مقدمة

حسن جميل، أن يقوم المرء بسياحة شاقة ليحصل رضى النفس من جراء الوجدانات المتنافرة التي يجدها، يلقي بنفسه في المفازات يحصل الإحساس بالوحشة؛ فإذا سنح له غزال، أو بدا له سرب من القطا في النهار، أو طلع في الليل نجم ألفه من قبل، حصل نوعًا خاصًّا من الإحساس بالأنس، يعروه كذلك إحساس القوة القادرة، ويدخل إلى نفسه شيء من الإعجاب بذاته، كلما ذكر تفرده بالحال التي هو فيها وتفوقه في اقتحام الأخطار على نظرائه وبيئته، يتناوبه الخوف والطمأنينة كلما قَلَّ ماؤه ثم ورد بئرًا أو ظن الهلاك ينتظره في بعض الطريق ثم نجا منه؛ كل هذه الأحاسيس تجعل للنفس رضى لا يعرفه إلا أهل الأسفار الشاقة إذا ذاقوه مرة قَلَّ أن يقنعوا بما نالوا منه، بل يطلبون المزيد من هذا الرضى فيصير لهم السفر لذة مقصودة لذاتها، يباشرونها كلما استطاعوا كما يباشر غيرهم لذات الإقامة سواء بسواء.

وحسن جميل أيضًا أن يحمل المرء نفسه على مشاق السياحة الخطرة وأهوالها، لا لأن به هذا الميل الذي ذكرنا، ولكنه يقتحم صنوف هذا العذاب ليصل إلى تقرير حقيقة أتنولوجية أو تعيين مواقع جغرافية أو ضبط معلومات جوية أو أرصاد فلكية … إلخ إلخ، فإذا ظفر بطلبته حصل على رضى النفس، لا نظنه من النوع الأول ولكنه رضى لا يقل عنه في أثره السعيد، بل يزيد عليه كثيرًا في قيمته وفي بقائه.

وأحسن من ذينكم وأجمل، أن يقع الوفاق بين رغبة النفس ومطلب العقل، أو بعبارة أخرى، بين اللذة وبين الواجب، فيعرض السائح نفسه لأخطار القفار؛ لأن اقتحام الخطر في ذاته يلذ لنفسه، ولأجل أن يحقق النفع العام بما يحاول من الاستكشاف وتنمية العلم الإنساني أو تجديده، كذلك كان صديقنا أحمد حسنين «بك» حين اقتحم صحراء ليبيا، وحين وضع بما وجد فيها من اللذة الشخصية، وما وُفق إليه من الاستكشافات العلمية، هذا الكتاب الذي نقدمه لقراء العربية.

اقرءوا كتابه تروا حبه لآفاق الصحراء وغرامه بكل ما في الصحراء، يتجلى في كل موطن بارزًا، يُغشِّي كل ما دونه من الإحساسات الأخرى، وليس في الصحراء إلا الوحشة والتفرد بنوع ما، وانقطاع النظر عن المرئيات المألوفة، والسمع عن الأحاديث المعتادة، والنفس عما في المدينة من دواعي الرجاء، وبواعث الخوف على السواء، يقص علينا هذا الرحالة النابه، أنباء ما استشعره من تلك الأحاسيس المتباينة جد التباين، يبسط لنا وصف ما لقيه من الضيق يومًا ومن الفرج يومًا آخر، يتحدث إلينا بكل ذلك، في نوع من الحنين إلى الصحراء، والشوق إلى استشعار تلك الإحساسات، كأنه لم يفارق الصحراء ومشاق الصحراء إلا كارهًا، ولم يرجع إلينا إلا بعد أن خلَّف هناك في تلك المفاوز، موضع حب ما زالت تساوره ذكراه، ومنازل نعيم ما زالت معقد حنينه وموضع مناه.

هذه النزعة البدوية من ناحية، وهذا الإخلاص للعلم والتضحية له بالمال وبالراحة من ناحية أخرى، ليسا موهبة عادية ولكنهما من خصال الطبع الاستثنائي، أو قد يكونان أثرًا ناميًا من آثار الانتقال الوراثي القريب، فما كل امرئ رحَّالة، ولا كل نفس تطيق ما أحبته نفس الرحَّالة أحمد حسنين ابن أستاذنا المرحوم الشيخ محمد حسنين ابن المرحوم أحمد حسنين باشا، لقد امتزج في نفسه حب السياحة بحب العلم والإخلاص له، فاتخذ من لذته الشخصية وسيلة للاستكشاف وأداء الواجب العلمي، وما أحسن أن يكون القيام بالواجب طوعًا لا إكراه فيه، ولذة لا يشوبها ألم!

نعلم شيئًا غير قليل من الصفات العامة المميزة للشعوب العربية من غيرها ومن بعضها والبعض الآخر، وأكثر ما نعلمه من ذلك قديم؛ لأنه يرجع في جملته إلى كتب السير القديمة ودواوين الشعر القديمة وبقية كتب الآداب، وَقَلَّ ما نجد الآن من الثقات مَنْ يخالطون البدو عن يمين مصر وعن شمالها؛ ليحققوا تلك المميزات الإتنولوجية التي لا شك في أن يد الدهر قد تناولتها، بالتغيير والتبديل والحذف والمسخ والتحسين، حتى كانت هذه الرحلة المباركة فكشفت عن مواطن جيراننا في الصحراء الغربية، وشيء غير قليل من عاداتهم ومواطن تفاؤلهم وتطيرهم، في وصف لذيذ وعناية تامة بالتفاصيل والدقائق.

قد يظن الحضري أن من السهل أن يركب الجمل، في قافلة تسير في الأرض أسابيع أو أشهرًا في رفقة كيفما اتفق، هذا الخاطر أبعد ما يكون عن حقائق الأشياء، فإن رحلة مثل رحلة حسنين «بك» في جوف الصحراء، لا سلامة منها إلا بأعجوبة أو بتوفيق من الله عظيم.

إن المسافر في مثل هذا الطريق؛ وفي مثل هذه القافلة التي ليس بينه وبين أحد أفرادها شبه في منازع النفس، ولا في التربية ولا في فهم الحياة، ولا في مقومات الأخلاق، معرَّض كل ساعة للهلاك من خيانة مَنْ معه ومن خطأ الدليل، ومن خور الرواحل، ومن عاديات الطبيعة التي لا ترحم عادياتها، متى أثارت رياحها رمال الصحراء فتدفن أحياء، أولئك الأشباح الإنسانية التي تتمايل على ظهرها، كأنها تعاقبها على ترك مواطنها الطبيعية، وغشيان ما شاءت الطبيعة أن يكون قفرًا من كل ساكن، وعلى الخصوص من بني آدم، وعلى هذا النحو، ينبغي أن نقدر شجاعة رحَّالتنا المصري، ومقدار إخلاصه للاستكشاف. الواقع أنها رحلة شاقة، قال الدكتور هيوم:

إن رحلة أحمد بك حسنين قد فتحت أمامنا منطقة عظيمة كانت حتى الآن من مجاهل الأرض.

لو أن الطريق معبدًا والشقة محتملة، لما كان هناك ما يمنع من أن يجوب تلك الناحية من خلال الصحراء كل سائح، ولكني لا أذكر عالمًا قام بمثل هذه الرحلة منذ نبلاء «فيلي» في القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد.

ومع ذلك فإن بعض القطع القليلة التي وُجِدت من رحلاتهم، لا تدل على أنهم سلكوا تلك السبيل الوعرة التي سلكها أحمد حسنين «بك»، بل على العكس من ذلك، ربما كانت كل القرائن متضافرة، على أن سبلهم كانت قريبة من نهر النيل، وإن كانت في صحراء ليبيا عينها.

لا نظن أن الجمع بين أحمد «بك» حسنين وبين النبيلين «ميخو» و«هيركوف» في هذا المعنى يؤذن بالتلازم في مصر، بين النُّبل وبين الرحلات الخطرة، وإن كان النبلاء أقدر عليها من غيرهم في العادة، لا من حيث إنهم أطمح إلى المجد فحسب، ولكن لأن الرحلات من هذا القبيل قد تستتبع استعدادًا خُلقيًّا وأداة غالية بوجه ما.

لئن كان هيركوف موفدًا من قبل فرعون مصر «ميتيزوفيس الأول»؛ فلقد لقي حسنين «بك» بعد عودته من رعاية ملك مصر صاحب الجلالة فؤاد الأول، وعطفه ما يشجع في الواقع على مثل هذه الرحلات الخطرة.

عاد هيركوف في رحلته الثالثة بأنواع من الجلب أهمها قزمة فرح بها الملك الشاب «بيوبي الثاني» خليفة «ميتيزوفيس الأول» واتخذه ضحكة له، وأغدق من أجل ذلك على هيركوف نعمًا وتشاريف كانت تُضرب بها الأمثال.

لم يعد رحَّالتنا أحمد حسنين بقزمة ضحكة، ولكنه عاد بأرصاد فلكية، وتعيينات جغرافية قضى في تحليل نتائجها الدكتور بول مدير قسم مساحة الصحاري مدة شهرين، وفي خلاصة هذه التحاليل يقول الدكتور بول: «ربما يسمح لي أن ألفت النظر إلى أن رحلة أحمد بك حسنين، كما يظهر لي، هي فوز يكاد يكون فريدًا في تاريخ الاستكشاف الجغرافي.» وجاءنا أيضًا بنماذج جيولوجية قال فيها الدكتور هيوم مدير قسم الجيولوجية المصرية: «إن أحمد حسنين بك قد حصل برحلته على مجموعة ثمينة من النماذج الجيولوجية والصور الفوتوغرافية، تجعل من السهل على مَنْ خبروا جيولوجية الصحاري المصرية خبرة عملية أن يصلوا إلى نتائج صحيحة عن التركيب الجيولوجي للمنطقة التي اخترقها.»

كتاب رحَّالتنا حسنين بك على ما فيه من الحقائق العلمية ملحة أدبية، لم يكن رحَّالتنا مشهورًا قبل الآن بالتفوق في الكتابة، كما اشتهر بالتفوق في العلم، وفي وسائل الشجاعة والرياضات، ولكنه لما تهيأ له ظرف الكتابة والوصف سما إلى ألطف المعاني وترتيبها، وحسن الذوق في إيراد الحوادث، والتبسط في عرضها، إلى حد يصح اعتباره نموذجًا كتابيًّا، أتراه، كما يظهر لي، قد ترك التعمل ناحية ولم يزد على أن رسم بقلمه صورة ساذجة للمعاني التي أثرت في نفسه أثرًا عميقًا؟ يظهر لي أن لطف الحس في هذا المقام له أثره العظيم في رشاقة التعابير وجاذبية القصص.

مباركة هذه الرحلة التي أكسبت الوطن نوعًا جديدًا من المجد، وأكسبت علومًا عدة زيادة في موضوعاتها وضبطًا في تعييناتها وأجْدَتْ على النابغة أحمد «بك» حسنين مجدًا يبقى بقاء المعلومات التي أضافها إلى العلم، لا شك في أن بقاء الكتب رهن بما حوت من حق وبما أعطت لقارئها من لذة، وكل ذلك بين دفتي هذا الكتاب الذي يسرني السرور كله أن أقدمه إلى قراء العربية.

أحمد لطفي السيد
مدير الجامعة المصرية

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤