الفصل الثاني

(١) تَحْقِيقُ الأُمْنِيَّةِ

وَما أتمَّ التَّابِعُ كَلامَهُ، حَتَّى تَلَأْلَأ وَجْهُهُ نُورًا، ثُمَّ اسْتَخْفَى عَنْ ناظِرَيْهِ. وَتَلفَّتَ «مَيْداسُ» — يَمْنَةً وَيَسْرَةً — فَلَمْ يَرَ أَحَدًا في الْحُجْرَةِ، إِلَّا شُعاعَ الشَّمْسِ الذي انْعَكَسَ عَلَى سَبائِكِ الذَّهَبِ الَّتِي أَفْنَى حَياتَهُ في جَمْعِها وادِّخارِها.

وَلَمْ تَذْكُرْ لَنا الأُسْطُورَةُ كَيْفَ قَضى «مَيْداسُ» لَيْلَتَهُ؟ وَهَلْ زَارَ الْكَرَى جَفْنَيْهِ، وَطَرَقَ النَّوْمُ عَيْنَيْهِ؟ أَمْ ظَلَّ — طُولَ لَيْلِهِ — ساهِدًا (ساهِرًا) يَحْلُمُ بِتَحْقِيقِ الأُمْنِيَّةِ التي وَعَدَهُ بِها التَّابعُ الظَّرِيفُ؟ عَلَى أَن قُصارَى الظَّنِّ، بَلْ أَكْبَرَ الْيَقِيِن، أَنَّهُ كانَ — مِنْ فَرْطِ سُرُورِهِ — أَشْبَهَ بِطِفْلٍ صَغِيرٍ وَعَدَهُ أَبُوهُ بِلُعْبَةٍ جَمِيلَةٍ يَشْتَرِيها لهُ في الصَّباحِ الْباكِرِ؛ فَباتَ الطِّفْلُ يَحْلُمُ بِهذِهِ اللُّعْبَةِ الْجَمِيلَةِ طُولَ لَيْلِهِ، وَيَرَى في مَنَامِهِ نُورَ ذلِكَ الطَّيْفِ الْجَمِيلِ الطَّلْعَةِ الَّذِي وَعَدَهُ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ الْغالِيةِ.

ولَمَّا لاحتْ تَباشِيرُ الصَّباحِ اسْتَيْقَظَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» مِنْ نَوْمِهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى أَوَّلَ شُعاعٍ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ يَنْفُذُ إِلى حُجْرَتِهِ، حَتَّى رَأَى تَحْقِيقَ أُمْنِيَّتِهِ عِيانًا.

ولَقَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ، وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرةُ، حِينَ رَأَى غِطاءهُ — الذي كانَ يَلْتَحِفُ بِهِ — قَدْ أصْبَحَ ذَهَبًا خَالِصًا وَهَّاجًا.

(٢) جُنُونُ الْفَرَحِ

وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ «مَيْداسَ» بِما رَآهُ؛ فَقَدِ امْتلَأَتْ نَفْسُهُ بَهْجَةً وانْشِراحًا، وَفاضَ السُّرُور عَلَى قَلْبِهِ فَأَذْهَلَهُ، وشَرَّدَ عَقْلَهُ. وَأَنْساه فَوْزُهُ وَنَجاحُهُ كلَّ شَيْءٍ، فَأَسْرَعَ يَجْرِي في حُجْرَتِهِ، وَيَلْمِسُ كلَّ شَيْءٍ يُصادِفُهُ فيها؛ فَلا يَكادُ يَفْعَلُ، حَتَّى يُصْبِحَ ما يَمَسُّهُ ذَهَبًا خالِصًا وَهَّاجًا!

ثُمَّ لَمَسَ «مَيْداسُ» أحَدَ أَعْمِدَةِ سَرِيرِهِ، فَإِذا بِالسَّرِيرِ كُلِّهِ قَدْ ثَقُلَ وَزنُهُ، وَأَصْبَحَ — في الْحَالِ — كُتْلَةً مِنَ الذَّهَبِ.

ثُمَّ عَجَّلَ بارتِداءِ ملابِسِهِ، وَلَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ حَتَّى رَآها كُلَّها قَدْ أَصْبَحَتْ مِنَ الْجُوخِ الذَّهَبِيِّ النَّاعِمِ الْجَمِيلِ. وَرَآها سَهْلَةَ الاِنْثِناء، قَلِيلَةَ الثقل، ظَرِيفَةَ الشَّكْلِ. وَلَمْ يَكَدْ يَلْمِسُ مِنْدِيلَهُ الصَّغِيرَ الَّذِي وَشَتْهُ لَهُ ابْنَتُهُ «مَرْيَمُ الذَّهَبِيَّةُ»، حَتَّى تَحَوَّلَ ذَهَبًا إِبْرِيزًا، وَتَحَوَّلَتْ خُيُوطُهُ وَوَشْيُهُ ذَهَبًا.

ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْظارَهُ مِنْ جَيْبِهِ، وَما وَضَعَهُ عَلَى أَنْفِهِ، حَتَّى تَمَلَّكَتْهُ الدَّهْشَةُ، وَحارَ في أَمْرِهِ، إِذْ رَأَى أَنَّهُ لا يُبْصِرُ — بِمِنْظارِهِ — شَيْئًا. فَلَمَّا أَنْعَمَ النَّظَرَ فِيهِ رَأَى زُجاجَتَيْهِ قَدْ تَحَوَّلَتا ذَهَبًا خَالِصًا. عَلَى أَنَّ «مَيْداسَ» رَأَى أَنَّ مِنْظارَهُ قدْ أَصْبَحَ — بَعْدَ ذلِكَ — لا فائِدَةَ مِنْهُ، وإِنْ غَلَتْ قِيمَتُهُ، وارْتَفَعَ ثَمَنُهُ، فَقَدْ كانَتْ زُجاجَتاهُ أَنْفَعَ لِعَيْنَيْهِ مِنْ قِطْعَتَي الذَّهَبِ اللَّتَيْنِ تَحَوَّلَتا إِلَيْهِما، فَساوَرَ نَفْسَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَلَقِ والضِّيقِ. وَلكِنَّ فَرَحَهُ — بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ — قَدْ أنْساهُ التَّفْكِيرَ في أيِّ شَيْءٍ آخَرَ!

واسْتَولَى الْفَرَحُ عَلَى نَفْسِهِ، وَطغَى عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتَّى خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أصْبَحَ أَسْعَدَ مَنْ في الْعَالَمِ، وأَنَّ قَصْرَهُ الرَّحِيبَ (الْفَسِيحَ) أَضْيَقُ مِنْ أَنْ يَسَعَهُ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ.

ثُمَّ هَبَطَ السُّلَّمَ، وَلَمْ يَكَدْ يَلْمِسُ الدَّرابِزِينَ، حَتَّى تَحَوَّلَ ذَهَبًا، وَما فَتَحَ بابَ الْحَديقَةِ، حَتَّى تَحَوَّلَ الْبابُ ذَهَبًا كَذَلِكَ.

وَلَمَّا دَخَلَ الْحَدِيقَةَ رَأَى الْوُرُودَ والْأَزْهارَ الشَّذِيَّةَ الْمُزْدَهِرَةَ، وَقدْ هبَّتْ عَلَيْهِ نَفْحَتُها (رَائِحَتُها) الْعَطِرَةُ، مَعَ نَسِيمِ الصَّباحِ.

فَأَسْرَعَ إِلَيْها، يَلْمِسُها واحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى. وَما كادَ يَفْعَلُ حَتَّى تَحَوَّلَتْ ذَهَبًا خَالِصًا.

(٣) شَكْوَى «مَرْيَمَ»

ثُمَّ حانَ وقْتُ الْفُطُورِ، وكانَ هَواءُ الصَّباحِ قَدْ أَجاعَهُ، فَعادَ في طَرِيقهِ إِلى الْقَصْرِ.

وبَحَثَ عَنْ فَتاتِهِ الصَّغِيرَةِ «مَرْيَمَ الذَّهَبِيَّةِ»، فَلَمْ يَرَها جالِسَةً إِلى الْمائِدَةِ، فَأَمَرَ بِاسْتِدْعائِها إِلَيْهِ، وجَلَسَ إِلى الْمائِدَةِ يَتَرَقَّبُ عَوْدَتَها. وبَعْدَ لَحَظاتٍ قَلِيلَةٍ رَآها قادِمَةً عَلَيْهِ، مَحْزُونَةً باكِيَةً، فَدَهِشَ لِبُكائِها.

وكانَتْ هذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَراها باكِيَةً حَزِينَةً، فَأَرادَ أبُوها أنْ يُزِيلَ حُزْنَها، ويُدْخِلَ السُّرُورَ عَلى قَلْبِها، ويُفاجِئَها مُفاجَأَةً سارَّةً، فَأَمْسَكَ بِقَدَحِها، فَتَحَوَّلَ الْقَدَحُ ذَهَبًا خَالِصًا وَهَّاجًا.

وحَسِبَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» أَنَّ هذِهِ الْمُفاجَأَةَ سَتُدْخِلُ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ عَلى بِنْتِهِ الْعَزِيزَةِ «مَرْيَمَ الذَّهَبِيَّةِ». ولكِنَّهُ رَأَى أنَّها لَمْ تَكُفَّ عَنِ النَّحِيبِ (البُكاء). فَسَأَلَها «مَيْداسُ»: «أَيُّ خَطْبٍ — يا عَزِيزَتِي — أَلَمَّ بِكِ؟»

فَقالَتْ لهُ: «انْظُرْ إِلى هذِهِ الزَّهْرَةِ!»

فقالَ لَها: «ما أَجْمَلَها وَرْدَةً، وما أَبْدَعَ مَنْظَرَها، وأَبْهَجَ شَكْلَها!»؛ فَقالَتْ «مَرْيمُ»: «بَلْ ما أقْبَحَها وَرْدَةً، وما أَسْمَجَ مَرْآها، وأرْدَأَ شَكْلَها! إِنَّنِي لا أُطِيقُ رُؤْيتَها. وهِي — في نَظَري — أقْبَحُ وَرْدَةٍ فى الدُّنْيا إِلى الآنَ.»

ثمّ اسْتَأنَفَتْ «مَرْيمُ» قائلَةً: «أتَدْرِي ماذا لَقِيتُ الْيَوْمَ، يا أَبَتاهُ؟ لَقَدْ ذَهَبْتُ إِلى الْحَدِيقَةِ لِأَقْطِفَ — مِنْ شُجَيْراتِها — وَرْدَةً … أتَعْرِفُ ماذا حَدَثَ؟ وَيْلاهُ! يا لَها كارِثَةً حَلَّتْ بِالْحَدِيقَةِ الْجَمِيلَةِ! لَقَدْ ذَبُلَ الْوَرْدُ في حَدِيقَتِنا، وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ، ولَمْ تَفُحْ مِنْهُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ الذَّكِيَّةُ الَّتِي تَمْلَأُ الْأَرْجاءِ عِطْرًا، وتُكْسِبُ النُّفُوسَ بَهْجَةً وانْشِراحًا، فَأَيُّ خَطْبٍ أَلَمَّ بِحَدِيقَتِنا؟ وأَيُّ كارِثَةٍ أصابَتْنا في وُرُودِها وَأَزْهارِها الشَّذِيَّةِ الْعَطِرَةِ؟»

فَخَجِلَ «مَيْداسُ» مِمَّا حَدَثَ بِحَدِيقَتِهِ الْجَمِيلَةِ، وَلَمْ يَجْرُؤْ عَلَى إِخْبارِها بِأَنَّهُ مَصْدَرُ هذِهِ الْمُصِيبَةِ.

ثُمَّ قالَ لَها باسِمًا، لِيُنْسِيَها حُزْنهَا عَلَى وَرْدَتِها الْعَزِيزَةِ: «لا عَلَيْكِ — يا بُنَيَّتِي — ما أصابَ وَرْدَتَكِ مِنَ الاصْفِرارِ. عَلَى أَنَّنِى لَسْتُ أَدْرِي: لِمَ تَحْزَنِينَ؟ أَلا يَسُرُّكِ أَنْ تَظْفَرِي بِوَرْدَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، تَبْقَى مِئاتِ السِّنِينَ، دُونَ أَنْ تَذْبُلَ؟ أَلَا تَرْضَيْنَ بِها بَدِيلًا مِنْ وَرْدَةٍ لا تَلْبَثُ يَوْمًا كامِلًا، حتَّى تَذْبُلَ؟ هَوِّنِي عَلَيْكِ يا عَزِيزَتِي، واشْرَبِي ما أُعِدَّ لَكِ مِنْ حَساءٍ (مَرَقٍ) لَذِيذٍ.»

(٤) عَلَى الْمائِدَةِ

وجَلَستْ «مَرْيَمُ» الصَّغِيرَةُ إِلى الْمائِدَةِ، وقَدْ أَنْساها حُزْنُها كلَّ ما حَوْلَها مِنَ الْمُفاجَآتِ والْعَجائِبِ، فَلَمْ تَفْطُنْ إِلى تَحَوُّلِ الصَّفائِحِ والأَطْباقِ كُلِّها ذَهَبًا خالِصًا.

أَمَّا «مَيْداسُ» فَإِنَّهُ ما لَمَسَ فِنْجانَ الْقَهْوَةِ، حتَّى تَحَوَّلَ الْفِنْجانَ ذَهَبًا خالِصًا، فاشْتَدَّ سُرُورُهُ، وظَلَّ يُفَكِّرُ في الْوَسِيلَةِ التي تُمَكِّنُهُ مِنْ حِفْظِ هَذِهِ الْكُنُوزِ الذَّهَبِيَّةِ كلِّها، حتَّى لا يَسْطُوَ عَلَيْها أَحَدٌ، ولا تَمْتَدَّ إِلَيْها أيْدِي اللُّصُوصِ.

وإِنَّهُ لَغارِقٌ في تَفْكيرِهِ، إذْ رَأَى ما لَمْ يَكُنْ في الْحُسْبانِ، وأَبْصَرَ ما لَمْ يَكُنْ لِيَمُرَّ لَهُ عَلَى بالٍ. تُرَى ماذا رَأَى؟

لَقَدْ وجَدَ أنَّ الْقَهْوَةَ — التي كانَتْ في فِنْجانِهِ — لَمْ تَكَدْ تَمَسُّ شَفَتَيْهِ، حتَّى تَحَوَّلَتْ ذَهَبًا سائِلًا وَهَّاجًا، ثُمَّ جَمَدَتْ — بَعْدَ لَحْظَةٍ قَصِيَرةٍ — فَأَصْبَحَتْ قِطْعَةً صُلْبَةً مِنَ الذَّهَبِ!

(٥) حُزْنُ «مَيْداسَ»

فارْتاعَ «مَيْداسُ» وفَزِعَ وتَأَلَّمَ، واسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْحُزْنُ والْغَمُّ. وَصاحَ مَهْمُومًا: «آهٍ! يا لَشَقائِي وحَيْرَتِي وتَعاسَتِي!»

ثُمَّ تَعاظَمَتْهُ الْحَيْرَةُ، وتَمَلَّكَهُ الدَّهَشُ، إِذْ رَأَى أَنَّ كُلَّ طَعامٍ يَلْمِسُهُ، لا يَلْبَثُ أَنْ يَسْتَحِيلَ ذَهَبًا خالِصًا، مِنْ فَوْرِهِ. وَثَمَّةَ أَدْرَكَ أَنَّهُ لَنْ يَظْفَرَ بِغِذاءٍ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ هالِكٌ جُوعًا.

فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلى كُرْسِيِّهِ، وَأَطالَ تَأَمُّلَهُ في بِنْتِهِ وَهِي تَلْتَهِمُ طَعامَها شَهِيًّا سَائِغًا.

فَقالَ في نَفْسِهِ: «يا لَشَقائِي! فَإِنِّي أَرَى أَمامِي طَعامًا فاخِرًا شَهِيًّا، ثُمَّ لا أَسْتَطِيعُ أَن أَتَذَوَّقَ مِنْهُ شَيْئًا!»

وَشَعَرَتْ «مَرْيَمُ» أَنَّ أباها حَزِينٌ واجِمٌ عاجِزٌ عَنِ الْكَلامِ مِنْ شِدَّةِ الْغَمِّ. وَكانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا جَمًّا، فَحَزِنَتْ لِحُزْنِهِ، وَقالَتْ لَهُ: «خَبِّرْنِي — يا أبِي — ماذا بِكَ؟ فَإِنِّي أراكَ قَلِقًا مَهْمُومًا!»

فَقالَ لها «مَيْداسُ» وَهُوَ يُصَعِّدُ الزَّفَراتِ حُزْنًا وَألَمًا: «للهِ أَبُوكِ — يا بُنَيَّتِي العَزِيزَةَ — فَقَدْ حَلَّتْ بِهِ الْخُطُوبُ وَالْمِحَنُ (الْمَصائِبُ). وَما يَدْرِي والِدُكِ الْمِسْكِينُ: كيْفَ تَكُونُ خاتِمَةُ أَيَّامِه التَّاعِسَةِ؟»

(٦) خاتِمَةُ النَّكبَاتِ

أَيُّها الطِّفْلُ الْعَزِيزُ: هَلْ سَمِعْتَ — طُولَ عُمْرِكَ — أَنَّ رَجُلًا قَدْ بَلَغَ مِنَ التَّعاسَةِ وَالْخَيْبَةِ ما بَلَغَهُ هذا التَّاعِسُ الْمِسْكِينُ؟

فَهُوَ يَرَى أَمامَهُ أَشْهَى طَعامٍ، ثُمَّ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَذَوَّقَ مِنْهُ لُقْمَةً واحِدَةً! أَلا تَرَى أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ فَقْرًا، قَدْ أَصْبَحَ أَغْنى مِنْ هذا الْمَلِكِ، وَأَسْعَدَ مِنْهُ حالًا، وَأهْنَأَ بالًا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ يَأْكُلُها عامِلٌ فَقِيرٌ، وَقَدَحًا مِنَ الْماءِ يَشْرَبُهُ، يَرْجَحانِ ثَرْوَةَ هذا الْغَنِيَّ التَّاعِسِ كُلَّها، وَيَزِيدانِ عَلَى كُلِّ ما يَمْلِكُ مِنْ نَفائِسَ وَكُنُوزٍ؟ أَلَسْتَ تَرْثِي لِحَالِهِ، وَتَحْزَنُ لِما آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ؟ فَاسْمَعْ — أَيُّها الطِّفلُ العَزِيزُ — خاتِمَةَ النَّكبَاتِ، وَآخِرَةَ الْمَصَائِبِ الَّتي أَلَمَّتْ بِهِ:

لَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْجُوْعُ، وَجَهَدَهُ الْعَطشُ، وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرَةُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الأَلَمُ، وَاسْتَبدَّ بِهِ الْحُزْنُ، فَظَلَّ يَتَنَهَّدُ: حَسْرَةً عَلَى مآلِهِ، وَفزَعًا مِنْ مَصِيرِهِ التَّاعِسِ. وَحاوَلَتْ «مَرْيَمُ» أَنْ تَعْرِفَ سِرَّ آلامِهِ، وَمَصْدَرَ أحْزانِهِ، فَلَمْ يَبُحْ لَها بِشَيْءٍ.

فَلَمْ تُطِقْ صَبْرًا عَلَى ما أصابهُ، وَدَفَعَها حُبُّها لَهُ، فَطَوَّقَتْ رُكْبَتَيْهِ بِذِراعَيْها، فَانْحَنَى عَلَيْها يُقَبِّلُها في جَبِينِها، شاكِرًا لهَا حُنُوَّها وبِرَّها، وَقَدْ شَعَرَ أَنَّ حُبَّ ابْنَتِهِ يَرْجَحُ مِلْءَ الدُّنْيا ذَهَبًا.

وَلَمْ يَكَدْ يُقبِّلُها، وَيَشْكُرُ لَها إِخْلاصَها، حَتَّى رَأَى ما لَمْ يَخْطُرْ لَهُ عَلَى بالٍ.

فَصاحَ مَذْعُورًا خائِفًا: «أجِيبِينِي أَيَّتُها العَزِيزَةُ. أجِيبِي نِداءَ أبِيكِ يا «مَريَمُ» الْحَبِيبَةُ الْمُخْلِصَةُ!»

ولَكِنَّ «مَرْيمَ» لَمْ تُجِبْ أباها، ولَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفٍ واحِدٍ. فَماذا حَدَثَ؟

لَقَدْ حَلَّتْ بـ«مَيْداسَ» خاتِمَةُ النَّكبَاتِ؛ إِذْ تَحَوَّلَتْ بِنْتُهُ الْعَزِيزَةُ قِطْعَةً منَ الذَّهَبِ، حِينَ لَمَسَتْ شَفَتَاهُ جَبِينَها!

(٧) شَقَاءُ الْوالِدِ الْحَزِينِ

وَما إِنْ رَأَى ما حَلَّ بِابْنَتِهِ الْعَزِيزَةِ، حتَّى لَعَنَ الذَّهَبَ، ولَعَنَ السَّاعَةَ الَّتي ظَفِرَ فِيها بِتَحْقِيقِ هذِهِ الْأُمْنِيَّةِ الْحَمْقاءِ.

فَقَدْ تَحَوَّلَ وَجْهُ تِلْكَ الْفَتاةِ الصَّغِيرَةِ عَنْ حُمْرَةِ الْوَرْدِ، إِلى صُفْرَةِ الذَّهَبِ. وكانَ وَجْهُها — مُنْذُ لَحْظَةٍ — مُشْرِقًا بِالْحَياةِ، فَيَّاضًا بالإِخْلاص والْحُبِّ، فَأَصْبَحَ الْآنَ وجْهًا أصْفَرَ بَرَّاقًا. وتَحوَّلَتْ حَلَقاتُ شَعْرها الْجَمِيلِ: حَلَقاتٍ ذَهَبِيَّةً مُصْفَرَّةً. وجَمَدَ جِسْمُها اللَّطِيفُ بَيْنَ ذِراعَيْ أبيها.

فَيا لَهَوْلِ الْمُصِيبَةِ! ويَا لَشَقاءِ والِدِها التَّاعِسِ الْحَزِينِ!

لَقَدْ ذَهَبتْ «مَرْيَمُ» العَزِيزَةُ فَرِيسَةَ أبيها، وَتَحَوَّلَتِ الطِّفْلَةُ تِمْثالًا مِنَ الْعَسْجَدِ (الذَّهَبِ).

لَقَدْ كانَ «مَيْداسُ» يَقُولُ في كلِّ وَقْتٍ: «إِنَّ ابْنَتي تُساوِي مِثْلَ وَزْنِها ذَهَبًا!»

أَمَّا الْآنَ، فَإِنَّهُ يَشْعُرُ — بَعْدَ فَواتِ الْفُرْصَةِ — أنَّ كُنُوزَ الدُّنْيا كلَّها لا تُساوِي قَلْبَها الْحَنُونَ.

الآنَ يَرَى أنَّ الدُّنْيا — إِذا مُلِئَتْ كلُّها ذَهَبًا، وتَكَدَّسَتْ أَكْوامُ الْعَسْجَدِ فَمَلَأَتْ ما بَيْنَ الْأَرْضِ والسَّماءِ — لَنْ تَعْدِلَ بِنْتَهُ الْعَزِيزَةَ «مَرْيَمَ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤