الشق الثاني

السجن

١

ساروا بنا من جديد في العربةِ عينِها التي أقلَّتنا من المعتقل إلى ضفة أخرى، سيسفح فيها العمرُ دمَه على رصيف الانتظار. وأنا أغادر المبنى اتسعَت حدقتاي إلى حدٍّ ابتلعَت فيه كاملَ الأفق البعيد حيث تسكن المدينة التي تبني أرصفتها على جماجم الغائبين، وواريتُ الصورة في جوفي لأتزودَ بها في قابل الأيام. وما هي إلَّا دقائق معدودة حتى وصلنا إلى مبنًى لا يبدو من واجِهته الأمامية سوى طابق واحد عُلِّقت على واجهته لوحة خشبية بيضاء كُتِب عليها بخط أسود: «وزارة الشئون الاجتماعية»، وفي السطر التحتاني: «دائرة إصلاح الكبار قسم الأحكام الخاصة». استفزَّتني كلمة إصلاح رأيتها مثل لسان يندلع من وجه شيطان يسخر شامتًا بنا. أن نُقبر هنا أحياء في نُزُل موتى يسمَّى عندهم إصلاحًا!

لا ضير ولا عجب في ذلك؛ فهذه ليست المرة الأولى في التاريخ. فكل الأفعال القبيحة كانت تُخفي قُبحَها وتُضمر زيفَها وراء مظاهر خادعة، فأعتَى الطغاة كانوا يحكمون باسم الإله مدَّعين أنهم معيَّنون منه، بينما الأنبياء كانوا مطارَدين غُرباء تُلاحقهم تهمةُ الجنون يتسكَّعون مع الصعاليك والمشردين يحمِلون صُلبانهم سُلَّمًا إلى الحقيقة. إصلاح يعني أننا منحرِفون يجب أن نُعاقَب ونؤدَّب لنمشيَ على صراطِهم الأعوج ونكون عبيدًا للأقوى الأخرق. كلمة إصلاح أزعجَتني كثيرًا وتخيلتُ — وأنا أمرُّ من تحتها — صورًا لأيام سوداء قادمة وكانت فعلًا كذلك في سوادها وأقبح مما تخيلت.

تقيأتُ أحلامي الكبيرة وأنا أمرُّ من تحت اللوحة الخشبية الساخرة، ودَلَفْنا إلى ممرٍّ، كان الظلام فيه واسعًا لا تقوى على طرده زُمرةُ مصابيح صفراء شاحبة فرادَى، تتدلَّى من سقف أسود كما في كل الأماكن الأخرى التي سأزورها لسنوات تسع قادمة.

عند أول خطوات أُدخلنا إلى غرفة صغيرة، استقبلَنا رجلٌ قصير سمين يتدلَّى كَرِشُه أمامه يلبس زيًّا خاصًّا بالحرس وفتح سجلًّا ليدوِّن أسماءَنا فيه. كان له صوتٌ مميز رفيع عالٍ مزعج، وبدأ يُدوِّن الأسماء، ويسألنا عن تخصصاتنا العلمية، وعندما عرف أننا طلبةٌ جامعيون بدأ بتوبيخنا: «ماذا تريدون أن تُصبحوا وتحصلوا عليه، ألَا يكفيكم هذا المستوى؟»

ويُجيب نفسَه بأننا أصحاب نوايا خبيثة ولم نتلقَّ تربيةً صالحة وكلمات أخرى بإمكاني الآن أن أُنمِّقَها؛ لأني لا أريد أن أُعيدَ سماعَ قرفِها ثانية وأترك الخيال أن يتصور منها من يريد وهي تخرج من لسانِ جلَّادٍ فاشل لم يُكمل سوى تعليم متواضع، كما هو واضح من خطِّه وسؤاله كيف نتهجَّى أسماءَنا وهو يكتبها وظنَّ أنه قد حانت له اليوم فرصة جيدة للانتقام لذاته الفاشلة.

صوتُه العالي وصداه المزعج يتكرر في الممر الطويل ذكَّرني تلك اللحظة بأبيات السيَّاب:

ليَعْوِ سربروس في الدروب.
في بابل الحزينة المهدمة.
ويملأ الفضاء زمزمه.

كان يدوِّن أسماءَنا في سجلٍّ سريٍّ وهو يرمي علينا شتائم ترحيب خاصة وعبارات تأنيب، حتى ضقنا ذرعًا بثرثرته، فقال له أحدُنا زاجرًا: وماذا تعرف أنت عنَّا حتى تعرف ماذا نريد؟

فغَر فاهَه ولم يُصدِّق الجوابَ الجريء فكأنما لُطِم على فمه فسكت.

عندما كنت صغيرًا وعمري لا يتعدَّى سبع سنوات كان لي صديق بعمري من الجوار ألعب معه دائمًا، وكنت كما هو يذهب أحدُنا إلى بيت الآخر. وفي إحدى المرات رأيت على جدارٍ في غرفة المعيشة خاصتهم أشياء كثيرة معلَّقة مصنوعة من حبات صغيرة ملونة لمَّاعة تسمَّى «نمنم»، أعجبتني جدًّا لجمالها وألوانها البراقة واستهوَتني كثيرًا بمظهرها اللمَّاع، ولذا سألت صديقي عنها، قالت لي أمُّه — لتشفي فضولي وهي ترى لهفتي وإعجابي بها — إن لها أخًا في السجن هو الذي يصنعها ويُرسلها إليها كهدايا في كل مرة يزوره أحد.

بينما كان يسير بنا الحارس في بداية الممر رأيت على اليمين صندوقًا زجاجيًّا كبيرًا من طابقين ولربما أكثر من ذلك، فيه معروضات تُشبه تلك الأشياء الحلوة الملونة المعلَّقة في بيت صديق الطفولة. صورة الجمال انهارت من عيني وأنا أرنو ببصري إليها وكأني كنت أرى فيها ساحرة شمطاء تُخفي بشاعتها بمظهرٍ مخادع. كم هو مَقِيت إضفاء الجمال على القُبح، والأكثر مقتًا أن تصدِّق أنه بات جميلًا فعلًا؛ لأنك لا ترى سوى مظهره الخادع وتعمَى عن لُبِّه الماكر.

تابَعْنا المسير، وطلب حرسٌ جُدُد — بزيٍّ مدنيٍّ انضموا لجوقة الترحيب — منَّا الجلوس قرفصاء، فيما استقبلَت وجوهُنا حائطًا، سألتُه في سرِّي كم عدد الذين طالعتَ وجوههم، وهل حفظتَها جميعًا لتُخبر الأمهات اللاتي سيقفنَ أمامك حائراتٍ يَدُرنَ في هذا الممرِّ على غير هدًى يبحثنَ عن مغيَّبين ولا أحد ينزع قلقهن؟

ثم كان علينا أن نسيرَ مهرولين إلى بابٍ مصنوع من حديد ثقيل وفوقه قطعةٌ صغيرة مكتوب عليها: «مخزن بطانيات». فُتح الباب وكنَّا نظنُّ أننا سوف نُزوَّد ببطانيات، لكن ما إن فُتح الباب حتى دُفِعنا إلى داخل مبنًى كبيرٍ وأصابَتنا دهشةٌ كبيرة لمنظره؛ إذ كان من طابقَين؛ خمس زنزانات إلى اليمين وأخرى مثلها على اليسار في كل طابق. الواجهة الأمامية لكل زنزانة عبارة عن قُضبان حديدية من أعلى السقف إلى الأرض، بينما كانت الزنزانة مكتظَّة بعيون تَعْبى تحملها رءوسٌ حليقة فوق أجساد هزيلة.

استُقبلنا بالهراوات من أشخاص ظنناهم رجالَ أمنٍ، لكن تبيَّن فيما بعد أنهم زُمرةٌ خونةٌ لهم قصة سوف يحين وقتُها فيما بعد، راحوا يضربوننا بدون سببٍ، ثم سُحِب كلُّ واحدٍ منَّا إلى زنزانة وحُشِر فيها، لأجدَ نفسي مع أربعة وأربعين شخصا في زنزانة مربعة ضلعُها خمسة أمتار وفي إحدى الزوايا مِرْحاض صغير.

بالقرب من هذا المرحاض كان محلُّ نومي إلى جنب سجين أتمَّ للتوِّ غسلَ أكواب بلاستيكية وصحون معدنية، وراح يمسح عن الأرض آثارَ الماء بأجزاء من نعالٍ إسفَنجي خارج عن الخدمة، وعندما انتهى من التجفيف أخذ النعال باحترام وعلَّقه في سلكٍ يتدلَّى من سقيفة ثبتَت على الحائط، وبدَا لي جليًّا أن كل الأشياء لها قيمة هنا وإن كانت على وشك الانقراض.

صار مكانُ نومي الجديد تحت برميل ماء مشدود بإحكام، تطفو على سطحه ما لا يُحصى من حشرات سوداء دقيقة الحجم لا أعرف اسمها، يبدو أنها تسلَّلَت من فتحات صغيرة للتهوية، في الحقيقة هي فراغات بين قِطَع بلوك إسمنتي ولم تُغلَق عمدًا لتسمح بمرور الهواء. هذه الفتحات تُطلُّ على ساحةٍ ترابية صغيرة تفصل القسم الذي نحن فيه عن قسمٍ مجاور وصارَت مكبًّا هائلًا للنفايات؛ إذ كان السُّجناء يتخلَّصون من النفايات برميِها فيها حين يَفضل شيءٌ منهم، وحين كانت المجاري تغلق تصرف فيها، إنه لا توجد سلة مهملات ولا أحد يجمع الفضلات إن وُجدت. كذلك كان يفعل أيُّ أحد يمرُّ بالقرب من هذه الساحة من حرس السجن أو أيُّ شخص آخر، ولا يهتم أحدٌ برفع ما فيها أبدًا.

إلى جواري امتدَّ رجلٌ طيب راح يُسدي لي نصائح مهمة، أهمُّها أن أحذر من فلان وفلان. سأكذب لو قلت إني فهمت ما يقول. فكيف يمكن لمظلوم مسحوق تحت كل هذه العذابات والكراهية أن يكون ظالمًا وهو مظلوم؟! لكن عرفتُ مصطلحًا جديدًا اسمه المراقِب وهو بمثابة العين لرجال الأمن في الزنزانة، وهذا حديث آخر طويل.

أشرعَت نافذةُ بصري على الجدران الإسمنتية السوداء والأكياس الكثيرة المعلَّقة عليها التي تضمُّ الأموال المهرَّبة من الحكم القضائي بمصادرة المنقول منها وغير المنقول. أكياس كانت تحوي أسمالًا وخردة ليس لها قيمة إلَّا في هذا المكان. حكمُ مصادرة الأموال كان يُوزَّع على كل الدوائر الحكومية حتى لا يفلتَ شيءٌ من مقصلةِ إفناءِ كلِّ آثار المعارضين، وكان هذا أثرًا جيدًا صلح فيما بعد لتتبُّعِ عدد الذين سُجنوا وقُتلوا بطريقة رسمية ودليل إدانة لمحاكمة مَن ارتكب تلك الجرائم، محاكمة لم تُعقَد بعدُ رغمَ كلِّ ما يُقال عنها.

تاه بصري في هذه الصحراء الممتدة حيث يضيع الزمن فيها وأنا أتأمل رجلًا ريفيًّا طويلًا وقَف وسط الجمع ضجرًا من أشياء أجهلها وهو يردِّد عبارة ما زلت حتى اليوم أضحك من كيفية إلقائها بطريقته الكوميدية السوداء وبلهجته الشعبية: هاي شيگضيها العشرين سنة هنا!

ضحكتي الصادقة الصادرة بعيدًا من قاع قلبي، كانت بدايةً كبيرة لموجة عظيمة من التفاؤل سَرَت فيَّ وجعلَتني أُحيل الصحراء التائهة بلا زمن إلى أرض خصبة حُبْلى بالعطاء، فهي ليست كالشوارع والأرصفة التي لفظتنا وصِرنَ علينا سيوفًا بتَّارة تحزُّ الرقاب. بل هي أرض تجمع كثيرًا من الطيِّبين ومنهم طالب جامعي يدرس القانون ككثيرين مثله كانوا هناك لم يُكملوا دراستهم؛ لأن السلطة استبقَت ثمرةَ نبوغهم فأجهضَت أحلامهم. وقف يظللني مثل نخلة مريم تُساقط عليَّ نسماتِ هواءٍ من منشفة باهتة الألوان كان يُحرِّكها فوقي بلا كلَلٍ ولا ملل، وهو يرى إجهادي وصعوبةَ تنفُّسي وأنا أضطجع تعبًا من مرض السلِّ الرئوي الذي وفدت إلى الزنزانة الجديدة أحمله معي من المعتقل. لمحني أبحث عن الهواء في جوِّ الزنزانة المظلمة الرطبة فراحَ يحرِّكه كما لو أنه كان يُهدهد طفلًا حتى ابتلعَتني غفوةٌ عميقة توائم بدني الذي كان يتجه نحو نقطة حرجة بسرعة كبيرة في الأسابيع الأخيرة.

أيُّ فيض من البهاء هذا وأيُّ خضرة داكنة نبتَت على جدران الإسمنت يفوح منها عطرًا. ابتسمَت روحي لهذا الأريج واتَّقدَت منتشية به، قد عُدْتُ إذن إلى عالمي الذي أحلم به حيث تَضوَّع ريحُ الأنبياء وهي تُلامس الأموات لتُحييَها وتُبرئَ الأكمه والأبرص وترشَّ الماء على طين رخيص تسحقه الأقدامُ ليطير محلِّقًا بأمان عظام، ويذرق على الذين أخلدوا إلى الأرض منسلخين من إنسانيتهم فباتوا يلهثون في كل أحوالهم ولا يصدر عنهم إلَّا أنكر الأصوات.

وبين تحذيرات صاحبي من الخونة وبين هذين الموقفَين تشتَّتت مشاعري وتاهَ فكري وصِرْت بين حذرٍ واطمئنان في الوقت عينه. عرفتُ أن الكلام أو الإشارة إلى أيِّ شخص في زنزانة أخرى جريمةٌ يُعاقَب عليها السجين بقسوة؛ ولذلك حتى عندما لمحتُ أحدَ رفاقي في زنزانة أخرى كما لمحني هو، لم أتبادل الإشارة معه كما حاول أن يفعل، بل هربتُ من أمامه؛ لأن ذلك سيؤدي إلى عقوبة مشتركة نتقاسمها. تأملتُ الحاضرين من سكان الزنزانة جميعًا وبدَا مشهدًا غريبًا بالنسبة لي، كانوا يتفاوتون بالمستوى الثقافي والتعليمي ولا يبدو أنهم جميعًا ممَّن مارسَ عملًا سياسيًّا أو فكريًّا معارضًا. كنت قد تعرفت على قسوة التعذيب ومخرجاته لكن بصراحة لم أكن أتوقَّع أن يكون كثيرٌ من السجناء أناسًا لا علاقة لهم بما كنَّا نفعله قبل الاعتقال من مقارعة السلطة.

أيُّ ظلم هذا الذي يَزُجُّ بأبرياء — لا علاقة لهم لا من بعيد ولا من قريب — في سجون مخصصة للسياسيِّين. كانت هذه صدمةً كبيرة بالنسبة لي؛ لأني بدأتُ أكتشف وحشيةً لم أكن قد أدركتُها حتى تلك اللحظة. أصبحتُ في ارتباك كبير لأني كنت أظن السجن مكانًا لطبقة واحدة عِشْتُ معها في مراحل حياتي السابقة وتقاسمتُ معها الهموم والنشاطات والتفكير والتطلعات. غير أن الأمر ليس كذلك الآن، وعليَّ أن أُحسنَ التصرف مع هذه التضاريس المعقدة؛ التضاريس لا أعني بها التنوع الطبقي الاقتصادي، ولا التفاوت التعليمي، فقد أَلِفت هذه التناقضات؛ إذ إن المنهمكين بالعمل السياسي لهم مشاربُ متعددةٌ لكن أن تجد نفسك في سجن سياسي وحولك مجموعة تتعرَّف على العمل السياسي لأول مرة شيء آخر تمامًا.

الصعوبة ليس في هؤلاء فقط، بل أن يكون بعضُهم غيرَ مؤمنٍ بهذا العمل، والأشد صعوبة أن يكون مقتنعًا بالضد منه، بل ويزيد على ذلك حماسُه العلني ضد المعارضين السياسيِّين ويُحمِّلهم كلَّ ما حصل له. هذه التنوعات كانت واضحةً جدًّا في أول زنزانة دخلتُها في السجن، وكان الأمر بمثابة صدمة أولى لها تداعيات سوف تظهر لاحقًا، وسوف يأتي الحديث عنها في وقت مناسب، ورغم ذلك كان في الزنزانة نفسها أشخاصٌ متميزون.

قبل منتصف الليل يُطفَأ المصباح الشاحب الوحيد في الزنزانة وكان على الجميع بأمر من إدارة السجن أن يذهب إلى النوم الإجباري. كانت الزنزانة ضيقة خانقة إلى حدٍّ كبير بالعدد الذي فيها (خمسة وأربعين سجينًا)، وفي جوِّها تشيع رائحةٌ تبعث على الغثيان وعلى بلاطها الإسمنتي فُرشت بطانيات سوداء رقيقة. كان النوم مهمة عسيرة؛ إذ لا يمكن الرُّقاد إلَّا على الجنب ويستحيل النوم على الظهر في أيِّ لحظة، وكان لا بد من ترتيب نوم السجناء بطريقة التخالف، أي قدَمَا سجينٍ إلى جنب رأسِ سجين آخر. لا يوجد مجال على الإطلاق لرأسَين متجاورَين، ولو اضطرَّ أحدهم إلى النهوض لسبب ما خارج عن إرادته — مع أن النهوض وقت النوم كان ممنوعًا ويُعاقَب مرتكبُه عليه — فإنه لو أفلت من مراقبة عيون الخونة، فسوف يقع في مشكلة أكبر؛ لأنه لن يجد فراغًا يضطجع فيه حين يعود، ويصبح لزامًا عليه مدافعة الأجساد المتلاصقة كي يحشرَ نفسه ثانية بينها.

في الليلة الأولى كانت إلى جانب وجهي قدمَا شابٍّ برأسٍ حليق مع صلع خفيف وتبدو على وجهه آثارٌ واضحة من عصبيةٍ وتوتُّر دائمَين يعكسها جبينُه المتغضِّن، وكالآخرين كان يرتدي ثيابًا خَلِقة. ذهبَت في غفوةٍ عميقة من إرهاق المرض ويوم المحاكمة الطويل وعلى حين غرَّة شعرتُ برفسةِ قدمٍ بشرية تركلني على فكِّي، فتحتُ عيني لأجد الدمَ يملأ فمي. فتحتُ عيني مرهوبًا خائفًا مصدومًا متوقعًا الأسوأ قبل أن أتبيَّن أن صاحبي الممتد إلى جنبي ممن يحلم كثيرًا أثناء نومه، ويتحرك منفعلًا مع كوابيسه المزعجة، وشاركني كابوسَه هذه الليلة برفسةٍ قوية. عُدْت لأرقد على وسادتي التي صنعتُها من حذاءٍ متهرِّئ كنت أنتعله بانتظار طلوع النهار من جديد ليسمح لنا بالحركة المحدودة من جديد في الزنزانة.

٢

عند الصباح دخل رجال الأمن إلى قاعة السجن مع توزيع وجبة الطعام الأولى وبأيديهم هراوات، وقف أحدهم أمام الزنزانة بصحبة سجين مسئول عن توزيع الأكل (يسمى خدمات) فتح الزنزانة، ليطلبوا من شابٍّ نحيفٍ بجسدٍ ضئيل لا يتجاوز عمره السابعة عشر عامًا أن يخرج إلى الممر العريض واقتادوه إليه بعنف، عاد إلينا بعد ربع ساعة تقريبًا بعد أن تم تعليقه من أطرافه العليا في حالةٍ تُشابه التعذيب الذي كنَّا نتلقَّاه في مديريات الأمن لإجبارنا على تقديم الاعترافات. لا أُخفي شعوري حينها بخوفٍ شديد اقترب من الرعب؛ فقد استذكرتُ مراحل التعذيب في التحقيق والعذابات التي تحمَّلتُها يومئذٍ وكنت أظن أن السجن لا يوجد فيه تعذيب ممنهج. من الممكن أن أُعانيَ في السجن من ضيقٍ في مكان أو نقصٍ في طعام وشراب — كما كان يحصل في المعتقل بعد انتهاء التحقيق وربما قد أنال ضربةً من هذا وهراوة من ذاك — لكن تعذيب منهجي لم أخاله موجودًا. يبدو الأمر الآن كما لو كان عودة إلى مربع أول يأبى أن يكون له حدود ينتهي فيها بما يحمله من عذاب وآلام ولا يمكن لأيِّ أحد أن يغادره؛ لأنه لا يوجد مربعٌ ثانٍ.

حاولتُ أن أستفهم عن سبب هذا التعذيب الصباحي غير المبرَّر، لأُصدمَ بأنه لا يوجد سبب، ومع غياب السبب صار واضحًا أن لا شيء يمنع من نزول العقاب بأيِّ سجين، مهما حرص على أن يُبعد الأذى عن نفسه. كان خوفي مبررًا جدًّا؛ لأن السبب الحقيقي لتعذيب هذا الشاب اليافع لم يكن سوى أنه لا يروق لأحد رجال الأمن. ففي يوم ما دخل رجل أمن إلى قاطع السجن ووقف أمام الزنزانة ولسببٍ ما أشاح هذا الشاب بوجهه عنه بلا قصد، لم تُعجِب هذه الحركةُ رجلَ الأمن ولم يقبل عُذرَه بعدم التعمد، فاشتدَّت العداوة من رجل الأمن لهذا السجين وكان عليه أن يدفع ثمن هذه العداوة بين الحين والآخر، هذه الغلطة التي لم تُغتفَر، لم أعرف شرعةً أو قانونًا تعدُّها ذنبًا أو خطيئة إلَّا في ذاك اليوم.

جسدي محطَّمٌ من المرض وقواي خائرةٌ بالكامل وصِرتُ لا أقوى على الحركة العادية، وكان هذا سببًا حقيقيًّا آخر لتخوُّفي مما رأيتُه للتوِّ؛ لأني لم أَعُد بقادرٍ على تحمُّل التعذيب ثانية. فزعتُ كثيرًا من هذه القصة وكان الخوف والفزع واضحًا على وجهي لأنها مفاجأة مرعبة ونموذجٌ مخيف لما ستكون عليه قادم الأيام.

الزنزانة التي وُضعتُ فيها كانت واحدةً من أسوأ الزنزانات، لوجود مراقب فيها بأخلاق وضيعة للغاية، جبان رِعْديد لحدٍّ لا يوصف، يُقدِّم معلومات أمنية عن السجناء الآخرين إلى الأمن بطريقة طوعية من أجل لُقَيمات وشربة ماء زائدة. المراقبون على الزنزانات كان تَعْيينُهم يتمُّ من قِبَل الخدمات بموافقة الأمن، وكان تقريبًا جميع الخدمات والمراقبين في الفترة التي دخلتُ فيها إلى السجن من المتعاونين مع الأمن تقريبًا، البعض منهم — خصوصًا الخدمات — كانوا يقومون بكل الأفعال الخسيسة حتى تصلَ بهم الخِسة والنذالة إلى تعذيب السجناء بأيديهم، وباعوا أنفسهم وضمائرهم للأمن بشكل كامل، بل كانوا أشدَّ قسوة منهم في بعض الأحيان. كلُّ ذلك كان مقابلَ أجرٍ زهيد، وهو أن يناموا خارج الزنزانات المكتظة في مكان أكثر راحة بقليل مما نحن فيه، ويأكلوا من الأكل البائس نفسه الذي يُقدَّم لنا لكن بحصة أكبر. مقابل هذه المِنَح الوضيعة كان عليهم أن يُراقبوا السجناء ليلَ نهار على كل صغيرة وكبيرة، ويتولَّوا بأنفسهم تقديمَ المعلومات عن أيِّ مخالفة ولو كانت صغيرة لإنزال العقاب المُرِّ بالسجناء. الغريب في الأمر — والذي صدمني كثيرًا — أن عدد المنافقين لم يكن قليلًا؛ إذ في زنزانة يسكنها خمسة وأربعون شخصًا كان هناك متعاونانِ بصورة علنية واضحة لا شك فيها ولا لَبْس، ينضم إليهما آخران مذبذبان كانَا محلَّ خشيةِ سجناء الزنزانة، ولربما هناك شخص خامس لم تسنح له الفرصة لفعل ذلك لا يساعده وضْعُه الجسماني لأداء هذه المهمة الحقيرة. وبحساب الرياضيات كانت نسبةُ الخونة المؤكدة تُقارب الخمسة بالمائة، وهذا الحال يسري تقريبًا على كل الزنزانات الأخرى، وأقدر أن أقول: إن نسبة الخمسة بالمائة كانت فعلًا هي نسبة الخونة من المتعاونين ممن جاهروا بخيانتهم العلنية وصاروا بمواجهةِ كلِّ السجناء في عداءٍ علني له قصصٌ كثيرة لاحقة. إلَّا أن المفارقة تكمُن فيما حصل لاحقًا، فرغم تبدُّل الأحوال بعد عقودٍ من الزمان وانقلابها رأسًا على عقب، فإنَّ أيًّا من السجناء لم يَقُم بأيِّ عمل عدائي انتقامي ضدهم، كما كانوا هم يفعلون مع السجناء في تلك الزنزانات.

كنتُ متوجسًا جدًّا في أيامي الأولى في الزنزانة ومع أني خبَرتُ سكانها جيدًا، إلَّا أن الحذر كان سمةً لازمة في جميع أحاديثي، وحرصتُ أن تكون سطحية جدًّا لتبعدَ أيَّ شبهة عني. فوجئتُ بشيء كنت أملكه ولم أكن أحسب أنه سينفعني كثيرًا، بل ويمنحني حصانةً وعصمة من وشاية المخبرين؛ إذ عندما دخلت السجن كان معي قليلٌ من النقود حصلت عليها من مواجهة أهلي في المعتقل، ولم أكُ أخال أنها ستنفعني بشيء أبدًا في هذا المكان المقفل. ولذا فوجئت عندما علمت أن رجال الأمن يأتون بين الحين والآخر ويسمحون للسجناء باستخدام ما عندهم من أموال قليلة لشراء عُلَب الدخان والحليب المجفف ومعجون الأسنان وأشياء أخرى يسيرة. كانت السجائر هي المادة الأغلى والأنفس عند السجناء وإليها تشرئبُّ الرقاب وتُلوَى الأعناق، ومطمع دائم للمراقب وأتباعه ولا سبيل للوصول إليها إلَّا عبر أموالي؛ ولذا صارت استراتيجية المراقب المحافظة على علاقة طبيعية معي؛ لأن خلاف ذلك يعني حرمانًا منها. وكان حريصًا على إبعادي عن أنظار رجال الأمن وأذاهم خشيةَ أن أُنقَل إلى زنزانة أخرى فيضيع الكنز البورجوازي من بين يديه.

رغم ذلك لم تشجعني هذه الحصانة على التهور ولا على التفريط بسلوكية توخِّي الحذر الشديد والاقتصاد في العلاقات والأحاديث مع رفاق الزنزانة بشكل عام. بالطبع كنت أتجنَّب المراقب تمامًا وأتحاشى أيَّ تطور للعلاقة معه. أحد السجناء كان يتقرَّب إليَّ بتملقٍ شديد ووضَع نفسه في منصب أمين صندوق السجائر التي أشتريها، كان يتوفر على قدرة هائلة على الكذب واختلاق الأحداث والوقائع والأشخاص ولا يكاد يفتح أيَّ موضوع للحديث، مهما كان الموضوع غريبًا وبعيدًا عن عالمنا إلَّا وأظهرَ لنا أن له صلةً عميقة به، وأنه مشاركٌ بهذا الحدث بطريقة أو أخرى. في يوم ما طُرِح حديثٌ عام، وذكر أحدهم لسبب — لا أذكره الآن — دولة إريتريا التي كانت حينها ترزح تحت السيطرة الإثيوبية، فانبرى هذا الرجل وقال: هل تعرفون مَن فجَّر الثورة الإريترية ضد الاحتلال الإثيوبي؟ لم يردَّ عليه أحد لأنه موضوع لا يستأثر باهتمام أحد، وبصراحة لا أعرف مَن فجَّر هذه الثورة حتى هذه اللحظة، انتظرنا جوابه الموسوعي ليقول لنا: إن ابنَ خالته جاسم قد فعل ذلك! لا تنقطع بطولاته وبطولات عائلته إلَّا حين يدخل رجل الأمن إلى القسم، وحتى قبل أن يقف رجل الأمن قبالَ زنزانتنا كان صاحبنا هذا يتحول إلى دجاجة مسكينة فقَدت صوتها من الرعب كأنها سمعَت وطءَ نعالِ مَن يحبسها في القفص جاء ليذبحها ولا أدري كيف كان سيكون حاله لو رأى عصا الجلاد.

تقريبًا بعد عشرة أيام من دخولي السجن وعند غياب الشفق تمامًا، دخل ضابط أمن معروف بقساوته ليرتكب مجزرة بشعة. هذا الضابط الوحش يقال إنه ابن شقيقة نائب الدكتاتور ولم يكن سهلًا بالنسبة لي التأكد من دقة المعلومة، إلَّا أنه كان يحمل شبهًا غريبًا به، إضافة إلى انحداره من المدينة نفسها؛ ولذا لا أستبعد صحة المقولة. عُرف هذا الضابط ببشاعة ظُلمه وبارتكابه لجرائمِ تعذيبٍ كثيرة بحق السجناء، كنت شاهدَ عيان على بعضها. إلَّا أن أبشع جرائمه كانت في استبدال السجناء السياسيِّين ممن قضَوا محكوميتهم من صغار السن بمجرمين عتاة محكومين بالإعدام مقابل رِشًا مالية. ولم يتفطَّن أحدٌ لهذه الحيلة التي كان يقوم بها هذا الوحش؛ لأن المحكومين من أمثالنا كانوا محرومين من مواجهة الأهل ومن كل حقوقهم، وأخبارهم مقطوعة تمامًا ولا يُعرَف عنهم شيءٌ وكانوا يُعَدُّون من الأموات.

لذا أضحى من المستحيل أن يفكِّر أحد بالسؤال لمعرفة مصير ابنه؛ لأن المعتقلين والسجناء السياسيِّين خطٌّ أحمر لا يَصِل إليه أحد إلَّا وعرَّض نفسه لعقاب صارم. لهذا السبب استسهل هذا الضابطُ استبدالَ السجناء السياسيِّين بمجرمين محكومين بالإعدام لارتكابهم جرائم جنائية. كان متأكدًا من أن لا أحدَ سيجرؤ على السؤال عما يجري ومستعينًا على ما يبدو بصلة القرابة بشخصية قوية في الحكم في إرهاب الآخرين.

كان يتفق مع المجرم المحكوم بالإعدام على مغادرة البلد فور إخراجه من السجن؛ وبذلك تختفي آثار الجريمة، غير أنه في إحدى المرات استسهل أحدُ المجرمين المحكومين بالإعدام الأمرَ ولم يغادر البلد على الفور حسب الاتفاق، ولحسن الحظ بينما كان يمشي في أحد الشوارع المهمة في العاصمة، لمحَه ضابط شرطة جنائي كان قد أجرى التحقيق معه بنفسه، فاستوقفه وسأله عن كيفية خروجه من السجن وهو محكوم بالإعدام؟! أثارَت أجوبتُه الهزيلة المرتبكة ريبةَ ضابط الشرطة فألقى القبض عليه في الحال لارتيابه بأنه قد فرَّ من السجن. وعند التحقيق معه اكتشف المحققون الأمر الأدهى حين علموا بأمر استبداله بشخص آخر من السجناء السياسيِّين بالتعاون مع ضابط الأمن المسئول عن السجن الذي كنت فيه. وتبيَّن فيما بعد أن هذه ليست الجريمة الوحيدة، بل واحدة من سلسلة جرائم وقعَت لأشخاص كُثر.

أصابَنا العجبُ بعد سبع سنوات حين واجهنا العالم الخارجي لأول مرة، ونحن نسأل عن سجناء كانوا معنا؛ لأن الإجابة الصادمة كانت تأتي بأن جثثهم قد سُلِّمت لأهاليهم بعد تنفيذ حكم الإعدام بهم، وآخرون أصلًا لم تَصِل جثثُهم إليهم. فقط صُودرَت شهادة الجنسية وهويات الأحوال المدنية من عوائلهم وأُبلِغوا بإعدامهم شفهيًّا وظلوا مجهولي المصير حتى يومنا هذا. إثر هذه الفضيحة الإجرامية أُبعِد هذا المجرم من وظيفته كمشرفٍ على السجن الذي كنَّا نُحتَجز فيه، مما خفَّف علينا بعد إبعاده كثيرًا من جرائمه الوحشية التي كان يرتكبها بشكل متواصل. ومع ذلك لم يتلقَّ عقابًا كبيرًا؛ لأن أرواح السجناء السياسيِّين لم تكن ذات أهمية بالنسبة للسلطة القمعية، وربما أيضًا لقرابته من رأس السلطة. سمعنا فيما بعد أنه أُبعِد إلى السلك الجنائي كعقوبة له كما كان يفعل بالعادة مع ضباط الأمن المغضوب عليهم من السلطات الأمنية العليا.

في تلك الليلة دخل هذا الضابط إلى السجن وكانت ليلةَ عيد، طلب من الخدمات والمراقبين أن يقدِّموا أسماء السجناء الذين كانوا قد امتنعوا عن الأكل والشرب في هذا اليوم لأسباب دينية. ولم يكن طلبُه سؤالًا، بل كان يريد أشخاصًا ليعذبهم حتى وإن لم يصوموا وبعضهم كان بالفعل كذلك. إلَّا أن الخدمات والمراقبين كانوا يحملون من الجبن والخوف من العقاب ما لا يستطيعون معه أن يردُّوا على طلب هذا الضابط المتهور المجنون المهووس بالتعذيب، خصوصًا أنهم قد علموا بنيَّتِه الأكيدة بإنزال عقاب شديد بالسجناء، حين جاء مع مجموعة من رجال الأمن مجهزة بهراوات خاصة لإقامة حفل تعذيب في تلك الليلة. وبدأت المجزرة، كلُّ مَن يَرِدُ اسمُه فهو مذنب وإن أثبت بألف بينة ودليل أن لا ذنبَ له، وهو الأسلوب ذاته الذي كان يجري في التحقيق، التهمة هي الذنب.

خلال دقائق جلس في الفناء العريض عددٌ كبير من السجناء، من زنزانتا فقط اثنا عشر شخصًا. بدأت حفلة تعذيب لمدة ساعة تقريبًا، يمرُّ أربعة من رجال الأمن ويضاف إليهم أربعة آخرون من الخدمات يُنزلون أقصى ما يملكون من قوة عندهم على السجناء، بعِصيِّهم وبالهراوات والكيبلات الكهربائية ضجَّ المكان بصرخات الألم وسط صمتٍ وخوف ملأ المكانَ كلَّه. لم يتوقفوا عن الضرب حتى بعد أن أُغميَ على عدد من السجناء، انتهَت الحفلة في فصلها الأول عندما شعر الجلَّادون بالتعب والإرهاق لتبدأ فصلًا جديدًا. حيث أُفرغت زنزانة كانت مخصصةً للمصابين بمرض التدرن الرئوي، تمَّ نقلُهم إلى قسم خاص سوف أحلُّ عليه قريبًا، ليُوضَع في هذه الزنزانة كلُّ هؤلاء المتهمين بالعصيان، بزحامٍ رهيب وإن كنت لا أدري كم كان عددهم بالضبط أو تقريبًا. لم يكتفِ هذا الضابط بهذا العقاب، بل أمرَ بوضع بطانيات على القضبان الحديدية ليسدَّ عليهم كلَّ نور، وخفضت حصتهم من الطعام والماء إلى النصف، وهي حصة بالأصل لم تكن تكفي لسدِّ الرمق، وظلوا على هذا الحال عدة أسابيع. الغريب في الأمر أنه بعد أن أُخرجوا من هذه الزنزانة لم يكونوا فرحين جدًّا كما هو المتوقع، بل بدَا على بعضهم الأسف حيال ذلك. وعندما سألتُ أحدَهم عن سبب هذا الشعور الغريب، قال لي: «كان مكانًا آمنًا لا يوجد فيه مراقبٌ متعاون مع الأمن، والبطانيات تحجب الرؤية عن رجال الأمن والخدمات؛ لذلك كنَّا نتصرف بحرية كبيرة، نتكلم بما يَحْلو لنا ونفعل ما نشاء. أما نقص الضوء والأكل والشرب فهو أهون بكثير من هذا الرعب اليومي جراء ملاحقة عيون الخدمات ورجال الأمن لنا ليلَ نهارَ.»

بصراحة كان كلامُه على غرابته مقنعًا للغاية. هذا الإحساس بفقدان الأمن صار دافعًا لكثير من السجناء للمخاطرة والقيام ببعض التصرفات للحصول على فرصة كهذه.

٣

بعد هذه الليلة المرعبة تناقَص عددُنا في الزنزانة إلى ثلاثة وثلاثين سجينًا، كانت انفراجةً كبيرة في المنام للَّيلتَين تقريبًا، وبسبب هذا النقص الكبير في العدد حُشر معنا سجناءُ جُدُد ممن وصلوا حديثًا من المحكمة، وعاد العدد إلى طبيعته تدريجيًّا خلال أيام قليلة، إلى أن رُفعت العقوبة عن المعاقبين الذين طلب منهم العودة، كلٌّ إلى زنزانته التي خرج منها، وفي لحظة واحدة قفز عددُنا إلى سبعة وخمسين سجينًا وأصبحت الزنزانة مكتظة بشكلٍ مثير للاشمئزاز؛ لأنه لم يَعُد هناك من مكان للنوم ولا حتى للجلوس، وضاعَف من تقزُّزِنا حصولُ حادثٍ غريب تلقَّينا بسببه عقوبةً جماعية قاسية.

كان رجال الأمن يغيِّرون الزنزانات لسببٍ أجهله، يأتون ويطلبون منَّا أن نخرجَ كلنا ونذهب إلى زنزانة أخرى فيما يأتي سجناء آخرون إلى زنزانتنا، وهكذا كل الزنزانات الأخرى. انتقلنا إلى زنزانة جديدة تقع في ظهر قسم آخر يوجد فيه سجناءُ سياسيون يعيشون بمثل ظروفنا، يسمَّى «ق٢»، اختصارًا لاسم «القاطع المغلق الثاني»، ونحن في «ق١». عندما ننتقل إلى زنزانة جديدة نبدأ بالبحث عن ثقب صغير بين الجدران لنحشر فيه مسمارًا أو ما يُشبهه لنعلِّق به «عليجة» تحوي كلَّ أملاكنا من ثياب أو أشياء أخرى.

لم يكن من السهل إيجادُ الثقوب لحشر الشناق الحديدي المستخدم عادة لتعليق أكياس صغيرة نضع فيها أغراضنا، وكان لا بد من الاستعانة بشيء ما للطَّرْق والحفر قليلًا بين قطعتَي البلوك حتى يحصل على موقع ثابت نوعًا ما. كان أحد السجناء يملك حذاءً قديمًا، لا يصلح للانتعال أبدًا، إلَّا أنه يحتفظ بكعبٍ صَلْد ينفع كمطرقة. بعد أن انتهينا من استعماله؛ ولأن عددَنا كان كثيرًا جدًّا وامتلأَت كلُّ أنحاء الزنزانة بالبشر والأغراض، اخترع صاحبُه طريقةً مبتكرة للاحتفاظ به؛ إذ ربطَه بحبلٍ صنعَه من أسمال بالية وأخرجه من فتحة التهوية الوحيدة في الزنزانة ليتدلَّى في الخارج، وليتمكَّن من سحبه ثانية عند الحاجة.

في المساء جاء رجل أمن مع أحد الخونة المتعاونين من «ق٢» ليُلقيَ علينا تهمة الاتصال مع السجناء في «ق ٢»، وادَّعى أنه رأى يدًا تمتدُّ من فتحة التهوية في زنزانتنا تُلوِّح إلى شخص ما في قسمه، صار علينا وفقَ هذا الاتهام تحديدُ اسم الشخص المتهم بالتخابُر من زنزانتنا وعليه أن يُعرِّف باسم الشخص الآخر في الزنزانة المقابلة. أُصبنا بالذهول من هذا الموقف الغريب وكيف سنخرج منه، ولم تُفِد كلُّ محاولاتنا بإقناع رجل الأمن بأن أحدنا أخرج الحذاء من فتحة الشباك ليس إلَّا ورفض هذا التبرير ولم يلتفت إليه.

مراقبنا كان جبانًا رِعْديدًا ووضِيعًا إلى حدٍّ بعيد ولا يجرؤ على ردِّ الاتهام، بل بذلَ كلَّ جهدِه ليرميَ التهمة على أحدنا ويتخلَّص من هذه الورطة ويتملَّق بذلك إلى رجال الأمن والخدمات، بالمقابل كان لا يأمن إزاحته من منصبه ومعاقبته لو فشل في تقديم اسم متهم بهذا الذنب المخترع. ولمَّا لم يعترف أحدٌ بالتهمة عاقبنا على الفور رجلُ الأمن بإخراج عشرة منَّا بشكل عشوائي وأوسعوهم ضربًا، وهدَّد بأنه سوف يعود مع كل وجبة طعام ويختار عشرة أخرى وعلينا أن نقدِّم المذنب وإلَّا فإنه سيعاقبنا جميعًا، وصِرْنا في حَيْص وبَيْص ولا نعرف سبيلًا للخروج من هذا المأزق.

الخونة بيننا يبحثون عن قُربانٍ ونحن بالمقابل على يقين من بطلان ادعاء المخبر؛ لأنه أصلًا لا يمكن لأحد أن يرى أحدًا من ذاك البعد بين القسمين ومن خلال هذه الثقوب الصغيرة. إضافة لذلك كنَّا نُزَلاء جُدُد على هذه الزنزانة في يومنا الأول ولا يمكن أبدًا أن نعرف مَن يسكن قبالنا أو مِن خلفنا.

استمرَّ الحال على ما هو عليه في الصباح وأخرج عشرةً آخرين ليتلقَّوا عقابًا جماعيًّا، وأصبحنا مع كل وجبة طعام يأتي إلينا رجل الأمن ونقدِّم له عشرة قرابين ليُعاقبَهم، وزاد الأمر على ذلك؛ إذ إن المسئول الأمني أصدر أمرًا بمنعنا من الوقوف في الزنزانة مطلقًا، حتى عندما كنَّا نريد الذهاب إلى الخلاء أو التحرك في داخل الزنزانة علينا أن نقفز إما مثل الأرانب أو نزحف كالسلاحف. كان وضعًا قاسيًا تكبَّدنا فيه محنة إضافية لكل ما نحن فيه من ظروف شاقة وأليمة.

مرَّت ثلاثةُ أيام بلياليها ونحن على هذا الحال إلى أن اقتنع رجل الأمن بأن المخبِر متوهِّم فيما يقوله، بعد أن تصدَّى لإقناعه شابٌّ شجاعٌ ذَلِقُ اللسان استخدم خزينَه من الكلمات المنمقة التي بالغَت في مدح رجل الأمن ووصفه بأوصاف لم يكن يَحلُم أن يسمعها لترتفع نسبةُ الزهو والغرور عنده إلى مديات عُليا سهَّلت إصدار عفوه علينا امتنانًا لكلمات صاحبنا الذي تلاعب به بشجاعة؛ لأنه لو لم يُقنِع رجلَ الأمن بما قدَّمه من حجج لوضَع نفسه في فوَّهة المدفع ولتجرَّع عقوبة قاسية.

في هذه الأثناء واصلَت صحتي الانحدار السريع وهزلت إلى درجة قياسية؛ الحُمَّى لا تفارقني وكنت أتعرَّق بشدة خصوصًا في الليل، وتنفُّسي بات شاقًّا وأقضي ليلي ونهاري مستلقيًا. وفي أحد الأيام عند الصباح وأنا أغسل وجهي سعَلتُ في إناء كنَّا نغسل فيه وجوهنا وأيدينا جميعًا، وإذا بدمٍ أحمر قانٍ يخرج مع السعال ليدقَّ جرس الإنذار في الزنزانة؛ إذ كان هذا بمثابة إعلان رسمي على إصابتي بمرض السُّل الرئوي.

فزع المراقب وبعض أنصاره خشيةَ العدوى وبدءوا يفكرون الآن بطريقة للتخلص مني ونقلي خارج الزنزانة. بالمقابل كان هناك آخرون يبالغون في تقديم الرعاية والعناية لي ويُضيقون على أنفسهم كثيرًا في المأكل والمشرب والمنام لأجل توفير الراحة لي التي لا تتوفر لأحد. تدهورَت صحتي جدًّا وأصبحتُ على مشارف الموت الفعلي بحيث لم يُخفِ بعض السجناء قلقَهم من ذلك، بل إيمانهم الكامل بأنه لم يتبقَّ لي إلَّا القليل جدًّا في هذه الدنيا، وما زلت أذكر أحدهم الذي كان يكبرني بسنوات قليلة وهو يجلس إلى رأسي يحدِّثني عن الدنيا الفانية ويقول لي: إن الموت حق، ويواسيني بكلمات صبرٍ وتشجيع.

لا أعرف لماذا لم أشعر بأيِّ شيء في تلك الوضعية المزرية التي وصل إليها جسدي. لا أقدر أن أقول إني كنت صبورًا على الأوجاع والألم وانحطاط قواي البدنية؛ لأني بصراحة كنت لا أشعر بأيِّ شيء. الأمر بالنسبة لي كان يبدو عاديًّا جدًّا، وحتى عندما كنت أسمع كلمات المواساة والصبر لم أكن أُلقي لها بالًا على الإطلاق أو أُعيرها أيَّ اهتمام، بل كنت أرى أنه لا يستحق كلَّ هذا العناء والتفكير منهم، وأراهم مهووسين بأمر ليس بذي بالٍ. ولأبرهن على ذلك أني لم أتوقَّف عن التدخين حتى في هذه الظروف البائسة، إلَّا في مرحلة متقدمة عندما وصل بي العجزُ درجةً تضاءَلت فيها قدرتي على سحب الأنفاس للبقاء على الحياة ولم يَعُد هناك من مجالٍ بعدُ للتمتع بلذة الدخان.

طبعًا قد يظن البعض أننا كنَّا ندخِّن بشراهة من الضجر والملل الذي يملؤنا، وحتى نحن كنَّا نحسب أنفسنا من المدخنين المدمنين ولم أَصْحُ من هذه الفرضية الخاطئة إلَّا بعد سنوات، حين قابلَنا طبيبٌ في مستوصف المستشفى وسأل سجينًا كان يشاطرني الزنزانة هل تدخن؟

– «نعم.»

«أجابه رفيقي». وكانت «نعم» كبيرة استرعَت انتباهَ الطبيب، فسأله ثانية: «كم سيجارة تدخن في اليوم؟»

فقال له صاحبي: «ثلاث سجائر باليوم، تمرُّ كلُّ سيجارة على عشرين مدخِّنًا تقريبًا في الزنزانة ليأخذ كلُّ واحد منهم نفَسًا واحدًا فقط.»

ضحك الطبيب مبتسمًا ساخرًا. وانتبهتُ إلى العالم الغريب الذي نعيشه، وإلى كمِّ المعتقدات التي نؤمن بها بشدة وهي وهمٌ ظاهر.

أن نركِّب حقائقَ عالم على عالم آخر لا يمتُّ له بصلة ونُسقط تداعياتِه عليه بلا وعي فواصل الزمان والمكان والظروف الموضوعية، سوف يدفعنا إلى متاهة لا نهاية لها ويضعنا وسطَ لغزٍ بلا حلٍّ.

كنَّا أحيانًا ندخِّن بطريقة فكاهية بحق، وأكثر هزلية مما ذكرت؛ إذ عندما تنقطع السجائر عنَّا نروح نبحث عن بدائلَ لها. جربتُ واحدة من تلك البدائل مرة، وبعدها استسخفتُ الفكرة كثيرًا لأمتنعَ بعدها نهائيًّا عن التدخين في السجن ولسنوات طويلة. كنَّا نجمع بقايا الشاي الذي يُقدَّم لنا في الصباح ونُجففه تمامًا، وكان لدينا صنبورُ ماء عاطل تم نزعُه من أحد الحمامات؛ لأنه بالأصل لا يوجد ماء في الحمام، ولسنا بحاجة لهذا الصنبور العاطل ولا لغيره وإن كان صالحًا. كنَّا نضع فضلات الشاي في هذا الصنبور ونحرقه ونسحب دخانه من الجهة الأخرى للصنبور وكأننا كنَّا ندخِّن غليونًا. كان طعم الدخان لا يمتُّ لدخان السجائر بشيء بل كان مرًّا لاذعًا، ومع ذلك كنَّا نشعر معه براحة أكثر من تدخين السجائر؛ لأن مخلفات الشاي كثيرة، وكنَّا نحظى بأكثر من نَفَسٍ واحد عند محاولة التدخين بهذا الغليون ولا يوجد تزاحم عليه بين السجناء كما كان يحصل في تدخين السجائر.

٤

كان الجوع شديدًا، يُقدَّم لنا في الصباح حساء عدس وشاي وقطعة خبز صباحية (نسمِّيها صمون باللهجة العراقية). كلُّ صحن كان مخصَّصًا لأن يأكل منه خمسةُ أشخاص أو أكثر؛ وهو بالكاد يكفي لإشباع شخص واحد. وفي الغداء يُقدَّم لنا رز بمقدار قدح صغير، ومع ذلك لم يكن يَصِلنا هذا النزرُ الضئيل والمقدارُ البخس كلَّ يوم، بل تقريبًا مرتان أو ثلاث مرات في الأسبوع الواحد في أحسن الأحوال. عدا ذلك، كانت الوجبة الرئيسية في العشاء أو الغداء، عبارة عن حساء من شيء لا أعرف كُنْهه بالتحديد، يبدو حين يَصِلنا في قِدرٍ كبير (يسمَّى قزان بمصطلح السجناء) كأنه ماءٌ ساخن تطفو عليه بضعة رءوس بصل وتسبح معه أشياء دقيقة سوداء، لا يُدرَى هل هي ديدان أم أشياء تُؤكَل. منظر القِدر بما فيه يبعث على التقزز، ومع ذلك كنا نأكله بنَهمٍ شديدٍ؛ لأننا كنَّا طاويين لحد المسغبة.

في مناسبات قليلة كان يَصِلنا لحمٌ أو دجاج مرة في الشهر أو أكثر من ذلك، وفي مرات نادرة جدًّا حظينا بسمك، وكل ذلك لم يكفِ لسدِّ الجوع أبدًا.

الأواني التي نستلم بها الطعام مضحكة، مثلما هي الطريقة التي يُسلَّم بها. كان القزان الكبير يصل إلى باب الزنزانة يدفعه واحدٌ من عناصر الخدمات على صناديق بلاستيكية تسهيلًا للحركة، ويبدأ بإعطاءِ كلِّ زنزانة نصيبها. يُقدِّم المراقب صحنًا كبيرًا من تحت القضبان لتسلم الرز، وبالطبع هذا الصحن الكبير ليس كما تشي به الكلمة؛ لأنه لم يكن في الحقيقة سوى غطاءٍ لبرميل الماء البلاستيكي.

يبدأ المراقب بعدها بتوزيع الحصص التموينية بواسطة قنينة زيت بلاستيكية (تُشبه قناني الماء والكولا حجمَ لترين) شُقَّت إلى نصفَين لتُصبح أداةَ غَرْف، ويُقدَّم الطعام لكل مجموعة سجناء في صحون معدنية مسطحة. وهكذا الأقداح التي نشرب بها، لها أشكال غريبة عجائبية منوعة مثل أدوات الأكل، ومن الممكن أن تكون عدلَت طريقة استعمالها من أيِّ شيء، كأن يكون علبة معدنية أو قعر قنينة زيت، وعلى كل حال لم يكن هناك الكثير من الماء لنشربه.

الماء يَصِل إلينا عبرَ خرطوم طويل، الذي يمرُّ نصف ساعة على كل زنزانة لتتزود به بملء برميل بلاستيكي يُشَد بإحكام إلى الحائط الذي تتواجد فيه فتحات التهوية. ولأن الساحة الخلفية كانت مكبًّا ضخمًا للنفايات فكانت تتوافد إلى هذا البرميل حشراتٌ لا عدَّ لها ولا حصر وتموت فيه، ولم يكن هذا سببًا رادعًا للامتناع عن شرب الماء. كل ما كان يجري هو إزاحتها قليلًا قبل الشرب وينتهي الموضوع وكأن شيئًا لم يكن مع أنه كان يحصل في كل لحظة.

كان الماء شحيحًا إلى درجة لا تُصدَّق، وصل في بعض المرات إلى أن يكون حصةُ كلِّ سجين نصفَ لتر تقريبًا، وفي أحسن المرات ثلاثة أرباع اللتر في اليوم والليلة الواحدة، يستعملها السجين لكل الأغراض من شربٍ واستحمام وللشطف بعد قضاء حاجته ولغسل ملابسه وأواني طعامه. ولولا أن المكان كان مظلمًا لا تزوره الشمس بالمطلق لما أمكن لأيِّ أحدٍ العيش في هذا العطش المتواصل.

يحصل أحيانًا أن يَصِل إلينا الخبز أكثر من المعتاد؛ لذلك لجأ السجناء إلى جمعِ كلِّ الفُتات المتبقي منه وتجفيفه في أكياس (جنفاص) بيضاء تُشبه الخيش إلَّا أنها مصنوعة من خيوط نايلون صناعية، تُعلَّق في أعلى الزنزانة قريبة إلى السقف، توفر لأيام المجاعة، وما أكثرها.

تمرُّ علينا أيامٌ صعبة من نقص شديد في الطعام؛ إذ يصبح ضئيلًا في مقداره متأخرًا في وصوله. عندئذٍ، كنَّا ننقع الخبز اليابس بالماء لتُصيبَه طراوةٌ تُيسِّر على الأضراس طحنه، وبعضهم كان يستلذ بأكله يابسًا كلٌّ بحسب ما يروم ويشتهي، وبالأحرى كلٌّ بحسب درجة الجوع التي انتهى إليها. كنت وأنا آكله أحسُّ بطعم الغبار في حلقي، ولكنه لم يحجزني عن جرشه ولا صدَّني عنَّه أبدًا؛ لأن الجوعَ صاحبُ قلبٍ كبير يتَّسع لكل أنواع الطعام، لا يحجز أحدًا منه؛ لا جيدًا ولا رديئًا، ويشكر بعدها بامتنان مهارةَ صانعِيه ولو كانوا أسوأ الطباخين. لا أقدر أن أُصوِّرَ الجوع الذي كنَّا نتلوَّى منه، هل تكفي كلمة مخمصة؟ لا أدري.

بعض السجناء — خصوصًا من حديثِي السن المراهقين وبعضهم لم يتجاوز الثلاثة عشر ربيعًا — كانوا — زائدًا عن ألمِ فراقِ آبائهم وأمهاتهم بعد أن اختُطفوا من أحضان أهليهم — يأنون من لهيبِ جوعٍ يستعر ولا يجدون ما يخمدونه به، وحين يجتمع بردٌ صردٌ وجوعٌ جارفٌ كان حتى الكبار يتأوَّهون من فعلهما القبيح. في إحدى الليالي شُوهدَ أحد السجناء وهو يجلس منزويًا تحت جنح الظلام يبكي، وراحَت الظنون أن به أمرًا جللًا كان يتكتم عليه وها قد طفح الكيل به، فلم يَعُد قادرًا على مواراته أو لربما دهمَه شوقٌ وحنين ما تملَّك من زجره كما كنَّا نفعل جميعًا؛ إذ كنا جميعًا نمارس لعبةَ فقْدِ الذكريات ونُفرغ أذهاننا من الماضي ونُوصد الأبواب عليها حتى لا يصيبَنا الجنون، لكن حين الاستفهام منه عن سبب هذا البكاء المباغت بلا مقدمات جاء الجواب المريع: «البرد والجوع يقتُلني». (هكذا قال)، وعاد منخرطًا في بكائه المرير.

إلَّا أن معاناة الصغار كانت أشدَّ من ذلك، وصل الجوع ببعضهم إلى أن يصنع فطيرة لم يوصِ بها أمهرَ الطباخين. كانوا يأخذون قِطَعًا من رغيف متيبِّس ويمسحونه بمعجون الأسنان كما لو أنه يدهن الخبز بزبدة أو قشدة، ويتلذَّذ أحدُهم فرحًا منتشيًا وهو يقضمها مع مجموعة من رفاقه في حفلةِ أكلٍ جماعية والبسمة تعلو محيَّاهم، كأنهم يحتفلون بعيد ميلاد صديق لهم. لم يكن يسيرًا تجربة هذا النوع من الشطائر؛ لذلك لا أعرف طعمها، لكن أعرف مَن تذوَّقها، بل ازدردها وأسكَت عويلَ أمعائه الخاوية بها ولم يندم على ذلك.

مما يزيد الوجع والألم قسوةً هو الانتظار، وما يضاعفه أكثر حين يكون الهدف المنشود والأمر المبتغى بمرأى العين تتحسَّسه الجوارح وتهفو إليه الجوانح لشدة قربِه، لكنه ينأَى بعيدًا في غَور عميق ولا يحول عنه ويحجز الإمساك به ويمنع الوصول إليه إلَّا وهمٌ خادع. هذا ما كان يحصل في مرات كثيرة ونحن نتلوَّى جوعًا ننتظر وجبةً مقرفة من حساء لا طعم له، ونُجبر ذائقتنا على التلذذ به برضًا وقناعة مع أن الأولى بنا مجُّه وقيئه، لكن لا حيلة لذلك؛ لأن خيار الموت جوعًا هو البديل لو امتنعنا عن قبوله.

كنت آكل ليس حُبًّا في الأكل ولا رغبةً في البقاء على قيد الحياة لأجل البقاء، إنما كنت أفعل ذلك لأُواصل المقاومة وأتحدَّى بمواصلة الحياة عدوِّي الذي يريد أن يُرغمَني على الظن أن لا مكانَ لي في هذه الدنيا بهذه الأفكار وبهذا النفس المتمرد، ويجب عليَّ إما الخضوع له أو مغادرتها إلى عالم آخر.

نافذة خيالاتي كانت تسرح بي بعيدًا خارج الزنزانة، إلى كتُبٍ أدمنتُ مطالعتَها، وقِيَم ومبادئ التزمتُ بها، أُشربت بها وتجري في عروقي، منها نبتَ لحمي وعظمي وكلُّ كياني. أسرح مثل خيول برية، أمرح في سهوب روايات أبحرتُ فيها من قبل، وقصائد عشقتُها، أعلو هضاب كتابات جادة وألتقط من عشبها. الذاكرة كانت حية ولم تزَل فيها بعدُ طرية كلمات ناظم حكمت وهو يقول في بعض أبيات قصيدة إلى مرشحي السجون كنت متيمًا بها قبل اعتقالي:

احرص على تناوُل حصَّتك من الخبز حتى اللقمة الأخيرة.

واحذر من نسيان الضحك ملء الفم.

الشاعر التركي يُبرر ذلك بأنهم يريدون قتلك، فلا تمنحهم الفرصة لفعل ذلك. منطق سليم تلقَّفته وعملتُ به بإخلاص شديد، كنت أواصل الحياة لأنكد عليهم مسعاهم وأُحبط مشروعهم ولأقول لهم: إننا باقون في هذه الدنيا وسوف يبقى صوتُنا يطوف في الدنيا وصورنا سوف تظلل الأرض أعلى من السحاب، أما أنتم فسوف ترحلون ولن يبقى صوتٌ لكم ولا صدًى، وسوف تختفي عينكم هي والأثر.

كان أمرًا يبعث على السأم والملل أن تجلس ساعاتٍ طوالًا ترنو بعينَيك إلى طعامٍ ملقًى أمامك، وأمعاؤك أودَى بها الخواء إلى العجز حتى عن التلوِّي ألمًا. وتجدُ يدَك مغلولة لا تجرؤ على كسر رغيف خبز أو خطف رشفة من حساء حسنَتُه الوحيدة التي تُشجِّع على الأكل أنه ساخنٌ، وتراه يبرد ويفقد كلَّ ما فيه، وسببُ ذلك كلِّه أن التلفاز يُذيع خطابًا للقائد الهمام، أو يعرض برنامجًا يزور فيه قطعةً عسكرية أو يقلِّد أوسمة لضباط. يستغرق عرضُ البرنامج أحيانًا أكثرَ من أربع ساعات ونحن مسمَّرون إلى أماكننا. لا يُسمح لنا بالحديث ولا بالحركة ولا الأكل والشرب ولا حتى الذهاب إلى المرحاض لقضاء الحاجة، ولو اضطر إلى ذلك. نظل ملتصقين إلى أماكننا، نجلس كأننا تماثيل شمع. ومَن يرتكب أيًّا من هذه المحظورات، يعرِّض نفسه إلى عقاب كبير؛ لأن التجاوز على ذات القائد يعني الموت بحسب القانون، فكيف تفعل ذلك وأنت أصلًا متَّهمٌ بالخيانة ومعاداة الوطن والحزب القائد والثورة.

٥

استطاع شابٌّ شجاعٌ أن يُدبِّر لي بعضَ المضادات الحيوية، ساعدَت على كبْحِ تدهور صحتي ولو قليلًا. وقام بفعلٍ جريءٍ آخر؛ فحين يُوضَع أمام الزنزانة كيسٌ كبير فيه خبزٌ لتُؤخَذ الحصة بحسب عدد السجناء، كان يستغفل عناصر الخدمات ووكلاء الأمن ويأخذ أكثر من الحصة المقررة بضعَ قطعٍ إضافية ويدَّخرها لي ليمنحَني فرصةً أكبر لمقاومة المرض الذي يواصل تقدُّمَه ويُحرِز انتصاراتٍ واضحةً في جسدي. هذا الشابُّ كان طالبًا في الكلية العسكرية حين اعتقاله؛ لذا كان شجاعًا وجريئًا وفَعَل أشياءَ كثيرةً لإبقائي حيًّا وإعانتي على تجاوُز الأزمة، وسوف أبقى أحتفظ له بهذا الجميل رغم تواضعِه وخجلِه عندما أذكره بها شاكرًا. مرة وبعد سنوات طويلة التقيتُه في ظروف مثالية وشكرتُ له موقفه الخالد، رأيتُ على سحناتِ وجهِه حياءً كأنه خَفْرُ العذارى مما دفعه للطلب مني متوسلًا ألَّا أُعيدَ ذكْرَ ذلك. لم أَعُد أذكرُ ذلك أمامه، لكن هل بوسعي ألَّا أذكرَ ذلك في كل مرة تخطر على بالي تلك الأيام؟ كلَّا، ليس بإمكاني تجاوُز صُنعِه لي؛ لأني أعرف أيَّ مخاطرة كان يخاطر بها لأجلِ دافعٍ إنساني في قلبِه الطيب، وأيَّ تضحية كان مستعدًّا أن يُقدِّمَها لإنقاذ حياة إنسان مثله. مثل هذا الشاب كان يُلقَى في غياهب السجون؛ لأنه يحمل قلبًا طاهرًا وأخلاقًا رفيعة ويتصدَّى بنُبلِه وعلوِّ أخلاقه لنظامٍ يحملُ كلَّ الرذائل والمفاسد.

مع كلِّ هذه الجهود التي بذلَها صديقي، إلَّا أن ذلك لم يحلَّ من تراجع صحتي، مما أشعل مخاوفَ جديةً من انتقال العدوى إلى الآخرين. الخوف كان واضحًا على وجوه بعض السجناء ممن لا علاقة لهم لا بالسياسة ولا المعارضة ولا الثقافة ولا أيِّ شيء يمنحهم لقبَ سجين سياسي من خصال التضحية. دبَّ الرعبُ بين هؤلاء وانضمُّوا لجوقة المراقب الذي بذل جهودًا كبيرًا عند الخدمات لإقناع الأمن بضرورة إخراجي من الزنزانة ونَقْلي إلى زنزانة مخصصة للحجر الصحي يُودَع فيها كلُّ المصابين بمرض التدرُّن الرئوي، وقد نجحَت مساعيهم لاحقًا.

قُبيلَ نَقْلي إلى زنزانة الحجر الصحي ورغم شدة مرضي، إلَّا أني لم أتوقَّف عن روح التمرد والاحتجاج. في كلِّ زنزانة هناك شخصٌ يسمَّى مسئولَ الماء، له من الأهمية والمقام الكثير؛ لأنه يُمسِك بالماء عصبَ الحياة، وبالعادة في زنزانة مثل التي كنت فيها حيث يوجد مراقبٌ يُعَدُّ واحدًا من أكثر المتعاونين مع الأمن خسةً وجبنًا ونذالة، فلا بد أن يكون مسئولُ الماء متناغمًا معه. وكان كذلك وإن لم يَشِ بأحدٍ إلى الأمن يومًا، إلَّا أنه كان انتهازيًّا رخيصًا. ولأن الماء شحيح، فمن المفترض أن نحظَى بحصصٍ متساوية، إلَّا أنه كان يسرق لنفسه ويرشو المراقب بحصة زائدة. واجهتُ سرقتَه وأحرجتُه باعتراض علني. كان يحاول سرقة الماء حين يطلب عناصرُ الخدمات سحْبَ خرطومِ الماء من زنزانتا إلى زنزانة أخرى بعد انتهاء الوقت المخصص لنا، يقوم هو في هذا الوقت بوضع الخرطوم في إناء خاص مستغلًّا الوقت القليل الذي يستغرقه سحبُ الخرطوم، وبدلًا من أن يضع الماء في البرميل المخصص له يقوم بإخفائه لصالحه. لم تكن الكميةُ أكثرَ من قدحَين إلى ثلاثة أقداح، لكن كانت بالنسبة لي مهمة جدًّا، والأهم أنه فاسد يستغلُّ منصبَه للتلاعب بثروة عامة لصالحه الخاص؛ لذا كنت أراه أمرًا لا يحتمل السكوت عليه.

الغريب أني اكتشفتُ خواءَه وجُبنَه بحركة معارضة صغيرة، كان رِعْديدًا تهزُّه كلمة، ويفزعه موقفُ تصدٍّ واحد. مثلُه مثلُ كلِّ المتظاهرين بالجبروت من الطغاة يفزعون من كلمة حقٍّ يُلقيها امرؤ أعزل. إن ما يجعلهم كبارًا مرهوبين هو وهمُ الخوف الذي يملأ نفوس الناس وليس أيَّ شيء آخر؛ ولذلك سعى هو الآخر للتخلص من وجودي في الزنزانة. تواجدي في محلٍّ واحدٍ معه أرَّقَه كثيرًا إلى حدِّ أنه بعد عدة سنوات حين جمعَتنا الصُّدَف مرة أخرى في زنزانة جديدة، وجدتُه أيضًا مسئول الماء، وبمجرد دخولي إليها، أول شيء فعله أن جاء إليَّ مباشرة، هامسًا، طالبًا مني بودٍّ واستعطاف ألَّا أُثيرَ عليه المشاكلَ من جديد وأُزيحَه من منصبه، وحاول إرضائي بمبالغة زائدة في الاحترام.

ازدادَت قناعتي من هذا الموقف بأن المتجبرين ما هم إلَّا جبناء ألبسَهم خوفُ الناس لباسَ القوة والجبروت. وصِرتُ أتمسَّك أكثر بمنهجي بألَّا أهابَ أحدًا منهم ولا أتردد في مواجهتهم، ويزداد عجبي من الخشية التي تعتمر قلوبَ كثيرين من وهمِ القوة التي يصنعها الطغاةُ والمستكبرون لأنفسهم، ويخضعون لكذبتها ويظنونها حقيقةً راسخة لا يمكن الفكاك من سطوتها.

قد يقال إن الحديث عن هذين الكوبَين من الماء به مبالغة كبيرة، وإني جعلتُ من الحَبَّة قُبة، وصيرتُ أمرًا هينًا معضلةً عويصة، وأعطيتُها عناوينَ ضخمة من استغلال منصب وتلاعُب بالثروة العامة إلى آخره من الشعارات الكبيرة. أستطيع أن أؤكد أن الأمر يستحق وكان فِعْلي بالتصدِّي مبررًا جدًّا. أما حديثي عن العناوين الضخمة فمردُّه أن مَن يُظهر فُحْشَه في الجرائم الكبرى فهو ليس بحادثٍ جديد، بل هو تاريخ طويل من حوادث صغيرة تراكمَت، غفلَت أو تغافلَت عنها عيونُ الناس، ولما تعاظمَ عددُها كبرَ خطرُها وانفجرَت. كان من السهل جدًّا وَأْدُها أو إصلاحها من قبل وهي لم تزَل صغيرة. لا معلول بلا علة، وتراكمُ الكمِّ يُحدث تغييرًا في الكيف، وإن المبادئ لا تتجزَّأ والقِيَم لا تتغير، ومَن كان هنا فسوف يكون هناك؛ إنْ صالحًا أو طالحًا، شَيْنًا أو زَينًا. أما هذان القدحان فقد تُشتَرى بهما حياةُ إنسان في ذاك المكان المنسي؛ لأن الماء كان معدنًا نفيسًا أغلى من الياقوت والزمرد، وكان كلُّ سجين يحرص أن يتصرَّف به بعناية شديدة واقتصاد مبالغ به.

في ليلةٍ من الليالي نهضَ شابٌّ من رقدته، وقد مرَّ به طائفٌ ذكَّره بفحولته، وبُعَيد مغادرته اكتشف أن ما خرج منه من مَنيٍّ قد أدخله في ورطة وأصاب ملابسه وبطانية ينام عليها؛ ولأن الماء شحيحٌ جدًّا فلا يمكن له أن يغسل كاملَ ثيابه أو سائر البطانية مما اتسخت به، فكان عليه أن يُحدِّد أيَّ موضع أُصيب بالقذارة ويحاول أن ينظِّفَه، لذا خاطر بالنهوض من مكانه ليلًا وجاء بقطعة صابون، ورسم على المواضع التي يريد غسْلَها دوائرَ صغيرةً حتى لا يهدرَ الماء ويُبذِّره؛ لأن الحصة محدودة شحيحة. النهوض في الليل أمرٌ محظور وجريمة كبرى، وصادف لسوءِ حظِّه أن لمحَه أحدُ عناصر الخدمات وهو يخطُّ بالصابون حدودَ ما يريد غسْلَه فوشَى به إلى الأمن.

مساء اليوم التالي دخل ضابطُ الأمن وزبانيتُه وأخرجوه من الزنزانة، ليعذِّبوه تعذيبًا أسطوريًّا لانتهاكه قواعدَ السجن في النوم ولرسمِه هذه الدوائر الصغيرة، متَّهِمًا إيَّاه بممارسة السحر والشعوذة، وأنه دجَّال إلى آخره من التُّهَم السخيفة التي لا أصل لها ولا أساس. جرَى تعذيبُه لأجل أقداح ماء أراد أن يوفرها، ونتيجة هذا التعذيب كانت أن فقد هذا الشابُّ عقلَه. بعد تسع سنين حينما رأيتُه آخرَ مرة، وجدتُه كما هو ما يزال يعاني من آثار ذلك التعذيب الذي أفقده عقلَه، ولم يطرأ عليه تغييرٌ ولا تحسَّنت حالته. إذن، ثورتي على مسئول الماء كانت تستحق الاندلاع. القصص كثيرة ولكني أوردت لها قصةً واحدة، كمَن يكتفي بنعيب غراب واحد من كل خربة.

كلَّ يوم يحمل قصةَ ألمٍ جديدة، ترى شخصًا يتعرَّض للضرب والأذى لسبب لا تُصدِّق أنه يُعَد ذنبًا حتى في أخسِّ الشرائع. في إحدى الأماسي دخل أحد رجال الأمن إلى القسم ورأى سجناء يُشبكون أكفَّهم من بين القضبان متكئين على حديدها، اعتُبر ذلك سوء أدب لا يُغتفر. ولُقِّنوا درسًا في عدم تكرار هذه المعصية الكبيرة بالضرب المبرح بالهراوات على أكفِّهم حتى تورَّمَت وانتفخَت محمرَّة من جراء السياط التي تلقَّوها. كنت أنظر من آخر الزنزانة إلى منظرهم وهم يُعاقَبون ولا أكاد أصدِّق أني سوف أنجو من الضرب مهما حاولتُ أن أكون بعيدًا متواريًا عن الأنظار. إنه أمر لا بد أن يحصل، لأنه — وبكل بساطة — لا يوجد منطق لتجنُّبِه.

في يوم آخر — وكان يوم عيد الأضحى — جاء رجالُ الأمن صباحًا وأخرجوا سجينًا وانهالوا عليه بالضرب، كان يركض نصفَ عارٍ في الممر أمام مرأَى كلِّ مَن كان في الزنزانات، تنهال عليه الهراوات من كل صوبٍ وحدَب، لا يعرف أين يختبئ ولا إلى مَن يلجأ، صار جسدُه الأسمرُ أحمرَ قانيًا، واختلطت دماؤه باحمرار جلده من أثر الصفعات والركلات والهراوات التي انهالَت عليه. لم نكن نعرف — ولا حتى هو يعرف — ما ارتكب من ذنبٍ ليتلقَّى كلَّ هذا العذاب صبيحةَ يوم العيد. وبعد نصف ساعة تقريبًا من جولات التعذيب المتواصل وأمام إلحاح منه بسؤاله للجلادين: «ماذا فعلت؟»

جاءَه الجواب: «إنك حاقد.»

كان شجاعًا وظريفًا أيضًا ولم تختفِ روحُ الطُّرفة لديه حتى بعد كل هذا العذاب، فقال للضابط: «سيدي، أنا كنت خائفًا من أن أكون قد ارتكبتُ فعلًا محظورًا، لكن الحمد لله القضية سهلة؛ لأن كلَّ السجناء حاقدون.»

رغم دمويةِ المشهد وشفقتِنا عليه مما لقيَ من الأذى، إلَّا أنه أضحكنا جميعًا وأخرس الجلاد إلى حدِّ أنه توقَّف عن ضربه وانسحب مستشعرًا الموقف السخيف الذي وُضِع فيه.

لأسبابٍ لا يجدرُ بي أن أسمِّيَها أسبابًا؛ لأنها لم تكن سوى ذرائعَ واهيةٍ للانتقام منَّا، وقعَت مشاهدُ كثيرةٌ من التعذيب وبعضها كان فيه من حجم الوحشية وكمية السادية التي تحتويها بحيث لا يمكن لأحد أن يصدِّق أن بشرًا قادرٌ على فعلها. بعضها أفضى إلى موت الضحايا، إما مباشرة بعد الضرب أو بسببِ عطلٍ أصاب أحدَ الأعضاء الحيوية وتُوفي إثرَ ذلك لاحقًا.

أحدُهم كُبِّل ومُدد على منضدة ما عدا رأسه، كان يخرج عنها، وعُلِّقت قِنِّينتَا غازٍ موصولتان بسلسلة حديدية إلى طرفَي عنقه كأنه مصلوبٌ على لوح خشب وانهالوا عليه بالضرب. لم يكن يقوى على الحركة فيما الضربات تنزل عليه تسحق عظامه وتُفتِّت جلدَه الطري لينزف من كل موضع، وعنقُه كاد يُكسَر من ثقل ما تدلَّى منه، حُمِل شبْهَ مغشيٍّ عليه إلى زنزانته وكانت هذه آخر مرة يُرى فيها سليمًا ليناله مرضٌ شديد، وتضاءَل حجمه حتى صار شبحًا ثم اختفى من السجن والدنيا إلى الأبد.

آخرون كانوا يُعاقَبون بأن يُطلَب منهم ارتقاء قضبان الزنزانة إلى الأعلى ثم تُقيَّد أيديهم وأرجلهم إلى القضبان، ويبقَون معلَّقين وقوفًا أيامًا على ذلك الحال. أما ما كان يُعرف بالفلقة فكان أمرًا شائعًا كثيرَ الاستعمال. وفي مرات كثيرة كانوا يبالغون في إذلال السجناء فيطلب منهم التقلب على ظهورهم ورءوسهم في الممر بين الزنزانات، ومن يتردد أو يمتنع أو حتى يتوقف من التعب يُلهبوه بالسياط.

كان الموت يدور بين الزنزانات، يبحث عمن يستعجل الرحيل. وفي زنزانة مجاورة لزنزانتنا بلغ المرض أشده بسجين، وبعد تفسيرات وشرح مطوَّل لرجال الأمن أن الزنزانة لا تكفي أن ينام فيها أحدٌ على ظهره وأن هذا السجين أضحى من الضعف بحال أنه لم يَعُد قادرًا أن يُقلب جسدَه ولا بد من نومه مضطجعًا طيلةَ الوقت على ظهره، حينذاك سمح الأمن بإخراجه من الزنزانة وأن يُسجَّى إلى جانب قضبانها في الممر كي يُقدِّم له رفاقُه في الزنزانة العنايةَ اللازمة من أكل وشرب، إلَّا أنه لم يُرهِق رفاقَه. ففي صباح اليوم التالي غادرَنا ليُسحَب ببطانيةٍ كان ينام عليها ويتلاشَى نجمٌ آخر من سمائنا. وعقب ذلك عُدْنا إلى حياتنا اليومية بروتينها ننتظر حدثًا جديدًا مفجعًا آخر.

لم يتوقف أيُّ شيء، كل الأمور سارت كما هي؛ لأن الموت كان زائرًا مقيمًا لا يُثير فينا استغرابًا إذا ما خُطف أحدنا إلى عالمه الفسيح. الأحداث المفجعة والمحزنة كانت لا شيء بنظر رجال الأمن. وأذكر فيما كان صاحبنا تلفُّه بطانية ويخرج من البابِ عينِه الذي دخل منه، حصلت بعضُ الهمهمة أثناء توزيع وجبة الطعام الصباحية، فقال بصوتٍ عالٍ أحدُ أفراد الخدمات مؤنِّبًا السجناء: «شبيكم اليوم؟ سامعين شي؟ صاير شي؟»

همس أحدُهم في أُذُني: «لا ما صاير شي، بس واحد مات.»

٦

أخيرًا وبعد مناشدات كثيرة من مراقب الزنزانة للخلاص منِّي خشيةَ العدوى من مرض السُّل الذي أنهكني ونصائح لي من مخلصين بأنه من الأفضل أن أذهب إلى زنزانة أخرى خاصة حصريًّا بمرضى التدرن لإمكانية حصولي على علاج، جاء أفراد من الأمن في إحدى الليالي وأخرجوني وآخرَين من زنزانات أخرى لينقلونا إلى زنزانة الحَجْر الصحي. وضعوا على رءوسنا منشفة ليمنع أيَّ أحدٍ من التعرُّف علينا ونحن نسير في ممرٍّ طويل فارغ نحو زنزانة الحجر الصحي.

كان الممرُّ ذاتُه الذي دخلنا منه أولَ يوم عند وصولنا السجن، على جنبَيه توجد أقسامٌ لسجناءَ آخرين ذوي قضايا لها علاقة بالسياسة أو الأمن الخارجي إلَّا أنهم غير متَّهمين بقضايا الانضمام إلى تنظيم معارض. كانوا يحظَون بفرصةِ مواجهة أهاليهم في كل شهر مرة واحدة، ولديهم حريةٌ أوسعُ بكثير منَّا؛ بإمكانهم التمشِّي في الممرات وفي ساحة كبيرة بحجم ملعب كرة قدم، يتعرَّضون للشمس يوميًّا ويطبخون أكلَهم بأنفسهم، وكلُّ واحد منهم له سريرٌ خاصٌّ أو مكانٌ خاص، أحيانا تكون الأسِرَّة متعددةَ الطوابق إلَّا أنه مع ذلك يبقى لكل واحد منهم مكانُه الخاص، وربما في فترات اكتظاظ السجن لا يجد بعضُهم مكانًا ينام فيه، لكن ليس بالطريقة التي كنَّا نُعاني منها، فهم في حالٍ بالنسبة لنا كان يُعَد فردوسًا ونعيمًا. لا يتوهمنَّ أحدٌ أنهم كانوا مرفَّهين فعلًا، إنما مَن ضُرب بالموت يرضى بالعمى.

كان التواصل معهم مستحيلًا إلَّا أنهم كانوا يعرفون بوجودنا الإجمالي، وكانت تُحاكُ حول أوضاعنا قصصٌ مرعبة تزيد من خشيتهم من الالتحاق بنا؛ لذا لم يجرؤ أحد منهم على ذِكْرنا ولو همسًا. ومع كلِّ هذا فإن رجال الأمن عندما يريدون أن يدخلوا إلى أقسامنا يُغلقون كلَّ الزنزانات التي يعيش فيها هؤلاء السجناء الذين كنَّا نُسمِّيهم سجناءَ الأقسام المفتوحة قبالَ تسميتِنا؛ حيث كنَّا نُسمَّى بسجناء السجون المغلقة والتعبير المختصر الشائع المفتوحة والمغلقة.

إذا أراد رجالُ الأمن إدخالَ شيء إلى أقسامنا يُغلَق السجنُ كلُّه وتُمنَع الحركة في الممر بالتمام بعد إخلائه بالكامل من أيِّ فرد حتى لو كان من حرس السجن؛ إذ لم يكن يُسمَح لأحدٍ بدخول أقسامنا إلَّا أربعةُ أشخاص من الأمن مصرَّح لهم بصفة شخصية يُستبدَلون في فترات متباعدة. وفي أيام مواجهة سجناء الأقسام المفتوحة كان تُمنَع علينا الحركة ويُحظَر علينا الوقوف ونُجبَر إما على النوم أو الجلوس، ونُؤمَر أثناء ذلك بلزم الصمت المطلق لمدة تتراوح بين أربع إلى ست ساعات حتى لا تظهرَ أيُّ علامةٍ تدلُّ على وجودنا للزوار القادمين من خارج السجن. بعضُ الأمهات المنكوبات بفقد أبنائهن كُنَّ يأتينَ يبحثنَ عنهم ويسألنَ سجناءَ الأقسام المفتوحة لعل أحدَهم يعرف مصيرهم، لكن لا يحظينَ بجواب؛ لأن الخوف من عقاب الأمن كان رهيبًا كما هو العقاب نفسه.

عرفتُ فيما بعد أن والدتي فعلَت ذلك أيضًا وحاولَت معرفةَ مصيري؛ ولأننا كنَّا مثلَ شجرة آدم، أيُّ شخص يلمسها يحظى بالشقاء الأبدي. كان سجناء المفتوحة يتهربون من الإجابة في أكثر الأحيان، إلَّا أن صديقًا لي قال لوالدتي: إني أقبع خلف هذه الأبواب بطريقة الغمز والإشارة. وفهمَت هي تلك الإشارة ورجعَت مستبشرةً ببقائي حيًّا وانتظرَت سنوات بعدها لتراني لأول مرة.

لكن والدة أخرى بلغَت من الجرأة والتحدي الكثير حين قال لها سرًّا أحدُ السجناء: ابنُكِ يخفى وراء هذا الباب. وانسلَّ بعيدًا عنها. وقفَت أمام الباب تصيح باسم ابنها، وكان صوتُها عاليًا يَصِل لكل السجناء، وابنُها فيهم عاجزٌ عن الإجابة. وعندما سمع رجالُ الأمن بصراخها حاولوا إفهامها أنها متوهِّمة ولا يوجد أحدٌ خلف الباب، أبَت تصديقهم وعرفت مكرهم وخداعهم وأصرَّت على طَرْق الباب المصفَّح والنداء على ابنها السجين السياسي المخفي، وعندما أجبرها الأمن بالقوة على مغادرة السجن صاحَت مناديةً ابنَها: «عفية ابني السبع، حكومة دبابات وطيارات وجيش وشرطة كلها خايفة منك وضامتك علي، عفية ابني السبع.»

في هذا الممر الذي شَهِد حكاياتٍ كثيرةً من قَتْل سُجناء من التعذيب الوحشي أو سحب جثث آخرين بعد أن قضَوا مرضًا وجوعًا، سِرتُ تلك الليلة وأنا مغطَّى الرأس بمنشفة، أمشي وئيدًا وصاحبيَّ. نهرَنا أحدُ رجال الأمن يستعجلُنا المشيَ إلَّا أننا كنَّا نبذل قُصارى ما عندنا للبقاء واقفين وألَّا نهويَ إلى الأرض، وكان المشي بالنسبة لنا مهمةً عسيرة للغاية، فقال له صاحبه ردًّا عليه: «اتركهم، كلُّها أسبوعان ثلاثة ونخلص منهم للأبد.»

كان جليًّا أننا في الرمق الأخير، ولم يبقَ لنا من رحلة هذه الدنيا إلَّا صبابة كأس بلغ حدَّ الثمالة. وصلْنا إلى آخر الممر حيث فُتحت منه بابٌ جانبية على غرفة واسعة خاوية من كل شيء، ومنها فُتحت بابٌ أخرى قادَتْنا إلى ممرٍّ صغيرٍ مظلم على جنبه الأيسر ثلاث زنزانات تكاد تكون مربعة بطول ضلع يقارب الأربعة أمتار. وعلى الجهة اليمنى خمس زنزانات صغيرة؛ ثلاث منها بعرض متر ونصف تقريبًا وأكثر من مترين بقليل طولًا تُسمَّى بالمحاجر، وزنزانة أخرى كأنها مخبأٌ على شكل حرف «L» بالإنجليزية لا يوجد فيها أيُّ فتحة للتهوية أو الضوء، وزنزانة أخرى بأبعاد مترين في ثلاثة أمتار. صار نصيبي أن أُودَع في واحدة من تلك الزنزانات الكبيرة بسبب وضعي الصحي المتدهور.

كان المكان مشبعًا برائحة مرض ثقيلة ونتانة ورطوبة، ومظلمًا أكثر من الأقسام الأخرى التي عشتُ فيها، إلا أن أبواب الزنزانات مفتوحة دائمًا وهذا تطورٌ كبير غير مألوف؛ إذ يمكن هنا أن يتحرك المرء بين الزنزانات ويتزاور مع الآخرين. والأكثر أهمية أن الوشاة والخونة لا وصاية لهم في هذا المكان. كان المكان يُعدُّ آمنًا منهم ومن مكرهم، وهذا الجو يسمح بتداول الأحاديث السرية بحرية أكبر من الأقسام الأخرى.

كان لكل زنزانة اسمٌ خاص حصلتُ عليه من السجناء على سبيل المزاح والطُّرفة التي لم تعدم عندهم أبدًا في أيِّ لحظة حتى في أشد الظروف قساوة.

زنزانتي الأولى التي سكنتُ فيها في المحجر تُسمَّى «عباد الرحمن»، وليس لهذه التسمية من سببٍ ديني كما يبدو للوهلة الأولى، إنما سكان هذه الزنزانة كانوا مرضى جدًّا ويمشون بتؤدة بالغة بسبب وضعهم الصحي الحرج، وبعضهم قد فارق الحياة لشدة مرضه. اقتبس أحدُ الظرفاء من آية قرآنية تقول: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وصفًا لطريقة سيرهم. وتلقَّف الآخرون الفكرة المضحكة وأصبحت تسميةً شائعة تُطلَق على هذه الزنزانة.

الزنزانة الوسطى تسمَّى «بوليفيا»، ليس لأن فيها أحراشًا ولا لأن سَكَنتها من أمريكا اللاتينية، بل لأنها كانت تشهد تغييرًا في موقع المراقب بصورة سريعة، بحيث كانت تنام على اسم مراقب وتصحو على آخر بحركة مفاجئة غير مفهومة، في وقتها كانت بوليفيا تشهد موجةَ انقلابات كثيرة فأطلق على هذه الزنزانة هذا الاسم لتشابُه الأحوال بينهما.

الزنزانة الثالثة تسمَّى «لبنان»، السجن في الصيف حارٌّ جدًّا لانعدامه من فتحات التهوية وخلوِّه من أيِّ وسيلة للتبريد، إلَّا هذه الزنزانة بالذات تقع قربَ ممرٍّ به مبردة هواء كبيرة مما أتاح لها التمتع بنسيم بارد يتسلل إليها من تلك المبردة، فيما الزنزانات الأخرى محرومة منه. السجناء اعتبروها منتجعًا باردًا ذا جوٍّ معتدل يصلح أن يكون مصيفًا كما كان يفعل مَن يريد السياحة بزيارة ربوع لبنان ومصائفها في موسم العطلة الصيفية.

الزنزانات الصغيرة كانت محاجرَ انفرادية ليس لها تميُّز؛ لذا لم تحظَ بأسماء خاصة، إلَّا الزنزانة المخبأ، الخالية من الضوء وفتحة التهوية، سُميت «الكهف» لأنها تختلف في كل شيء حتى إنها بلا قضبان، مقدِّمتُها بابٌ حديدي يُشبه بابَ مخزن أو هو كذلك بالفعل.

المكانُ كلُّه يُسمَّى «المحجر» اشتقاقًا من كلمة زنزانة الحجر الصحي، وكان متميزًا جدًّا في السجن، ليس لأن سكانه مرضى بالسلِّ وحسب، بل لأنه كان آمنًا من مراقبة رجال الأمن؛ لأنهم يخشَون العدوى ويتجنبون الدخول إليه أو التقرب من نزلائه السجناء. وهذه نقطةُ ضعفٍ حرص السجناء على تعزيزها عند كل رجلِ أمنٍ يُشرِف على القسم ويحاول الدخول إليه. في الحقيقة كان المكان مقرفًا برائحته لكننا تشبَّعنا بها ولم نَعُد نميزها. أذكر مرة حاول رجلُ أمنٍ أن يُبديَ أمام رفاقه شجاعةً وجسارة محاولًا اقتحامَ المكان، لكنه ما إن دخل مترين أو ثلاثة، حتى خرج راكضًا، وما إن وصل الباب تقيَّأ كلَّ ما في معدته مستفرغًا ما فيها. لم يصبر على عفونة المكان ولو لثوانٍ قليلة. الحادث كان مبعثَ سرور لنا؛ إذ إننا نِلْنا به مزيدًا من الحصانة والأمان، خصوصًا أن الحادثة جرَت على مرأًى ومسمعٍ من رفاقه الذين رأينا بعضهم بالكاد يُمسك نفسَه عن التقيُّؤ، وهم يقفلون باب القسم بسرعة ويُهرولون هاربين من جحيمه.

هذا الأمان النسبي جعَل سجناءَ عديدين يخاطرون بالوصول إليه مدَّعين الإصابة بمرض التدرن، تخلُّصًا من وشاية الخونة ومراقبة رجال الأمن ومن التعذيب شبهِ اليومي النمطي الذي كان مستمرًّا في الأقسام الأخرى. وبالفعل نجح أكثرُ من واحد منهم بالوصول إلى المحجر بهذه الحيلة.

وجودُ ممرٍّ مفتوح على مدار الساعة سمح للبعض أن ينام فيه مما خفَّف شدة الزحام في الزنزانات، كما أن الأبواب المفتوحة تعني حريةً لا بأس بها من الحركة مما سمح للبعض بالمشي نهارًا في هذا الممر القصير. أما عدد السجناء فيه فكان يعتبر جيدًا قياسًا إلى أعداد السجناء في الأقسام الأخرى، على الرغم من أن عددَنا بلغ مائةً وثمانية وستين شخصًا، في حقيقة الأمر كان مكانًا مكتظًّا جدًّا خصوصًا مع وجود كثيرٍ من المرضى فيه إلَّا أنه — ورغم كلِّ ذلك — يُعدُّ مكانًا أفضل من الأقسام الأخرى.

٧

مرضُ التدرُّن مستوطنٌ بشكلٍ مزمن ولم يُصِب الرئة فقط كما في حالتي، إنما الإصابات توزَّعت على أجزاء أخرى من أجساد السُّجناء، ولا أعرف ماذا تُسمَّى حالتهم من الناحية الطبية، إنما بحسب الشائع وقتَها أن جميع هذه الحالات تندرج تحت اسم اﻟ TB وهو مختصر للفظ الإنجليزي Tuberculosis. رأيت البعضَ يشكو من إصابةٍ في الرقبة وآخر في العظام وإصابات أخرى كثيرة مخيفة ومرعبة في مظهرها الخارجي. البعض كان طريحَ فراشه لفترة طويلة لا يقوى على مغادرته، وبعضٌ آخر لقيَ حتْفَه جراء تدهور صحته وقلة الدواء.

الدواء قليل جدًّا ولا يمكن أن يكون علاجًا حقيقيًّا لمثل هذا المرض؛ إذ لا يعدو عن كبسولات من مضادٍّ حيوي وحبَّة فيتامين وقرصٍ كأنه قطعة طباشير كنت أتجرَّعه مُكرَهًا. كمية الدواء لم تكن تكفي كلَّ المرضى، وكان من اللازم أن يُقسَّم على المرضى بطريقة عادلة وليس بالتساوي، وكما في كل الزنزانات والأقسام الأخرى، كان لدينا مراقبون وخدمات؛ لأنه عملٌ تنظيمي لتسيير الأمور وليس إجراءً أمنيًّا بالأصل، وفي حالتنا هنا في زنزانة الحجر الصحي كان المراقبون والخدمات لا يقدِّمون معلوماتٍ للأمن كما في الأقسام الأخرى، بل كانوا بالعكس تمامًا يعملون لصالح إخوانهم السجناء ونظم أمورهم بما ييسِّر عليهم مصاعب السجن الجمة.

وضع شبابُ الخدمات نظامًا عادلًا حكيمًا لتوزيع الأدوية بمنح المريض الأشد ضررًا دواءً منتظمًا حتى يتجاوز مرحلة الخطر، وعند تحسُّن صحتِه تُقلَّص الحصة تدريجًا حتى يتجاوز مرحلة المرض ويُصبح وضْعُه مماثلًا لحالة السجناء الآخرين فتُقطع عنه حينذاك. عندها يُكتفى بمنحه إياها في فترات متفاوتة بحسب تطوراتِ وضعِه الصحي. هذا النظام لم يكن صالحًا أو مقبولًا من الناحية العلمية، لكن كان بيننا طبيب — وهو سجين مثلنا — ومريض هو الآخر بالمرض نفسه، هو مَن اقترح هذه الطريقة لتنظيم توزيع العلاج وللحفاظ على حياة أكبر عدد ممكن من السجناء المصابين بمرض السل.

هذا الطبيب نفسه كان يُوصينا بشدة على تناول الحصة الغذائية كاملة؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي يسري معها مفعولُ الدواء في البدن بحسب قوله. هذه الوصية جاءت لأن فُقدان الشهية كان العرضَ الرئيسي لدى كلِّ المصابين، وبما أني واحد منهم فلم أكن أستسيغ تناوُلَ الطعام وأجد نفسي مكرَهًا على تناوله، مع أن الطعام كان أفضلَ نسبيًّا من الأقسام الأخرى حتى إنه كانت تَصِلنا فواكهُ بين الحين والآخر. وكان السجناء رغم شدة المرض الذي يضربهم وقسوة الظرف الذي يعيشونه، إلَّا أنهم متعاونون فيما بينهم، ويعطون الحصة الأكبر من هذه الفواكه لشديدي المرض؛ لأنه بإمكانهم تقبُّلها دون باقي الطعام الذي كان تناوُلُه أمرًا شاقًّا. ومن العسير بمكان صدُّ رغبة الامتناع عن الطعام لدى مريض التدرن، لكن كان لا بد من المحاولة، ويجب مقاومة هذا العرض المميت وهكذا بذلتُ كلَّ جهدي على ما في الأمر من صعوبة بالغة.

استنهضتُ كلَّ طاقتي في الممانعة، وبدأ يظهر تحسنٌ طفيف في صحتي وتلك علامة مشجعة على فعلِ العقار في بدني وعلى سلامة طريقة العلاج المقترحة من الطبيب. ولحسن الحظ كان بيننا رجلٌ نذَر نفسَه لمعاونة المرضى يُتابع أحوالَنا ويبذل جهودًا عظيمة ويقدم خدمات لا يمكن إلَّا لمتدرب في معهدِ تمريضٍ عالٍ فعلها، مع أنه في حقيقة الأمر كان عسكريًّا من أصول ريفية ولم يتلقَّ تعليمًا كافيًا. كان يواصل حنوَّه عليَّ ومساعدتي كما مع الآخرين على تجاوُز الأزمة ويحثُّني كثيرًا على الأكل قائلًا لي: «حتى لو أكلت الأكل وتقيَّأته فعليك أن تواصل الأكل؛ لأن لا بديل عنه وهو العلاج الأمثل والوحيد.»

هذا الرجل وأمثاله وشباب الخدمات كانوا يقدِّمون جهدًا عظيمًا ويعملون بإخلاص كبير لمساعدة السجناء المرضى والآخرين المحتاجين للرعاية والعناية. أعمالٌ لا ينبغي إلَّا أن تُذكَر باحترام عظيم. كانوا يُعينون بعضَ المرضى حتى على إخراج الفضلات من أبدانهم؛ لأن عضلاتِهم أُصيبَت بالضمور الشديد ولم يعودوا قادرين على أداءِ أيٍّ من هذه الأفعال. أما تنظيف المرضى وغسل أرديتهم وفُرُشهم وتخليصها وإياهم مما كان يخرج منهم من بولٍ وغائطٍ فكان عملًا يوميًّا روتينيًّا، يُصاب بالدهشة كلُّ مَن يراه لروح العطاء العظيمة التي يمتلكها هؤلاء الشباب، وقدرتهم الهائلة على التضحية والإيثار بلا أيِّ مردود يأملونه أو فرض يدفعهم لذلك سوى مثل إنسانية تتوهَّج في قلوبهم البيضاء.

كان يصل إلينا في بعض المرات — لعلها مرة واحدة أو مرتان بالشهر — لحمٌ أحمر مستورد على ما يبدو من دول بعيدة مثل أستراليا أو نيوزيلندا؛ لذا كان يُقدَّم لنا صُلْبًا متخشِّبًا كأنه جثةٌ في كفن، ولا يُليِّنه سوى ماءٍ ساخن يأتي معه في قِدرٍ كبير. بعض السجناء ولأسباب دينية امتنع عن أكله، لكني لم أفعل ذلك؛ لأني كنت بحاجة إلى أيِّ شيء يُعيد لي قوتي، ومع استعادة الشهية تناولتُ كثيرًا منه إلى الحد الذي تجاوزت به مرحلة الخطر تمامًا، بما يمكن اعتباره تعافيًا بمقاييس زنزانة الحجر الصحي التي هي معايير لا علاقة لها بتشخيص الأطباء ولا موازينهم في العالم الخارجي. لم أتوقَّف عن أكل هذا اللحم حتى بعد ذلك بكل صراحة، لأني لم أكن مقتنعًا بالامتناع عنه لأيِّ سبب، والمرض كان حجةً جيدة لإيقاف أيِّ نقاش حوله أو جدل يمكن أن يقترحَه أحدُهم. ولحسنُ الحظِّ لم يحصل ذلك النقاش في زنزانة الحجر الصحي؛ لأنه كان أمرًا في غاية الحمق أن تقول لمريض أوشك على الموت: هيَّا امتنع عن الأكل لنستعجل موتك. في أقسام أخرى جرَت مثل هذه النقاشات وانتهَت عند الكل بعدئذٍ إلى نتيجة واحدة وهي ضرورة أكله بتوجيه من متخصصين في أمور الدين وعلومه، ولا من داعٍ للوقوف عند أسباب وهمية تَحولُ دون تناوله.

تغلَّب المنطق والعقل كما ينبغي له ذلك في تسيير أمور الحياة؛ لأن الحياة خُلقت بالعقل وبه وحده تسير، وخلا ذلك ما هو إلَّا قصصُ تسلية وخرافات وأوهام لا تليق بعاقل أن يعتنقَها، فهي تليق بالجهلة وأنصاف المجانين وتجدر بهم وحدهم دون غيرهم.

٨

التعارُف بين السجناء أخَذ في المحجر مدًى واسعًا لغياب المراقبة الأمنية؛ ولذلك نزعتُ حذري من الاختلاط مع الآخرين بعد أن استعدتُ بعضًا من عافيتي، وبدأت أتعرف إلى السجناء الموجودين في القسم وأُقيم علاقاتٍ مع بعضهم. وأكثر ما أثار استغرابي حين دخولي السجن، أن نسبةً كبيرة جدًّا من السجناء ليس لها شغلٌ بالمعارضة السياسية، كانت ضحيةَ اعتقالات عشوائية وتصفية انتقامية لمناطق جغرافية معينة أو بسبب عداوات وخلافات شخصية أو أسباب أخرى لا علاقة لها بالتنظيمات السياسية. هناك بعضٌ من السجناء مما يمكن لي أن أسمِّيَهم أطفالًا لصغر سنِّهم عند اعتقالهم لم يتجاوزوا حتى الثالثة عشرة من أعمارهم. بينما آخرون كانوا كبارًا في السن، وبعضٌ قليل منهم طاعنٌ فيه إنما لا شغل لهم بالسياسة لا من قريب ولا بعيد، وهم أبعد ما يكونون عن أيِّ نشاط سياسي أو ثقافي معارض أو حتى موالٍ، فهم منخرطون بحياة تقليدية لا شغلَ لهم بغيرها. راعَني سماعُ قصصهم المضحكة المبكية التي لا يُفهم منها إلَّا شيء واحد هو وحشية النظام وانعدام القانون بالمطلق.

أحدهم كان سائقَ شاحنة بالكاد يفكُّ الخط وسِيق إلى الحرب العبثية المندلعة آنذاك، وجاء تقريرٌ أمني يُخبر عن نشاطٍ مشبوهٍ لجندي يعمل مع حزب معارض يحمل نفسَ اسم سائق الشاحنة هذا. ما إن وصل التقريرُ الأمني إلى الفرع الأمني في الوحدة العسكرية حتى سارعوا إلى اعتقال سائق الشاحنة وأذاقوه العذاب باعتباره خائنًا عميلًا، والرجل غير مصدِّق لما يحدث فهو لا يفقه حرفًا واحدًا مما يقولون، بينما هم يطالبونه بكشف أسماء التنظيم السري الذي لم يسمع به أصلًا. بعد أشهرٍ من الاعتقال انتبه المحققون الأمنيون إلى الخطأ واعتقلوا الشخص الحقيقي المقصود وتمَّت محاكمته، ومن ثَم نُفِّذ حكم الإعدام به. وبطبيعة الحال استبشر صاحبنا سائق الشاحنة خيرًا، وصار يرجو الإفراج عنه في القريب العاجل بعد هذا الاكتشاف المتأخر لتشابُهِ الأسماء، لكن الأمور جرَت بطريقة أخرى، فبما أنه اعتُقل بتهمة سياسية وقد رأى السجون السرية؛ لذا لا بد من محاكمته وحُكم عليه بالفعل بالسجن المؤبد وظل معنا في السجن نفسه يقضي مدة محكوميته. وبعد كلِّ هذه السنوات في سجن مخصص للمعارضة، والسياسة هي الموضوع الرئيسي بين السجناء، إلَّا أنه حين خرج من السجن عاد لوضعه الطبيعي ولم ينشغل بالسياسة ولا همَّه أمرُها يومًا كما لم تهمَّه من قبل.

كنت أُحبُّ الجلوس مع رجل كبير بالسن مطَّلع لا بأس بثقافته العامة، سياسي حقيقي، عرفتُ بعد فترة أن له في السجن ابنَ عم — وهو رجل كبير مثله — وبدافع من الفضول تعرَّفتُ عليه هو الآخر ظنًّا مني أنه شخصٌ مثقف كابن عمه، إلَّا أني دُهشت لسذاجته وأن لا صلةَ له بالسياسة ولا بالثقافة ولا المعارضة بأيِّ نحوٍ من الأنحاء، بل إنه کان يحسب المعارضة السياسية أُناسًا سيِّئين يسبِّبون المشاكلَ والمتاعبَ للناس ولا ينبغي التعاطي معهم. ولم يمكن بوسعي مناقشته لكِبَر سِنِّه؛ ولأنه بسيطٌ وساذج جدًّا، والحوار معه قطعًا سيكون مضيعةً للوقت. والسبب الأقوى لتعذُّر نقاشه أن الرجل نفسه لم يكن مستعدًّا للنقاش في أيِّ شيء، ولا يشغله شيءٌ سوى تدبُّرِ حاله اليومي. أثار أمرُه استغرابي وصِرتُ أتساءَل بفضول كيف وصل هذا الرجل إلى هذا المعتقل الرهيب؟! وعلى أيِّ أساس اتُّهم بهذه التهمة الخطيرة؟ ظل الفضول يدفعني لمعرفة ذلك والحياء يمنعني من سؤاله؛ لأنه قد يُعتبر تدخُّلًا في أمر شخصي أو يُعَد استهانةً واستخفافًا به. مرة وأنا في حديث ودِّي كالعادة مع ابن عمه المثقف تدرجْنا بالكلام إلى أن وصلنا إلى منعرج في الحديث كان من المناسب جدًّا فيه أن أطرح سؤالًا يفضُّ لغز هذا الرجل وأحجيته بلا تحرج، فقلت له: «فلان ابن عمك رجل طيب مسكين، وإني لأعجب لوصوله إلى هذا السجن. مَن هذا الذي اعترف عليه أنه منخرط في تنظيم سياسي؟»

فصعقني بردِّه الفوري قائلًا وبلا مقدمات: «أنا اعترفت عليه!»

– «لكن لماذا؟ أليس الرجل بعيدًا عن توجهاتك؟»

– «نعم، هو كذلك.»

واستطرد ساردًا لي قصته بالقول: «اعتقلت في مرة سابقة قبل اندلاع الحرب لعدة أشهر بتهمة الاشتباه بالتعاون مع تنظيم سياسي، ولما لم يجد المحققون أيَّ دليل معتبر لإدانتي أُفرِج عني. في وقتها كانت التحقيقات ليست بهذه الوحشية وكان من الممكن الإفراج عن كثير من المعتقلين؛ لأن كثيرًا من الاعتقالات وقتَها كانت تأديبيةً والقليل منها يودي بأصحابها لعقوبة الموت أو السجن. المهم بعد خروجي من الاعتقال وكعادة العراقيين في الأفراح والأحزان بالاجتماع جاء جمعٌ غفير من الأصدقاء والأقرباء لزيارتي وتهنئتي بالخروج من المعتقل، وفي جلسة عامة سألني أحدهم بدافع الفضول العراقي المعروف: لماذا اعتقلوك؟ هل فعلتَ شيئًا ضد الحكومة؟ أجبتُه جوابًا طبيعيًّا متوقعًا من أيِّ شخص يخرج من المعتقل، نافيًا التهمة عن نفسه؛ لأنه ليس من المعقول أن تُفرج عني الأجهزة الأمنية لعدم امتلاكها لدليل ضدي وأنا أتبرع بإدانة نفسي. فقلت له: كلَّا، لم أفعل أيَّ شيء ضد القانون.»

فانبرى ابن عمي هذا — وبصوتٍ عالٍ سمعه كلُّ الحاضرين — قائلًا: «الحكومة لا تعتقل أحدًا بلا سبب.»

بهتَني بهذا التعليق السخيف، لم أردَّ عليه كي لا تتطور المسألة وأُصبح في موقف مَن يهاجم الحكومة ويتهمها أمام تبرئة ابن عمي لها واتهامه لي بالعمل ضدها، لكني أسررتُها في نفسي وقلت في داخلي: «يا ابن العم، أنا متأكدٌ أنهم سوف يعتقلونني ثانية وحينها سوف أُقدِّم لك الدليل القاطع على أن الحكومة التي تدافع عنها تعتقل حتى مَن لم يكن عنده شيء ضدها.»

وبالفعل بعد سنين اعتقلوني ثانيةً وبدأ التعذيب الذي تعرفه، طالبوني بأسماء الخلية الحزبية، حينها تذكرتُ ابن عمي على الفور وقلت لنفسي: ها قد جاء وقتها الآن، ولأدعو ابن عمي ليتنعم بضيافة الحكومة ورفاهية عدالتها، فقلت للمحققين على الفور: «إن ابن عمي فلانًا معي في التنظيم.» وكما ترى هو معنا الآن ومحكوم بالسجن المؤبد، ليس هو فقط، بل اعتقلوا معه ابنَه بعد ذلك وصار يُحسب الآن من العوائل المعارضة الحاقدة على الحزب والثورة. ضحكتُ كثيرًا وشعرت بالأسف عليه في الوقت عينه، وأيضًا بالغضب على هذه الطريقة العشوائية في تصفية المعارضة وعلى وحشية التحقيق وإصدار الأحكام ضد المعتقلين.

كان قسم الحجر الصحي (المحجر) مثلَ كلِّ الأقسام الأخرى يضم كثيرًا من السجناء ممن لا شغل له بالمعارضة أو السياسة. وظل هذا الجمع على حاله نفسها حتى بعد كل سنوات السجن؛ لأنه لم يكن يفكِّر بالشأن العام بالمطلق ولا هو من أولوياته.

هناك أناسٌ كُثرٌ يعيشون لذاتهم فقط وهمومهم ذاتية، لا يفكرون إلَّا بما يتعلق بها، قد يُرى طيِّبًا وديعًا مسالمًا، إنما ليس مستعدًّا للدفاع عن مظلوم يُنتهك حقُّه أمام عينَيه، ويصنِّف الدفاع عن المظلومين في خانة الأشياء التي لا تعنيه ولا يشغل نفسَه بها، إلَّا من باب التأسُّف فقط. وحين تزداد قوة الظالم وشراسته يستشعر هؤلاء المسالمون أن خطره بات قريبًا منهم بسبب قسوة واستخفاف السلطة القمعية بكل القوانين، هذا الصنف من الناس يبدأ حينئذٍ — وخلاف المنطق — بلومِ معارضي السلطة والمحتجين على إجراءاتها، وينسبون لهم تهمة إنتاج هذا الوضع الخطر بدعوى إثارتهم المشاكل ومشاكسة القانون، ويبدأ هذا الصنف من الناس حتى بتبرير هذه القسوة المفرطة من النظام. وكان معنا في السجن كثيرٌ من هؤلاء الناس، فهم رغم طيبتهم ووداعتهم الظاهرة إلَّا أنهم ليسوا بذي اهتمامات عامة ولا يملكون وعيًا رغم ادعاء البعض ذلك لنفسه.

في السجن كان هؤلاء أحيانًا يشكِّلون عقبةً حقيقية أمام أفعال تحدِّي الجلادين التي يتصدَّى لها بعضُ السجناء الشجعان. وبعد كلِّ معاناة السجن الرهيبة ورغم اختلاطهم بشخصيات سياسية مؤثرة فيه، إلَّا أن هؤلاء لم ينخرطوا في أيِّ نشاط عام، وما إن خرجوا حتى ذابوا في المجتمع دون أيِّ تأثير وما استطاعوا أن يحوِّلوا مظلوميتهم إلى قضية، بل تحوَّلت إلى مجرد ذكريات مريرة لا يتمنوا أن تُعاد عليهم مرة أخرى.

بالمقابل كان هناك أشخاص كُثر منخرطون جدًّا بالشأن العام وهم مَن أعطى للسجن طابعًا خاصًّا، وهم من حوله إلى مدرسة فكرية سياسية وفي هذا كلام كثير سوف يأتي وقته.

هناك قسم ثالث ليس بالقليل ممن دخل السجن بلا قضية حقيقية لكنه كان كمَن تلقَّى في السجن تدريبًا وتعليمًا من خلال مخالطته سجناءَ آخرين، وانتفع من ذلك ليصبح شخصية رائدة في مجتمعه ويعمل بوعي وإخلاص لتغيير واقعه.

أما القسم الرابع: فكان ممن خرج من السجن مبغوضًا مذمومًا لأفعاله الخسيسة التي قام بها في السجن من سعيٍ ووشاية لرجال الأمن، أو قام بأفعال قبيحة يندَى لها الجبين، ومن حسن الحظ أن هؤلاء كانوا نسبةً قليلة جدًّا معروفين بالأسماء على نطاق واسع جدًّا بين كل السجناء. الكل كما كان يعرفهم، كان يحتقرهم ويتحيَّن الفرصة للحد من تأثيرهم.

المحجر كان يعيش بحبوحة أمنية، لتخوُّف رجال الأمن من عدوى المرض وانتقاله إليهم، وتولَّى الإشرافَ عليه مراقبون وخدمات صالحون أغلقوا كلَّ المنافذ أمام السعاة والوشاة. وفي أحد الأيام دلف إلينا واحد من هؤلاء السعاة، فأُطلقت صفارة الإنذار بين السجناء بالإشارات والغمز، وكان لا بد من توخِّي الحذر إلى أقصى حد. بالمقابل كان لا بد من معالجة سريعة للموقف؛ إذ هكذا نوعٌ من البشر يعيش على إثارة الخوف عند الآخرين ويُبرز وجوده من خلاله، وعلاج ذلك يكون بنقل الخوف إليه لإيقاف عدوانيته وخطره. ومن العسير جدًّا تصديق الفكرة الساذجة التي تروج أحيانًا بأن هذا النوع الخبيث يتوب عن جرائمه ويتحول إلى جزء صالح في المجتمع لو عومل جيدًا. هكذا نوع أفضل ما يمكن فعله له هو نزعُ أنيابه لا تغيير طِباعه التي جُبل عليها، كما يروِّج بعضُ السذج وقليلو الخبرة. الانتقام صحيح إنه لا يحل المشاكل معه، لكن العقوبة القاسية تجعل خبيئته الخبيثة تتحجر في داخله ولا تجد منفذًا للخروج. إن هؤلاء الناس بلا قيمٍ أخلاقية وهمومهم مادية نفعية كلها؛ ولذا فإنهم ينتهزون أيَّ فرصة لتحقيقها بغضِّ النظر عن طبيعة أو مشروعية هذه الوسيلة. ولما كانت همومهم مادية نفعية فإن السلوك الأجدى بالتعامل معهم هو تهديد هذه الطموحات وحرمانهم منها، وسوف تجدهم حينئذٍ سلسين مطيعين، لكن الحذر كلَّ الحذر منهم فإن طبعهم الرديء سوف يُطلُّ برأسه القبيح إلى عالم الخبث والجريمة في أول مرة يرى العيون قد غفلت عن طبعه الماكر.

وهكذا كان، إذ حوصر هذا الخائن بأعين تنظر إليه شزرًا، توجَّس شرًّا كبيرًا وأيقن أنه بات بين فكَّي مجرشة صماء سوف تطحنه وتُحيله دقيقًا ناعمًا تطؤه كلُّ الأقدام وتَذْروه بعدها الرياح. ومما زاد من مخاوفه أن الحلقة الملتهبة كانت تتسع ولا يجد منفذًا منها، ورغم اقترابها الشديد منه فإنها لا تُطبق على رقبته، مما أدخل على قلبه رعبًا مضاعفًا، وصار الهلع فراشه والفزع لحافه. وصار متيقنًا من انتهاء أسطورته وصار جُلُّ حُلمه ألَّا يهلكَ تحت أقدام ضحاياه.

أصدر مراقبُ الزنزانة له أمرًا بأن يتخذ من جوار المرحاض مضجعًا له في أسوأ مكان يمكن أن ينام فيه السجين، وأدرك عندها وهو يرى مكانه أن أيامه السوداء قد ابتدأ عهدُها الطويل. قاطعه الكل، لا يكلمه أحد ولا يتعامل معه أحد أبدًا، إلَّا المراقب الذي كان يوجِّه إليه أوامرَ أكثر مما هي تبادل حديث معه.

في أحد الأيام اندلع شجارٌ صغير بين سجينَين وحاول أن يزجَّ نفسه فيه قليلًا بصورة ودية لفض النزاع، إلَّا أنه وجد أن المتشاجرين أنهوا خصامهم بسرعة قياسية والتفتوا إليه، وضربه أحدهم بكلتا قبضتَي يدَيه على ظهره. مَن ضربَه كان شابًّا ريفيًّا طويلًا قويًّا جدًّا لو دفع أحدًا مزاحًا لأوجعه فكيف به وقد ضربه في أوج غضبه وبمنتهى قوته. ضربة لفرط قوتها وشدتها أجبرته على إفراغ ما في معدته بالحال، ومن حينها سكت هذا المنافق (كما كان يُطلق على الوشاة) للأبد، ولم يحشر نفسه في أيِّ أمر بعدها حتى خروجه من السجن.

لم تكن قصةُ هذا الساعي بالوشاية فريدةً من نوعها، ونسبة الخونة لم تكن قليلة، وكان هناك عددٌ آخر مرشح للانضمام إليهم تحت قسوة الظروف الحياتية التي يعيشها السجناء. بالمقابل كان هناك سعيٌ حثيث من نسبة ليست بالقليلة هي الأخرى للقضاء على هذه الجماعة الضعيفة الخائنة. وكان يجري التخطيط بهدوء وترقُّب لفرصةٍ مواتية للإطاحة بتسيدهم على مناصب المراقبين والخدمات، وهما المنفذ الوحيد للتعامل المباشر مع رجال الأمن.

في فترة لاحقة ومع تراجع الوضع المتأزم على جبهات الحرب الذي كان يهدد وجود النظام نفسه قبل سنوات، وبعد أن استعاد النظامُ توازنَه من ضربات عسكرية كبيرة أفقدَته كلَّ انتصاراته، بل ألحقَت به هزائمَ نكراء، عاد من جديد ليُوقف زحفًا عسكريًّا معاديًا، وبعد أن اطمأن إلى بقائه في سُدة الحكم واستقرار الوضع العسكري، شهد السجن انفراجة أمنية نسبية. إذ خفَّت حالات الانتقام والتعذيب العشوائي — وإن لم تتوقف بالكامل — وساهم في ذلك بشكل واضح تزامُن الوضع مع نقل الضابط المتهم بإعدام معارضين سياسيين مقابل الإفراج عن قتَلَة محكومين بالإعدام، القصة التي تقدمت روايتها.

هذا التخفيف الأمني النسبي كان فرصةً مثالية للوثوب على الخونة، بدأ من تسلُّلِ شابٍّ شجاع سريع البديهة إلى صفوف الخدمات، وصار يحتال عليهم بتقديم بلاغات إلى الأمن تكشف بعضًا من أفعالهم التي يستقبحها رجال الأمن. وصار تدريجيًّا يتم التخلص منهم الواحد تلو الآخر ويستبدل بعنصر جيد. كانت عمليةً معقدة محفوفة جدًّا بالمخاطر، تنطوي على قدرة كبيرة ليس من الشجاعة وحسب، بل على سرعة البديهة والقدرة الكبيرة على التظاهر وادعاء الولاء للأمن، بينما كان في الواقع يُخفي عكس ذلك تمامًا.

لم تنتهِ المشكلة بإزاحة الخونة المنافقين من الخدمات وحسب، بل معاقبتهم في الزنزانات التي كانوا يدخلون إليها ومقاطعتهم بالطريقة نفسها التي قوطع بها ذاك الخائن في المحجر. تحوَّل السجن بعدها إلى جحيم حقيقي على هؤلاء الخونة؛ إذ لم يَسْلموا حتى من الضرب على أيدي السجناء، وفقدوا كلَّ حظوة عندهم لدى رجال الأمن، بل أصبحوا أعداءً لهم وعاقبوهم بشكل مبالغ به أحيانًا من الإذلال والإهانة. وهكذا حُدَّ من خطرهم إلى حدٍّ كبير، وإن لم يسلم السجناء من شرور بعضهم متسبِّبين فيما بعدُ بمقتل عددٍ مهمٍّ من السجناء في أحداث مؤسفة. كما سوف يحلُّ عهدٌ من إذلال كبير وخزيٍ عظيم عاشه الخونة في أحداث غير عادية شهدها السجن جسَّدت قوة السجناء السياسيين وقدرتهم على مناطحة النظام الفاشي حتى وهم في الأغلال وخلف القضبان.

٩

فيما كانت تتحسن صحتي كانت صحةُ آخرين تسوء بسبب انتشار مرض السل الذي أصبح وباءً كارثيًّا يهدد الجميع. أصاب المرضُ ثلثَ عدد السجناء تقريبًا وانتشرت أمراض غريبة وحالات مرضية متنوعة كلها بسبب نقص التغذية والرطوبة والظلام وغياب الظروف الصحية. وفي أحد الأيام توقَّفت المجاري عن سحب المياه والقاذورات من المرحاض، وعندما أقول في أحد الأيام ليس حصرًا به؛ لأن مثل هذا اليوم تكرَّر وقوعه لمرات عديدة. حاول السجناء بأساليب متعددة فتْحَ المجرى الوحيد لها في المرحاض، أدخلوا أيديَهم وكلَّ آلة عندهم لإخراج ما عَلِق فیه وسبَّب هذا الانسداد لكن بلا جدوى، بدأَت تطفح المياه الآسنة إلى أرضية الزنزانة ورجال الأمن لا يُلقون بالًا إلى طلبات السجناء ولا يُعيرونها اهتمامًا. ولأن أرض الزنزانة كانت مائلةً قليلًا نحو المرافق بطريقة هندسية لتصريف المياه فإن وصول المياه الآجنة لمقدمة الزنزانة حيث الباب والقضبان كان يتأخر قليلًا عن الوصول لها بخلاف غيرها من زوايا الزنزانة؛ لذا تجمَّع السجناء في مقدمة الزنزانة، لكن الماء الآسن يُواصل زحفَه ويدفع بعضًا من السجناء إلى تسلُّق القضبان والتعلق بها هربًا من هذا الماء الآسن ومما يحمله من بقايا فضلات بشرية. أدرك آخرون أن لا مناص من هذه الفوضى واستسلموا لواقعهم، وصاروا يأكلون ويشربون وقوفًا، بل حتى يناموا هكذا وأرجلهم تخوط مياهًا قاءَتها المجاري بكل ما فيها.

في الليل والنهار يجمع السجناء المياهَ الثقيلة بآنية الطعام المتوفرة عندهم ويرمون بحمولتها من خلال الفتحات التي تسمَّى شباكًا إلى ساحة الفناء الخارجي للتخفيف من منظر عدد الأشياء العالقة في الماء، ولتخفيف مستواه الذي يشهد مدًّا متزايدًا. بهذا يفهم لماذا كنت أنعت الساحة بين الأقسام بأنها مكبٌّ هائل للنفايات ومصدر أساسي لكل الحشرات. يبقى الحال هكذا لنهارَين متعاقبَين بلياليها وأحيانًا أكثر من ذلك، والسجناء إبَّان ذلك يأكلون في الآنية عينها التي يستعملونها للتخلص من الفضلات. وهذه لن تكون المرة الوحيدة التي نقسر فيها على الأكل في آنية ملوثة أو تناول طعام ملوث.

فضاء الزنزانة كان ضيقًا ومزدحمًا للغاية بالسجناء وحاجياتهم. وأيُّ شيء يُراد خَزْنه أو استعماله لاحقًا يُوضع في آخر الزنزانة قريبًا من المرحاض، مثل فردة النعال المستهلك الذي يستعمل بتجفيف الماء، وكذلك حساء الصباح (الشوربة) الذي يُحفظ أحيانًا قسمٌ منه لآخر النهار في جردل صغير؛ لأن بعض السجناء كان يمتنع نهارًا عن الأكل والشرب لأسباب دينية خاصة بهم.

فردة النعال المستخدم للتجفيف — تكرارًا في اليوم الواحد — لم تكن تُربط بذاك الإحكام؛ ولذا كان يتكرر سقوط النعل وأحيانًا يكون سقوطه في جردل الحساء. وحين يكتشف الحادث يُستخرج النعال ويُنظف من الطعام العالق به فيما يتجمع الصائمون بعدها لتناول إفطارهم من الحساء ذاته؛ لأنهم لا يملكون شيئًا غيره يأكلونه. كنت أمزح مع أحدهم يومًا عندما تحدَّث عن الجراثيم التي تتكاثر في هذه البيئة القذرة، فقلت له: اطمئن يا عزيزي، هنا لا توجد ميكروبات ولا جراثيم ولن يأتي المزيد منها؛ لأنها باتت تخشى على صحتها.

أمام هذه الفوضى الشاملة في انعدام الرعاية الصحية بالمطلق، كان فريق من أطباء أو متدربين في التمريض أو حتى طلبة في كلية الطب اعتُقلوا قبل إكمالهم الدراسة يعملون ما في وسعهم لتقديم المعونة بوسائل هي بنفسها تخلو من الظروف الصحية، إلَّا أنه ليس باليد من حيلة كما يقال.

انتشرَت بكثرة حالةٌ مرضية تُدعَى الجيوب المائية تُصيب الرئة والصدر، وكان لا بد من سحب التقيحات والسوائل من تلك الجيوب، إلَّا أن الطريقة التي كان يتمُّ فعلُ ذلك بها أشبه بحكاية رسوم متحركة تُلائم خيال الأطفال، أو واحدة من بطولات جندي أمريكي لا ينتصر إلَّا في خيال مخرجي الأفلام السينمائية الهوليودية.

يأتي الطبيب السجين بخرطوم دقيق يستعمل فيما يُعرف بالمغذي، ويثقب جسمَ المريض بأيِّ أداة حادة متوفرة عنده لإدخال الخرطوم من خلالها، ليبدأ بعدها بسحب القيح من تلك الجيوب وسط صرخات الألم من المريض، وعندما ينتهي الطبيب من تلك العملية الجراحية يطحن قرص « بارسيتول أو أسبين» على موضع الجرح لتعقيمه، والأنكى من هذا كلِّه أن الطبيب كان يقف في الممر والمريض داخل الزنزانة تفصل بينهما القضبان لتجريَ العملية من خلف القضبان. لم يكن هذا حادثًا عرضيًّا أو عابرًا يحصل لمرة واحدة، بل لمرات متعددة جدًّا. عمليات جراحية أخرى كانت تُجرَى باستعمال موس حلاقة لشقِّ غددٍ وأكياس لا أعرف ماهيتها، لكنها كانت تنمو في أماكن متفرقة من أجساد السجناء. كل هذه العمليات الجراحية، رغم الآلام التي فيها، كانت تتم بلا تخدير؛ لأنه ترفٌ غاية في الزيادة ولاستحالة توفره.

زرق الإبر كان هو الآخر من القصص الغريبة والحكايات العجيبة، ليس لأن عدم توفُّر الدواء الكافي وحده معضلة كبيرة، بل ندرة الإبر الصالحة كانت مأزقًا أكبر. الإبرة برأسها الدقيق يمكن أن تُستعمل لمرة واحدة فقط، وربما أكثر من مرة في بعض الحالات، أما الحاجة إلى الاستعمال المتكرر ولعشرات المرات فكان خيالًا فرَضَه واقعُ الوضع الصحي المتدهور بكثرة الإصابات بشتى الحالات يرافقه نقصُ دواء هائل أُجبر الأطباء على تقسيم دواء الإبرة الواحدة على أكثر من مريض.

قطعًا إن رأس الإبرة الدقيق يغدو غليظًا بعد الاستعمال المتعدد ولا يمكن له أن ينفذ في الجلد، مما يعني عمليًّا عدم صلاحية الإبرة للاستعمال. ولأن الأشياء كلها في السجن ذات قيمة كبيرة ولو كانت تُعدُّ نفاية غير قابلة للاستعمال بنظر مَن يعيش خارجه، كان لا بد أن تُبْرَد الإِبَر ليُعاد استعمالها، إنما هذا حلٌّ صعب للغاية فمن أين تُحَصَّل آلة برد؟ ومع العجز عن إيجاد واحدة منها فقد اهتدى المشرفون على الأمور الطبية إلى حل لا يَرِد على بالٍ ولا يمرُّ على خاطر؛ إذ وجدوا أن بحوزتهم أكبر آلة برد ومتوفرة في كل زاويا السجن وأركانه. إنها الأرض الإسمنتية الخشنة، وهكذا جاء الحل السحري الناجع وبه انتهت المشكلة، ونُفخت الروح في الإبر العاطلة ودخلت الخدمة من جديد. صار بالإمكان استخدام الإبرة مرات ومرات مع زيادة في الألم يتحملها السجين وهي تنفذ إلى الجسد، وهذا أمرٌ لم يكن صعبًا عليه تكبُّده، وهو الذي عانى أكثر بكثير من هذا من الألم وتحمل أنواع الصعاب والمشقة.

قصة الإبر لا تنتهي هنا؛ إذ إن تعقيمها هو الآخر أمرٌ لا مناصَ منه، وللقيام بذلك لا بد من توفر ماء مغلي. في المحجر زوَّد رجال الأمن السجناء بعلبة معدنية صغيرة لتعقيم الإبر، أما الأقسام الأخرى فقد حُرموا منها؛ لذا جرى تدبير الوضع بتوصيل سلك كهربائي من المصدر الوحيد للكهرباء في المصباح المعلَّق بالسقف، وفي نهاية السلك تُوضع ملاعق وتدخل في الماء لتعمل على تسخين الماء بطريقة الدائرة الكهربائية، الماء الزائد عن حاجة التعقيم كان يُستخدم في تحميم المرضى. وفي قسم الحجر الصحي وبسبب انعدام الرقابة الأمنية كانت عمليةُ غَلْي الماء تجري بشكل مريح وبصورة واسعة؛ لأن أغلب سكانه من المرضى، بينما كان الاستحمام بالماء البارد عملًا روتينيًّا يفعله باقي السجناء ولا يتغير ذلك صيفًا ولا شتاءً. ظلت طريقة تسخين الماء تُستخدم بنجاح في المحجر إلى أن وقع حادثٌ كبير في أحد الأيام كاد أن يؤدي إلى كارثة كبرى.

فبعد أن استسهلت عملية تسخين الماء، أصبح الماء الحار مطمعًا في أيام الشتاء حتى لغير المرضى مع ضعف الأجساد وقسوة البرد. وبدلًا من الإناء الصغير لتعقيم الإبر صار برميلُ ماء بلاستيكيٌّ هو المستضيف لهذه العملية المحظورة، وجرت الأمور كما كان يشتهي السجناء ويرغبون إلى أن جاء اليوم الموعود. ففي يوم شتائي محشوٍّ بالبرودة ضاعف قرسه وَهَن الأبدان ورثاثة اللباس وتهالك الفُرُش وقلة الأغطية التي ما فتئنا نستعين بها في اليقظة والمنام لردِّ غائلة البرد عنَّا. وبينما كان الماء يغلي بأقصى ما يمكن له ذلك ويشتد فوران الماء في غفلة من العيون، تحلَّق قربَه بعضُ السجناء يستلذون بدفء يبعثه البخار المتصاعد وهو ينفذ بسخونته إلى عِظامهم المنخورة من المرض والبرد. وبينما هم يتسامرون ضاحكين وإذا بصرخة فزعٍ تملأ كلَّ جوانب زنزانة الحجر الصحي تتبعها صرخات. الممر الضيق يزدحم بحشدٍ يعدو على غير هدًى وعلى وجه أفراده سيماءُ فزع ورُعب تُغطِّيهم سحابةٌ ضخمة من بخار كثيف كأنها دُخان أبيض. سحابة استوعبَت كلَّ شيء، وكأنها غبرة معركة خلَّفتها ثورةُ خيول جامحة لا تتوقف عن الخبِّ، وسيطر الذهول على الجميع وظن البعض من السجناء أن رجال الأمن شنُّوا هجومًا لقتل السجناء، وما هي إلَّا دقائق حتى تبيَّنت الكارثة ولاحَ جزءٌ من تداعياتها الحقيقية.

كان الماء يواصل فورانه بعد أن بلغ درجةَ الغليان وقارب حدًّا لم يَعُد البرميل البلاستيكي بقادر على تحمُّله ليذوب من شدة الحرارة منصهرًا، وينهار البرميل بحمولته الكاملة ساكبًا الماء الحار بغتة وبسرعة خاطفة على كلِّ مَن كان يجاور البرميل في غفلة منهم. حاولوا الفرار، لكن لم يقدروا على الإفلات؛ لأن الكهرباء كانت لم تزل تسري في الماء فأوقفَتهم في مواضعهم وأسقطَتهم أرضًا، كلُّ مَن وثب هاربًا غطس بغير أهبة ولا استعداد في بركة ماء يغلي لتسلخ جلدَه كاملًا، إلى أن بادر أحدُ السجناء بمهارةٍ وخفة إلى نزْع السلك الكهربائي، لكن حينها الماء الساخن كان قد فعل فعلتَه بالوجوه والأجساد بشكل رهيب.

كان الموقف أكبر من أن تتلافاه إسعافاتنا الأولية البائسة؛ لذا تم الاتصال بالأمن لنقل المصابين بالحروق ونُقلوا بالفعل لمستشفى مدني خارج السجن في جانب الكرخ من مدينة بغداد. جرَت هناك معالجتُهم بشكل أولي، إلَّا أنه كافٍ لإنقاذ حياتهم من موت محقَّق حرقًا وأُعيدوا للسجن ثانية بعد ثلاثة أيام وظلوا قرابة الشهر عراةً لا يستطيعون ارتداء ولا حتى قطعة ملابس واحدة لشدة الحروق التي ألمَّت بهم.

تدبَّر السجناءُ أمرَهم بصنع ما يُشبه القفص غُلف بالبطانيات لتدفئتهم ورفع الحرَج عنهم بحجز الأنظار والعيون عن أجسادهم المجردة من كل شيء حتى من الجلد. نجَوا من الموت وظلت أجسادهم طوال حياتهم تحمل ذكرى الحادث المروع، وفقد السجناء فرصة الاستحمام بالماء الحار من جديد خشية انكشاف أمرهم بعد أن مرت هذه الحادثة بسلام. لم يجرِ تحقيق في الحادث لسبب لم نفهمه، لعله كان حسنَ الحظ أو لأن القسم كان مخصصًا للمرضى، ولم يشأ المسئول الأمني الذهاب بعيدًا في التحقيق خشيةَ اضطراره لإنزال العقاب ببعض السجناء ومع تردِّي وضعهم الصحي العام كان أيُّ عقاب سيتحول إلى مذبحة حقيقية، وإلَّا في الواقع لم يكن أيُّ أحدٍ ليصدق ولو كان أبلهًا كبيرًا أن علبة معدنية صغيرة مخصصة لتعقيم الإبر هي التي سبَّبت كلَّ هذه الحروق.

الأفعال المحظورة كانت تنطوي على مخاطرة كبيرة بنفسها وبعواقبها، ولبعضها قصصٌ طريفة ومنها هذه القصة؛ ففي إحدى المرات وصل خبرٌ إلى رجال الأمن بحدوث عملية تسخين للماء في إحدى الزنزانات ودخل رجل أمن إلى أحد الأقسام بغتة وتوجَّه بسرعة ومباشرة إلى الزنزانة المقصودة. سرعة الحدث لم يكن بالإمكان معها التخلص من الماء الذي بدءوا بتسخينه للتوِّ، إلَّا أن السلك الكهربائي وعدة التسخين تم إخفاؤها وسط حشد السجناء بسرعة. توجَّه رجل الأمن إلى البرميل صارخًا بوجه السجناء مستفهمًا: كيف حصلتم على هذا الماء الساخن؟

فأجابه أحدهم ببرود شديد: «سيدي لا يوجد عندنا ماء ساخن إنه ماء بارد.»

ارتسم الاستغراب على مُحيَّا رجل الأمن وسأله باستنكار: «وهذا الماء ماذا تسميه؟» (مشيرًا إلى برميل الماء الساخن).

فتقدم السجين بثقة كاملة وهدوء تام، ووضع كفَّه مغترفًا بيده الماء وقال له: «سيدي، هل تقصد هذا؟ إنه ماء بارد.»

أصاب الذهولُ رجلَ الأمن فدعا سجناء آخرين وقال لهم: «ما هذا؟»

كان الجواب جماعيًّا: «سيدي إنه ماء بارد.»

طلب منهم جميعًا أن يضعوا أيديَهم واحدًا تلو الآخر في الماء، وكانوا يفعلون ذلك بلا أدنى تردد وبعضهم يرسم على وجهه ابتسامة عريضة. رجل الأمن ينظر إلى المشهد وهو لا يصدق ما يرى وأصبح في شك حتى من نفسه، يعاود مدَّ يدِه يشعر بسخونة الماء، بينما السجناء كلهم يقسمون له وهم يدخلون أيديهم مرارًا وتكرارًا بأن الماء بارد ولا يبدو عليهم مظهر ألم أو حرقة ولا أدنى تردد وهم يفعلون ذلك. حتى رجل الخدمات لما علم إصرار السجناء والمكيدة التي نصبها السجناء بسرعة البديهة لرجل الأمن اضطر إلى أن يؤكد على صحة أقوالهم وقال: «سيدي، نعم إنه بالفعل ماء بارد.»

خرج رجل الأمن غير مصدق نفسه، ولا يعلم أهو في حُلم أم علم، بينما انبطح السجناء بعدها على ظهورهم من الضحك في واحدة من أطرف الوقائع.

١٠

هناك أشياء لا يمكن التخلص منها مع انعدام النظافة؛ لأنها كانت مستوطنةً في الأجساد وفي شَعْر الرءوس، والحل الوحيد لإبعادها كان بالتخلص من كامل الشعر. لذا كانت تَجْري عملية حلاقة الرأس بحفلة جماعية في فترات متباعدة وكانت أقربَ إلى جزِّ الشعر منها إلى الحلاقة. البعض من السجناء كان يفضِّل استخدام شفرة حلاقة لإزالة شعر الرأس تمامًا تخلُّصًا من عملية تنظيفه؛ إذ إن الاستحمام كان أمرًا عسيرًا حصوله، وكان هو الآخر يحصل بطريقة جماعية نظرًا لشحة الماء؛ لذا كان يتم تحديد يوم مخصص للاستحمام الجماعي فتُرفَع كلُّ البطانيات السوداء الرقيقة العسكرية المخصصة للنوم من على الأرض، وتصبح الزنزانة بعدها حمامًا عامًّا يقف السجناء فيه مجردين من كلِّ ثوب إلا سراويل قصيرة لستر العورة، ويبدءون بوضع رغوة الصابون على كامل أجسادهم بعد أن ينالوا رشقة ماء خفيفة. خلال دقائق يجب أن ينتهيَ الجميع؛ إذ إن خرطوم الماء لا يسمح ببقائه في الزنزانة لأكثر من نصف ساعة وخلال هذه الفترة ينبغي ملء برميل الماء المخصَّص لكل الاستعمالات الأخرى من شرب وشطف أوانٍ ولقضاء الحاجة. العملية كانت مضحكة بكل ما فيها لأنها بالواقع لا تحقق من النظافة إلَّا الشيء اليسير، إلَّا أن السجناء كانوا يعيشون فيها لحظات سعادة خاصة ويخلقون لأنفسهم جوًّا استثنائيًّا من المرح بتبادل الطرائف والمزاح. إنها فرصة استثنائية فعلًا فمن أين يمكن لهم أن يتوفروا على لحظة كهذه يحظوا بها مع كل هذه الكمية الوفيرة من الماء.

كان القمل مقيمًا دائميًّا بأنواعه الثلاثة؛ قمل الرأس، قمل الجسم، وقمل العانة، والعثور عليه غاية في اليسر بأقل جهد وفي أول حملة تفتيش عنه. تنطلق حملات التفتيش بشكل مستمر؛ لأنه يقف وراء ظاهرة الحك المزعجة المزمنة التي تصل في بعض المرات مدًى لا يُطاق، يهرش السجين معها كلَّ مكان في جلده الخارجي، من قمة رأسه إلى تحت إبطَيه وعند المواضع الحساسة التي يحار كيف ينبشها بحثًا عن هذا الكائن المزعج.

في إحدى المرات حلَّت عليَّ لعنة الحكة بشكل جنوني، وصِرت لا أحتملها فأصررت وقتَها على حزِّ كلِّ شعرة نبتَت على جسمي في الحال. بالطبع لا أقدر على القيام بهذا إلَّا بمساعدة من سجينٍ آخر طلبتُ منه ذلك فآثر الانتظار قليلًا لبعد تناول وجبة العشاء التي أوشكَت بعد أن صبَّ الحساء في الأواني المعدنية، إلَّا أن هستيريا أصابَتني من ذاك الهرش وصِرتُ أصرخ بوجهه أن يترك كلَّ شيء ويقوم من فَوره ويخلصني من الشعر خصوصًا تحت إبطيَّ بالحال. الموقف هزليٌّ مبكٍ مُضحك، أنا أشعر بنار حرقة مستعرة جراء الحك والقمل يواصل قرصاته متلذذًا، والسجناء وهم يتهيَّئون لتناول العشاء يضحكون على إصراري على الحلاقة الفورية وعلى غضبي وأنا أدور كمَن يرقص من الألم، حتى أنا استغرقتُ في ضحكٍ طويل على نفسي لكن بعد أن خلَّصني صاحبي من شعري ومن الأقزام الساكنة فيه.

نوع القمل الذي يعيش في فروة الرأس كان السجناء يسمونه كالبتوس، وفيما يبدو أنها تحريف لاسمه الإنجليزي «Pediculus» وربما سمعتُ اللفظة من طبيب ما بطريقة خاطئة وأنتجتُ هذا المصطلح الغريب. ولم يكن من السهل أبدًا التعرف على مصدر بعض المصطلحات الخاصة في السجن وتشعر كأنها لغةٌ خاصة وُلدت هناك في زمن سحيق عندما بلبلت الآلهة الألسن في بابل القديمة.

السجن عالم آخر خلف هذا الكون، والعيش فيه يبرز الجوهر الحقيقي لهذا العالم. ليس من قوام لهذا الوجود إلَّا بالحياة ولا قيمة للحياة إلَّا بالحرية ولا يمكن إدراك الشيء إلَّا بإدراك ضده. وحيثما يوجد الضد يوجد الوعي بحقيقة المعنى وعند غياب الضد لن تعرف إلَّا مظاهر الأشياء دون كُنْهِها وحقيقة جوهرها.

الحياة، ليس أن تجريَ دماءٌ في العروق، ولا أن ينبض قلبٌ بضربات تلقائية بفعل لا إرادي، ولا هي هواء يملأ رئتين ويزفرهما، لأنه حتى الأجساد الميتة يمكنها أن تفعل ذلك. الحياة أن تشعر بالسعادة وتلمس بحواسك جمالًا أحاطَت هالتُه بك، ويُصيبك غمٌّ عظيم ويعتريك حزنٌ كبير عندما يزاحم الجمال قُبح البهيمية ساعة يظلم الإنسان نفسه بظلمه أخاه. ليس هناك من مكانٍ أكثر مناسبة لرؤية كل هذا بأفضل صوره وأدق معانيه أفضل من السجن، هناك يولد الوعي بمعنى الحياة وهناك تتكشَّف جمالات الحرية.

في عالمٍ ينأى عن الأسوار الإسمنتية العالية وعن أبراج الحراسة يمكن تصور معنى الجمال والحرية، لكن الوعي بأدق معانيه يولد فقط في تلك الدائرة التي تُغلقها أسلاك شائكة وخنادق محفورة بعمق قامة بشرية مغمورة بمياه راكدة وفي رقعة مظلمة تقع تحت مرمى بنادق قنصٍ لجنود قاطنين في أبراج محصَّنة. نعم هناك يولد الوعي، وهل يولد الإنسان إلَّا من المعاناة؟

مصطلحات لم أعرف أبدًا كيف اشتُقَّت وبدَت غريبةً جدًّا على كل اللغات. أسمع تارةً عنها حكايات تبدو مثل الأساطير تحاول تفسيرَها وفكَّ شفرتها وفضَّ لغزها لكنها تختفي بسرعة مثل طيف عابر، ليبقى السجنُ أحجيةً عصية لا يمكن لأحد أن يدرك تمامًا كلَّ تفاصيله ولا الأشياء التي تجري فيه، وإنْ سَكَنه وعاش فيه دهرًا.

مصطلح مثل «الكانة» لم أجد له تفسيرًا أبدًا، حاولتُ أن أشتقَّ له علاقات مع المسمى وأنسج له قرابات مع لغات شتَّى بلا جدوى. إنما لا بد من التعامل معه؛ لأنه الأمل الوحيد في ستر الجسم العاري ووقايته من برد لا يرحل في مكان حظر على الشمس الوصول إليه. نسيجٌ سميكٌ بنيٌّ غامق في الغالب وأحيانًا رصاصي يوزَّع في فترات متباعدة وبطريقة غير كافية كما هي كل الأشياء التي توزَّع ليس للاكتفاء إنما للإبقاء على الأنفاس تصعد شهيقًا وزفيرًا ليس أكثر من هذا. منظر الكانة الكريه يبعث على القرف والاشمئزاز ويُثير مشاعر كآبة سوداوية تدفع للزهد بها والإعراض عنها رغم الحاجة الشديدة، حتى إني لم أسمع أو أرَ يومًا تنافسًا عليها من السجناء أبدًا.

في أيام الشتاء مع ندرة الأغطية وبرودة الأرض الإسمنتية وتهلهل الملابس، يصير البرد جهنميًّا. ولم أشعر بالدفء أبدًا طيلة السنوات العشر التي قضيتها هناك ولا حتى للحظة واحدة، وفي الليلة الأولى التي خرجتُ فيها من السجن وجدتُ فراشًا أعدَّتْه لي والدتي فوجئت وأنا أدخل تحت أغطيته بكمية الدفء العظيمة التي يحتويها.

إيهٍ، كأني اضطجعتُ في موقد، أحسستُ وأنا أغفو فيه بالبرد يتسلَّل خارجًا من عظامي يصحب معه تعب السنين العشر. وقتئذٍ أدركت أني كنت واقفًا مجردًا من أيِّ دثار في عراء تلفحني فيه رياحٌ باردة طيلة عقد كامل.

في كيس من الخيش كان يصل إلينا الخبز أحيانًا، وبعد أن يتمَّ توزيع الخبز من الممكن أحيانًا الاحتفاظ به بعيدًا عن عيون الأمن. لم يكونوا في حقيقة الأمر يهتمون له؛ لأنه لا فائدة منه، لكن كانت لهم سياسة ثابتة باسترداد كلِّ شيء يدخل إلينا ليسلبوا منَّا الشعور بتجدد الحياة. كانوا حريصين على أن نعيش مع الأشياء القديمة المستهلكة المندثرة ليُشعرونا أننا صفحةٌ من ماضٍ انطوى ونوشك على الانقراض معه ولا يوجد أيُّ أمل بتجدُّد الحياة أبدًا.

كيس الخيش هذا صار سببًا من أسباب الدفء مع وجود بعضِ خياطين مهرة قاسمونا العيش في الزنازين. كانوا يفصلونه ليكون على شكل كنزةٍ أو معطفٍ قصير ومن ثَم يُبطَّن بقطعة من الكانة ويصبح قطعة رائعة مميزة تحفظ حرارة الجسم. لحسن الحظ حظيت بواحدة منها من خيش أسمر؛ الأكمام والياقة مزينة بالكانة فصارت كنزةً ملونة. حين ألبسها والآخرون عليهم ثياب لا تقيهم من شيء أبدو بينهم كأني أرتدي بدلة سموكن وأتمشَّى في سوق شعبي؛ رجل أربعيني صنَع هو الآخر واحدة له على شكل معطف طويل يتجاوز ركبتَيه بجيوب واسعة. وحين يمشي في الممر مسرعًا كعادته في المشي ويضع يدَيه في جيوب المعطف العميقة كان يبعث الضحك فينا، كأنه عائد من صفقة عقدَها للتوِّ في مقهى المصبغة حيث يجلس كبار التجار قديمًا في بغداد.

وبرغم وجود صنعة ماهرين، لم يتمكن أحدٌ من صُنْع ملابس داخلية؛ لأن النسيج القطني المناسب لصنعها استعصى عليهم، ولم تُفِد كلُّ خبرتهم ولا نفعَت مهارتهم في إيجاد بديل لها، لذا كانت الأغلبية الساحقة من السجناء لا يرتدونها إلَّا مَن احتفظ بواحدة منها من أيام خوالٍ انقضَت وأنَّى العودة إليها. كان غياب الملابس الداخلية سببًا مهمًّا في عدم الإحساس بالدفء؛ لأن الثياب كانت على الدوم فضفاضة ولم تكن يومًا على المقاس. الهواء البارد يجد فيها ملعبًا كبيرًا وساحة رحبة يلهو فيها ويمرح، يقرص العظام ويوخز العضلات الضامرة ويجعد الجلود المتيبسة.

١١

أين ذهبَت قوتي وعضلاتي، عبارة كان يُردِّدها سجينٌ شغوف بممارسة رياضة الألعاب القتالية، وهو يقوم بحركات رياضية صباحًا وفي بعض الأحيان مساءً وسط حشد مزدحم من أجساد مستلقية في الممر الضيق. كنت أسمعه وأراه كما الآخرون ونسخر جميعًا مما يقوم به؛ لأنه واحد من مجموعة لم تدرك بعد أن الماضي قد انقضى ولم تبقَ منه سوى عِبَرٍ وذكريات.

مجموعة تظل تعيش الحاضر بعقلية أحداث مضَت وتواصل رفضَ حقيقة راسخة منذ الأزل. إن العالم يتغير ولا يوجد نهر يُستَحم فيه مرتين. عقلية تمسَّكت بأشياء بلاها الزمن وهي تُعطيها الخلود، معتقداتهم تُشبه حلمَ مصريٍّ قديم بعودة مومياء مَلك محنطة مع كنوزه ليعاود الجلوس على عرشٍ تنازعَه الورثةُ والأعداء من بعده ولم يفضل منه شيء. مُلْكٌ أفضل ما فيه أنه قد يصلح لأن يكون قطعة أثرية يتفرج عليها فضوليون في متحف للأشياء العريقة.

هذا وآخرون مثله كانوا يترنحون من صدمات الواقع الذي يعيشونه، وهو يرطم أحلامًا بعثرها الزمان في أدارج عاصفته الهوجاء التي ابتلعَتنا إلى هذا النُّزُل المظلم في العالم السفلي. وكلما كانت الأيام تُواصل سيرَها، كان توازنهم يختلُّ أكثر وأكثر كما هو عنادهم في مواصلة البقاء خارج الواقع. تصلبٌ لم يجد عقلهم معه من حلٍّ لهذه المعضلة المزمنة بالألم، إلَّا بأن يُعلن استراحتَه وتقاعده عن العمل ويتركهم لفوضى من خيالات تسرح بهم وأفكار مبعثرة تشظي أفعالهم بلا عقد جامع.

بعضهم بلغ به الحال أن يؤذيَ نفسه وآخر يقوم بأفعال غريبة مضحكة، فيما آخرون يتكوَّرون على أنفسهم يحيطونها بهالة كبيرة من كآبة سوداء لا يخترقها شيء، ويسير رويدًا رويدًا لكن حثيثًا نحو جنونٍ تامٍّ سوف يضم إلى حضيرته آخرين. لَم ألُمْ أحدًا منهم؛ لأن ما جرى لبعضهم كان أفضلَ حلٍّ يجده ليتخلص من وَقْع ذكريات متعبة تسحقه بألمها الفظيع.

منذ بواكير دخولي السجن عرفتُ أنه عليَّ أن أتعلَّم ألَّا أتذكَّر وأن أُفرغَ ذهني من الماضي، الشاعر التركي التقدمي والإنسان الرائع ناظم حكمت كان أثيرًا عندي، وكنت متعلقًا بقصيدة له اسمها «إلى مرشحي السجون» بما فيها من نصائحَ غاليةٍ ومعانٍ نفيسة مثل الدرر الكامنة في أعماق البحار الواسعة، يوصي فيها المرشحين للسجون مثلي حين تبدأ رحلتنا، ألَّا نفكرَ بالنساء ولا بالأشياء الرقيقة، وأن نفكر بالصخور ومثلها من الأشياء القاسية حتى لا يصيبَنا وهَنٌ ولا يعترينا ضعف. أوصدتُ كلَّ الأبواب على ذكرياتي وبنيتُ بينها وبين العالم الخارجي حاجزًا لا تقوى على اختراقه.

فيما بعد، حتى عندما أُتيحت الفرصة لي للاتصال بهذا العالم الآخر كنت مستمرًّا على ألَّا أفكر به وأحسب السجن هو الكون الوحيد المأهول بالبشر، وما خلاه نجمٌ بعيد مأهول يسبح في الفضاءات البعيدة لا تطؤه إلَّا روايات الخيال العلمي.

في أول الأمر، كانت إذا حامَت صورٌ منه حولي في يقظة أو منام، كنت أزجرها بعيدًا عني وأنصحها بعدم التكرار، فلستُ أنا الشخص المعني بها كمَن كان يُنكر علاقتَه بتهمة، حتى أحلامي اختفَت منها هذه الذكريات وخمدَت شعلة التعلق بالماضي والحنين إليه. السجن علَّمني أن أعيش الواقع وأدع الماضي يتلاشى ويغرق؛ لأنه اختفى من صفحة الزمان ويجدر به أن يغرق في طمِّ النسيان. مَن يَعِش فيه فسوف يورم رأسه ويأتي يومٌ يهشم رأسه بنفسه بطَرْق الجدران والصخور به ويدع المعاول تهدمه حتى يتخلص من هذا الورم، ولن يقدر على الخلاص منه إلَّا أن يذهبَا سوية إلى اضمحلال وتلاشٍ حيث تسمق منازل الفناء في هوة العدم.

الزنزانة عُلبة صغيرة، وما خلفَ جدرانها كونٌ شاسع لا حدَّ لأبعاده، قلت لنفسي ذلك في يوم اقتادنا رجال الأمن فيه إلى باحةٍ واسعة في السجن حيث وقفَت سيارةُ فحص الأشعة السينية للتأكد من حالات الإصابة بمرض السل الرئوي المنتشر بين السجناء مثل نزلات البرد الشتوية.

كان طقسًا ربيعيًّا مشمسًا راح بصري يبحر بسحره في السماء الواسعة بمنظر غريب لم تألفه عيناي منذ سنوات.

«يا لَلهول، أحقًّا هذا العالم واسع جدًّا لهذا الحد؟ أوَكُل هذا الوسع وترامي الأطراف لم يُقنع الناس ليتقاسموه ويعيشوا فيه بسلام؟ أحقًّا لا يكفي كلُّ هذا الرحب والسعة ليعيش كلُّ واحد منَّا في زاوية فيه يفعل ما يشاء فعله دون أن يُزعجَ الآخرين؟»

أيُّ تبلُّدٍ بهيميٍّ هذا الذي يغزو النفوس لتجعلَها ترتكب كلَّ هذه الفظائع، وأيُّ شيطان فيها هذا الذي يظهر بعدها بمظهر الرصانة والوقار يُبرر آثام فعلها، بل ويصنِّفها في خانة وصايا الرب العشرة. إنها آفةٌ نفسية عميقة أو تشوهٌ وراثي وخللٌ في الخِلْقة تدفع المرء لصُنْعِ كلِّ هذه الجرائم الرهيبة ويظهر صاحبها بعدها بلا مبالاة، بل ويفخر بها ويوهم نفسه وغيره بأنه أحسن صنعًا. لا يمكن أن يكون مَن يفعل كلَّ هذا سويَّ الخِلْقة أبدًا. لو كان كذلك فأي كوابيس تقضُّ مضجعه الآن، وتجعله يتقلب في فراشه أرقًا سهدًا في كل ليلة؟ لكنه ليس كذلك. إنه حين ينهض من سريره مطلعَ كلِّ نهار يعاود جرائمه كأنها قوته اليومي، كفافه الذي يعيش به وينبذ ضحاياه في قعرِ جُبٍّ عميق مظلم أو تحت ثرى في صحراء لا أحد يعرف موقعها، تسأل ولا مجيب ما الدافع وما هو المغزى لإحداث كلِّ هذا الألم بها.

هل صناعة الألم ترياقٌ بمقدوره أن يشفيَ صدرًا أوغر في كراهية كلِّ ما يمتُّ لنوع الإنسان من صلة، بل لكل ما في الحياة من جمال؟ كلَّا، إنه لن يفعل ذلك ولن يقوى كلُّ الغل والبغض للإنسان أن يُطفئَ جمال الإنسان الرائع. ليس من شيء في هذا الوجود أجمل من الإنسان، سجدَ الكونُ كلُّه له وخضعت له حتى الملائكة عنوان الجمال ومَن يأبى سيبقى طريدًا ملعونًا شيطانًا تَرْجمه بكل حجر ومدر حشودُ الحب الساعية إلى كعبة الكمال.

الحياة لن تتوقف، فما صُنْع الخريف بأوراق الشجر وظنونه الخاسرة بأنه قد بلغ عتبة النصر حين يُحيلها جرداء من الورق، إلَّا آمال خائبة وأماني عاطلة. حين يأتي الربيع سوف تزداد قوةً وترتفع أكثر ويواصل علوها ارتفاعًا معانقًا السحب والسماء تزين أغصانها بأوراق أشد خُضرة تُدخل الفرح والحبور في قلب مَن يرنو ببصره نحوها، وتُظلُّ العابر والمقيم بأفيائها وتمنح الجميع بلا تمييز ثمرًا يانعًا يجري فيهم الحياة. هكذا هي دماء الشهداء وآلام المعذبين مثل عذابات سنديانة عصية تحطم كلَّ فئوس الأشقياء التي تريد النَّيل من بقائها السرمدي.

يا ألله! ما أجمل الإنسان حين يكون إنسانًا.

عجز الطغاة رغم كلِّ هذه العذابات والآلام وبما امتلكوا من ماكنة القمع الهائلة أن يجعلوا من السجن مقبرة للأحرار، كما كانوا يحلمون ويُمنون أنفسهم. لم يقدروا على فعل ذلك، السجن صار مصنعًا يخرج منه ثوارٌ جُدُد ومدرسةً لأشياء كثيرة لم يستطع الظفر بها جمعٌ غفير من الناس، وإن ظن بنفسه أنه يعيش حرًّا خارج القضبان.

بمجرد أن تمَّ التخلص من الخونة الوشاة، انشغل الجميع بعملية تثقيف واسعة، تصدَّى لها سجناء يملكون الوعي والفهم والتفكير الصحيح وسعة الأفق، بغضِّ النظر عن الدرجات العلمية التي بالأصل لا تتوفر عند أغلب السُّجناء حيث حُرموا من إتمام تعليمهم جراء اعتقالهم. صارت لهؤلاء السجناء مكانةٌ اجتماعية لهذه السمات التي يتحلَّون بها خصوصًا أن هذه المؤهلات كانت تنعكس على سلوكهم الشخصي وحركتهم.

لقبُ المثقف والوجاهة الاجتماعية التي ينالها بواسطته كان يُعطَى في السجن ليس لكل مَن حفظ معلومة، بل لمن يقوم بدوره الرسالي، فليس مثقفًا مَن لم يكُ يعرف مشكلات بيئته ولا يقدِّم لها حلولًا، ولا يعدُّ منهم وإن قرأ الكثير أو كان ذَلِقَ اللسان. المثقف مَن يشعر بالمسئولية تجاه مجتمعِه وهو على أُهبة الاستعداد للتضحية في سبيل ذلك. المثقفون هم صُنَّاع الرأي العام يتبنَّون كشف الحقائق وهم شجعان في كشفها وفي الدفاع عنها حين ينكص الآخرون؛ لأنهم أصحاب رسالة، إنهم كالأنبياء بين قومهم.

كانت تُعقَد حلقات صغيرة وأحيانًا بشكل فردي للتثقيف في مواضيع شتى. وفي أوقات محددة ومناسبات معينة كان يجتمع كلُّ سكان الزنزانة لسماع محاضرة عامة أو المشاركة في برنامج احتفالي. المناخ الثوري كان هو السائد في عملية التثقيف والاحتفالات وتصدح الحناجر بأناشيد تُحرِّض على الصبر والثبات وعلى مواصلة الثورة والتحدي وتُبشِّر بالنصر. بوارق الأمل بنهاية حكم الظلم وسلطة القمع لم تتوقف ولم تخلُ الإشارة إليها في أيِّ برنامج خاص أو احتفال عام.

كثير ممن لم يكن له شغلٌ بالمعارضة والسياسة بدأ يتعلم مفرداتها وينخرط في أجوائها، وبالطبع لا يمكن القول إن الكل كان مهتمًّا بذلك؛ فبعض ممن وصل بقطار الصدفة لم تُغيِّره الأحداث، وبعض آخر أصابه إرهاقٌ وملل وتعب من المقاومة الصعبة والسباحة ضد تيارٍ جارف واستسلم، فصار سطحيًّا في مطالبه، تلاطم به أمواج الحيرة والتوجس، وتنشب مخالب الموت بجذوة الحياة لتنتزعه إلى اتجاه معاكس يحسبها تستبقيه على الحياة وهي تغرس الخنجر تلو الآخر فيه ليغدوَ كأنه جثة تأكل وتمشي في زقاق مدفنها الأخير.

وبرغم ذلك فإن تلك الفئتين لم تشكِّلَا عائقًا أمام عملية التثقيف، وأصبح السجن مدرسة حقيقية. تبادُل المعلومات يجري بشكل متواصل وبطريقة عمل الأواني المستطرقة، فكلٌّ يقدِّم ما عنده من خلاصة مطالعاته وخبرته إلى الآخرين. وبوجود عدد لا بأس به ممن يحمل ثروة معرفية وخبرة سياسية، تحوَّل تبادل المخزون الثقافي إلى صناعة فكرية؛ إذ صار هناك الكثير ممن بات يستثمر وقته في التحليل والتفكير العميق ليخرج برؤًى فكرية جديدة.

انهمك الشعراء — وما أكثرهم — في نظم القصائد في مواضيع شتى أغلبها يشعُّ ثورية وتحدِّيًا، يشجعهم على نظم المزيد منها شبابٌ يحول تلك القصائد إلى أناشيد تلهب الحماس وتشد أَزْر الجمع في مواجهة المحنة القاسية وظرفها الرهيب.

الاعتقال السياسي كانت له حسنة كبيرة على السجن؛ إذ بين هذا الجمع الكبير من السجناء لم يكن بينهم إلَّا قليل جدًّا من سيِّئي الأخلاق رديئي الطباع مستعدين لارتكاب أفعال رذيلة؛ لأن الأغلبية وإنْ لم تكن غير منخرطة بتنظيمات سياسية فإنها أيضًا لم تُعتقل بسبب ارتكاب فعلٍ سيِّئ كما هو الحال في باقي السجون، بل جرى اعتقالُ كثيرٍ منهم لشبهات تحوم حولهم أو لأنهم مرتبطون بعلاقات خاصة مع شباب ثوري. وإلى جانب هذا هناك عددٌ كبير من السجناء ممن يلتزم بالفعل وليس بالقول فقط بأخلاقيات الثوار الرومانسية، من صدقٍ ووفاءٍ، أمانةٍ ونُبْل، والتزامٍ شديد بالسلوك القويم، بل مضافًا لذلك، يحملون صفةً غاية في الأهمية وهي الريادة والقدرة على توجيه أيِّ جمعٍ يحلون فيه. صفة رائعة وخصلة مدهشة مكَّنتهم من فرض نهج أخلاقي جميل في السجن. أحبَّ كلُّ السجناء ذلك والتزموا بتلك الأخلاق في تعاملاتهم وتأكدت بذلك مقولة آمنتُ بها مبكرًا: «عندما يصلح القائد تصلح الجموع.» التي تتبعه في حركتها، وتختفي كلُّ عيوبها الداخلية الصغيرة.

هذه العيوب بغياب قائد صالح مصلح تبدو مشكلةً اجتماعية عميقة لا سبيل لحلها ولا للخلاص منها، أما إن ظهر رائدٌ بخصالٍ حميدة وأخلاقٍ رفيعة يقود حركةَ المجتمع فإنه يجذبهم إلى شاطئ فطرة الإنسان الجميل، وحينها يتحدون في الأشياء الجميلة وتضيع كلُّ العيوب الأخرى والعكس صحيح أيضًا. المجتمعات بحاجة إلى مَن ينظمها في مسار مستقيم بقدرات فنية يملكها هذا القائد وأهمُّها حكمتُه وإخلاصه لشعبه ولمبادئه. ولحسن الحظ كان السجن يعجُّ بالمخلصين ولا يخلو من الحكماء في الأقوال والأفعال؛ لذلك ارتقت الأمانة والصدق إلى درجة مثالية بين السجناء.

بسبب الزحام الشديد وتشابُه الأشياء المستعملة كان يحصل في كثير من المرات أن يتوهم سجين في ملكية حاجة ما، ويعتريه شكٌّ بعائديتها، فيتركها زهدًا وتعافها نفسه مع حاجته الماسة لها. تتحول القضية أحيانًا إلى شبه معضلة؛ إذ تصبح هذه الأشياء كدسًا متراكمًا في وسط الزنزانة لا أحد يعرف مالكه وتأخذ حيزًا في الزنزانة الضيقة ولا يتقدم أحد لاستعمالها، وغالبًا ما كانت تحل المشكلة بطلب إذن جماعي بحق التصرف يُمنح إلى مراقب الغرفة أو شخص آخر محل اعتماد في الأمور الإدارية ليتولَّى توزيعها بما يقدِّر ويرى.

وفي فترة لاحقة عندما أصبح بإمكاننا مواجهة أهالينا، لجأ بعضُ السجناء — خصوصًا مَن كانت أُسَرُهم تعاني ضائقةً مادية ويشكون من قلة اليد — إلى بيع بضائع كانت تَصِلهم من عوائلهم مثل السجائر وأشياء بسيطة أخرى لتمشية أموره المالية ولرفع الحرج عن عوائلهم وتخفيف العبء الذي ينوءون به. في أيام المواجهة كان ينشغل عن بضاعته بملاقاة أهله، لكنه لا يتوقف عن بيعها؛ إذ يضعها مفروشة على الأرض ويذهب لقضاء وقته مع عائلته، فيما يأتي السجناء الآخرون وبعضٌ من زوَّارهم يتبضعون منها، يأخذون ما يرغبون ويضعون مقابلها عوضًا ماديًّا بلا كاميراتِ مراقبة ولا أمنٍ يقفون عند بوابات المحال ولا هناك من محاسب ولا رقيب إلَّا أخلاق آمنَ الجميعُ بجدواها وتواصَوا عليها وصارت خيمة يستظل الجميع بأمانها وسلمها.

الأمرُ بدَا غريبًا جدًّا لمن لم يَعِشْ بيننا في سجون الاعتقال السياسي؛ إذ في مرة بينما أحد رجال الأمن يتجول في الأقسام أثناء المواجهة رأى عمليات البيع والشراء تسير بهذه الطريقة ولم يفهم ماذا يحدث بالضبط. ولما شُرح له الموقف لم يصدِّق أُذُنَه ولا عينَيه، خرج مذهولًا يُردِّد كلمات استوحيت منها عبارة كتبتُها في هذا الكتاب حين قلت: «عالمي الذي أحلم به حيث تضوَّع ريح الأنبياء وهي تلامس الأموات لتُحييها.» وقف رجل الأمن يقارن بين هذا العالم الغريب المخفي عن العيون وبين عالم وحشي يعيشه. عيناه حكت ألمًا وهو يرى، بل كان يردد ويقول: «هل هذه هي الجنة أم هذا هو الفردوس يتجسد أمامي؟»

١٢

تطور الأمر إلى أكثر من التثقيف الجماعي أو الفردي إلى درجة أن البعض اندفع إلى محاولة بناء تنظيمٍ سرِّيٍّ داخل السجن. كانت عملية يشوبها حماسٌ زائد وتفتقر إلى الحكمة رغم سلامة النوايا. خطوة قام بها متحمسون وانضم إليهم شبابٌ حديثو السن ولم يحسبوا جميعًا أضرارها ونتائجها بخلاف خطورتها الأمنية الشديدة وعدم جدواها المطلق في تحقيق أيِّ فائدة في زعزعة النظام كما هو هدف العمل التنظيمي لإحلال بديل عنه؛ لأنها كانت تتحرك بمزاج أشخاص صنعوا هذا التنظيم الخاص ولا علاقة لهم بأيِّ تنظيم سياسي حقيقي خارج القضبان، مما يعني بكل بساطة أنه مزاج أشخاص ورغبات ذاتية في بناء جسم تنظيمي يتولَّون هم شخصيًّا قيادته، وهذه آفة التنظيمات السياسية.

التنظيم السياسي حركة جماعية لتحقيق أهداف يسعى إلى بلوغها الفكر الذي تلتف حوله الجماعة، وليس هناك من تابعٍ ومتبوع في الحركة إلَّا بمقدار تنظيم الحركة فيه. القطب الذي ينبغي أن يدور حوله الكلُّ هو الفكر والهدف، لا الأشخاص مهما كانوا، وعندما يصبح بعض الأشخاص في التنظيم بمنزلة القيِّم على الفكر وتحديد غاياته ويصبحون هم مَن يحدد المسارات برؤيتهم الخاصة، حينها يفقد التنظيم السياسي جدواه ويتحول إلى ما يُشبه دينًا وثنيًّا يتحكم به كاهن يسكن معبدًا، وما على أتباعه سوى تقديم القرابين والنذور على مذبحه. النخبة التي تُسيطر على التنظيم وتسعى إلى التفرد تُجهض التحرك الثوري بدلًا من قيادته فيما لو تعارضَت مصالحُها مع مصالح الحركة الثورية. ولن يستطيع تنظيمٌ تأسَّس على هذه الطريقة والمنهج أن يكون ذا جدوى ونفع أبدًا.

بدأت هذه الخطوة الانفعالية المزاجية تُقسم المجتمع المتماسك في جميع الزنزانات؛ إذ إنه في زنزانة محشوة بعددٍ كبيرٍ من السجناء لم يكن من العسير اكتشاف وجود علاقة خاصة بين مجموعة معينة منهم، وهم يتكتمون في أحاديثهم على أمر خفي، خصوصًا أن كثيرًا من السجناء كان مدرَّبًا على العمل السري ويلتقط بسهولة هذا النوع من العلاقات.

الثورية الزائدة مرضٌ يتوفر دائمًا عند قليلي الحكمة. المتهورون والمتزمتون والمندفعون هم مشاريع تطرُّف سياسي ومرض طُفَيلي في أيِّ فكر تغييري، والأفعال التي تصدر منهم غالبا تتسم بانفعالية كينونتها رد الفعل؛ سلوكهم يتسم بالانغلاق، وكل هذا جعل انكشافَ أمرهم أكثر سهولة ويسرًا في مجتمع السجن الخاص.

هذا الشرخ الاجتماعي متزامنًا مع الرفض من قِبَل أغلب السجناء، خصوصًا ممن كانت له ريادة اجتماعية، جعل هذا المشروع التنظيمي في وضعٍ لا يُحسد عليه، وأصبح عُرضةً لانتقاد شديد خلَّف عددًا من المتاعب والمشاكل لأصحابه، وخَلَق جوًّا من التوتر العام في أكثر من مكان.

عدم الاستجابة لرأي الأكثرية والإصرار على أمر خاص لا يختلف كثيرًا عن الجهود التثقيفية التي كانت تتم في الجو العام أجهض المشروع نهائيًّا، إلَّا أنه لحسن الحظ تم احتواء هذا التحرك في النهاية بشكل تام. لكن لم يكن ذلك بلا خسائر، بل أخذ وقتًا ليس بالقليل وجهدًا غيرَ متواضع من الحوارات المطولة، وبنفس المقدار أحدثَ انقساماتٍ وشجارات تطوَّر بعضُها للأسف إلى اعتداءات لفظية وجسدية.

لكن هذه الشجارات كانت ستحصل أيضًا حتى بدون هذه الخطوة السقيمة؛ إذ إن هناك كثيرًا مما يمكن له أن يسبِّب شجارًا وخصومة بين السجناء، فأجواء الحرمان القاسية والضغط النفسي كانت تنتظر شرارة لتندلع فيها حرائقُ صغيرةٌ سرعان ما تخمد؛ لأنها لم تكن سوى محاولة للتنفيس عن توتر وغضب يعتمل داخل النفوس. وكانت دوافعُها في جميع المرات أسبابًا تافهةً جدًّا لكن يمكن تفهمها.

مثلًا: أيُّ شخص بعد تناوله الفطور كان مضطرًّا لقضاء حاجته أن يجلس أمام المرحاض في طابور طويل مكوَّن من أربعين شخصًا أو يزيد. لنتخيَّل كيف ستكون أعصابه حين يحاول جاهدًا ألَّا يصدرَ منه ما يعيبه بعد أكثر من ساعة من انتظارٍ مملٍّ، ثم يأتي أحدُهم ويحاول بحذلقة ماكرة أن يتخلص من طول الانتظار مدَّعيًا أن لديه مغصًا شديدًا أو حاجة مستعجلة. سيحدث ردُّ فعلٍ غاضب خصوصًا إن كان متأكدًا أن هذا التفافٌ ماكر، وسوف ينفجر غضبًا ويحدث شجارٌ بينهم بالتأكيد.

يمكن لأيِّ أحد أن يعيش في هذه الظروف أن تفسد طباعُه وينقلب وحشًا كاسرًا، وهذا ما يحصل في السجون الجنائية حيث تتحول الخصومات الصغيرة إلى معارك دائمية، لكن في هذا السجن كان كلُّ شيء ينتهي سريعًا ويتم التصالح بين السجناء، مما جعل السجن رغم كلِّ ما فيه قابلًا للاحتمال.

كان السجناء يتحيَّنون الفرص للتصالح والتغاضي أحدهم عن الآخر من هذه الخصومات الهامشية، ويستغلون المناسبات والأعياد للتصالح؛ لأنهم كانوا يرَون في أنفسهم أنهم أصحاب قضية أكبر بكثير من سفاسف الأمور. حتى أنا — وبرغم الطبع الهادئ الذي أُوصَف به من أغلب مَن يتعرف عليَّ — دخلتُ في هذه النوع من الخصومات لأكثر من مرة. مثلًا في إحدى المرات، كنت أنام عند جدار به ثقب صغير يمكن من خلاله الاتصال بزنزانة مجاورة، هذا الثقب أصبح محجًّا لكثير من السجناء يتوافدون عليه للحديث مع سجناء آخرين في زنزانات أخرى. كان أمرًا مضجرًا فعلًا وكم كان مزعجًا ألَّا أحظى بالراحة حتى في الشبر الواحد المخصص لي. نعم إنه شبر واحد تضطجع به، حتى إنه في يوم صرخ أحدهم: «يا إلهي! حتى في القبر يُعطَون شبرًا وأربعة أصابع!»

نعم، إنه مضجع أضيق من القبر ومع ذلك لا أحظى به؛ لأنه قرب ثقبٍ صار برجًا للاتصالات، بحقٍّ كان أمرًا لا يحتمل، وفي مرةٍ صار وقت النوم وظلَّ أحدهم يواصل ثرثرتَه، رجوتُه أن يترك المكان ويدعني أرتاح، لكن في كل مرة كنت أرجوه المغادرة يطلب بضع دقائق إضافية. كنت متعبًا ضجِرًا، ونفسي متكدرة مما فاقم تعبي. وبعد أن صار يقينًا عندي أنه لا يُعيرني اهتمامًا نفد صبري الذي — بصراحة — لم يكن كبيرًا ساعتئذٍ. صرختُ به وتبادلنا الشجار بكلمات غضب واستغرق الأمر عدة أيام فقط من إشاحة الوجه فيما بيننا لنستعيد العلاقة الودية من جديد، وكأن شيئًا لم يكن.

الاتصال من خلالِ ثقبِ الحائط كان أبسطَ الطرق وأكثرها بدائية في منظومة الاتصالات التي تعامل بها السجناء، ولربما اخترعوا بعضًا منها؛ لأنها لم تكن سوى كلامٍ مسموع ينتقل من فمٍ إلى أُذُن. كلُّ ما في الأمر أن تضعَ فمك مرة على الثقب وتارة أخرى أُذُنك عليه لتسمع ردَّ صاحبك. الثقب لم يكن طبيعيًّا في أغلب الأحيان، بل كانت تصنعه يدُ سجين تجد مكانًا رخوًا في حائط فاصل بين زنزانتَين، وحينها يبدأ حفرٌ دقيقٌ للإسمنت عند نقطة التقاء أكثر من بلوكة، لإحداث ممرٍّ صغير يمكن أن يمرَّ منه خيطُ ضوءٍ رفيع جدًّا. هذا المقدار الضئيل يكفي لمرور الصوت وتبادل الأخبار والنميمة أحيانًا، إلَّا أنه لم يكن الطريقة الوحيدة للتواصل.

كان هناك أشخاصٌ يبرعون في التعامل بلغة المورس المعروفة عند العسكريِّين، يتبادلون الحديث والأخبار بواسطة هذه اللغة وبسرعة فائقة، ومع أني كنت أحفظ شفرتها جيدًا، إلَّا أني لم أكن سريعًا بما فيه الكفاية في استعمالها. كنت أُفضِّل طريقة أخرى في التواصل، وهي الكتابة في الهواء وهي طريقة شائعة بين السجناء ومن إبداعاتهم الخاصة لأني لم أرَ لها مثيلًا في أيِّ مكان آخر. تعتمد أصول هذه الطريقة على رسم الكلمة في الفضاء بطريقة تقطيع الحروف، وعلى الشخص المقابل جمعُ هذه الحروف التي تشكِّل أجزاء الكلمة وإدراك معناها ودلالتها. كنت أُجيدها وأستخدمها كثيرًا للتواصل مع سجناء في زنزانات أخرى. لم تكن وسائل التواصل هذه مخصصة لتبادل التحايا والسلام أو الثرثرة وحسب، بل كانت أيضًا قناةً للتزود الفكري والتعلم والتدريس، وإن كانت تسرق وقتًا مديدًا وجهدًا ضخمًا، لكن لم يكن هذا عائقًا مهمًّا؛ لأنه لا شيء عندنا أكثر من الزمن الذي لم يكن ينقضي أبدًا.

ولأجل التواصل الثقافي والفكري كان السجناء يلجئون إلى طريقة أخرى في تبادل الدروس عبر الزنزانات؛ فقد كانوا يتبادلون المخطوطات فيما بينهم. ولما كان القرطاس والدواة من المحظورات، كان من اللازم إيجاد بديل عنهما. في السنوات الأربعة الأخيرة من سِنِي سجني بدأ الوضع الغذائي بالتحسن قليلًا، وصار يصل إلينا بين حين وآخر كأسٌ صغيرة من اللبن، يتقاسمه أربعة أو خمسة أشخاص، لكنَّ غطاءَه العلوي — وهو من ورق السيلفون — كان حصرًا من نصيب المهتمين بالأمور الثقافية إن كانت فكرًا أو أدبًا. وبالاستعانة بعظام دقيقة من الدجاج الذي يُستعمل كدواة تحوِّل السلوفان إلى قرطاس يجري الخطُّ عليه بطريقة الحفر الدقيق الناعم، كل ما يراد تسطيره في أيِّ موضوع سياسيًّا كان أو دينيًّا أو ثقافيًّا بشكل عام من شعر وأدب وغيره صار يُدوَّن على هذا القرطاس. ولم يكن هذا النوع الوحيد من القرطاس؛ ففي كل شهر تقريبًا كانت تصل إلينا في زنزانة الحجر الصحي عُلب حليب توزَّع على المرضى، وبالعادة تُمنح أولًا للحالات المتدهورة جدًّا على الأغلب. كان الحليب يُجلَب إلينا معلَّبًا في كارتون مغلَّف من الداخل بسلوفان سميك؛ ولأن كل عُلبة كانت تحوي لترًا من الحليب السائل، فكانت القطعة كبيرة جدًّا تكفي لتدوين مقالة طويلة، وباستخدام عظام الدجاج كانت الكتابة عليه أسهل وأسرع ولا يُعاني من تشققات كما هو حال سلوفان اللبن.

استخدمتُ هذا الورق كثيرًا في الإعداد لمحاضرات كنت أُلقيها في مناسبات عديدة، أو لتدوين أفكار كنت أظفر بها، خصوصًا عندما يهجع الكل إلى النوم. كنت أحرص على استغلال فرصة الهدوء وأسرح بعيدًا في تأملات عميقة أوصلني بعضُها إلى اكتشافات فكرية جوهرية، أسسَت عندي لمبانٍ فكرية جديدة طوَّرت من فهمي لأشياء كثيرة، وربما أيضًا سبَّبت لي مشاكل ليست قليلة في حينها، لنقصٍ في خبرتي ولبعض الحماس غير المبرَّر مني للجهر بآراء صريحة مقابل بعض محدودي الفهم والمتعصبين، وأشخاص منزعجين جدًّا من تسَيُّد المشهد الثقافي من قِبَل مجموعة معينة كنتُ أحدَ أفرادها.

هذا الوضع المميز جعلَنا في مركز اجتماعي حسن، بعضٌ قليلٌ من السجناء كان لا يروق له ذلك، واشتعلَت الغيرة في صدره، واضطرم الحسد في نفسه المضطربة أصلًا، فبدأ يختلق الأعذارَ وينتحل الحجج للتوهين من آخرين. الغريب أنه حتى في هذه الأوضاع المُزْرية حيث الحرمانُ من كل شيء، كان التنافس على المواقع والحسد متوفِّرًا بصورة ملحوظة مع أنه لا يوجد شيء يستحقُّ الاهتمام فضلًا عن القتال عليه.

في إحدى المرات كنتُ أجلس متكئًا على حائط، بينما تجتمع في إحدى زوايا الزنزانة مجموعةٌ من الأشخاص لحلِّ خلافٍ نشَبَ بينهم، ولسبب ما أجهله الآن حجب بصري شيءٌ ما عن رؤيتهم، لم أقدر على ملاحظة المشهد إلَّا من خلال النصف السفلي لأجسادهم، سقط نظري على أقدامهم وهم وقوف يهمون بالجلوس ورأيت أرجلهم حافية مجردة من أيِّ نعلٍ؛ مشهدٌ غريب أحدث أثرًا عميقًا فيَّ. إنهم لا يملكون حتى نعالًا ولو خلعوا أسمالهم البالية لكُشفَت عوراتهم في الحال؛ لأنهم لا يملكون سروالًا داخليًّا ليرتدوه. هل هناك من شيء فعلًا يستحق كلَّ هذا التنافس والخصومات؟! وهل يوجد شيء ليس هنا في هذا المكان المُقْفر من كل ما يمتُّ للدنيا وحسب، بل في كل هذه الدنيا يستوجب التنازع لأجله إلى حدٍّ تصل الأمور فيه إلى سفك الدماء وقتل الأبرياء؟!

ما أغرب نفس المرء حين تُوهمه بمغريات زائفة وهي في حقيقتها أوهامٌ وعدمٌ، أو كادت أن تكون كذلك في أكثر المرات. النوازع البشرية لا تتغير بتغيُّر الظروف سواء كانت خشنة أو ناعمة، قاسية أو رقيقة. غرائز تبقى كما هي في كل الأحوال وكل ما تفعله تبدُّلات الظروف في منعطفاتها حين تدهم المرء على حين غِرَّة، إنها تُعطي دروسًا مجانية لمن يريد أن يهتديَ بنورها.

في هذه المنعطفات الحادة تتعرَّى الأشياء من تراكمات الزيف وتتبدَّى ماهية الحياة مجردة من أيِّ زخرف وزينة، وتسقط الهالة الساحرة الغامضة التي طالما خدعَت الأبصار وشوَّشَت الأفكار وهي تتلوَّى مائجة. مَن أخذ الدرس يركلها هي وكل الأوهام التي تذهب بلُبِّ كلِّ توَّاقٍ نَهِمٍ يشتهي مُتَعًا زائلة بلا تدبُّر ولا حسبان لعواقب وبيلة، ويقي نفسَه عواقبَ تُنزِل به الضرر عاجلًا أو آجلًا.

كان تبادُل المخطوطات يجري بسريَّةٍ بالغة حتى بعد التخلُّص من الخونة، وهناك تحفُّظٌ كبير في تداولها؛ لأن السجن معرَّض لحملة تفتيشية في أيِّ لحظة. كان أفراد الخدمات الصالحون يقومون بهذه المهمة، وإن بحذرٍ شديد، وفي مرات أخرى كثيرة كانت تُنْقَل داخل حاجيات أخرى وقد دُسَّت في مكان سريٍّ، إلَّا أن نَقْلَها من قسم إلى آخر كانت مهمةً عسيرة جدًّا وتتطلَّب مهارةً فائقة.

يُصنَع حبلٌ وفي آخره ما يُشبه صِنارة صيد ويُرمى بأقصى ما يمكن من فتحة البلوك الوحيدة المسماة شبَّاكًا تسامحًا. ما يراد نقله يكون بالعادة بعضًا من الحاجات المهمة التي تُجمع لمدة طويلة من الزمن، وتُنقل إلى قسم آخر لحاجة ماسَّة إليه، وطبعًا لا تخلو البضاعة من أوراق ومواد ثقافية في أغلب المرات. كانت العملية تستغرق ساعات أحيانًا؛ لأنها تتم تحت جُنح الظلام، كان الطرف الآخر يرمي بصنارته أيضًا لمرات ومرات عسى أن تلتقط الحبل الذي رماه صاحبه في الجهة المقابلة، وعندما تُعلَّق الصنارتان، يبدأ سحب الحبل بحذرٍ بعد أن يربط به كيس البضاعة المهرَّبة؛ لأن عرض الساحة بين القسمين كان يزيد على العشرين مترًا، والأنكى من هذا أنها كانت مكبًّا كبيرًا للنفايات وكل شيء فيها يشكِّل عقبة أمام انسيابية النقل سحبًا.

في مرات كثيرة كانت الصنارة تُفلِت؛ لأن البضاعة تُعلَّق في كومة نفاية كبيرة يصعُب تجاوزها، ويضطر الطرفان إلى سَحْب حبلَيْهما ومعاودة رميهما من جديد حتى تُعلَّق مرة أخرى ويبدأ سحب آخر. يظل الطرفان في توترٍ وترقُّب طوال الوقت خشية أن يدهمهم حرسٌ أو رجل أمن يسير في دورية ليلية، وكانوا بالفعل يمرون كثيرًا لتفقُّد السجن من الخارج مما كان يوقف عملية التهريب في فترات استراحات إجبارية. إلَّا أنهما يستمران في محاولة تهريب البضاعة ويظلَّان واقفَين طوال الليل حتى تتمَّ العملية قبل طلوع الفجر مكلَّلة بالنجاح في كل المرات.

١٣

رغم تخلُّصنا من الخونة، وفتح قسم جديد قلَّل نسبيًّا الزحام وصار عددُنا في كل زنزانة بحدود خمسة وثلاثين شخصًا، إلَّا أن الظروف الصحية استمرت في حالها السيِّئ وتواصل انحدارها. معاملة رجال الأمن لم تتوقف عن إذلال واحتقار السجناء وإنزال عقوبات قاسية بهم لأسباب بالغة في التفاهة. وكلما كانت أيام السجن يتزايد عددُها، كلما كانت الأمور تسوء أكثر، ويحتدُّ الغضب والحنَق أكثر عند السجناء ويتضاعف وَجْدُهم وتستفحل الضغينة ويتفاقم كربُهم.

بين فترة وأخرى — ليست متباعدة — يموت سجين بسبب هذه الظروف المريعة، وكثير منهم يُصاب بنوبات من إغماء، أو يضحون بهيئة وحال يُشعَر معها بقلق حقيقي، إنهم في سبيل التلاشي وهجر الدنيا كلية، وبالفعل فارقنا أكثرُ من واحد منهم وحصَل ذلك أمام ناظرَيَّ مباشرة وأنا أشهد ترجُّلَهم من الدنيا وعروجهم إلى سماء طالما انتظرنا عَدْلها.

شابَّان شهدتُ فقْدَ حياتَيهما جرَّاء المرض الشديد على مقربة جدًّا مني، وسمعت كيف تخمد الأنفاس في مشهد مرعب. يجاهد صبيٌّ في صراع مع مجهول لسحب أنفاسه وذاك الغريب من عالم الميتافيزيقيا يطبق عليها. يرفع ساقَيه محاولًا أن يرفسَه بهما، وهو يشدِّد عليه الخناق حتى ازرقت قدماه وهوتَا وأحلامه بالبقاء، لتخمد ضراوة المعركة مع انقطاع آخر أنفاسه الأخيرة، وتسدل ستارة من حُزن ووجوم على زنزانة تحوي جسدًا غضًّا يسحبه رجالُ الأمن في بطانية سوداء بعد ذلك إلى غرفة مجاورة.

كنا نتلصَّص من خلال ثقب الباب على جسده المطروح منبوذًا مهجورًا بلا احترام، فيما يحاول قطٌّ سمين الاقتراب منه يدور حوله ثم يتراجع ويقعد بعيدًا عنه في زاوية، كأنه يقول: لا تخَف يا عزيزي، أنا لستُ وحشًا كأبناء جنسك، ولا أحمل غلًّا في قلبي لإخوتك الصغار وهم يلاحقونني في الأزِقَّة الضيقة، ولو كنتَ تركض معهم حافيًا تقذفني بالحجارة من السطوح فلن أردَّ عليك الإساءة، أنا لا أملك كلَّ هذا الحقد لفعل شيء كهذا كما فعله بك مَن كنت تحسبهم بشرًا وتحسبني حين كنت تراني وحشًا.

الغضب يتزايد ككرةِ ثلجٍ تُواصل الانحدار، وغدا معه أغلب السجناء غير مبالين بالحياة، كثيرٌ منهم كان جَسورًا شجاعًا ومستعدًّا للمواجهة بلا أدنى تردد وبلا حاجة لأن يغضب أصلًا من سوء المعاملة، فكيف به معها؟ يحاول السجناء في كل مناسبة أن يتكتَّموا على آلامهم أمام رجال الأمن ويُبْدوا جَلَدًا ومقاومة. وما زلتُ أحتفظ في ذاكرتي بصورة شاب تلقَّى صنوف العذاب مع آخرين، وحين انتهى التعذيب طلب منهم رجلُ أمن أن يُهرولوا مسرعين إلى زنزانتهم. قام ورجع يمشي بكل هدوء ووقار، فعاجله رجلُ الأمن بضربات على ظهره لاستعجاله، لم يأبَه لها وظل يمشي وكأن سِياطَهم ذبابٌ يُطنطِن عند أُذُنَيه لا يستحق منه الاهتمام سوى أن يهشَّه بيدَيه. وصل الزنزانة دون أن يغيِّر من نسق خطواته ولم يرتبك في أيِّ واحدة منها ولم يستعجلها ولا حتى بنصف خطوة.

كنا نمارس لُعبةَ السعادة في رفع المعنويات، نشدُّ أَزْر بعضنا بالتكاتف والتواصي، ونقول حالنا أفضل من حال غيرنا، حتى إننا في الزنزانة التي نُقلت إليها بعد انتهاء فترة الحجر الصحي اخترعنا يومًا كنا نسميه يوم الصبر. موعدُه السنوي في اليوم التالي ليوم وطني (عيد الجيش العراقي) تتردد قبله إشاعات كثيرة عن صدور عفو حكومي على السجناء ابتهاجًا بذاك اليوم، وتتكرر فيه كلَّ سنة الأخبارُ الكاذبة نفسها وكنَّا نعلم أنها إشاعات ليس إلَّا، ومع ذلك كان البعض يشتد به الشوق والحنين لزوجة تركَها أو أطفال خلَّفهم كاليتامى، أو آخر يتوق للعودة إلى عالم بلا أسوار ولا قضبان، ويُصيبه وهَنٌ وتراخٍ، ويحلُّ به ضعفٌ يزحزح قدمَيه ويرجرج موقفه. ضعف طبيعي، فما كنَّا سوى بشرٍ يعترينا ما يعتري غيرنا من لحظات انتكاسة وقوة إلَّا أنَّا كنَّا نبغي مطاولة البغي وهزيمة السيف بالصبر. صار رأْينا أن نقيمَ احتفالًا عامًّا جماعيًّا في هذه المناسبة كل سنة في الموعد ذاته نترنَّم فيه بأناشيد حماسية، ونُلقي قصائد وكلمات تُشيع بيننا روح المقاومة والاستخفاف بممارسات الأمن وحربه النفسية، ونتجاوز لحظة الانكسار والضعف بالوثوب خطوة إلى الأمام في استجماع ولَمْلمة كل قوانا.

من الأشياء الغريبة في السجن هو كثرة الشائعات والأخبار عن عفو رئاسي لإطلاق سراحٍ وشيكٍ. وكانت الإشاعات تُروَّج بفكاهة؛ لأنها تُبنى على معطيات وهمية هي للتهريج والمزح أقرب من أيِّ شيء آخر. في إحدى الأمسيات، وقف أحدهم وسط الزنزانة وطلب منَّا الهدوء وبسمة عريضة على وجهه والبشرى ترتسم على محيَّاه، وهو يقول: «عندي خبر مهم!»

أنصت له الجميعُ بخشوع واهتمام كما لو أنه كان يتلو قُداسًا: «صدرَ عفوٌ سريٌّ جدًّا من مجلس قيادة الثورة على جميع السجناء السياسيِّين، وقريبًا سوف تبدأ إجراءات إطلاق سراحنا، أرجو التكتُّم على الخبر؛ لأنه وصل عن طريق ثقة وأخشى من الأمن لو سمعوا بانتشار الخبر يتعرفون على المصدر.»

بادره على الفور شابٌّ صغير لم يكن حينها قد أكمل خمس عشرة سنة من عمره بنبرة سخرية واستهزاء: «واضحٌ جدًّا أن هذا العفوَ سريٌّ للغاية، والدليل أنت معنا في هذه الزنزانة المظلمة ووصلك الخبر.»

انفجر الحضورُ ضحكًا، وتذكَّرتُ قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة» والطفل الذي كشف عُرْيَ الإمبراطور وزيفَ المنافقين. مثل هذه الأخبار كانت تُشابه وتُماثل الأحلام والرُّؤَى التي كان يتحدث بها بعضهم. كان أحدهم مستودَعًا لا ينضب خزينه من أحلام ورؤًى لا تنقطع عنه لصالحين وأولياء وأئمة وأنبياء ليس لهم من همٍّ ولا شغل ولا عمل إلَّا المرور عليه لينقلوا له نبوءات تُبشِّر بالفرج القريب، لم تتحقق ولا واحدة منها بالطبع لكنه لم ينقطع عن رؤيتهم ولا عن نقلِها. آخرون كانوا يتحدثون عن نبوءات الأقدمين ويوافقونها مع واقعنا مبشِّرين بسقوط النظام وخروجنا منتصرين وأكثرها مبعثًا للسخرية والازدراء لسخافتها كانت تقول إنه ورد في الأخبار الصحيحة عن السلف الصالح أن نهاية فلان (بتأويله صدام) تكون عندما يبلغ العراق نهائيات كأس العالم، وكانت النتيجة أن خرج العراق من هذه الكأس بثلاث هزائم متوالية وهزيمة رابعة حلَّت بصاحب النبوءة عندما لم نخرج من السجن نحن أيضًا.

خلطة من عجزٍ ويأس وجهل في جماعة لا تُعايش واقعها، لا تريد الاعتراف به، ولا تحاول تغييره بنفسها لتلجأ إلى الخرافة والأساطير وتنعم برفاهيتها الزائفة وتخدع نفسها بسعادة وهمية.

تمرُّ على جميع الأمم وأغلب المجتمعات ظروفٌ طاحنة في ضراوتها، قاسية في وقائعها، مريرة في أحداثها، الجهَلة والعاجزون فيها يركضون وراء الأحلام والخرافات والأساطير ليناموا تحت أفيائها، ليتفاقمَ قبحُ الواقعِ عليهم ويغرس مزيدًا من حِرابه في خواصرهم ونِباله في صدورهم، ويجثو بثقل بشاعته، ويكلِّفهم سخفُهم ثمنًا باهظًا وهم لا يفتئون يُردِّدون وقائعَ أحلام لن تتحقق أبدًا، ولن يقف على بابهم «غودو»، ولو ناموا الدهرَ كلَّه في انتظاره.

١٤

الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بحتميتها كلُّ البشر، وعلى الرغم من هذا إلَّا أن وقوعه يتحول دائمًا إلى حدث مُزلزل ثقيل الوطأة على كل النفوس، وهذا ما جرى في ذاك اليوم المشهود.

شابٌّ بغدادي في ريعان شبابه يحتضر من مرضٍ عُضال أصابه في السجن جراء نقص التغذية وانعدام الرعاية الصحية بالمطلق. جهد أفراد زنزانته — ومعهم شباب الخدمات — على الطلب من الضابط المسئول عن الأقسام المغلقة بتقديم بعض المساعدة له في محنته، واستنفدوا كلَّ الحجج والسُّبل في سبيل إقناعه بأن هذا الشابَّ في وضعٍ صحي مُزْرٍ للغاية، وينبغي تقديم العلاج له وإسعافه، إلَّا أن رجال الأمن بالغوا في تجاهل الطلبات إذلالًا وإهانة للسجناء. أصروا على عدمِ تقديمِ أيِّ عون له، حتى لو كان يسيرًا لجبر الخواطر وليس لإسعافه، فقد وصلت حالتُه إلى نقطة حرجة جدًّا، وأشك أن أحدًا كان بوسعه إنقاذه، لم يقبلوا حتى أن يُعايِن طبيبُ السجن حالَه، ولا أن يُنقَل لمستوصف السجن ليموت هناك. كان هذا خيارًا سهلًا وبإمكانهم أن يفعلوه بلا أيِّ تكلفة؛ لأنه في الأول والآخر سيرقد هناك قبل دفنه.

مستوصف السجن هذا عبارة عن غرفة واحدة بسريرَين، ويخلو من أيِّ تجهيزات طبية إلَّا البدائي جدًّا منها؛ وهي ليست أكثر من حقيبة إسعافات أولية وبضع قنانيٍّ مغذٍّ، وبعض العقاقير الشائعة من أسبرين وبارسيتمول، ومضادات حيوية، ولم يكن صالحًا لإجراء أيِّ فحصٍ متقدم أو إجراء أيِّ عملية جراحية، وتقديم أيِّ مساعدة طبية. نُقلت إليه عند إصابتي بمغصٍ كلويٍّ حادٍّ وفي ظرف كانت أوضاع السجن فيه جيدة، وقد تحسنت المعاملة كثيرًا، ومع ذلك لم يستطيعوا تقديمَ أيِّ مساعدة حقيقية لي سوى مسكِّناتِ ألمٍ ليس غير.

بالعودة لقصة الشاب المحتضر، بعد تفاقُم وضعِه بدأت المخاوف الحقيقية من هبوط طائر الموت علينا من جديد تأخذ بُعْدًا حقيقيًّا، حينئذٍ اتصل أحدُ أفراد الخدمات بالأمن من خلال جهاز اتصال داخلي قائلًا له: «إنه يحتضر ويكاد يموت.»

ردَّ عليه أحد رجال الأمن عليهم بوقاحة وصلافة واستهتار: «إذا مات لُفَّه في بطانية وارْمِه خارج الزنزانة.»

كلمات رجل الأمن المتهتكة سمعها عددٌ كبير جدًّا من السجناء مباشرة؛ لأنه كان يتكلم عبْر سماعة جهاز محاكاة داخلي. كانت مؤلمة ولها وَقْعٌ قاسٍ في نفسِ كلِّ مَن سمعها، لما فيها من استهانة بالغة وازدراء شعر بها السجناء، صداها تردَّد في كل الزنزانات بعد أن تناقلَتها الألسُن.

نهاية هذا الشاب صارت عند كل واحد منهم نموذجًا مثاليًّا لنهايتهم، وإنهم سيموتون جميعًا بهذه الطريقة ويُرمَون مثل جيفة على قارعة الطريق لا يعبأ أحد لهم، ولن يحظَوا حتى بمدفنٍ لائقٍ يستريحون فيه بسلام بعد رحلة الحياة المضنية بعذاباتها وآلامها. وقبل أن يمرَّ وقتٌ لتجرُّع هذه الإهانة وإذا بالخبر الصاعق ينزل ويدخل القسم في صمت رهيب وحزن عميق وغضب عظيم يغلي في الصدور.

«لقد مات!»

الموتُ بوقْعِه المُزلزل حادثٌ مجٌّ لا تستسيغه النفوس، فكيف به وقد تزامن مع هذه الإهانة والاستخفاف. أصاب الذهولُ عقولَ السجناء والغضب بلغ أوجهًا وبدأ يفور في الصدور يُنشِد منفَذًا يخرج منه، ويزيد من غليانه الجسد المسجَّى أمامهم بلا حَراك، كل شيء كان يُنذر بانفجار عظيم. وعند الغلَس دخل رجالٌ من الأمن لإخراجه ملفوفًا ببطانية كما وعدوا من قبل، السجناء كانوا كلهم مستيقظين مترقبين، وهمهمة احتجاج خافتة تسري مثل ريح ناعمة تسبق إعصارًا.

ما إن فُتح باب الزنزانة — يريدون سحْبَ جثمانه — وإذا بصرخة احتجاج هادرة تنطلق من زنزانة ما مثل بركان يقذف أولَ حِمَمه، وإذا بالسجن كلِّه ينفجر معها بهتافات احتجاج مدوِّية مثل سيل جارفٍ لا يتوقف ولا يخبو، بل يزداد مضيًّا في جريانه وتدفُّقًا كلما سار إلى الأمام. ذُهِلَ رجال الأمن من هول الموقف وأسرعوا راكضين مع الجثمان مُغلقين باب الزنزانة على عجلٍ ومثله كذلك باب القسم الخارجي وهم يرتجفون من شدة الفزع. تظاهرة احتجاجية في جمهورية الخوف والقمع الرهيب، مَن يصدِّق هذا؟!

حدَث وقعٌ عجيب لهذا الاحتجاج؛ إذ إنها وقعَت في آخر الليل مع إشراقة الفجر الأولى حيث يخيِّم الهدوء، صرخات مئات السجناء بأعلى أصواتهم مزَّقت ليل السجن والخوف وطلعت مع الفجر في روحِ كلِّ نزلاء سجن «أبو غريب». تظاهرةُ تحدٍّ، كشفَت عن ثائرٍ أشوسَ قابِع وراء القضبان ومِقدام جسور لا تحجزه القيود ولا السلاسل. حدثٌ قال بصريح العبارة: هنا يسكن الذين لم تُرهبهم سنوات الإخفاء القَسْري، والذين لم تَنَل المعاملة الوحشية من عزيمتهم الجبارة، بل يواصلون تحدِّي أعتى نظام. صيحةٌ وصلَت إلى كل أرجاء السجن، وحار الأمن كيف يتعاملون مع الموقف؛ لأن إدارة السجن صارت تخشى انتقال عدوى الاحتجاج إلى أقسام أخرى. وحينها يصبح السجن في طريق الخروج عن سيطرة الأجهزة الأمنية بالكامل.

في أول النهار حاول رجال الأمن تجاوز الموقف رغم خطورته بتجاهلِ الحدَث وإدخال الفطور الصباحي، إلَّا إنهم جُوبهوا برفض شديد من السجناء وبمواصلة الاحتجاج، صار الموقف أكثرَ تعقيدًا مع بدء الإضراب عن الطعام واستمراره طيلة النهار، مما استدعى تدخُّلًا خارجيًّا من إدارة أمنية عُليا بعد عجز إدارة السجن عن احتواء الموقف، وانتهى الإضراب إلى وعود نُفِّذت على الفور بتحسين جزئي للأوضاع وإجراء أول مواجهة لعدد محدود من السجناء مع أهاليهم. تَبِعه تخفيفُ الضغط قليلًا بفتح أبواب الزنزانات في ساعات محددة من النهار ليحظى السجناء — ولأول مرة — بحرية الحركة بين الزنزانات ولو كانت لثلاث ساعات فقط في اليوم، إلَّا أنها كانت انفراجةً كبيرة.

بهذه الإجراءات الجزئية اليسيرة حاول الأمن احتواءَ الموقف المتفجِّر، ومن ثَم يعاودون إجراءاتِ القمع والتعذيب بعد امتصاص الغضب وتهدئة الثورة مستعينين بواحد من الخونة الذين فقدوا قوتهم فيما سبق للحصول على أسماء المحرِّضين على الاحتجاج. وبالفعل قام هذا الخائن وهو الشخص الوضيع نفسه الذي كان مراقَبًا في أول زنزانة دخَلت فيها في السجن، بمحاولة إيصال معلومات خطيرة إلى رجال الأمن بصورة خفية، إلَّا أن أمرَه كُشِفَ وتعرَّض بعدها لمحاصرةٍ ومضايقة من كل السجناء وتحوَّلت حياتُه إلى جحيم في حكاية سوف يأتي وقتها.

خطَّط الأمن لبدء الثورة المضادة وإجهاض مكاسب الاحتجاج، بافتعال حادثة صغيرة يجري تطويرها إلى قضية كبيرة، وإنزال عقوبات قاسية بالسجناء ومن ثَم تعود سلطة الخوف من جديد للتحكم بالمشهد. بعد التطورات ونتيجة للاحتجاج منح السجناء حقَّ البقاء خارج الزنزانات إلى منتصف النهار ليُعادَ إقفالها عليهم من جديد حتى صباح اليوم التالي. كانت هذه السويعات القليلة فرصة للحركة وتبادل الزيارات بين السجناء، وساهمت في تخفيف الضغط النفسي وتخفيف التوتر وفتحَت ممرًّا ضيقًا للتمتع بالحرية. إلَّا أن رجال الأمن لم يَرُقْ لهم هذا التحول في حياة السجناء وخططوا لإعادة حقبة التضييق والتعذيب المنهجي. وفي نهار دخلوا فجأة بهراوات يصرخون ويضربون السجناء لإجبارهم على الدخول المبكر إلى الزنزانات بلا أيِّ مبرر، إلَّا أن حساباتهم كانت غايةً في الخطأ في التوقيت ولم يقدِّروا الموقف جيدًا، ولا أخذوا بنظر الاعتبار أنهم في مواجهة مع سجناء سياسيين، عددٌ ليس بالقليل منهم امتهَن المعارضة، ويبرع في حشد الأنصار وإثارة العواطف والحماس، وكثيرٌ أصابه يأسٌ من الظروف المزرية ويتشوق للمواجهة مع رجال الأمن خلاصًا من حياة لم تَعُد لها قيمة عنده ولا يكترث لها.

رفض السجناء الدخول إلَّا أن رجال الأمن كان يبدو جليًّا عليهم أنهم يتحركون بتعليمات محددة، ملخصها إجبار السجناء على الدخول القَسْري وإيقاع أذًى شديدٍ بهم إن بدَا منهم أدنى احتجاج، في مسعًى واضحٍ لاستعادة زمام المبادرة التي فُقدت منهم منذ الاحتجاج الكبير. تحول الرفض إلى شجار بالألسن ومن ثَم تطور سريعًا إلى اشتباك بالأيدي، ليندفع السجناء بشكلٍ جماعي لنُصْرة أصحابهم نحو رجال الأمن الذين هربوا مذعورين من الثورة الجماعية. المقذوفات نزلت على رءوس رجال الأمن من كل حدَب وصَوْب بأيِّ شيء كانت تَطاله أيدي السجناء، وتحوَّل السجن إلى فوضى حقيقية لا يعرف رجال الأمن أين يختبئون ولا بمن يستنجدون، تشتَّت شملهم حتى إنهم باندفاعتهم السريعة إلى باب القسم الرئيسي نسوا صاحبًا لهم وخلَّفوه بين أيدي السجناء الذين وضعوا سطلًا في رأسه ليمنعوه من رؤية الوجوه وأشبعوه رفسًا ولكمًا وركلًا، وهو يركض باتجاه الباب الرئيسي، وهناك عَلِق بين الطرفين؛ رجال الأمن يحاولون إغلاق الباب الخارجي خوفًا من اندفاعة السجناء إلى الخارج، وهو يقاتل لأجل فتحِه والإفلات من قبضة السجناء، وصار يتلقَّى الضربات من السجناء تأديبًا له ومن رجال الأمن الذي خالوه سجينًا يحاول اقتحام الباب والهرب، فصاروا يضربونه بعِصيِّهم وهو يصرخ بهم طالبًا النجدة، إلى أن تعرَّف عليه أحدهم من صوته وأنقذه بعد أن نال عقابًا لا يُنسى. دبَّ الفزعُ بين رجال الأمن ولم يكتفوا بإغلاق الباب المُحصن بالأقفال الثقيلة، بل استدعوا حدَّادًا على وجه السرعة؛ ليُغلق الباب المحصنة بواسطة اللحام وصار اقتلاعُه أو فتحُه أمرًا مستحيلًا.

استُدعيت كلُّ قوات حرس السجن وقوات إضافية على الفور، ودخلوا في أقصى حالات التأهب لبدء معركة حقيقية؛ لأن السجناء في هذه المرة سيطروا فعلًا على القسم. كان العدد في كل قسم يربو على الألف سجين وجميعهم أحرار في الحركة داخل القسم بلا أيِّ حواجز بعد أن تُركت أبواب الزنزانات مفتوحة. بدأ رجال الأمن بإطلاق الرصاص الحي على جدران القسم من الخارج، إلَّا إنه لحُسن الحظ؛ ولأنهم من قبل لم يتركوا أيَّ فجوة في تلك الجدران المبنية بصورة محكمة لا يخترقها شيء، خاب رميهم وفشل مسعاهم في إصابةِ أيِّ شخص. أما السجناء فقد انبطحوا جميعًا إلى الأرض يتَّقون الرمي الأعمى بدرع الجدران الكونكريتية المسلحة القوية.

لم يتوقف رجال الأمن عن محاولاتهم؛ إذ صَعِد رجال مكافحة الشغب إلى نقطة عالية في سطح السجن ومن خلال فتحات تهوية على علوٍّ شاهق تُطلُّ على الممر بين الزنزانات، ألقَوا قنابل مُسيلة للدموع، لكن لم يفتَّ هذا في عضد السجناء وواصلوا الهتاف عاليًا بصرخات الاحتجاج، واستعان السجناء بالماء والبصل وبطرق بدائية أخرى لمكافحة تأثير الغازات المسيلة للدموع.

سيطر الرعب تمامًا على رجال الأمن؛ لأن السجنَ كلَّه صار الآن يسمع الفوضى وسرَت عدوى الانتفاضة إلى أقسام أخرى من السجناء السياسيِّين في الأقسام المفتوحة، وأصبح السجنُ برميلَ بارودٍ حقيقي يوشك على الانفجار في أي لحظة. ولم يستقرَّ الموقف الهائج إلى أن جاء وفدٌ حكومي عالي المستوى لمعاينة السجن بإيفادٍ خاصٍّ من جهات عالية في الدولة مفوَّضًا بصلاحيات واسعة على ما يبدو.

طلب الوفد من السجناء الأمان للدخول إلى القسم وإجراء مفاوضات معهم، وهنا كانت براعة السجناء ومهارتهم العالية في التفاوض؛ إذ إنهم ردُّوا عليه ردًّا كان خطوة واسعة بإقناع الوفد الرسمي، وأجابوه بأنهم هم مَن يطلب الأمان، وإن الوفد له كامل الحرية باعتباره هو المسئول عن تحقيق النظام بالدخول إلى السجن واتخاذ الإجراء المناسب. كان ردًّا فاجأ الوفد؛ إذ إن ما نُقل إليه على ما يبدو، أنه تمرُّدٌ ومحاولة للسيطرة على السجن.

عندما دخل الوفد إلى القسم زاد استغرابه من الهدوء الكبير وأن لا وجود لأيِّ آثار معركة؛ إذ قام السجناء بتنظيف القسم بسرعة بمبادرة ذكية اقترحها أحدهم لإبطال دعوى سوف يدَّعيها رجال الأمن بأنهم هوجموا من قِبَل السجناء. ولما لم يجد الوفد شيئًا ظلوا يتبادلون النظرات فيما بينهم في شعور واضح بأنهم قد ضُلِّلوا من قِبَل رجال الأمن. ظل الوفد يجول على الزنزانات التي دخل إليها السجناء طوعًا ويستفهم منهم عن سبب الصياح والمشكلة؛ فشرحوا له بنفَس واحد أنهم يعيشون ظروفًا معاشية قاسية، وأنهم يطالبون بتحسينها من تغذية وصحة والسماح لهم بمواجهة أهاليهم ورؤية الشمس بعد كلِّ هذه السنوات.

أصرَّ الوفد على التعرف على المطالب السياسية وحاول استدراجهم لذكر أيٍّ منها، أنكر السجناء أيَّ مطلب لهم، بل قالوا له: نحن سجناء محكومون وفْق القانون، ونطالب بحقوقنا كسجناء فقط لا أكثر من ذلك. ولمَّا اطمأن الوفد أن لا مطالب سياسية تقف وراء الاحتجاج وأن لا وجود لحركة معارضة للحكومة — رغم محاولة الضابط المسئول عن السجن تدبير تهمة التظاهر السياسي، لكنه أُحبط تمامًا أمام براعة السجناء في إدارة الأزمة الذين عاملوا الوفد باحترامٍ كبير وأدبٍ جمٍّ مما أعطى الوفد انطباعًا مغايرًا، بأن المطالب الحقيقية هي مطالب معيشية فقط؛ لذا قال في الحال: إن هذه حقوقٌ لكم وليست مطالبَ، وسوف تُنفَّذ على الفور.

توافق حصول هذه الأحداث مع قُرب انتهاء حرب الخليج الأولى وبروز توجُّه حكومي نحو تخفيف القبضة الحديدية، وبدأت إدارة السجن بالفعل بتنفيذ الوعود الحكومية بسرعة وسُمح لأول مرة للسجناء بمواجهة الأهل والحصول على الفرصة من جديد لرؤية شمس غابت علينا آخر مرة قبل سبع سنين عجاف. إلَّا أن الإذن بالمواجهة كان يسير بإجراءات روتينية مملة ومضحكة أحيانًا. كان رجال الأمن يروحون ويجيئون ويسألون عن عناوين سُكنى كلِّ واحد منَّا، ثم يقولون: لم نستطع العثور على العنوان الصحيح لربما تغيَّر سكنُهم، سوف نُجري بحثًا جديدًا عن أهاليكم، وحالما نجدهم سوف يتم تبليغهم للحضور إلى المواجهة. تكرَّر هذا الادعاء منهم وكنَّا نقابله بمُزحة: لكنكم حين اعتقلتمونا أخرجتمونا من تحت الأرض في خمس دقائق.

هنا تدخَّل قميصي التركي «مراد» الذي جاء معي من المعتقل وأرسلتُه مع عائلة أحد السجناء ليبشِّر أهلي بأني ما أزال حيًّا، وصل قميصي إلى متجر والدي الذي تمكَّن من التعرف عليه، وتأكَّد أني ما زلت على سطح هذا الكوكب أتنفس الهواء مثله، وإن كنت أقطن مكانًا قصيًّا، واستبشر به بعد أن بلغ اليأس فيهم منهاه، حتى إن والدتي لم تلبس غير اللون الأسود طِيلة سبع سنين حدادًا عليَّ، وعلى العادة البغدادية بالنذور، كانت تذهب والدتي ماشية حافية كل سبت إلى المشهد المقدس في الكاظمية، تسأل يومًا تشرق الشمس فيه عليَّ من جديد.

١٥

في مستهل الأسبوع الثاني من بداية الخريف، وبعد مرورِ عامٍ كامل من انتهاء حرب الخليج الأولى، استقبَلْنا أهالينا — لأول مرة — في مواجهة جماعية عامة، كانت حدثًا غريبًا عاد منه كلُّ سجين بقصة غريبة ومشاهد عجيبة ومشاعر مختلفة. وجوه الآخرين مُسحت من الذاكرة واستعادتها كانت تُشبه رحلةَ النواخذة في استخراج اللؤلؤ، تحتاج إلى غوص عميق بعدَّة بدائية.

كنَّا كشجرة أصابها جفافٌ شديد، احتواه زمنٌ ممتدٌّ بسكونِه وظلِّه الكئيب ما جعله دهرًا لا ينقضي، ونسَت معه طعم الماء. كنَّا كذلك بحرماننا من مشاعر العاطفة والرحمة حتى ظننا أن ليس للبشر شيءٌ منها، وأنها مثل خرافات الأقدمين. فجأةً نزل علينا غيثٌ غزير يكفي لأن تبحر به حتى سفينة نوح؛ التعرُّف على الأهل مهمة ليست بيسيرة وتتطلب إعادة ترتيب السجين لعالمه الداخلي وتعديل ذكرياتٍ طغى عليها الألمُ والغضب والحزن والأسى، تعديل أفكار المرء عن نفسه مع مستقبل يقترب منه مهمة لا يوجد أكثر منها مشقَّة ولا أزيد صعوبة.

كنت واقفًا أنتظر قدومَ أحدٍ ما لمواجهتي في ذلك اليوم، عندما أذاعوا اسمي في سماعة داخلية، لم نكن نعرف مَن يأتي لمواجهتنا، فقط نعرف أنه مسموح لنا بالخروج إلى ساحة المواجهة بعد أن يُذاع اسمُ السجين لنقف هناك منتظرين قدومَ الزوار. دخلَت امرأة لم أتعرَّف عليها، رأيتُها تتلفت يمينًا وشمالًا تبحث عن الشخص الذي تقصده مما لفت انتباهي، وبينما هي تدور حائرةً بين الوجوه مثلي، وصلَت قريبًا جدًّا مني بحيث كان بإمكاننا فقط لو — فقط — تستدير باتجاهي؛ لوضعنا عيوننا أحدنا بعين الآخر مباشرة، وأن يسمع كلٌّ منَّا أنفاسَ الآخر في صعودها ونزولها. سمعتُها تسأل أحد السجناء عنِّي، أشار إليَّ وأنا أواصل النظر إليها مدققًا — ولم أزَل غيرَ قادر على التعرف عليها — ثم سمعتُها وهي تفتح عينَيها بدهشة لتناديَني باسمي، حينها فقط اكتشفتُ أنها تُشبه خالتي، بل هي خالتي.

لم أتعرَّف على شقيقي الأصغر هو الآخر؛ لأنه كَبِر وصار شابًّا جامعيًّا، وبدَا لي والدي مسنًّا جدًّا، قضى معظم الوقت يومها في نوبات بكاء ينخرط فيها فجأة، يُسبِّب لي معها اضطرابًا شديدًا يطيش بلُبِّي، وأنا أنظر إليه مشدوهًا مبهوتًا لا أعرف ما الذي عليَّ فعله لمواجهة هكذا موقف. كان أهلي يجلسون قبالي يُمعنون النظر فيَّ، ويرقبون كلَّ حركة تصدر مني، ولم يَخفُت توتُّرهم إلَّا بعد أن تكرَّرت مواجهتي، واطمأنوا لتكرارها؛ فهدأ روعهم بعد أن أصبَحت أمرًا عاديًّا، يتكرر كلَّ شهر مرة ثم صار كل أسبوعين. كثيرون جدًّا من أقاربي تجنَّبوا الحضور لمواجهتي خوفًا على سُمعتهم لدى الدولة، خشيةَ أن يلحقَهم أذًى محتملٌ في مستقبل وظائفهم إن أعلنوا قرابتي منهم، ولم أُعِر ذلك اهتمامًا.

كان معنا في زنزانة المعتقل ضابطٌ برتبة كبيرة، كان يعلم أنه محكوم عليه بالإعدام حتمًا ولن ينجوَ من الموت شنقًا، كان يقول لشقيقه الخائف الذي لم يكن له من الأمر شيء واعتُقل بسبب قرابته منه فقط: لا تخَف يا أخي الصغير، سوف تخرج من المعتقل وبعد سنوات سوف تمشي في الأسواق وتقول للناس أنا أخو الشهيد فلان وسوف تبحث عن امتيازات باسمي.

«بطرس سوف يُنكرنا ثلاث مرات؛ مرة في السجن، وأخرى في المواجهة، وثالثة حين نخرج من السجن، طالما حرس القيصر وكهنة المعبد ما يزالون يحكمون أورشليم، وبعدما يصيح الديك معلنًا فجر الأمان؛ سوف يخرج حينئذٍ في الشوارع والطرقات ويقول أنا تلميذه المقرَّب وحواريه، ويجول في كل مكان ليكرز باسمه ويقول خذوا دينكم مني أنا الباب المؤدي إليه، ويبدأ في توزيع صكوك الغفران ويعطيهم شهادة نعيم يحوزها بعيدًا عني.»

صورٌ مأساوية كانت تحملها كلُّ مواجهة، إحدى العوائل أُبلغت بأن تأتيَ إلى السجن لتستلم جثةَ ابنِها إلَّا أنها فوجئت بابنها يدخل عليهم، فأُغميَ على رب الأسرة في الحال وسقط مغشيًّا عليه، وحار الأهل بين الترحيب بابنهم المغيب منذ سنوات وبين إسعاف الأب المغمى عليه. إلَّا أن أشدَّها مأساوية كانت يوم رفضَت أمٌّ تصديقَ ابنِها حين واجهَته؛ لأنه كان طفلًا قاصرًا حين الاعتقال بعمر ثلاث عشرة سنة تقريبًا وتقدم إليها في المواجهة — وهو شاب عشريني — بشنب خطَّته عليه سنوات الألم، وذقَن مرسل من حزن الفراق وهو يناديها باسمها: «أمَّاه يا أمَّاه، أنا وليدك الصغير.»

محاولًا الارتماء في حضنها عائدًا لطفولته التي أُريقت في هذا القبو المظلم. الأم المفجوعة بصغيرها كانت تُبعده عنها، وتقول له: «أنت ماكر محتال، ابني طفل صغير، وأنت مزيف عميل للأمن، يريدون أن يستبدلوك بابني ليقتلوه.» جلسَا على التراب أحدهما قبال الآخر في حالة انهيار شامل، هي تبكي شوقًا لأمومتها التي عجزت لسنوات أن تمنحها لصغيرها وهو يبكي حنانًا مفقودًا. السجناء وبعض من الزوار متحلِّقون حولهما في مشهد مفجع. كانوا مثل بندول يتأرجح بين بكاءٍ على حالهما وبين محاولةٍ لإقناع الأم بأن صغيرها قد عاد إليها، لكنَّه لم يَعُد يجري وراء الكرة مع الصبيان في الأزقَّة، ولا يلعب بالكرات الزجاجية الملونة (الدعبل) في الحواري؛ غدَا شابًّا مثقلًا بالهموم يحمل عذاباتٍ لم يقوَ على تحمُّلها كهَلَةٌ وشيوخ.

لا أنسى يومًا كنت أنتظر دخول أهلي وإذا بامرأة تبكي تقترب مني وتسألني عن فلان وفلان وفلان وفلان وفلان، نعم خمسة لا أعرفهم ولا سمعتُ بأسمائهم من قبل، سألتُها: «مَن هؤلاء يا أمَّاه؟»

قالت — وهي تُولول — والدموع تغسل وجهًا من غبار الزمن: «أبنائي الخمسة؛ لمَّا سمعت أنكم في مواجهة، قلت: لا بد أن يكونوا معك، فهل تعرفهم يا ولدي؟»

افترشَت الترابَ تبكي وأنا أقف على رأسها أنقل لها أسوأَ خبرٍ يمكن أن تسمعه، أن لا أحدَ منهم هنا. نحرتُ آخرَ آمالها على التراب بين قدمَيها وهي تهيله على رأسها وتولول: إلى أين أذهب حتى أعثر عليهم يا أماه.

كان خليقًا بي أن أهدِّئ من رَوعها وألَّا أُوصدَ الأبواب أمامها، لكني فعلت عكس ذلك بحماقة، أو كأنما الموت صار خبرًا عاديًّا عندي، ولم أُدرِك أيَّ جحيم صببتُه بكلماتي على رأسها المتشح بالسواد، كما هي سائر ثيابها حتى نَعْلها والجوارب.

كنت — ولست وحدي في ذلك — أعود متعبًا من المواجهة يُصيبني إرهاقٌ شديد كأنما كنت أحتطب في غابة جبلية منذ الغبش حتى الغسق ولم أفترِ ولا لهنيهة واحدة. وما إن أعود إلى الزنزانة أستلقي مسترخيًا لأنزلقَ في غفوة عميقة. قبل المواجهة كنَّا ننشغل كثيرًا في الاستعداد لها، وساعة اقتراب اللقاء تضطرب أعضائي بشدة ويتزايد وجيبُ قلبي ويرتج رأسي وتخفق حواسي كلُّها، فاتَ وقتٌ طويلٌ جدًّا حتى صارت المواجهة شيئًا قريبًا من المألوف.

الأمر بالنسبة لي استغرق أكثرَ مما استغرق من أهلي، الذين كانوا يرجعون إلى حياتهم وينشغلون بأمورهم اليومية، بينما كنت أعود لأنشغلَ بمحاولة التوافق مع هذا العالم الغريب الذي أطلَّ برأسه عليَّ. مسافة شاسعة ظلَّت تفصلني عن العالم الذي بدَا غريبًا جدًّا، فقد توقَّف الزمن عندنا منذ ساعة اعتقالنا ولم تتحرك عقارب الساعة إلَّا حين ولج من الباب أولئك الأقرباء الغرباء من ذاك الكون البعيد، كان مَقدمهم زلزالًا أصاب أرضًا ساكنة تَداعَى كلُّ بناءٍ فوقها منهارًا، وخرج من باطنها ما قد دُفن لسنوات.

حدث انفراجٌ واضح في وضعنا العام بحيث قلَّ عدد السجناء في كل زنزانة، وفُتحت أبواب الزنزانات بشكل دائم وصار التزاور بين السجناء والاتصال متاحًا للجميع. تحسَّنت كمية المياه الواصلة بشكل كبير، ولم نَعُد نعاني من شحَّتِها؛ لا في مشرب ولا في استحمام، المواد الغذائية تصل إلينا من الخارج، وكذلك الأدوية والثياب الجديدة، واستغنينا عن زيِّ السجن وعن طعامه إلَّا بحدود الخبز اليومي وبعض الوجبات اليومية التي لم يكن سهلًا إعدادها.

أُتيحت لنا الفرصة الكاملة لإعداد الطعام واستخدام معدات الطبخ كاملة من مواقد بسيطة لكنَّها تفي بالغرض المطلوب. صار صوتُ السجناء قويًّا عاليًا حتى إنهم فرضوا على الأمن إخراج خائن من الأقسام بعد انكشافِ وشايةٍ قام بها للإيقاع بمجموعة من السجناء، رضخ الأمن لمطلب السجناء خشيةَ تجدُّدِ المواجهة معهم من جديد.

كان يومًا مشهودًا؛ إذ وقف الخائن ذليلًا يحتمي برجال الأمن وسط صيحات غضب وهياج عارم من السجناء، فيما كان أكبر ضابط مسئول عن السجن يدور بين الأقسام باذلًا أقصى جهد عنده؛ يقفز بين المكر حينًا وممارسة المرونة واللين حينًا آخر لمفاوضة السجناء وإقناعهم بقبول هذا الخائن في أحد الأقسام. إلَّا أنه لم يُفلح وفشل فشلًا ذريعًا في الحصول على الموافقة من أيِّ قسمٍ على قبول هذا الخائن المنبوذ، مما اضطرَّه إلى أَخْذه إلى مكان منعزل. الرفض الجماعي والإصرار الشديد على لفظ الخونة الوشاة بعيدًا عنهم صار درسًا قاسيًا وعِبرة كبيرة لم يجرؤ أحد بعدها من الخونة والضعفاء على اللجوء إلى الوشاية أو للتعامل العلني، بل ولا حتى السري مع الأمن.

صارت الفرصة مواتية لكل شيء حتى لممارسة أنشطة رياضية وإقامة مباريات دورية في كرة القدم المصغرة؛ إذ لم يكن هناك من ملعب حقيقي يصلح للَّعب فيه، بل ولا توجد حتى قطعة أرض تصلح لذلك. الحصول على الكتب من خلال المواجهات صار ممكنًا، بل تمكَّن كثيرٌ من الأهالي إدخال المذياع لأبنائهم السجناء، وبعضٌ — قليل جدًّا — تمكَّن من تهريب كاميرات فوتوغرافية بطرق سرية بوضعها في قدور الرز المطبوخ الذي كان يحمله الأهالي معهم بشكل عادي. باختصار شديد تغيَّرت الأحوال بشكلٍ كبير وانقلب الحالُ رأسًا على عقب في آخر سنتين.

تقلَّصت الأعداد في الزنزانات بشكل كبير جدًّا بفعل السياسة الجديدة بفتح أقسام جديدة لاحتواءِ أعدادِ السجناء، ونُقلت لأحد هذه الأقسام الجديدة ويُطلق عليه «ق٣»، وهو قسمٌ غريبٌ في تصميمه، مع أنه كان يحتوي — أيضًا — على طابقَين، إلَّا أن زنزاناته كانت تصل إلى الأربعين زنزانة، وصغيرة جدًّا بطول مترين وربع تقريبًا وعرض يزيد عن المتر الواحد بقليل، وكل زنزانة لها بابٌ مصنوع من قضبانٍ حديدية قوية. هيئة الزنزانات كانت تُوحي — بلا أيِّ لبس — أنها سجنٌ انفرادي، إلَّا أننا كنَّا ننام تقريبًا في كل زنزانة أربعة أشخاص، وكانت أبواب الزنزانات مفتوحة بشكل دائم مما سمح لنا بالحركة في أرجاء القسم بحرية طوال الوقت. في النهار تُفتح بوابة خارجية مطلَّة على ساحة صغيرة مُلحقة بالقسم لنمارس فيها ألعابًا رياضية خفيفة، وأيضًا كان بالإمكان أن نُعدَّ وجباتِ الطعام في غرفة صغيرة ملحقة بهذه الساحة. كانت انعطافة كبيرة في تحسُّن الأوضاع عندما انتقلنا إلى هذا القسم وشعرنا براحة كبيرة فيه مع سعتِه الظاهرة وقلة أعداد السجناء فيه.

١٦

استيقظنا صباح يوم من صيفٍ لاهبٍ بأحداثه على خبر مفاجئ تنقله محطات الإذاعات الأجنبية والمحلية وهي تتحدث عن اقتحام الكويت وغزوها الشهير من قِبَل القوات العراقية. وبينا كنَّا نستمع طوال الوقت بلهفة إلى نشرات الأنباء وتطورات الأحداث المتسارعة عبر الراديو؛ وإذا بأوامر طارئة تصدر إلينا على عجَل تطلب منَّا إخلاء القسم «ق٣» بالحال والتوجه فورًا إلى الأقسام التي كنَّا فيها سابقًا. وفي أقل من ساعة واحدة تم إخلاء القسم ليحلَّ محلَّنا فيه سجناءُ جُددٌ من طراز خاص، لم تتبيَّن لنا هويتهم في بادئ الأمر وأصابنا فضول كبير لمعرفة القادمين الجدد لتزامنه مع غزو الكويت؛ مما ولَّد فينا رغبةً كبيرة لاكتشاف هذا التلازم بين الحدثَين.

«ق٣» بالأصل عائد لجهاز المخابرات المختص بالقضايا الخارجية، وسُكانه من المحتجزين على حساب قضايا تَهمُّ جهاز المخابرات وليس مديريات الأمن الداخلي، ونحن إنما وُضعنا فيه سابقًا لشغوره وعدم حاجة قسم المخابرات له، الذي كان يُدير قسمًا مجاورًا له ويشبهه في التصميم بالضبط. لم نكن نملك أيَّ فكرة عن المعتقلين في هذين القسمين؛ لأنهما كانَا تحت رعاية حصرية من المخابرات، ولا يُسمح لأيِّ أحد بالتدخل فيه حتى لو كان من الأمن أو إدارة السجن وفي حالات خاصة يستعينون بسجناء محددين للقيام ببعض التصليحات الفنية الطارئة وسط إجراءات أمنية مشددة. لذلك اتجهَت توقعاتُنا إلى سجناء من طراز خاص وكان حدسنا في محلِّه عزَّزه سماعُنا لأصوات متباينة تكشف عن تنوُّع في الأجناس والأعمار، ولم نكُ متأكدين مما نسمعه بشكل قاطع، إلَّا أنه ولَّد عندنا شكوكًا قوية استنادًا إلى خبرتنا التي صارت كبيرة الآن، بعد هذه المدة الطويلة في السجن، وتعاملنا مع ظروف وأحداث مختلفة. أن يكون هؤلاء السجناء من العوائل أمرًا ليس بغريب؛ فقد حصل هذا في السابق حين اعتقل النظام عوائل بأكملها من مدن وقرى في العراق، مثل بَلد والدجيل وقرى كردية كثيرة. غير أن ملف اعتقال العوائل تم تصفيتُه بإطلاق سراح المتبقين منهم بعد أن نُفذ الإعدام بأعداد غفيرة منهم وعُثر على رُفاتهم بعد عقود في مقابر جماعية، فيما ظل قسم آخر في عداد المجهول. ووصلَت أخبارُ هذه العوائل إلينا من شيبة وشباب، بل وحتى أطفال نُقلوا إلى أقسامنا كسجناء بعد أن صدرَت بحقهم أحكامٌ بالسجن لمنع عودتهم إلى مدنهم وقراهم. ومن خلال المواجهات تأكَّد لنا نبأ إغلاق هذا الملف كاملًا.

إذا لم يكونوا من هؤلاء فمَن يكونون إذن هؤلاء السجناء الجدد؟ صِرْنا نتلصص ونجمع الأخبار عنهم بأيِّ وسيلة، وبعد عدة أسابيع استدعى جهاز المخابرات سجينًا من الأقسام المغلقة اسمه «ح. گ.» من سكنة محافظة البصرة، وطلب منه القيام بتصليحات فنية طارئة، وحذَّره رجال المخابرات من الكلام أو إجراءِ أيِّ حديث مع السجناء الجُدد لأيِّ سبب كان، وبحسب شهادته التي سمعتُها شخصيًّا منه، وتأكدت منها حتى بعد خروجنا من السجن، أنه حين دخل هذا القسم رآه يُشبه «ق٣» إلَّا أن الزنزانات بدل أن تكون واجهتها من القضبان — كما هي العادة — وجد أن هذه القضبان قد أُغلقت بصفيحة حديدية تمنع رؤية مَن في داخل الزنزانة، ولكن لأن عمله كان داخل الزنزانات فقد استطاع رؤية السجناء وهم يخرجون منها ويُوضَعون في الممر الوسَطي، بينما يقوم هو بأعماله من تصليحات. يقول: رأيتهم جميعًا من الشباب وكلهم يرتدون زيَّ السجن الكانة باللونَين الرصاصي والأحمر وأن الأغلب فيه الرصاصي، ومن لهجتهم عرفتُ أنهم كويتيون، وسمعتهم يتحدثون بينهم، وكان بعضهم قد بلغ به اليأس والإحباط حدًّا كبيرًا بسبب المعاملة السيئة، ويتحدث عن بقائه إلى آخر عمره في هذا السجن.

لم يستطع «ح. گ.» تبادُل أيِّ حديث معهم ولكن استرق السمع لكل حديث كان يجري بالقرب منه باهتمام وعَلِم أنهم أسرَى كويتيون وإن لم يستطع تحديد وظائفهم. وأغرب ما لفت انتباهه هو غرفة صغيرة أوسع من باقي الزنزانات كان فيها أسرى لم يُسمح له برؤيتهم، ويبدو أن لهم خصوصية ما، إما لوظائف عالية أو وجاهة اجتماعية كبيرة، ولكن تبقى هذه تخمينات فقط. عدد الأسرى في هذا القسم — بحسب التقديرات غير الدقيقة بالطبع — لا يقل عن مائة شخص وربما يكون العدد ضعفَ ذلك إذ لم يتسنَّ له معرفة العدد الحقيقي في كل زنزانة، ولكن لو طبقنا ظروفنا نفسها في «ق٣» لربما يصل العدد إلى مائة وستين شخصًا أو حتى مائتي شخص.

أما «ق٣» الذي أُخلينا منه فقد جاء إليه أسرى كويتيون ولكن من نوع آخر، وأيضًا عن طريق العمال الفنيِّين حصلت على شهادة مباشرة؛ إذ دخل إليهم سجينان من القومية التركمانية «أ. ف.» و«أ. ص.» للقيام بإصلاح أعطال كهربائية، وحين دخلَا أغلقت أعينهم ولكنهم قالوا للعنصر المخابراتي إنه لا بد من السماح لهم بالرؤية وإلَّا فإنهما لا يستطيعان أداء عملهما، فحذَّرهما من إجراء أيِّ حديث مع السجناء. قالَا بحسب شهادتهما إن الموجودين كانوا من الأسرى الكويتيِّين وتبيَّن ذلك من زيِّهم الخليجي، وقد شاهدَا نساءً خليجيات بزيٍّ محتشم بأردية طويلة وغطاء رأس وبينهن أطفال بعمر يتراوح بين العشر سنوات والأربع عشرة سنة تقريبًا، وربما أقل بقليل أو أكثر؛ ولأنها مشاهدات سريعة فلم يمكن التحقق من تفاصيلها جيدًا خصوصًا مع التحذيرات الأمنية. كان بين الأسرى شبابٌ في العشرينات من العمر، ورجال بأعمار متوسطة. تقديرات الأعداد تكاد تكون مقاربة لما تم توقُّعه عن أعداد الأسرى في القسم الآخر الذي تحدثتُ عنه للتوِّ. وبذا يمكن الحديث عن أربعمائة أسير كويتي كحدٍّ أعلى تم احتجازه في هذين القسمين، وتبقى هذه تخمينات وليست أرقامًا تقريبية.

بعد عدة أسابيع — ومع بدء العمليات الحربية وتراجع القوات العراقية أمام الضربات العسكرية — سُمح للأسرى الموجودين في «ق٣» بالخروج إلى ساحة جانبية في القسم للتمشِّي أو لممارسة ألعاب رياضية، وطبعًا من الممكن أن يكون قد حصل الأمر نفسه للأسرى في القسم الآخر إلَّا أنه لم تتوفر لنا فرصة للتأكد من ذلك.

صارت أصواتهم واضحة لكل أحد، وقطعت كلَّ شك، وصار الأمر جليًّا للجميع؛ إنهم عوائل كويتية محتجزة. استرقنا النظر من خلال فتحات صغيرة في ممرِّ السجن الكبير الملاصق للساحة الصغيرة حيث كان يُسمح لهم بالتمشِّي، وكنَّا نقف هناك بحجة الاتكاء على الحائط، ونتظاهر بالانهماك في حديث طويل بينما في حقيقة الأمر كنَّا نواري زميلًا لنا يجلس إلى جوار فتحة صغيرة تقع أسفل الجدار الفاصل بينه وبين ساحة القسم يمرُّ من خلالها أنبوب ماء، وكنَّا نحفظ مكانها جيدًا؛ لأننا سبق وأن سكنَّا في هذا القسم قبل فترة وجيزة. التواصل كان صعبًا جدًّا؛ أولًا: خشية المراقبة الأمنية، وخصوصًا من المخابرات المعروفة قسوتهم. وثانيًا: لأنه من الصعب جدًّا أن يثقَ أحد أفراد هذه العوائل بشخص مجهول يكلمهم من وراء جدار. وكان من الطبيعي أن يظنوا به الظنون، ومع ذلك خاطر شابٌّ منهم للحديث معنا فيما كان رفاقٌ له يلعبون كرة الطائرة مستغلًّا — على ما يبدو — عدم تواجد عناصر المخابرات بالقرب منهم، وبعد أن اطمأن لطريقة سلامنا عليه ونبرة حديثنا معه، عرفنا أنهم أسرى كويتيون محتجزون وبينهم نساء وأطفال.

لم يكن الوضع مريحًا — للأسف — لتبادل أحاديث مفصلة، بل كل ما يجري هو أسئلة وأجوبة سريعة. علمنا بأنه سُمح لهم بمغادرة الزنزانات مؤخرًا، وتحسَّنت شيئًا ما معاملتهم، وأُتيحت لهم فرصة الخروج إلى هذه الساحة الصغيرة لرؤية الشمس وممارسة بعض الألعاب الرياضية. وبدَا من خلال كلماته أنهم تعرضوا في أول أمرهم لتعذيب جسدي لم نعرف مداه، إنما المعاملة السيئة كانت حاضرةً بلا شك. معاودة الاتصال ثانية كانت صعبة؛ لأن رجال المخابرات كانوا يتميزون بسُمعة سيئة للغاية في التعذيب، حتى إن رجال الأمن أنفسهم كانوا يخشَون الاصطدام بهم أو المخاطرة بانتهاك حدودهم الأمنية. بيد أن أحد رفاقي في السجن (س. ع. ش.) تمكَّن من التواصل عبر هذه الفتحة مع شاب كويتي آخر استبشر خيرًا بعد أن نقل له أخبار تراجع الغزو وتقدم عملية تحرير الكويت، وفي خطوة جريئة جدًّا — بل مغامرة كبيرة — أوصل له صديقي راديو صغيرًا بحجم الكف؛ مما أدخل عليه بهجة وامتنانًا كبيرًا. هذه البشرى بانتهاء محنتهم كنَّا أيضًا قد نقلناها لذلك الشاب، وكنَّا مقتنعين بالتلازم بين تحسُّن معاملتهم وأخبار تقدم عملية تحرير الكويت، ويبدو أن الشاب الكويتي هو الآخر استنتج الأمر نفسه. أوصي صديقي هذا الشابَّ الكويتي أن ينقل قضيتنا إلى العالم الخارجي حين يعود إلى وطنه سالمًا وأن يعرِّيَ هذا النظام الذي يذبح أبناء وطنه، بينما يدعي الدفاع عنه فيما هو يُنكل ويُخفي معارضيه في سجون سرية بظروف بشعة.

كنَّا نتوقع أن يعودوا سالمين مع انكسار الجيش في حرب الخليج الثانية، خصوصًا حين وضعَت حربُ الخليج أوزارَها، وبالفعل أُفرغ القسم بعد فترة قصيرة من وقف إطلاق النار من جميع هؤلاء الأسرى، ونُقلوا جميعًا إلى جهة مجهولة كما جاءوا — وبعملية سريعة — دون أن يُخلِّفوا أية آثار وراءهم. ظلوا لغزًا لا يعرفه أحد من السجناء — كما هو مصيرهم — وبقيت الأسئلة عنهم حائرة تبحث عن جوابٍ شافٍ. مَن كان هؤلاء الأسرى؟ وكيف جمعوا بهذه السرعة؟ ومن أين جيء بهم؟ والى أين أُخذوا؟ وما قصة هؤلاء الذين منع كل أحد من رؤيتهم بالمطلق؟ أسئلة ظلت حبيسة في صندوق أسرار السجن الذي يُخفي عجائب كثيرة. أملنا الكبير بعودتهم سالمين كان تُقلقه دومًا خبرتُنا الطويلة والمريرة مع نظام وحشي لم يتوانَ عن ارتكاب أبشع المجازر المروعة بحق أبرياء مسالمين لا ذنب لهم.

١٧

أمرُ إخلائِنا كان من الأحداث الغريبة جدًّا؛ إذ إننا لم نجد مكانًا نأوي إليه حتى في السجن، سكان الزنزانات لم يعودوا يتقبلون فكرة زيادة الأعداد من جديد بعد فترة الازدهار التي شهدها السجن مؤخرًا … كنت أقول ونفسي، ها نحن صِرنا تائهين في أول تبعة لهذا الغزو، ولم نَعُد نعرف أين نأكل ولا أين ننام، حياتنا انقلبَت إلى فوضى في نصف ساعة، وانتهى الازدهار الذي تنعَّمنا به لعام واحد فقط، وكنا نأمل بأن عهده قد بدأ ليستمر طويلًا، لننحدر سريعًا في حالة عكسية من التشرد والضياع، فكيف أصبح حال الكويتيِّين الآن، وأحسستُ حينها بمعاناة الغزو الذي تعرَّضوا له.

لا أريد ولا أحب أن أكتب عن كل أمر حصل في السجن، ولا أن أصف كلَّ زاوية وحجر فيه، وإن كان التأريخ يُلزمني بذلك؛ لأن استرجاع الأحداث يُرهقني، ليس في تذكُّرها وحسب لكن في مرارتها؛ ولأني أيضًا لستُ بمؤرخ وغايتي التنبيه لتلك الوقائع لا سردها بالكامل، وإلا لو كان الأمر غير ما ذكرت ولو كتبت عن كل شاردة وواردة — وكلها تستحق ذلك — لاحتاج الأمر مني إلى أكثر من مجلد ضخم بمئات الصفحات ولربما أكثر من ذلك. كل ما في السجن كان قصة لوحده، وكل يوم فيه يصلح أن تُؤلَّف عنه رواية، بل لو قلت: إن بعض المواقف وحدها التي لم تَدُم سوى دقائق يستحق أن يكون رواية كبيرة أو فيلمًا سينمائيًّا مشوقًا لما جاوزت الواقع قدر أنملة. أترك هذا لخيال لمؤلِّفي الدراما ومبدعيها ولكُتَّاب السينما والمسرح الجاد.

سوف أقدِّم وصفًا مختصرًا لحالة الازدهار التي عِشْناها لسنة تقريبًا؛ من خلال هذه الزنزانة التي أصبح لكل واحد منَّا فيها له بطانيته الخاصة، وصار من الممكن أن يستحم أحدنا في كل يوم تقريبًا، وحتى حصلنا على مبردة هواء صغيرة جلَبها أهلي لي؛ لأننا لم نكن نملك مروحة هوائية في هذه الزنزانات الصغيرة كما كان في الزنزانات الكبيرة. وصار عندي مكتبة خاصة صغيرة مؤلَّفة من عدة كتب، ورجعتُ إلى مطالعة الروايات وكُتُب أخرى كانت تقع بيدي من سجناء آخرين كنت أتبادل الكتب معهم أو أستعيرها منهم. أحتفظ بأوراقي الخاصة في كراس وأدوِّن عليه أفكاري، وحصلت على مذياع صغير خاص بي حرصت على الاستماع عبره بشكل منفرد وباهتمام كبير لكثير من البرامج السياسية والثقافية ونشرات الأخبار. إلَّا أن هذا كلَّه انهار في ساعة الغزو وأصبحتُ أُجرجر أغراضي وأدور بها مثل متشرِّد هائم على وجهه ليس له من مأوًى يركن إليه ولا مضجع يستلقي فيه، وكان من الغريب أن تظهر نوازع أنانية عند عدد من السجناء الذين رفضوا التخلي عن وضعهم المريح نسبيًّا بسبب التحسن الأخير الذي طال الجميع، لم يرضوا باستقبالنا أو السكن معهم من جديد في الزنزانات وتقاسم المحنة المؤقتة، صِرنا ندور تائهين حيارى يبحث كلُّ واحد منَّا عن مأوًى يبات فيه ليلته أو يجد موضعًا يركن إليه مع عفشه المتواضع. لم نجد من بدٍّ بعد أن وصلنا إلى آخر النهار إلَّا أن نتجمع في ساحة شبه مفتوحة في أحد الأقسام، ونقضي ليلتنا هناك، بل ليلتين وثلاثة نهارات كاملة إلى أن فُتح قسم جديد احتوانا واحتوى درسًا جديدًا عن عيوب نفس أزاحت الستار عنها ريحٌ خفيفة للغاية.

١٨

مع اندلاع حرب الخليج الثانية، تزعزع الأمن وغابَت الخدمات العامة بشكلٍ شبهِ تامٍّ عن سائر البلد بسبب ضربات جوية عنيفة وقاسية تعرَّض لها البلد، وفي هذا الوضع بدأت أفكار الهروب تُراود السجناء وصار بعضٌ منهم يخطط لذلك بشكل متكتم عليه بشدة بالغة. وتمكَّن بعضُهم من اختراق الأسوار العالية وعبور خنادق تحيط بالسجن مملوءة بمياه آسنة وتجاوز أسلاك شائكة مكهربة فقدت كثيرًا من مناعتها وحصانتها مع ضياع الطاقة الكهربائية بسبب استهداف محطات الطاقة من قِبَل قوات التحالف الأمريكي-العربي الذي شنَّ هجومًا مدمرًا على كل المرافق الحيوية المدنية في البلد في خطوة لم نفهمها وقتها، وكانت موضعَ تساؤل كبير؛ إذ لم يكن الربط بينها وبين تحرير الكويت ممكنًا أبدًا ولا مفهومًا.

أول حوادث الهروب من السجن الرهيب والمحصن جيدًا كانت من الأقسام المغلقة، في عملية جريئة هرب شخصان كان لهما خصوصية ومحسوبان على الأقسام المغلقة، وإن كانَا بالحقيقية ليسَا من السجناء، بل من المحتجزين دون توجيهِ تهمةٍ لهما. مثل هؤلاء المحتجزين كان يوجد الآلاف منهم، بل عشرات الآلاف في أماكن شتى من البلد، سمعت قصصًا رهيبة عن مواقع الاحتجاز هذه التي تقع في الصحراء في جنوب العراق، وعن المعاملة القاسية للعوائل من نساء وأطفال، وكيف كان يتم كلَّ فترة بشكل دوري اختطافُ مجموعة منهم بلا تمييز ليُساقوا إلى مقابر جماعية سوف يتم اكتشافها كل حين في سنوات طويلة لاحقة وسط صمت ولا مبالاة يلف الحكومة والشعب وأوساط دعاة الثقافة والدولة المدنية وحقوق الإنسان ورجال الدين والأحزاب السياسية، ربما يمكنني الحديث عنها في كتاب آخر غير هذا مستقبلًا رغم كلِّ الألم الذي يسكن فيها.

كان الهروب الأول هروبًا ذكيًّا جرى التخطيط له مع سجينَين آخرين من الأقسام المفتوحة، وأحدثَ الهروبُ مفاجأةً مدوية في السجن، وأذهل السجناء والإدارة معًا، ولولا ظروف الحرب وارتباك سلطات الحكم آنذاك لكان ردُّ الفعل قاسيًا جدًّا ولوقعَت بسببه عقوبات كبيرة يمكن لها أن تتحول إلى مجزرة، وبالمقابل لولا ظروف الحرب أيضًا لما كان بإمكان أحد الفرار ولا حتى محاولته، بل ولا التفكير به أبدًا.

عند كلِّ شفق كان يجري تعدادٌ للسجناء بإجراء روتيني يومي لا تتخلف عنه إدارة السجن أبدًا للتأكد من وجودهم بإحصاء كامل عددهم، ومن ثَم تقفل جميع أبواب الأقسام وفي الضحى تُفتح الأبواب ثانية ليخرج السجناء في ساحات صغيرة متجاورة أحدها ينفذ على الأخرى وينهمك كلٌّ منهم بأمر ما يستهويه. بعضٌ منهم كان حيويًّا مرحًا نشِطًا قويَّ الإرادة، لم تقدر كلُّ سنوات السجن الطويلة ولا العقوبات الصارمة أن تفتَّ من عضدِه أو أن تسلبَه إرادته، ولا أن تُخليَ قلبَه من الشجاعة ولا عقلَه من البصيرة والحكمة، فيما آخر غدَا ذا مزاج قاتم مظلم يسير منعزلًا منفردًا بمنأًى عن الآخرين وبمنجًى من الحوار وأسئلة متطفلة قد تجرُّه إلى بثِّ مكنوناته، يجترُّها وحده لتنعكس على وجهه حزنًا وأسارير عابسة وصمتًا على مدار ليله وطوال نهاره، لتفعل به أحزانُه أضعاف ما تفعله ظروف السجن القاسية نفسها. هذا وذاك، كل واحد منهما ينهمك في عالمه فبعضٌ يمارس الرياضة، وآخر يجلس تحت شمس الصباح الباردة يقرأ كتابًا، ويتجمع آخرون في حلقات حوار ودردشة، وآخرون ينهمكون في صناعة أشياء يدوية، وآخرون يقفون وحدهم كأنهم جثثٌ هامدة تنتظر الدفن.

في ذاك الصباح، وبينما الكل منشغلٌ بعالمه الخاص، وإذا بصوت الحرس ينادي لتعدادٍ على عجل وإخلاء الساحات والدخول إلى الأقسام فورًا. شَهِد السجن حركة غير عادية وضوضاء وجلبة من الحرس حتى بعد أن تم التعداد الاستثنائي غير مفهوم الأسباب، أُقفلت الأبواب في خطوة غير مفهومة إلى أن انجلت الغبرة بعدها لنكتشف أن مجموعة من السجناء قد هربت؛ اثنان من الأقسام المغلقة وآخران من الأقسام المفتوحة. تم اكتشاف ذلك بعد أن أبلغ نزلاء الزنزانة إدارة السجن عن اختفائهما من ليل البارحة، وكانوا يظنون أنهما يبيتان في زنزانة أخرى مع أصدقاء لهم؛ لأن أبواب الزنزانات كانت مفتوحة طوال النهار والمبيت يحصل أحيانًا رغم أنه لم يكن مسموحًا به.

هذا الهروب الجريء فتح بوابة الهروب أمام آخرين وكسر حاجزًا نفسيًّا مهمًّا، وكشف عن ضعف الدولة وقتئذٍ، وبالفعل نجح أكثر من شخص بالهروب بعدها. بعض محاولات الهروب كانت مغامرة شيقة تصلح لأن تكون فيلم حركة مثير على الطريقة الهوليودية. ومنها حادثة مثيرة حصلت بعد تزايد حالات الهروب من خلال إحداث فتحات في السور الداخلي للسجن، والعبور بعدئذٍ من فوق السجن الخارجي بتسلقه بواسطة حبال تُصنع داخليًّا بطريقة محترفة؛ لذلك قامت الإدارة بتعزيز الحراسة على أبراج المراقبة وعلى الأسوار الخارجية بعناية كبيرة، وأصبح العبور على السور صعبًا جدًّا إن لم يكن مستحيلًا؛ لأن كل نقاطه أصبحت تحت الأنوار الكاشفة وتحت مراقبة مشددة في الليل، الوقت المثالي لعمليات الهروب.

إلَّا أن أحد السجناء استطاع الهرب بمفرده وبدون مساعدة من أيِّ أحد، ونفذ عملية فراره بخطةٍ جريئة أبهرت الكل. وجد هذا السجين — المنحدر من عائلة كردية تسكن منطقة جبلية بعد مراقبة طويلة ودقيقة — أن النقطة الوحيدة التي لا تُسلَّط عليها الأنوار الكاشفة تقع تحت برج المراقبة تمامًا، وتبقى منطقة مظلمة دائمًا وتشكِّل زاوية عمياء على الحرس القاطنين فوقها، ويستحيل أن يصدق أحد أن من يحاول الهروب فسوف يجازف بالصعود إلى أكثر النقاط تحصينًا ويجعل من برج الحراسة نفسه ممرًّا لعبوره إلى الضفة الأخرى من سور السجن الخارجي. وبالفعل ألقى بحباله المتينة إلى هناك، وبدأ التسلق من تحت هذه النقطة تمامًا من تحت برج المراقبة، ليرتقيَ السور بخفة ورشاقة وهبط إلى الجهة الأخرى، فيما كان الحرس متيقظين طوال الوقت ينظرون إلى كل الزوايا، ولم يدركوا أن هروبه كان من بينهم إلَّا بعد أن عُثِرَ على الحبل في نهار اليوم التالي، وهو ما يزال متدليًا من الدعامات الحديدية التي يستند إليها برج المراقبة تلوِّح به الرياح، كأنه يسخر من غباوتهم ومن خططهم الفاشلة. اختفى السجين الهارب تمامًا عن الأنظار من يومها ولم يُعثر عليه أبدًا لا من قِبَل قوات الأمن ولا من حرس السجن ولا أيِّ جهة أمنية أخرى.

بسبب هذا الضعف الأمني السافر بدأ السجناء يفكرون بمحاولة هروب جماعي، وجرى الاستعداد لهذه المحاولة والتخطيط للسيطرة على السجن ليلًا، بافتعال حادثة شجار واستدراج الحرس لها ومن ثَم اعتقالهم والوصول إلى مفاتيح السجن وفَتْح الأبواب أمام جميع السجناء، إلَّا أن الفكرة أُلغيت بعد ذلك لتسرُّب نية الهروب إلى إدارة السجن فأُحبطت العملية. تراجع منظمو هذه المحاولة عنها في اللحظة الأخيرة لحسن الحظ؛ لأنها كانت تحمل كثيرًا من العشوائية والارتجال، وكان يمكن أن تؤديَ إلى مجزرة حقيقية إلا أني — وبصراحة — كنت متحمسًا لها في ساعتها.

إحباط هذه العملية لم يُوقف مزيدًا من عمليات هروب فردية، وأحيانًا لمجموعات صغيرة. بعضٌ منها تمَّ في أيام المواجهة حيث استطاع بعض السجناء الهرب باستنساخ أثر ختم كان يوضع على ذراع كل زائر، يقوم السجين الهارب بوضع ذراعه على أثر الختم وينقله إلى ذراعه بعد معالجة فنية، ويخرج مع أول طلائع المغادرين من العوائل الزائرة لأبنائها، موهمًا الحرس أنه زائر، ويقدِّم نفسه باسم زائر دخل إلى السجن فعلًا بعد ترتيب بطاقة تعريفية له، ثم يخرج الزائر الحقيقي في وقت لاحق مع بطاقة تعريف شخصية يحملها مضافًا إلى الختم الحقيقي الموشوم على ذراعه. لم تكن تُساور حراسَ السجن الشكوكُ بعبور سجين باسم زائر حتى إن اكتشف خروج الاسم نفسه مسبقًا بالرجوع إلى قوائم الزوار ويتم التغاضي عن هذا التكرار على أنه خطأ إداري، ويمر الموضوع وسط الفوضى التي كانت تعم البلد والسجن حينها بسبب ظروف حرب الخليج الثانية والانفلات الإداري والأمني. لم تُكشَف هذه الطريقة إلَّا بعد تكررها وإلقاء القبض على أحدهم بعد أن شكَّ أحدُ الحرس بهوية السجين المتخفِّي المرتبك وهو يرتدي زيًّا غريبًا محاولًا إخفاءَ ملامحه، وحاول الفرار من الحارس الذي استوقفه في محاولة يائسة، ليُلقيَ القبض عليه وتتوقف سلسلة الهروب في أيام المواجهة.

أما أغرب عمليات الهروب فكانت هروبَ شابٍّ عُرف بصلابته وجرأته، الغريب في العملية، أن هذا الشاب كان على وشك أن يُطلَق سراحه خلال أشهر قليلة لانقضاء مدة محكوميته إلَّا أنه قرر المخاطرة والهروب ولو تم إلقاء القبض عليه لدفع ثمن ذلك غاليًا بسنوات طويلة إضافية يقضيها في السجن وعقوبة شديدة.

واحدة من عمليات الهروب المشوقة في جميع أحداثها حصلت حين ادعى سجينٌ المرضَ الشديد في إحدى الليالي وأقنع الكل — بما فيها إدارة السجن — بإصابته بالتهاب الزائدة الدودية. تحسُّنُ معاملةِ إدارة السجن للسجناء في حينها وفَّرَت فرصةً لنقل السجناء المرضى ذي الحالات الخطرة والطارئة إلى مستشفيات خارجية للعلاج. وبالفعل تم نقل هذا السجين إلى مستشفى خارجي في منطقة الكرخ في منطقة سكنية كبيرة، وهناك ظل مصرًّا على ادعاء المرض، وأجريت له عملية الزائدة الدودية بالفعل، ليحظى بفرصة البقاء في المستشفى ريثما يتعافى من آثار العملية، ولكنَّه استطاع الهرب بعد ليلة واحدة قضاها في هذه المستشفى وهو ما يزال يئنُّ من جراح العملية وآثارها. حمل أوجاعه معه في قصة مثيرة واستطاع الهرب إلى مدينته وتجاوز مفاوز تفتيش كثيرة رغم أن اسمَه وُزِّع عليها في أحداث مثيرة، ومن ثَم أكمل رحلته إلى خارج العراق ليستقرَّ هناك ولم يستطع أيُّ جهاز أمني الوصول إليه أبدًا.

١٩

ساد التفاؤل كثيرًا وبدَا أننا نعيش العام الأخير في السجن وعمر النظام، خصوصًا مع اندلاع انتفاضة شعبية كبيرة شملت معظم أرجاء البلد، عزَّزها فقدان السيطرة الحكومية على أربع عشرة محافظة من أصل ثماني عشرة بعد هزيمة قاسية مذلَّة للجيش في حرب الخليج الثانية كلَّفت البلدَ آلاف الضحايا من الجنود والمدنيين وخسائر مادية هائلة. تُوِّج كلُّ هذا التهاوي لسلطةِ وهَيبة النظام باستسلامٍ مخزٍ لقيادة طالما تبجَّحت بقدراتها الحربية الفارغة وبكبرياء أجوف، وجلست في الآخر راضخةً مستسلمة لكل شروط الغزاة في خيمة صفوان الشهيرة. كانت تَصِلنا الأخبار عبر أجهزة الراديو التي شاع وجودها بين السجناء حتى بعلم سلطات السجن وإن بغير رضاها، وبدَا أن عملية غزو الكويت قوَّضت النظام تمامًا ولم تَعُد المسألة سوى مسألةِ وقتٍ قصير لسقوطٍ حتميٍّ لهذا النظام الهمجي العبثي.

تغيَّر سلوك إدارة السجن تجاه السجناء بشكل كامل، وصار وديًّا جدًّا لكنه مرتبك أيضًا، فمع أنهم ظلوا يمارسون دورَهم الرسمي بإدارة السجن وتنظيم أموره وفق التعليمات العامة، إلَّا أنهم بدءوا يهابون السجناء بشكلٍ جديٍّ ويتجنبون إبداءَ أيِّ مظاهر عدائية حتى مع صدور مخالفات جدية حقيقية. هذه المخالفات لو صدرت في وقت سابق — ولو بمقدار عُشر معشارها — لكانت العواقب لا تُحتمل، أما الآن فتمرُّ بسلام وكأنه لم يحدث شيء. صار الحرس يتودَّدون للسجناء وسطَ إيمان من الكل من سجين وسجان أن هذه الحرب هي نهاية النظام الفعلية، وأنها دقَّت آخر مسمار في نعشه، وسوف يُحمل إلى مزبلة التاريخ مقبرته ومقامه اللائق به في وقت قريب جدًّا، وما على الكل سوى قليل من الصبر لحضور مراسم الدفن الرسمية.

خلال أيام الحرب كنَّا نسمع صوت الانفجارات المرعب من الطائرات والصواريخ الأمريكية وهي تدكُّ العاصمة عبرَ فتحات شبابيك علوية في أحد الأقسام الجديدة، كنَّا نرى لهبَ نيران الانفجارات الهائلة تُضيء السماء وتزيدنا قلقًا لما يحصل بالبلد، مع مخاوف جدية من احتمال تعرُّض السجن هو الآخر لضربة جوية مماثلة لهذه الضربات لكونه يقع في منطقة عسكرية (معسكر أبو غريب). وبالفعل سمعنا في إحدى الأمسيات أصواتَ انفجارات قريبة جدًّا أرعبَتنا لشدتها ولهول قوتها، بل رأينا صواريخ كروز أمريكية تتجه إلى أهدافها ولا أحد يقدر على اعتراضها من الدفاعات الجوية وتعبر بسلام من فوق السجن وعلى ارتفاعات منخفضة جدًّا، بحيث كان بالإمكان أن نرى كلَّ تفاصيلها بسهولة وكأنها من شدة انخفاضها طائرة تستعد للهبوط في مدرج مطار قريب.

في أحد النهارات — وبينما كنَّا في ساحة السجن الخارجية — مرَّت من فوقنا ثلاثة من هذه الصواريخ، وحاول حارسٌ في أحد أبراج المراقبة أن يُطلق الرصاص عليها ظنًّا منه أنه قادر على إسقاطها، فهبَّ عليه السجناء بصراخ جماعي يوبِّخونه خشيةَ أن يغيِّر الصاروخ اتجاهه وينفجر فوق السجن. بالطبع هذا الاحتجاج لم يكن عن دراية ولا عن علم بهذه الصواريخ ولا بالشئون العسكرية؛ لأنه لا يوجد أحد من السجناء يملك معلومات عسكرية حقيقية بمستوى محترف إلَّا أشخاص قلة لا يتجاوز عددُهم أصابعَ اليد الواحدة وهناك شكوك جدية في اطلاعهم على معلومات تخص أسلحة متطورة كالتي نتحدث عنها. هذا الاحتجاج كان يعبِّر عن حالة الضعف المتردي التي بلغها النظام والأمن في السجن بحيث صار السجناء لا يهابون أحدًا من رجاله، وبالأحرى صار الحرس هم مَن يهابون السجناء. لم تكن هذه الحادثة هي المرة الوحيدة التي عرَّت وكشفَت هذا التردي الأمني في حراسة السجن والسيطرة عليه، ففي يوم — وفي عز الظهيرة — هرب أحد سجناء الأقسام المفتوحة من فتحة صنعَها في السور الخارجي للسجن، واكتشف حركته أو بالأحرى اشتبه أحدُ حراس أبراج المراقبة بوجود حركة مريبة بين الأحراش والأدغال المحيطة بالسجن فبدأ يُطلق النار عليها، فما كان من السجناء إلَّا أن بدءوا بالصراخ عليه، وهو يحاول أن يفسر لهم ما يحدث، وهم يردون عليه بكلمات هي أقرب للتهديد من النصح، كانوا يقولون له: «أخي، لا تورط نفسك! قد يكون هذا السجين الذي تدَّعي هروبه في مرمى طلقاتك وينال إصابةً قاتلة منك.»

– «إذا تعرَّض للموت ماذا سيكون ردك؟»

– «هذا السجين حتمًا وراءه مَن سوف يطالبك بدمه لو حصل مكروه له.»

لم تكن هذه الحالة المنفلتة في السجن فقط، بل في عموم البلد، وكنَّا نراها ونسمعها في أحاديث الزوار وعلى وجوه أهالينا الذين نلتقيهم أيام المواجهة حينئذٍ. موجة التفاؤل الكبيرة بانهيار النظام في العاجل القريب كانت طاغيةً على كل شيء. مع أني كنت ضمن قلائل ينظرون بسلبية لدور القوات الأمريكية وهجماتها على البلد ولم أكن أرجو خيرًا منهم، وما زلتُ مواظبًا على عدم الثقة بسياسة أمريكا وأعدُّها أُسَّ البلاء في العالم كله وليس في منطقة الشرق الأوسط وحسب، وعندما أقول: من ضمن قلائل؛ لأن الجو السائد كان خلافَ ذلك، وكان يتمنى سقوط النظام بأيِّ طريقة، حتى إنه في أحد الأيام — وبعد نقاش عن هذه الحرب — وجَّه أحدُهم لي كلمةً فيها تشكيك بأصل معارضتي للحكم الفاشي. كانت لحظةً عابرة لم تؤثر على علاقتي الشخصية مع هذا الصديق أبدًا، وما زلت أحتفظ بصداقته حتى هذه اللحظة ولا أظن سوف يُصيبها شيءٌ في المستقبل سوى مزيدٍ من عُرَى الوثاقة، لكنها كانت مؤشرًا مهمًّا على أن المعارضة السياسية ينبغي عليها أن تُوَسِّع أُفقَها وتتخلَّى عن خصوماتها الشخصية، وأن تجعل غايتها إرساء المبادئ الحقة، وأهدافها في خدمة شعبها بوسائل صحيحة أخلاقيًّا، وأن تكون هذه الأخلاقيات هي المرشد والدليل القائد في جميع مواقفها السياسية ولا تسير وراء دوافع ذاتية ولا خلف مشاعر الانتقام الشخصي.

سبيل الانتقام الشخصي الأناني — رغم كلِّ الأعذار التي تُساق لتبريره — سوف يُبقي الشعوبَ في تِيهٍ لا تجد منه مخرجًا، وتظل تدور في حلقة معبأة بالكوارث والفتن وفي النهاية يضيع الشعبُ كلُّه وإن كان معه بطلُ عبورِه موسى النبي نفسه ولن يجد لهما أحدٌ من أثر سوى حكايا قديمة تصلح للتسلية وللغارقين في أحلام لن يتحقق منها شيء لتغدوَ بطولِ أمدِها كابوسًا سرمديًّا مزعجًا.

بيد أن الأمور جرَت خلافَ كلِّ التوقعات واستعاد النظامُ سيطرتَه على أجزاء كبيرة من البلد، وبدأ بحملة قمع شديدة مماثلة تقريبًا في قسوتها لحملة مشابهة جرَت في السنوات الأولى للحرب، لكن هذه المرة لم تستغرق هذه الحملة سوى أشهر قليلة، ومع ذلك خلَّفت آلامًا عظيمة وضحايا بأرقام مرعبة. وبعد أن أخذ النظام تفويضًا غيرَ علني من القوات الأمريكية بقمع الانتفاضة الشعبية بالسماح له باستخدام الطيران العمودي واطمأن إلى أن هذه الحملة العسكرية الجبارة التي دمرت كلَّ شيء في البلد لن تستهدف السلطة القمعية ورأسها، بدأ عملية استرجاع النظام لسيطرته الكاملة على معظم المدن التي انشقت عنه في عمليات عسكرية وحشية خلَّفت رُعبًا عظيمًا وفزعًا كبيرًا بين الشعب، وموتًا انتشر في صحاري وسُهُوب ووديان وجبال الوطن الذي تحوَّل إلى محرقة ومقبرة هائلة. حينئذٍ انقلب التفاؤل الكبير الذي كان يظهر على وجوه السجناء وفي كلماتهم إلى تشاؤم أكبر منه.

في صباح يوم — وبينما كان السجناء في الأقسام المفتوحة يتجولون في ساحة كبيرة مخصصة لهم بحجم مساحة ملعب كرة القدم — صَعِد على سطح السجن رجالٌ مسلحون ببنادق قنص، وصدر أمرٌ لجميع السجناء بواسطة مكبرات صوت يدعوهم إلى الدخول فورًا إلى الأقسام، وحذَّر بأن من يتخلف عن الاستجابة الفورية يُعرِّض نفسه لخطر الموت. كان طلبًا يستحيل تنفيذه بالسرعة التي طُلِبَ بها وفوجئ السجناء برصاصٍ حيٍّ يُوجَّه لهم من قنَّاصة متهيئين لعملية قتل عشوائي مما أردى بعضَهم في الحال، وهام السجناء يجرون في كل الاتجاهات لا يعرفون أين يختبئون ولا بمن يستجيرون. ثم بدأ هجومٌ كبير عليهم من قوات أخرى كانت على أهبة الاستعداد ومتهيئة للقيام بعملية انتقام كبيرة، وعاد الرعب من جديد يخيِّم بمشاهد التعذيب الانتقامي والقسوة المفرطة.

استمر الحال هكذا لعدة أسابيع، رعب وخوف يطبق على الأنفاس، وفي الليل تُشنُّ غارات أمنية على السجن من قِبَل قوات أمنية لا يُعرف لصالح أيِّ جهة أمنية تعمل، وفي كل مرة كان يتم اختطاف مجموعة من السجناء المعروفين بنشاطهم العام، مجموعة تلو الأخرى واقتيدوا إلى معسكر الرضوانية حيث جرَت فيه تصفية المعارضة المنتفضة وهناك اختفوا إلى الأبد، ولم يُعثَر على أيِّ أثرٍ لهم بعد ذلك إلى يومنا هذا.

كان تنفيذُ الاعتقال يتم بطريقة تُدخل الهلع والفزع في قلوب السجناء، ويُطبق صمتٌ كامل حين تدخل مجموعة من الجلادين ليبدأ أحدهم بقراءة مجموعة من أسماء سجناء مطلوبين ثم يقتادونهم مكبَّلين معصوبي الأعين في اعتقال جديد. وسمعنا — فيما بعد وقت ليس بالقصير — قصصًا مرعبة عن تصفية المتهمين بالمشاركة في الانتفاضة الشعبية، وآخرين كانوا في معسكر الموت هذا، بعد أن عاد بعض السجناء أحياء من هذا المعسكر الرهيب. كما سمعنا تفاصيل عن حوادثِ قتلٍ عشوائي كانت تجري بإشرافِ أكبرِ الشخصيات المتحكمة بزمام الحكم في البلد، ومنها هذه القصة التي أنقلها بإيجاز مخلٍّ لقسوتها:

«أحد أركان النظام (ح. ك) كان يُشرف شخصيًّا على عمليات التعذيب، وهو شخص مشهور بقسوته، وشغَل مناصبَ حكومية رفيعة، وقف على رأس مجموعة معتقلين في هذا المعسكر وبعد أن تعرَّضوا لحملة تعذيب في تحقيقٍ وحشيٍّ أمام عينه، طلب منهم بأن يُديروا ظهورهم له ويسيروا قائلًا لهم: «سوف أُطلق الرصاص، ومَن تُصيبه الرصاصة ويموت فهو مجرم خائن.»

وبدأ يصطادهم واحدًا تلوَ الآخر بمسدسه الشخصي، ولم ينجُ منهم إلَّا قليلٌ حالفه الحظ وقتها، لكن القاتل لم ينجُ، فبعد أعوام قليلة — فقط — ذُبح هو وشقيقه ووالده وهُدم داره من قِبَل نفس النظام وبأمرٍ مباشرٍ من سيده الذي اتبعَه كالكلبِ الوفيِّ طوال عمره.»

سمعنا بهذه القصص المرعبة بعد وقت طويل؛ لأن مَن كان يعود من هذا المعسكر يعود صامتًا لا ينبس ببنت شفةٍ عن سبب اختطافه واحتجازه في هذا المعسكر الرهيب ولا يتحدث عما جرى هناك، بل يرجع مقلًّا إلى حدٍّ كبيرٍ في أحاديثه الخاصة والعامة، ولا يتكلم إلَّا بحدود الحاجة. كان يبدو واضحًا أن العائدين من هذا المعسكر الرهيب تعرَّضوا لصدمة نفسية هائلة، أفقدَتهم القدرة على النطق وأزاحَت الثقة منهم بكل أحد، لذلك لم يجدوا مَن يبثُّون إليه حزنَ تلك الصور الرهيبة التي شهدوها، واختاروا الانطواء والانعزال والتقوقع في مشهد كان يُثير الرعب فينا، وربما حتى أكثر مما كان في تلك الصور نفسها من قسوة، وهكذا يفعل الرعب والخوف بصاحبه.

٢٠

بعد مرور عدة أسابيع، وبعد أن أُخمدت الانتفاضة تمامًا، توقفت هذه الإجراءات القاسية، وبدا أيضًا أن النظام أضحى واقعًا تحت ضغط دولي كبير للإفراج عن السجناء السياسيين في جملة ضغوط واسعة مُورسَت لتجريده من قوته، بل تجريد البلد من كل شيء في مخطط كبير وعميق لهدم الدولة العراقية بالكامل، والسير بها وئيدًا نحو مرحلة الدولة الفاشلة في عملية طويلة استغرقت عقودًا. حاول النظام تفادي الضغط، وفي خطوة ترضية وتهدئة شعبية ودولية في الوقت عينه، أصدر عفوًا عامًّا عن السجناء السياسيين بمناسبة يوم ميلاد الطاغية، الذي كان يحتفل به رغم كلِّ الهزائم والجراح والجوع والموت المنتشر في أرجاء البلاد. إلَّا أنه — وبرغم كل هذه الضغوط — لم يُطلق سراحنا — كما هي العادة في كل عفو كان يعلن عنه طوال عقد الثمانينات — واكتفى بإطلاق سراح السجناء السياسيين من الأقسام المفتوحة فقط. ورغم مرور عدة أشهر على وعوده بإطلاق سراح كل السجناء السياسيين لم تظهر أيُّ بوادر على ذلك، وصِرنا نظن أننا سوف نواصل حياة السجن كالمرات السابقة حتى مع هذه التطورات الدراماتيكية في البلد.

في هذه المرة كما في مرات سابقة تعرَّفنا على أسماء وأرقام المواد التي حُكم بها علينا، وكانت أول مرة نتعرف بها على أرقام المواد القانونية التي حُكمنا بها عندما صدر أول عفو رئاسي. أيٌّ من المعتقلين لم يُلقِ بالًا لما كان يُثرثر به القاضي في المحكمة الصورية في قرار الحكم؛ لأن جوَّ السخرية والاستهزاء واللامبالاة من هذه التمثيلية السخيفة والمحاكمة الصورية كان يسيطر على الأجواء. كان القاضي يحاول أن يُظهر نفسه مع المحامي والمُدعي العام كأنهم في محكمة حقيقية، وكأن التُّهَم حقيقية تُسندها أدلة قاطعة وبراهين ثابتة، وأن ما جرى هو تحقيق قانوني عادل وأن الدفاع قد بذَل جهده واطلع على الملفات وفحصها بعناية وإخلاص، وليس أن الأمرَ كلَّه كان عبارة عن تُهَمٍ جزافٍ تُلقى بلا أدنى دليل ولا برهان، وأن التعذيب الوحشي كان الوسيلةَ الوحيدة لانتزاع الاعترافات، وكثيرٌ من التُّهَم كانت غيرَ حقيقية كما هي الاعترافات، ولا أن القاضي والمدعي العام ومحامي الدفاع كلهم طالبوا بالموت للمتهمين، وكانوا يقفون في خندق واحد بالعداء السافر أمام معتقلين لا دليل عليهم سوى تهمة أُلقيت عليهم بناءً على شبهة، واستنادًا إلى شكوك وظنون وتقارير وشاة ومخبرين.

وهل كانت المحاكمات أصولية حتى نُقيمَ لها وزنًا أو تلفت انتباهنا؟ ولماذا نُعير انتباهنا لما يتفوَّه به حاكم عسكري تُلقى الأوامر عليه بإصدار أحكام لا رأيَ له فيها ولا قرار؟ ألم يكن مجرد بوق ينقل صوت طاغية يحكم بالحديد والنار؟ جُلُّ السجناء كانوا لا يميزون بين مادة وأخرى، بل ولا يعرفونها أساسًا للأسباب التي ذكرتُها، حتى جاء أول عفو رئاسي في منتصف الثمانينات تقريبًا، وبدأَت وقتَها حملة لإخراج بعض السجناء من الأقسام المغلقة إلى الأقسام المفتوحة، تمهيدًا للإفراج عنهم. وجاء وقتَها رجالُ الأمن يسألون عن أسماء السجناء وأرقام المواد التي حُكموا بها لإعداد قوائم إدارية تُنظِّم عملية إطلاق سراح المشمولين بالعفو.

استغربتُ ذلك وقتَها؛ إذ لم أكن أميِّز مادة عن أخرى وكنت لا أظن أن بين سجين وآخر من فرق لا بشكل التحقيق ولا بنوع الاتهام، وكنت أظن أن الجميع في مركب واحد، لكن ساعتئذٍ تبيَّن أننا لسنا كذلك وأن التُّهَم تختلف ولم أتفطن إلى السبب الحقيقي لهذا التمايز إلَّا بعد فترة، حيث كان واضحًا أن المحكومين في فترات التوتر الشديد على جبهات القتال، كانوا ينالون أشد الأحكام وأقساها ويحكمون بأسوأ المواد القانونية، أما مَن حكم عليه في فترة سابقة لاندلاع الحرب، أو في أولها حين كان الجيش العراقي يحقق فيها انتصارات كانت المواد القانونية أقل وطأة في عقوباتها وكذلك هي الأحكام. أضحيت أُدرك من حينها أن التهمة التي حُكمتُ بسببها لن ينالَها أيُّ تخفيف؛ لأنها أشد المواد قسوة، بل وصار البعض يخشى أن يمتدَّ الحكم المؤبد أكثر مما هو عليه، خصوصًا بعد أن تمَّ تغيير قانون مدة السجن المؤبد من عشرين سنة إلى خمس وعشرين سنة في بلد كان يمكن أن يكون للقانون أثرٌ رجعي بلا نقاش ولا اعتراض من أيِّ أحد. ومَن ينسى صدور قانون شرع حكم الموت لكل مُنتمٍ لتنظيم معارض ولو كان قد انسحب منه بالفعل حتى قبل صدور ذلك القانون. قُطعت بهذا القانون الغريب عشرات آلاف الرقاب من الشباب وبتُهَم ملفَّقة في كثير من الحالات. فإذا كان القانون يحكم بالموت على فعل لم يكن جريمة قبل صدوره، فهل كان يجد حرجًا لو مدَّد الحكم على مَن هو أصلًا الآن مُدانٌ بجريمة؟!

المناخ السائد كان يشير إلى ما هو معتاد من عدم شمولنا بأيِّ عفو، وأصبحنا نُكيِّف أنفسنا لذلك، وفي وقتَها ظهر زعيم النظام، وقال: «لا يوجد لدينا سجناء سياسيون.» وسأَلْنا أحدَ رجال الأمن عن ذلك وقلنا له: «إذن ماذا نعتبر نحن؟» فأجابنا بردٍّ يعكس الاستخفاف بالقانون والتلاعب بالألفاظ الذي تمارسه السلطة القمعية آنذاك: «أنتم نزلاء ولستم سجناء.»

لكن يبدو أن بعض الهاربين من السجن استطاعوا أن يسرِّبوا أسماءَنا — نحن سجناء الأقسام المغلقة تحديدًا — إلى جهة دولية محايدة وسلَّموها قوائم مفصلة بشكل واضح جدًّا عن عدد وأسماء السجناء السياسيين في الأقسام المغلقة، مما اضطر النظام إلى الاعتراف — أخيرًا — بوجودنا في السجن، وأُجبر على إطلاق سراحنا في إجراءات سريعة مستعجلة، وخلال أقل من أسبوع واحد، قبل موعد زيارة مبعوث دولي كبير كان يحمل القائمة الطويلة بأسمائنا معه. وبالرغم من كل ذلك فقد استُثني عدد قليل من السجناء وظلوا لفترات أطول، بل إن بعضهم أكمل عشرين عامًا بالتمام والكمال في تلك الزنزانات المريعة.

في يوم شتائي قصير — تحديدًا ليلة واحدة قبل عشية أعياد الميلاد — استُدعيت لالتقاط صورة لي ولأخذ بصماتي. جلستُ مع مجموعة من السجناء في ساحة كبيرة جدًّا تفصل بين باب قسم الأحكام الخاصة والباب الخارجي للسجن، حيث قضيتُ خلفه تسع سنوات وأربعة أشهر وخمسة أيام.

جاء رجلُ أمنٍ بَدِين معروف بغبائه وقسوته يطلب منا المسامحة وبراءة الذمة عما بدر منه تجاهنا، ويرجو ألَّا يحقد أحدٌ عليه ويبرر ذلك بأنه كان يؤدي واجبه فقط، ثم يطلب من السجناء أن يتفهموا ذلك وألا تُؤخَذ الأمور على محمل شخصي. ثم قال: عليكم الآن وأنتم تخرجون من السجن أن تهتفوا بحياة السيد الرئيس القائد، وأن تشكروه على عفوه وكرمه ومسامحته لكم، ونحن صامتون لا نرد على أيٍّ من كلماته الغبية، بل إني همست في أُذُنِ صاحبي بشتيمة مقذعة ذكرت فيها اسم القائد نفسه صريحًا.

هبط الغسق ونحن لا نزال في إجراءات الإفراج، أتطلع إلى الجُدران الإسمنتية العالية ومن خلالها تنبعث أمامي صورُ فتيةٍ من خيرة شعبنا قَضَوا خلفها، وضاعت قدراتهم الخلَّاقة ومواهبهم الرائعة تحت سنابك خيل مسعورة، وطئتهم بحوافرها الحديدية وخلَّفت في صدورهم ندوبًا عميقة سيحملها أمثالي من بقية السيف طوال عمره المتبقِّي.

خيَّم الليل على السجن ونحن نهمُّ بالخروج عبر البوابة الكبيرة، وحينها سألني سجينٌ كان إلى جواري: «ما هو شعورك الآن وأنت تخرج من السجن؟»

فأجبتُه بما كان يجول في ضميري.

– بلا شعور.

لندن
٠٧ / ٠٩ / ٢٠١٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤