الصورة

كان كل شيء يمكن أن يستمر كما كان في حياة نرجس، لولا أن يدها اصطدمت صدفةً بظهرِ نبوية فارتطمت أصابعها بكُرَة طرية من اللحم، ورأت عيناها المندهشتان بروزين صغيرين يهتزان تحت جلبابها مع اهتزازات ذراعيها وهي تغسل أمام الحوض، لأول مرة تكتشف أن لنبوية ردفَيْن، نبوية التي جاءت إليهم من البلد العام الماضي خادمة صغيرة جسمها ناحل كعود الذرة لا تكاد تعرف ظهرها من بطنها، ولولا اسمها نبوية لَظنَّتْ أنها ولد.

ووجدت نرجس نفسها أمام المرآة في حجرتها، واستدارت حول نفسها أمام المرآة، واتسعت عيناها في دهشة حين رأت بروزين صغيرين يهتزان تحت الفستان، وامتدت يدها في استطلاع تستكشف ظهرها، واصطدمت أصابعها المرتجفة بكرتين طريتين من اللحم! هي أيضًا نما لها ردفان؟!

ورفعت فستانها من الخلف لتكشف عنهما، ولوت رأسها لتراهما من الناحية الأخرى، لكنهما كانا يدوران مع جسمها ويختفيان وراءها، وحاولت أن تثبت نصفها الأسفل أمام المرآة وتدور بعينيها دورة كاملة حول جسمها، لكنها لم تستطع، كان رأسها يلفُّ فيلفُّ معه نصفُها الأعلى، وكلما دار نصفها الأعلى دار معه نصفها الأسفل، وشعرت بشيء من الاستغراب أنها لا تستطيع أن ترى نفسها من الخلف، على حين أنها تستطيع أن ترى نبوية من الخلف، وخُيِّلَ إليها في تلك اللحظة أنها اكتشفَتْ محنةً جديدة للإنسان؛ ذلك أنه لا يستطيع أن يرى جسمه الذي وُلِدَ به، والذي يحمله معه في كل مكان وفي كل وقت كما يستطيع أن يرى أجسام الآخَرين.

وخطرت لها فكرة سريعة أن تذهب إلى المطبخ وتطلب من نبوية أن تنظر إلى ظهرها، ثم تصف لها ردفَيْها بدقة؛ ما شكلهما؟ هل هما مستديران أم بيضاويان؟ هل هما يهتزان وهي واقفة أم حين تسير فقط؟ هل هما بارزان ومُلْفِتان للنظر أم أنهما لا يلفتان النظر؟

وهمَّت أن تذهب لكنها توقفت، أيمكن أن تطلب من نبوية مثل هذا الطلب؟ نبوية الخادمة التي لم تكن تبادلها الكلام، كانت تصدر إليها أوامر أبعد ما تكون عن الكلام، وكانت إجابات نبوية بحاضر أو نعم أبعد ما تكون عن الإجابات، وإنما هي ردود فعل تلقائية تتتابع بانتظام بنفس السرعة ونفس الدرجة من الارتفاع كذبذبات الآلة سواءً بسواء.

وشعرت بشيء من الغيظ وصمَّمت على أن ترى ظهرها بنفسها، فشدت فستانها فتعرَّتْ تمامًا من الخلف وثبَّتت قدمَيْها في الأرض، ولوت رأسها ودارت بعينيها حول جسمها، لكن رأسها ما لبث أن توقف عن الحركة ولم تكمل عيناها الدورة حول نفسها، وشدت عضلاتها بقوة وحاولت أن تلوي رأسها مرة أخرى، وبينما هي تدور برأسها أمام المرآة وقد تعرَّى ظهرها عن آخِره، اصطدمَتْ عيناها بعينَيْ أبيها فارتجفَتْ، كانت تعرف أنهما ليستا عينيه الحقيقيتين، وإنما هي صورته المعلقة على الجدار، لكن جسدها الصغير ظل يرتجف حتى شدت الفستان وغطت ظهرها، ولم تستطع أن تُحوِّل عينَيْها عن عينَيْه، كانت تريد أن تراهما بما فيه الكفاية وأنها تريد أن تراه أكثر، ثلاثة عشر عامًا منذ وُلِدَت وهي تراه كلَّ يوم من الخلف فقط، حين يكون ظهره ناحيتها تستطيع أن ترفع عينيها وتتأمَّل قامته الطويلة العريضة، لم ترفع عينيها في عينيه مرة واحدة، ولم يحدث أن بادَلَتْه النظرات أو الكلام، إذا نظر إليها أطرقَتْ، وإذا وجَّه إليها كلامًا لم يكن كلامًا وإنما توجيهات وأوامر تردُّ عليها بحاضر أو نعم في تتابُع آلي وطاعة عمياء؛ حين أمرها أن تترك المدرسة وتبقى في البيت، تركت المدرسة وبقيت في البيت، وحين أمرها ألَّا تفتح النوافذ لم تفتح النوافذ، وحين أمرها أن تتوضأ قبل أن تنام لتحلم أحلامًا شريفة، أصبحت تتوضأ قبل أن تنام وأصبحت تحلم أحلامًا شريفة.

وظلت عيناها مشدودتين إلى عينيه، تريد أن تنظر إليه ولا تطرق، أن تثبت عينيها في عينيه وتراهما وتعرفهما وتألفهما، لكنها لم تستطع، كانت هناك مسافة دائمًا تُبعِد عينيها عن عينيه فلا تستطيع أن تراهما عن قُرْب رغم أن أنفها كاد يلامس الصورة، وبدا لها وجهه كبيرًا وأنفه ضخمًا مقوسًا وعيناه غائرتين واسعتين تكادان تبتلعانها، وأخفت وجهها بيديها، وعاد إلى ذاكرتها المكتب الكبير، ومن خلفه ارتفع أنف أبيها المقوس من بين الأوراق الكثيرة، يتطلع من حين إلى حين إلى ذلك الطابور الطويل من الناس الذين وقفوا أمامه وعيونهم شاخصة إليه في استجداء وخشوع، ويهتز رأسه الكبير بين أكوام الورق، وتلتف أصابعه الطويلة الغليظة حول القلم ويجري به على الورق في سرعة شديدة، وتضم ساقيها الرقيقتين الصغيرتين وهي جالسة في الركن وتنكمش حول نفسها كاتمة أنفاسها، أيمكن أن تكون ابنة هذا الرجل العظيم؟ وحين كان أبوها يقف ترتفع قامته الطويلة العريضة من وراء المكتب ويكاد طرف أنفه العالي يلامس السقف، ويرتفع رأسها في زهو وهي تسير إلى جواره في الشارع وتكاد ترى العيون كلها متجهة إلى أبيها، والشفاه كلها حين تنفرج إنما هي تنفرج بالدعاء لأبيها، وتكاد أذناها الصغيرتان تلتقطان همسًا خافتًا يدور دائمًا بين الناس السائرين في الشارع، هذا هو صاحب الأمر والنهي وهذه هي ابنته نرجس التي تسير بجواره، وحين يجتازان الشارع يمسك أبوها يدها في يده، وتلتفُّ أصابعه الكبيرة حول أصابعها الصغيرة؛ فيخفق قلبها، وتتلاحق أنفاسها، وتميل برأسها لتلثم يده، وما إن تلامس شفتاها يده الكبيرة المشعرة حتى تنفذ إلى أنفها تلك الرائحة القوية، رائحة أبيها المميزة، لا تعرف تمامًا ما هي، ولكنها تشمُّها في كل مكان يوجد فيه، وحين تدخل حجرته تشمها في كل أنحاء الحجرة وفي السرير وفي الدولاب وفي الملابس، وأحيانًا تدفن رأسها في ملابسه لتشمها أكثر وأكثر، وقد تقبِّل ملابسه وتلثمها وتركع أمام صورته الكبيرة فوق سريره وتكاد تصلي، ليست تلك الصلاة العادية التي تؤديها بسرعة لإله لم تره أبدًا، ولكنها عبادة حقيقية وإله حقيقي تراه بعينيها وتسمعه بأذنيها وتشمه بأنفها، وهو الذي يشتري لها الطعام والملابس، وله مكتب كبير وأوراق كثيرة يعرف كل ما فيها، وقضى للناس حاجاتهم، وفوق كل ذلك يكتب بالقلم بسرعة تخطف البصر.

ووجدَتْ نرجس نفسها راكعة أمام الصورة كأنما تصلي، فنهضت وهي مطرقة إلى الأرض في خشوع، ولثمت يده كعادتها كل ليلة قبل أن تنام، وبينما هي تستلقي على ظهرها احتكَّ ردفاها البارزان بالسرير فسَرَتْ في جسدها رعدةٌ لذيذة جديدة، وامتدت أصابعها المرتجفة تتحسَّس ظهرها. كتلتان مكورتان من اللحم تنحشران بينها وبين السرير، وانقلبت على وجهها ليزول إحساسها بهما وتنام، لكنَّ ردفَيْها ارتفعا في الهواء ضاغطين بثقلهما على بطنها، وانقلبت على جنبيها لكنهما ظلَّا يحتكَّان بالسرير مع كل حركة شهيق أو زفير، وتوقفت عن التنفس لحظةً لكن أنفاسها ما لبثت أن تتابعت وتلاحقت بسرعة جعلت جسمها الصغير ينتفض في اهتزازات سريعة ويهز معه السرير مُحدِثًا صريرًا خافتًا، خُيِّلَ إليها في سكون الليل أنه مسموع وأنه يصل إلى أذنَيْ أبيها النائم في حجرته، والذي سيعرف بلا ريب مصدره وسببه الحقيقي.

وارتعدت لهذه الفكرة وحاولت أن تكتم أنفاسها ليكفَّ السرير عن الصرير، وكادت تختنق لولا أن الهواء اندفع بقوةٍ داخل صدرها فارتجَّ جسمها ارتجاجًا شديدًا، وارتجَّ مع السرير وهو يزعق في سكون الليل بالصرير الغليظ، فقفزت خارج السرير.

وما إن استقرت بقدميها على الأرض حتى كفَّ السرير عن الصرير، ولم تَعُدْ تسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة، التي أخذت تهدأ شيئًا فشيئًا حتى هدأت تمامًا، وما إن عاد السكون إلى حجرتها ككل ليلة حتى تذكَّرَتْ أنها لم تتوضأ قبل أن تنام، وشعرت بشيء من الراحة حين اكتشفت سببَ تلك الأحاسيس الآثمة التي تسلَّلت إلى جسدها غير الطاهر.

وبينما كانت نرجس واقفة أمام الحوض تتوضأ وهي تُبسْمِل وتُحوْقِل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، التقطت أذناها صوتًا خافتًا ينبعث من وراء باب المطبخ، نبوية لم تَنَمْ حتى الآن؟ ودفعت باب المطبخ برفقٍ، لكن الباب لم يُفتَح، ووصل إلى أذنيها الصوتُ الخافت مرةً أخرى، فوضعت أذنها على الباب وسمعت بوضوحٍ صوتَ أنفاسٍ تتلاحق بسرعة واضطراب، وابتسمَتْ وهي تحس شيئًا من الراحة؛ نبوية مؤرقة مثلها تستكشف ردفَيْها الجديدين! وتحرَّكَ رأسها بغير وعي فوق الباب، فأصبحت عيناها على الثقب ونظرت داخل المطبخ، كانت الكنبة الصغيرة التي تنام عليها نبوية خالية، وأبصرت شيئًا يتحرك على أرض المطبخ، دقَّقت فيه النظر، واتسعت حدقتا عينيها وهما تستقران على كتلة عارية من اللحم تتدحرج على الأرض ولها رأسان: أحدهما رأس نبوية بضفائرها الطويلة، والآخَر رأس أبيها بأنفه المقوس العالي! كان يمكن في تلك اللحظة أن تسقط على الأرض بعيدًا عن الثقب، لكن عينيها ظلتا فوق الثقب وقد التصقتا به التصاقًا وكأنما هما جزء منه، وتجمدت نظراتها فوق الكتلة الكبيرة العارية وهي تتدحرج، فيصبح رأس نبوية على الأرض ويرتطم بصفيحة الزبالة ويرتفع رأس أبيها إلى فوق ويخبط في قاع الحوض، ولكن سرعان ما يتبادلان المواقع فيرتطم رأس نبوية بقاع الحوض ويهبط رأس أبيها إلى حيث صفيحة الزبالة. ثم ما لبث أن اختفى الرأسان تمامًا بين الحلل، ولم تَعُدْ ترى إلا أربع أقدام بأصابعها العشرين تنتفض في ارتعاشة سريعة، وقد تشابكت والتحمت بعضها بالبعض في شكل عجيب كأنما هي حيوان مائي متعدد الأذرع أو أخطبوط.

لم تعرف نرجس كيف انفصلت عيناها عن الثقب، وكيف عادت إلى حجرتها ونظرت في المرآة، كان رأسها الصغير ينتفض ويدور حول جسمها في اهتزازات سريعة، واصطدمت عيناها الزائغتان بردفَيْها البارزين وهما يصاحبان جسمها في اهتزازات سريعة قوية، وامتدت يدها بغير وعي تكشف ظهرها عن آخِره وهي ترمق وجه أبيها بطرف عينيها، وكادت الرجفة القديمة تسري في ذراعها فتشد فستانها وتغطِّي نفسها، لكنَّ ذراعها لم تتحرك، وظلت تحملق في وجه أبيها دون أن تطرق. كانت عيناه الواسعتان جاحظتين، وأنفه المقوس الحاد يشطر وجهه شطرين، وقد التصق بطرفه المدبب العالي خيطٌ طويل من العنكبوت يهتز مع نسمة الليل المتدفقة من خلال الشيش.

واقتربت نرجس من الصورة ونفخت العنكبوت عن أنف أبيها، لكن رذاذ لعابها انتشر فوق الصورة والتصق العنكبوت بوجه أبيها، وحاولت أن تنفخه مرةً أخرى لكنه التصق أكثر، وامتدت يداها بغير وعي وبأظافرها الطويلة الحادة راحت تنزعه فعلًا، لكنها كانت تنزع معه أيضًا ورق الصورة الذي تبلل بلعابها وتساقَطَ من بين أصابعها إلى الأرض فتافيت صغيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤