السجناء، ومع ذلك كان الحاكم العسكري يُبدي استغرابه عندما يرفض السجناء التُّهَم الموجَّهة لهم، ويزدري إنكارهم الاعترافات المدوَّنة بقولهم إنها انتُزِعت تحت التعذيب. وقد بالغ في إبداء سخريته عندما أنكر أحدُهم الإفادة الموجودة أمام الحاكم، فقال له صاحبي: «هل تعرف يا سيدي (هكذا كنا نُجبَر على مخاطبة الضباط والمسئولين الكبار) لو أنك أنت بنفسك تعرَّضت للتعذيب الذي تعرضتُ إليه، لاعترفتَ بأيِّ تهمة تُوجَّه إليك حتى لو كانت الانتماء إلى البوليساريو.»

لم أجد وصفًا لتلك المحكمة يليق بها ويُحاكيها سوى أنها تُشبه لُعبةَ الروليت الروسي ولكن بالمقلوب. أسطوانة كلها محشوة بالرصاص وواحدة فارغة فقط، ويقال جرب حظك فقد تنجو من الموت.

بدأ الحاكم يُلقي الأحكام علينا وتبدأ كالعادة — أو هكذا حصل أمامي — من أقل الأحكام، يذكر هذه العقوبات مشفوعة بموادَّ قانونية وبدلالة مواد أخرى لا أعرفها ولم أسمع بها ولم يُصغِ إليه أحد وهو يتلوها؛ لأننا كنَّا نُدرك أنها مهزلة وكوميديا قاتمة السواد لا علاقة لها بأيِّ قانون سوى شريعة الوحوش، وصدقًا أني لم أتعرف على هذه المواد إلَّا بعد سنوات طويلة حين بدأ الفرز الأمني بحسبها في ظرف خاص. وهذا لم يكن حالي منفردًا به، بل كان أغلبُ السجناء هكذا، المُضحك في هذه القوانين أن المادة التي كانت تعتبر مخففة في الزمن الذي حوكمنا فيها هي عينها التي حُكم بها آخرون بعقوبة الإعدام قبل سنتين فقط. القانون لم يكن سوى جرَّة قلمٍ ومطاط جدًّا، والأمر على الأرجح سوف يظل هكذا في هذا البلد، إن لم يُصبح للقانون سطوة على القائمين به.

عندما بدأ بتلاوة الحكم الأخف لثلاثة رفاق كانوا معنا، انتقل بعدها إلى الحكم بالمؤبد على شخصٍ آخر، ولم يتبقَّ إذن بعد المؤبد سوى الإعدام؛ فتسمَّرنا بذهول ننتظر حكم الموت، لكن المفاجأة كانت أن حصتي مع اثنين آخرين هي السجن المؤبد أيضًا، تنفسنا الصُّعداء وتبادلنا التهاني جميعًا؛ لأن المقصلة أخطأت أعناقَنا.

أحدهم كنَّا نشعر منه بغضاضة لضعفه المشين أمام المحققين الأمنيِّين، وعندما سمعَنا نتبادل التهاني حاول أن يفعل ذلك معنا أيضًا ويُجارينا، لكني نهَرته بقسوة وبانفعال مصطنع؛ لأني لم أكن في الواقع منزعجًا من الحكم بالسجن المؤبد أبدًا، بل كنت أتوقعه، وربما أتمناه كأحسن الحلول المتاحة، ولم يحدث ردةٌ سلبية عندي عندما سمعته. إنما فعلت ذلك لأني كنت أريد أن أوبِّخه على ضعفه، ومع ذلك اعتذرت له لاحقًا لهذه القسوة بعد سنوات، مع أني حتى اليوم ما زلت أرى أفعاله مزيجًا من جبن وتهور، ومع ذلك غفرتُ له وسامحتُه تمامًا لأني أدركت بمرور الأيام أنه ضعيف التكوين نفسيًّا وحشَر نفسه في موضع حرج جدًّا لا يناسبه بالمرة.

العمل الثوري ليس هواية أو لعبة يمارسها أيٌّ كان، ولا هو نزوة أو طيش مغامرين، بل هو منهج وسبيل برؤية مسبقة وبصيرة واضحة. سبب فشل كثير من الأعمال التي تبدو في الظاهر ثورية أنها لم تكن كذلك في حقيقتها، بل كانت مجردَ ردود أفعال وطيش ومغامرة. الثورة فعل إنساني وليس ردَّ فعل على ممارسة خاطئة لأحد ما، هي منهج لتحرير الإنسان من عوالق الغريزية ولا تتوقف في أيِّ زمن وتستمر أبدًا مع رحلة الإنسان في هذا الوجود؛ لذا الثوار يواصلون الثورة، أما الطائشون والمتظاهرون بها فينتهي غضبهم الهائج الذي يُشبه الثورة عندما ينالون ما يتوق إليه ظمأ غرائزهم وليس لأنهم تحرَّروا منها.

حملت كلَّ ما تبقَّى من ممتلكاتي بعد مصادرة المنقول منها وغير المنقول، ودسستُها في قميص جاءني بعد زيارة لتركيا قبل الاعتقال بعام واحد. كان قميصًا مميزًا وكنت أشعر أنه جزء مني منذ أول يوم حصلتُ عليه، كنت أسميه مراد — ليس بلا سبب — فقد كانت له نضارة الشباب بمربعاته الحمراء السوداء وباسم صانعه «مراد» المكتوب تطريزًا على ياقته الداخلية، وعلى الأكثر إنه كان اسم صاحب المصنع؛ ولذلك أطلقت عليه هذا الاسم. قميص ظل مصاحبًا لي لمدة طويلة وكان شاهدًا على وجودي في لحظة سيأتي وقتٌ للحديث عنها في حكاية مثل حكاية قميص يوسف. ويبدو أن كلَّ سجينِ رأيٍ مرشحٌ لأن يكون يوسف؛ جميلٌ في فكره، مثيرٌ في تقلُّب أحواله، وشاهدٌ أزلي على قِيَم الخير والجمال مهما حاول إخوته الأشقياء أن يطمسوها. لا غرابة إن صاروا بعدئذٍ نُقباءَ قومهم أو خالَهم آخرون أنبياء، لكنهم سوف يظلون مبرقعين بخطيئتهم أبدًا، وعندما يمرُّ ذكرُ يوسف أمامهم فسوف يبوحون بسرِّ خبيئتهم النتنة ويتشكلون ثانية وثالثة وإلى ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من المرات، حُسَّادًا قتَلَة مجرمين حائرين في طمس جنايتهم التي عافها الذئب واستنكف منها. لن يتوبوا عنها أبدًا فسوف يقضُّ مضجعَهم ذِكْرُه، وينفجر غضبهم بوجه محبِّيه فيهبون مثل مخبولٍ فَزعٍ من كابوس، ليرتلوا بسخفٍ مملٍّ كلماتِ نشيدٍ مقرف بالٍ يحكي فشلَهم وعجزهم وجُبْنهم وغريزيتهم الحيوانية: تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ.

وأنا أوظب مراد بعناية زائدة كي لا يفقدَ شيئًا من محتوياته، سرحت بنظراتي في وداعٍ لرفيق شجاع، لم أُلقِ نظرة الوداع الأخيرة عليه؛ فقد سبقني مع آخرين بيوم إلى تلك المحكمة المهزلة، وهناك اختفت آثاره للأبد من دون الثلاثة الآخرين الذين كانوا معه. تلاشَت آثاره كلها من هذه الدنيا ولم أَعُد بعدها أراه متوثبًا متحفزًا ولم يَصِر بمقدوري أن أُسمعَ أُذُنيَّ كلماتِه المنبثقة من بحر التحدي ولا أنتشي بضحكاته الساخرة من الأدعياء. وأنا أرمقُ جدران المحكمة بأسًى وجزعٍ، عاتبتُها وهي التي احتضنَت آلامَ وتأوُّهاتِ عذابٍ غُمِد نصلُه عميقًا فينا جميعًا.

عاتبتُ هذه الجُدُر وجُدُر زنازين كُثُر مررنا بها برفقته، كيف له أن ينفرط منكن وأنتن اللاتي احتضنتنَّ نغماتِ الدفء وكل الآثار التي نحتَت شعارات الثورة، وأبيات الشعر التي كان كل ما فيها يفيض حبًّا وجمالًا وثورة. حيطان دوَّنت وصايا مَن غادر الدنيا سريعًا وتاه جسده في كثبان رمل تطيح بها الرياح وتسافر بها إلى جهات الدنيا الأربعة، ولم تزَل تضمُّهم إلى حناياها تُخبِّئهم في قلبها بعيدًا عن أعين كل الناس حتى عن بواصر ذويه ومحبِّيه تخشى عليهم أن يضيعوا في المدافن مع الآخرين؛ لأن المقابر لا تليق إلَّا بالموتى فكيف لها أن تحويَهم وهم الأحياء، بل هم وحدهم الأحياء في هذا الكون الفسيح الوسيع وخلاهم موتى ما لم يلحقوا بركبهم.

أرواحهم لم تزَل سائحة في براري وصحاري الوطن تلاحق حلمها في خلاصِه من سوءة ابن العاصِ المقيمة في مضامير الفروسية والنِّزال. ولم تزَل أرواحهم ترنو إلى يوم يخلو من حشود المهرجين كقردة وهي تنزو على منصة رئاسة خلقت للحكماء بنقاء فطرتهم لا للدهاة الثَّمِل برجسهم. يوم لا ترى فيه صنمًا يطوف حوله همَجٌ رعاع يَنعِقون مع كلِّ ناعِق.

عند غبشٍ لا أعرف مطلعه، امتلأ رفيقي وآخرون بالحياة استعدادًا للرحلة الأخيرة، رحلة إلى نافذة تشرع فيها للريح أجنحة تنقل رغبةَ المتمردين عُشَّاق الحياة في رفض الموت. نافذة تنقل إلى عالم الحقيقة عشاقًا سلكنا معهم كل الدروب؛ الجد والهزل، الضحك والبكاء والمرح والشقاء. سافرَت بهم الريح بعيدًا عن الأوهام واقتربوا من ملامسة حقيقة الأشياء، لينعموا هناك بالسكون الخالد والراحة الأبدية وينثروا من علياهم على عالمنا بذورَ الحياة على الأرض، عسى أن يتلقَّفَها زُرَّاعٌ جُدُد مثابرون لتستمرَّ الحياة على هذا الكوكبِ الضاجِّ بالخطايا، لعل يومًا يأتي تتحقق فيها نبوءةُ السماء ويصدق الكل — حتى وإن كان شيطانًا مريدًا — أن السماء تعلم ما لا يعلمه أيُّ أحد وأنهم وحدهم العالمون بالأشياء، وغيرهم الجاهل والمستكبر عليه أن يسجد للإنسان الكامل دومًا أبدًا وسرمدًا.

رحلةٌ غادر فيها صحبةٌ لنا كلَّ هذه الأحلاف الخبيثة المتواطئة ضد غريزة التمرد فيهم؛ لأنهم كانوا حقيقة الإنسان التي عجز عن بلوغها الموغلون في شهوات الجسد. رفاقٌ كانوا هم الماء الذي أعطى الحياة لكل شيء وما يزال يفعل. من رمادهم يصنع الشعراء قصائد، وبدَمِهم يكتب الأدباء روايات، ومن أجسادهم يَنحِت المثَّالون نُصُبًا. ولولاهم لحارَ المصممون الأذكياء في متاهة البحث عن أسماء المباني والشوارع والساحات وقاعات المثقفين، ولولاهم لتوقَّف المؤرخون عن تدوينِ تتابُعِ الأشياء. لولاهم لكان الكون سكونًا محضًا، بل عدمًا. هم إكسير الحياة، وهم كانوا الكلمة في البدء، وهم أيضًا مِسْك الختام، هم قَطْر الغَيث العذب الذي يسقي الجَمْر في قلوب الأحرار الوَلِهين المتبعين آثار الحياة. هم ليسوا كغيرهم محض سراب يتوسل الصخر متملقًا بعبارات فجَّة: افتح يا سمسم، عسى أن يحظوا بكنوز الخرافة من سندباد الوهم والخيال، بل هم حقيقة الوجود نثروا على الصخر القاسي دَمَهم فشقوا الأنهار وانكفأت كلُّ الأوثان خاضعةً ذليلة لهم في كل آنٍ ترتعد خشيةً من ذِكْرهم.

هل سمعتم يومًا أن الطُّغاة يحاربون أحدًا غير الشهداء؟! وهل رأيتموهم يسعَون لمحوِ ذكْرِ أحدٍ غيرهم مهما كان؟ ليس بحُمقٍ هذا ولا خطلِ رأيٍ من العتاة، بل لأن الشهداء وحدهم هم حقيقة الخطر؛ لأنهم أحياء لا يمسُّهم سوى الخلود وما خلاهم أموات لن يعرفوا الحياة إن لم يلتمسوا سبيل الخالدين. وداعًا صديقي، كنتَ غفورًا واغفر لنا لو أصابَتنا سِنَةٌ أو نوم؛ فقد تَعِبنا من ممارسة الانتظار للحاق بك، وداعًا وإلى لقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤