الفصل الثالث

(١) عَوْدَةُ التَّابِعِ

وأَطالَ «مَيْداسُ» تَأَمُّلَهُ، واسْتَغْرَقَ في تَفْكيرهِ، حَتَّى كادَ يُسْلِمُهُ الْحُزْنُ إِلى الذُّهُولِ.

وإِنَّهُ لَغارِقٌ في أحْزانِهِ وآلامِهِ، إِذْ رَأَى أمامَه ذلكَ التَّابِعَ الَّذِي كانَ يُحَدِّثُهُ بالْأمْسِ.

فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ خَجِلًا، ولَمْ يَجْرُؤْ على مُخاطَبَتِهِ.

فالْتَفَتَ إلَيْهِ التَّابِعُ، وقالَ لهُ ساخِرًا: «لَعَلَّكَ سَعِيدٌ بِمَا ظَفِرْتَ بِهِ مِنْ كُنُوزِ الذَّهَبِ، أيُّها الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ؟»

فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «لَيْسَ في الدُّنْيا كُلِّها أشْقَى مِنِّي!»

فَقالَ لهُ التَّابِعُ: «كَيْفَ شَقِيتَ؟ أَجادٌّ أَنْتَ فِيما تَقُولُ؟ أَلَمْ أَبَرَّ بِوَعْدِي لَكَ، وأُوفِ لكَ بِما عاهَدْتُكَ عَلَيْهِ؟ أَلَمْ أُنْجِزْ لَكَ أُمْنِيَّتَكَ؟ فَمِمَّ تَشْكُو بَعْدَ ذَلكَ؟»

فَقَالَ «مَيْداسُ»: «لَقَدْ آمَنْتُ الْآنَ أَنَّ الذَّهَبَ لَيْسَ — كما ظَنَنْتُ — أَثْمَنَ شَيْءٍ في الْعالَمِ وَأَيْقَنْتُ أنَّ السَّعادَةَ شَيْءٌ آخَرُ!»

فَقالَ لَهُ التَّابِعُ: «لَقَدْ تَغَيَّرَ رَأْيُكَ الْيَوْمَ، وَأَصْبَحَتُ أَسْمَعُ مِنْكَ ما لَمْ أَسْمَعْهُ بِالْأَمْسِ، وَإِنِّي سائِلُكَ — يا «مَيْداسُ» — فَأَجِبْني في صَراحَةٍ: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَجْدَى عَلَيْكَ: مِلْءُ الْعالَمِ ذَهَبًا، أَمْ قَدَحٌ مِنَ الْماءِ الْعَذْبِ؟»

فصاحَ «مَيْداسُ»: «إِنَّ قَدَحًا مِنَ الْماءِ الْعَذْبِ — أَثْمَنُ — عِنْدِي — مِنْ كُنُوْزِ الأَرْضِ كُلِّها. فَمَنْ لِي بِهِ الْآنَ؟ فَقَدْ جَفَّ حَلْقِي، وَكِدْتُ أَهْلِكُ مِنَ الْعَطَشِ. آهٍ! ما أَعذَبَ الْماءَ! وَما أَعْظَمَ نَفْعَهُ لِلنَّاسِ! أَيُّها الماءُ المُبارَكُ، أَنَّى لِي بِكَ؟»

فاسْتَأْنَفَ التَّابِعُ قائِلًا: «خَبِّرْني أَيُّها الصَّدِيقُ: أَيُّ الأَمْرَيْنِ أَجْدَى عَلَيْكَ، وَأَنْفَعُ لَكَ: مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا، أَمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ؟»

فَقالَ «مَيْداسُ» مُتَلَهِّفًا حَزِينًا: «إِنَّ كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ، لَتَرْجَحُ كنُوزَ الدُّنْيا قاطِبَةً!»

فَقالَ لَهُ التَّابعُ: «فَخَبِّرْني: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَنْفَعُ لكَ: مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا، أَمْ بِنْتُكَ مَرْيَمُ؟»

فَصاحَ «مَيْداسُ» الْمِسْكينُ نادِمًا، وَهُوَ يَعَضُّ بَنانَهُ (رُءُوسَ أصابعِهِ): «آهٍ! يا لَشَقائِي! إِنَّ كنُوزَ الدُّنْيا كلَّها لا تُساوي عِنْدِي ابْتِسامَةَ ابْنَتِي الْعَزِيزَةِ!»

(٢) خاتِمَةُ الْحِوارِ

فَقالَ التَّابعُ جادًّا: «الْآنَ عَقَلْتَ يا «مَيْداسُ»، وَأَفَقْتَ مِنْ ضَلالِكَ. الْآنَ أَدْرَكْتَ — فِيما أَرَى — أنَّ أتْفَهَ الأَشْياءِ الَّتي لا يَعْجِزُ عَنْ إِدْراكِها أَفْقَرُ النَّاسِ، أثْمَنُ مِنْ كنُوزِ الأَرْضِ كُلِّها! فَخَبِّرْني وَلا تَكْذِبْنِي الْقَوْلَ: أتُرِيدُ أنْ تَرْجِعَ كَما كُنْتَ، وَتَعُودَ سِيرَتَكَ الأُوْلَى؟»

فَقالَ «مَيْداسُ»: «لَيْسَ أحَبَّ إِلى نَفْسِي مِنْ تَحْقِيقِ هذِهِ الأُمْنِيَّةِ!»

فَقالَ لَهُ التَّابعُ: «لا عَلَيْكَ — يا صَدِيقِي — فاذْهَبْ إِلى الْغَدِيرِ الَّذِي يَجْري في حَدِيقَتِكَ، وَاسْتَحِمَّ فِيهِ. ثمَّ امْلَأْ مِنْ مائِهِ إِناءً وَاسْكُبْ مِنْهُ عَلَى كلِّ شَيْءٍ تُرِيدُ أَنْ تُعِيدَهُ إِلَى أَصْلِهِ.»

ثُمَّ اسْتَخْفَى التَّابِعُ مِنْ فَوْرِهِ.

(٣) السَّعادَةُ بَعْدَ الشَّقاءِ

وَلا تَسَلْ — أَيُّها الطِّفْلُ العَزِيزُ — عَنْ فَرَحِ «مَيْداسَ» بِما سَمِعَهُ مِنَ التَّابِعِ (الْجِنِّيِّ)، فَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ السُّرُورُ.

وَلَمْ يُضِعْ وَقْتَهُ عَبَثًا، فَجَرَى مُسْرِعًا إِلَى جَرَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الفَخَّارِ، وَلَمْ يَكَدْ يَلْمِسُها، حَتَّى تَحَوَّلَتْ ذَهَبًا. ثُمَّ أسْرَعَ يَعْدُو حَتَّى بَلَغَ الْغَدِيرَ، فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ فِيهِ. وَقَدْ أَنْساهُ فَرَحُهُ أنْ يَخْلَعَ ثِيابَهُ وَحِذاءَهُ. ثُمَّ مَلَأَ الْجَرَّةَ مِنْ مائِهِ، فَتَحَوَّلَتِ الْجَرَّةُ فَخَّارًا كَما كانَتْ، فَطابَتْ نَفْسُهُ بِذلِكَ، وَشَعَرَ بِالسَّعادَةِ كامِلَةً مَوْفُورَةً، وَتَخَلَّصَ مِنْ ذلِكَ الْهَمِّ الثَّقِيلِ.

ثمَّ قَفَلَ راجِعًا إِلَى قَصْرِهِ، وَسَكَبَ قَطَراتٍ مِنَ الْماءِ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ «مَرْيَمَ»، فَعادَتْ — كَما كانَتْ — مَوْفُورَةَ الصِّحَّةِ، مُوَرَّدَةَ الْخَدَّيْنِ، مُشْرِقًا وَجْهُها بِالْحَياةِ. وَقَدْ عَجِبَتِ الْفَتاةُ الصَّغِيرَةُ أنْ رَأَتْ أَباها يُبَلِّلُها بِالماءِ، ولم تَدْرِ ما حَدَثَ وَلَمْ تَذْكُرْ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ لَها.

وَأخْفَى الْمَلِكُ «مَيْداسُ» عَنِ ابْنَتِهِ «مَرْيَمَ» حَقِيقَةَ ما حَدَثَ، حَتَّى لا يُظْهِرَ لَها حَماقَتَهُ وَجُنُونَه، فِيما ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.

ثُمَّ صَبَّ الْماءَ عَلَى شُجَيْراتِ الْوَرْدِ وَالْأزْهارِ فعادتِ الوُرودُ إِلَى حالِها الأوْلَى، وَعادَتِ الْحَدِيقَةُ بَهِيجَةً، عَطِرَةَ الشَّذَى، رائِعَةَ الْحُسْنِ، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

(٤) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَقَضَى «مَيْداسُ» بَقِيَّةَ حَياتِهِ سَعِيدًا، وادِعَ الْبالِ، مُرْتاحَ الْقَلْبِ، قَرِيرَ الْعَيْنِ (هادِئَ النَّفْسِ).

وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذِكْرَياتِ هذَا الْحادِثِ إِلَّا شَيْءٌ واحِدٌ: هُوَ شَعْرُ ابْنَتِهِ الْجَمِيلُ، الذي ظَلَّ يَبْرُقُ لَمَّاعًا كالذَّهَبِ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤